#أحدث الأخبار مع #نهر_جيحونالجزيرةمنذ يوم واحدعلومالجزيرةرحلة ابن فضلان.. من بلاط بغداد إلى مقابر الفايكنغ وجحيم يأجوج ومأجوجفي غرفة تتوسط أخرى، على الطريقة العتيقة التي اعتمدها سكّان وسط آسيا قديما لحفظ الدفء، كان يستلقي وحيدا على حصير سميك، في رحلة تكاد تكون مستحيلة نحو أقاصي الشمال، حيث تنقطع الأخبار، وينتهي العالم المألوف. كان أزيز الرياح الباردة يقرع صدره المرتجف، وبدنه المكدود قد احتضن ذاته بشدة فوق الأرض، متدثّرا بأغطية الفرو الثقيلة، فبدا وجهه كأنما التصق بالوسادة الخشنة من شدة البرد. وبرغم ما هو فيه من حال يرثى لها، آثر أن يدوّن فصول واحدة من أندر الرحلات التاريخية، فكتب من بلدة نائية بأقصى غرب أوزبكستان، تطلّ على نهر جيحون العظيم الذي ينبع من جبال بامير، ويصبّ في بحر 'آرال' (بحيرة خوارزم)، قائلا إن 'بابا من الزمهرير قد فتح عليها'، فلا يهطل الثلج إلا وريحه عاصفة، وإذا أراد الرجل أن يكرم ضيفه أوقد له نارا يستدفئ بها، 'هذا إذا بالغ في برّه وصلته'، على حد تعبيره.1 كان ذلكم أحمد بن فضلان، مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله، وقد خرج في بعثة استجابة لطلب بلغار الفولغا (الصقالبة)، الذين التمسوا المساعدة من الخليفة في صد الخزر، وأن يأتيهم من يعلمهم ويفقههم في أصول الدين، فلم يكن قد مضى وقت طويل على إسلامهم. وكانت البعثة انطلقت في صفر 309 هـ، الموافق يونيو/ حزيران 921م، وسلكت طريقا طويلا مرّ بعدة مناطق تاريخية، منها همدان والريّ ونيسابور ومرو وبخارى، ثمّ ساروا بمحاذاة نهر جيحون إلى خوارزم عند بحر آرال، ثمّ عبروا صحراء أوست أورت ثم خاضوا لجة نهر يايق، حتى وصلوا إلى حوض الفولغا، حيث جمهورية تتارستان الروسية اليوم. وقد دوّن ذلك في كتابه 'رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة'، فأجاد الحديث عن أحوال أمم انقطعت أخبارها، تعيش في أصقاع نائية عند حدود العالم المتمدّن، وتحدث عن عدد من القبائل التركية البدوية القاطنة في آسيا الوسطى، وبعض الشعوب المنغلقة على ذاتها في أوروبا الشرقية مثل البلغار والخزر، وخصّ بالوصف المفصل الشعوب الروسية، وكانوا يومئذ من الشعوب الإسكندنافية المقيمة على ضفاف الفولغا. فوضع إرثا بشريا قيّما للغاية، تستند عليه اليوم جميع المصادر الحديثة. وقد استفاض ابن فضلان في شرح كثير من عادات تلك الشعوب الغريبة، من مأكل ومشرب وملبس وطقوس جنائزية، فوصف حرق جثة أحد الزعماء مع جاريته بطريقة مروعة، وتحدث عن العلاقة بين الملوك والحاشية، وكان أول من وصف الفايكنغ، كما سجّل فصلا عن يأجوج ومأجوج، جامعا بين الدقة في وصف الشعوب والسرد الغني بالتفاصيل. رحلة ابن فضلان.. نافذة نادرة على شعوب الشمال تعد رسالة ابن فضلان من أبرز وأقدم النصوص الجغرافية والأدبية، التي وصلتنا عن شعوب شمال أوروبا وشرقها في نهاية الألفية الميلادية الأولى، ومع أن نص الرحلة لم يصل إلينا كاملا بخط يده، فإن أجزاء كبيرة منه حفظت ضمن كتاب 'معجم البلدان' لياقوت الحموي (ت: 626هـ – 1229م) وكتاب 'آثار البلاد وأخبار العباد' لأبي عبد الله القزويني (ت:682هـ – 1283م). وكان أن أول استكشاف أوروبي لجزء من نصوص ابن فضلان على يد المستشرق الروسي 'كريستيان مارتن فرين' عام 1823، بعنوان 'تقارير العرب عن الروس في العصور القديمة'.2 وفي عام 1923، اكتشف المؤرخ التركي 'زكي وليدي طوغان' مخطوطة أكثر اكتمالا في مكتبة 'العتبة الرضوية' بمدينة مشهد الإيرانية، وتُعرف المخطوطة باسم 'MS 5229″، وتعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وتحتوي على نسخة أكثر تفصيلا من رسالة ابن فضلان، مع أنها لا تزال غير مكتملة، فهي تنقطع عند وصفه لشعب الخزر.3 وقد ترجمت الرحلة إلى عدة لغات، وصدرت منها عدة طبعات عربية محققة، منها طبعة إحسان عباس، وكذلك ترجمة سمير اليوسف عن دار الجمل. أما في الإنجليزية، فقد صدرت بعنوان 'ابن فضلان وأرض الظلام' (Ibn Fadlan and the Land of Darkness). فضلا عن الحقائق العلمية، فإن السرد الأدبي في رسالة ابن فضلان لم يخلُ من الحس التشويقي والأسلوب القصصي، وكأنها ملحمة درامية يعيش فيها البطل لحظات تحبس الأنفاس من عالم الخيال العلمي، مارّا على عدة محطات تختلط فيها المشاعر من دهشة وخوف، ويستطرد الكاتب في وصف حاله بين تارة وأخرى، وكأنما يريد أن يعيش القارئ تلك الرحلة مرافقا إياه. أحمد بن فضلان.. صفحة من التاريخ لم يسلط عليها الضوء لم نجد مصادر تاريخية تتحدث عن أحمد بن فضلان نفسه، فليس معروفا منصبه ولا تفاصيل عن حياته، حتى أن عمره من الأمور المجهولة تماما، كما أن رحلته لم تشتهر إلا على لسان بعض المؤرخين، منهم ياقوت الحموي، الذي نقل عنه مقتطفات. ووفقا لطبيعة المهمة التي وكلت إليه، فإن المؤرخين يفترضون أنه كان يجب أن يحمل خصالا واضحة، مثل الحكمة والحنكة والقوّة البدنية والقدرة على التحمل، وأيضا أن يكون عالما وفقيها، وأن يكون رجلا نيّرا ذا ثقافة مقبولة، ودليل ذلك وصفه المتأني للبلدان والتقاليد التي شاهدها عيانا. كما أن مظهره الخارجي كان ينبغي أن يتسم ببعض الوقار والهيبة، ذلك لأنه مبعوث الخليفة العباسي، لمقابلة ملوك الصقالبة والخزر والروس. انطلق الوفد تلبية لطلب من حاكم الصقالبة 'ألمش بن شيلكي'، الذي أشهر إسلامه حديثا، وأراد إقامة حلف مع الدولة العباسية، يُعينه في مقاومة سطوة دولة الخزر اليهود، الذين فرضوا عليه التبعيَة لهم. وكان هدف السفارة التي جهزها الخليفة العباسي أن تحمل إلى حاكم الصقالبة هدايا وأموالا، ليبني بها مسجدا وحصنا يحتمي به من هجمات الخزر، وأن يرافقها فقهاء ومعلّمون يلقنون أهل بلغار تعاليم الإسلام. وقد ضمّت البعثة 4 أعضاء، وهم: سوسن الرسي، ويبدو من نسبته أنه من بلاد الروس. بارس الصقلابي، ويدل اسمه على أنه سلافي. تكين التركي، وهو يجيد لغات الأتراك المتعددة. ابن فضلان، وهو رئيس الوفد، وكان يجهل اللغات الأجنبية كما ذكر.4 ولا يبرز ابن فضلان بطلا أساسيا في الرحلة، ولم تعكس كتاباته محاولة لبناء مجد أدبي لنفسه، بل إنه شارك في نصوصه تفاصيل مرافقيه، ذاكرا إياهم في مواضع عدة، متجاهلا أن يكون محور السرد الروائي. وقد يظن البعض بأن ما دوّنته يداه ربما كان تقريرا عن الرحلة للخليفة، بصفته سفيرا. مسار الرحلة التاريخية من بغداد غادرت بعثة ابن فضلان مدينة بغداد، عاصمة الدولة العباسية يوم 11 صفر سنة 309 هـ، الموافق 21 يونيو/ حزيران 921 م. وقد سلكت البعثة طريق خراسان، وهو من أشهر طرق الرحالة في تلك الحقبة، ويمتد عبر سلسلة جبال زاغروس في غرب فارس، ثم يمر بجبال ألبرز شمال إيران، ويتوغل في الهضبة الصحراوية شرق البلاد، حتى يصل إلى آسيا الوسطى. واصلت البعثة مسيرها حتى بلغت مدينة بخارى، وكانت يومئذ عاصمة الدولة السامانية، فأقاموا فيها مدة طويلة في انتظار المال لمتابعة الرحلة، ويعزى هذا التأخير إلى أن الخليفة المقتدر بالله لم يسلّم الأموال المخصصة للصقالبة مباشرة إلى الوفد، بل أوعز بأن تقتطع من خراج 'أرثخشمثين' الواقعة في ولاية خراسان. لكن المكلّف بتسليم ذلك الخراج كانت قد اعتقلته السلطات السامانية، فحال ذلك دون وصول المال، فاضطر ابن فضلان ومرافقوه إلى استئناف مسيرتهم دون الموارد المنتظرة، تحاشيا لخطر حلول فصل الشتاء. توجه القوم إلى نهر جيحون، ثم عبروا إلى مدينة الجرجانية في إقليم خوارزم، فتوقفوا عدة أشهر أيضا، ثم استأنفوا السير باتجاه هضبة 'استشورت'، وهي صحراء قاحلة بين بحر آرال وبحر قزوين، وقد لاقوا فيها بعض قبائل الترك. ثم وصلوا إلى مدينة بلغار -المعروفة اليوم باسم قازان- على ضفاف نهر الفولغا، وذلك في 14 مايو/ أيار عام 922م. ووفقا لمسار الرحلات التاريخية، فالرحلة من بغداد إلى بلاد البلغار له مساران محتملان؛ أما الأول فهو الأقصر والأسرع، ويمر عبر جبال القوقاز في أذربيجان وأرمينيا، وصولا إلى سواحل بحر الخزر (قزوين)، ومنه إلى الفولغا. وأما المسار الثاني الذي اختارته البعثة، فكان أطول بكثير، ويدور عبر خراسان وبلاد ما وراء النهر، أي المناطق الواقعة حاليا في تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، قبل أن يصل إلى بلغار. وقد فضّل هذا الطريق الأطول لتجنب عبور أراضي دولة الخزر اليهودية، التي كانت تسيطر على معظم أجزاء الطريق الأول، وكانت في نزاع سياسي وعسكري مع البلغار، فاستعصى المرور عبر أراضيها بأمان. كما أن الطريق الجبلي عبر القوقاز كان وعرا جدا، ولا يمكن اجتيازه إلا من ممر باب الأبواب، أو مدينة دربند، فكان ذلك مما زاد صعوبة الخيار الأول. ووفقا لما دوّنه ابن فضلان بنفسه، فإن مسار الرحلة كان على النحو الآتي بهذا التسلسل.5 وبذلك فإن المسافة التقديرية بلغت نحو 5 آلاف كيلومتر، وهو مسار خط الذهاب فحسب، أمّا تاريخ الرجعة وخطّ سيرها فليس معروفا، لأن خاتمة الرسالة قد فُقدت. ويرجح البعض بأنه عبر أراضي الخزر في طريق عودته إلى بغداد، لما ينسب إليه من وصف دقيق لمدينة أتيل، وهي عاصمة الخزر التاريخية، وتقع اليوم قرب مدينة أستراخان جنوبي روسيا. انتظار الإعدام عند قبائل الترك البدوية مر ابن فضلان بعدة مدن إيرانية، ومكث فيها مكثا طويلا، لكنه لم يكلّف نفسه عناء الكتابة عن الشعوب الفارسية، ربّما لأنهم معلومو الطباع آنذاك، ويعيش كثير منهم في ظل الدولة العباسية، فوجودهم أمر مألوف، أما ما أتى من مناطق واقعة فيما وراء النهر فهو ما كان يشد انتباهه أكثر. وقد صادف عددا من قبائل الترك البدوية، كان لهم حضور بارز في كتابه، لما لمس فيهم من اختلاف كبير في العادات واللغة والدين والمعيشة. وقد قدّم وصفا دقيقا لطباعهم وأسلوب حياتهم، عاكسا دهشة مثقف مدني جاء من بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، ووجد نفسه في قلب مجتمعات لا تزال تعتمد على الترحال، وتعتمد في معيشتها على الرعي وتربية المواشي، وتعيش في خيام متنقلة تسمى اليورت. وقد قال إن قبائل الترك البدوية تميّزت بالقوة والبأس، وكانوا أهل قتال وفروسية، لا يعرفون الاستقرار ولا البناء، ويتنقلون بين السهوب والجبال بحثا عن الماء والكلأ، وتتعدد لهجاتهم وأزياؤهم وتقاليدهم، وتختلف باختلاف كل قبيلة، بل إن بعضهم كان لا يفهم الآخر، مع أنهم أبناء أصل واحد. وبرغم ما بدا من خشونة في طباعهم، فقد لاحظ أن بعض القبائل قد بدؤوا يدخلون الإسلام، لكن فهمهم للدين سطحي، فكانوا يخلطون بينه وبين عاداتهم القديمة. وكان ذلك دافعا آخر للبعثة، التي أوكلت إليها مهمة تعليمهم أصول العقيدة والشريعة. وذكر ابن فضلان في هذا الصدد: ومنهم من يزعم أنّ له 12 ربا؛ للشتاء رب، وللصيف رب، وللمطر رب، وللريح رب، وللشجر رب، وللناس رب، وللدواب رب، وللماء رب، ولليل رب، وللنهار رب، وللموت رب، وللأرض رب، والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنّه يجتمع مع هؤلاء باتفاق، ويرضى كل واحد منهم بما يعمل شريكه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات، وطائفة تعبد السمك، وطائفة تعبد الكراكي (طيور مائية كبيرة)، فعرفوني أنهم كانوا يحاربون قوما من أعدائهم فهزموهم، وأن الكراكي صاحت وراءهم، ففزعوا وانهزموا، فعبدوا الكراكي لذلك، وقالوا: هذه ربنا وهذه فعالاته، هزم أعداءنا. فهم يعبدونها لذلك.6 وحين وصلت البعثة إلى إحدى القبائل التركية، أبلِغوا بأنهم رسل من 'ملك العرب' إلى ألمش بن شلكي، الذي هو صهر زعيمهم، فشكك زعيم القبيلة بقولهم، ونادى وجهاء قومه مستشيرا إياهم، ودار نقاش بينهم. وعبّر الزعيم عن شكه في نيات البعثة، وقال إنهم لم يشهدوا في تاريخهم مرور رسل من أي سلطان، لا هو ولا أجداده، وإنه يظن أن الخليفة دبّر خدعة وأرسلهم ليحرّضوا مملكة الخزر على مهاجمتهم. لذلك اقترح أن يقتل الرسل وتقسم أجسادهم إلى نصفين، وتؤخذ ممتلكاتهم. لكن رجلا آخر قدّم اقتراحا أقل عنفا، فقال إنهم ليس لهم أكثر من أخذ ما يحمله الرسل من أموال، وتركهم يرحلون عراة، ثم تدخل ثالث، فقال إن لديهم أسرى محتجزين لدى ملك الخزر، فاقترح الاحتفاظ بالرسل، واستخدامهم لتبادل الأسرى لاحقا. ودام هذا الجدل والمفاوضات بينهم 7 أيام، ذاق فيها وفد ابن فضلان خوفا شديدا، وكأنهم ينتظرون حكما بالإعدام. وفي النهاية، قرر القوم إطلاقهم وتركهم يمضون.7 عجائب وغرائب في بلاد الصقالبة حطت البعثة بعد لأي في بلاد الصقالبة، بمدينة بلغار المدرجة اليوم ضمن قائمة التراث التاريخي، فكان الملك بانتظارهم، وتركهم يرتاحون 4 أيام من عناء السفر الطويل، الذي استغرق نحو عام كامل. يصف ابن فضلان أول ليلة قضاها في تلك البلدة، فيقول إنه قبل غروب الشمس بساعة، لاحظ احمرارا شديدا يملأ الأفق (الشفق القطبي)، وسمع في السماء أصواتا غريبة تشبه الهمهمة العالية، فرفع بصره فرأى سحبا حمراء كأنها نار قريبة منه، تنبعث منها تلك الأصوات. 'ومن رسومهم أنه إذا وُلد لابن الرجل مولود، أخذه جدّه دون أبيه، وقال: أنا أحقّ به من أبيه في حضنه حتّى يصير رجلا. وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده.' في وصف الصقالبة وفي وسط تلك الغيوم رأى أشكالا تشبه الناس والحيوانات، وبعضها يحمل أسلحة تشبه الرماح والسيوف، بل يبدو أن مجموعتين منها تتقابلان كأنهما جيشان يتقاتلان، فشعر بالرعب هو ومن معه، وبدؤوا بالدعاء والتضرّع، وكان أهل البلد يضحكون من خوفهم، ويستغربون من رد فعلهم. ثم انتقل لوصف طول النهار في تلك المناطق، فقد لاحظ أن النهار يمتد طويلا، ويقصر الليل جدا، ثم ينعكس الحال في الشتاء. وفي الليلة التالية جلس يراقب السماء، فلم يرَ سوى عدد قليل من النجوم، نحو 15 نجما فقط، ولم يختفِ الشفق الأحمر الذي يسبق الغروب، بل بقي ظاهرا طوال الليل، فصار الظلام خفيفا، لدرجة أن الإنسان يستطيع تمييز الآخرين من مسافة تزيد على مدى رمية السهم. كما لاحظ ظاهرة غريبة للقمر، فلم يكن يرتفع عاليا في السماء، بل يظهر قليلا ثم يختفي عند الفجر. وحدثه الملك أن في مناطق أخرى -أبعد شمالا- قوما يسمون 'ويسو'، ليلهم لا يتجاوز ساعة واحدة. ويذكر ابن فضلان أنه لم ير أكثر من الصواعق في بلدهم، وإذا وقعت صاعقة على بيت لم يقربوه، بل يتركونه على حالته وجميع من فيه، من رجال ومال وغير ذلك، حتى يتلفه الزمان، ويقولون: هذا بيت مغضوب عليهم. يقول في الرسالة: ولقد أسلم على يدي رجل، يقال له طالوت، فأسميته عبد الله، فقال: أريد أن تسمّيني باسمك محمدا، ففعلت، وأسلمت امرأته وأمه وأولاده، فسموا كلهم محمدا، وعلمته 'الحمد لله'، و'قل هو الله أحد'، فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة. سُكر وقذارة.. عادات الشعوب الروسية والفايكنغ من المعلوم أن ابن فضلان هو من القلائل الذين تحدثوا عن الروس المنحدرين من الشعوب الإسكندنافية، أو من يسمون شعوب 'الفايكنغ'، مع أنه لم ينطلق شمالا ولا غربا بعد أن بلغ مدينة بلغار، فلم يدخل الأراضي الروسية، بل لقيهم في أراضي البلغار، حين أقبلت قوافل تجارية روسية محملة بالجواري والفراء والنبيذ عند ضفاف نهر 'إتل' (أو نهر فولغا). وفي وصفه الخارجي لهم، قال إنه لم ير قوما أتمّ خلقا منهم ولا أقوى بنية، شبههم بالنخل من طولهم وضخامتهم، وكانت بشرتهم تميل إلى الحمرة، وشعرهم إلى الشقرة. لا يلبسون الملابس الشرقية كالقراطق أو الخفّات، بل يلقون على أجسادهم قطعة من قماش، تغطي أحد شقي البدن، وتخرج الذراع الأخرى، بأسلوب يذكّر باللباس الجرماني أو الإسكندنافي القديم. ويحمل كل رجل منهم سلاحه في جميع الأوقات؛ فأس وسيف وسكّين لا تفارق جسده، وكانت سيوفهم مميزة ذات صفائح مشطّبة، يرجّح أنها من صناعة فرانكية. 'ولا بدّ لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه.' في وصف طباع الروس والمثير في مظهرهم الجسدي هو ما لاحظه على أجسادهم من وشوم خضراء تمتد من الأظافر حتى العنق، نقشوا بها رسومات لأشجار وصور غريبة، ربما تمثّل رموزا دينية. أمّا حليّهم المفضلة، فخرز أخضر يقال إنه من الخزف الصيني أو من زجاج السفن، يعلّقونه في عقود لنسائهم، وتصل قيمة الخرزة الواحدة درهما، مما يدل على علو قيمتها الرمزية لديهم. وقد أثار اشمئزازه طقس النظافة الجماعية لديهم، فهو أغرب ما وصفه، إذ تجلب الجارية في الصباح قصعة ماء واحدة، يغسل فيها السيد يديه ووجهه وشَعر رأسه، ويمتشط ويبصق ويمتخط في الماء. ثم تمرَّر القصعة لمن يليه، فيفعل مثل ذلك، وهكذا إلى أن يتداولها جميع من في البيت، ومع أن الأمر قذر، فقد كان عادة يومية لا يتخلفون عنها. وعند وصولهم إلى أرض البلغار، كان أول ما يفعلونه إقامة شعيرة وثنية في موضع يشبه المعبد البدائي، يتمثّل بتمثال خشبي كبير له وجه إنسان، تحيط به تماثيل أصغر وأخشاب طويلة مثبتة بالأرض، فيسجد التاجر الروسي للتمثال ويخاطبه بوصفه 'الإله'، يقر أمامه بما جلبه من جوارٍ وفراء، ويتقرب له بخبز ولحم وبصل ونبيذ، ثم يدعوه أن يرزقه بتاجر غنيّ يشتري بضاعته بلا مماطلة ولا نقاش. ومن عاداتهم المروّعة أيضا، أنهم حين يمرض أحدهم يبعد عن الجماعة، وتُنصب له خيمة على طرف المعسكر، يترك فيها مع قليل من الخبز والماء ولا يقترب منه أحد، حتى يتعافى أو يموت. فإن مات أحرقوه إن كان حرا، أو تركوه تأكله الكلاب والطيور إن كان مملوكا. وأما العقاب فكان وحشيا، إذ يعلّق السارق على شجرة، ويترك معلقا حتى تتحلّل جثته من المطر والريح. وكان ابن فضلان يعلّق على إدمانهم للنبيذ. فقد قال: وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلا ونهارا، وربّما مات الواحد منهم والقدح في يده. القارب المقبرة.. طقوس فظيعة ترعاها نار ضخمة اختصت بعض القبائل الروسية بمراسم جنائزية مرعبة، ومراسم دفن تميّزوا بها دون غيرهم من الشعوب المجاورة، ألا وهي الدفن بالقوارب، فكان الميت يوضع في قارب ثم يحرق فيه، وقد كتب ابن فضلان شرحا مفصلا لهذه الطقوس، ونقل مشاهداته لمراسم دفن أحد الزعماء الروس، وكان قد أحب أن يراها بعينه. يقول في الرسالة: وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورا أقلها الحرق، فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موت رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام، حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. روى ابن فضلان أن من طقوس تلك القبائل، أن الفقير يحرق في قارب صغير يصنع له، أما الغني، فماله يقسّم على 3 أجزاء؛ جزء لورثته، وآخر لتجهيز الثياب الجنائزية، والثالث لصناعة النبيذ الذي يشرب يوم الاحتراق، وهو يوم تقتل فيه إحدى الجواري نفسها لتحرق معه، تعبيرا عن الولاء. فحين يموت رئيس القبيلة، يعرض على الجواري والغلمان مرافقته في الموت، فإذا قبل أحدهم، لم يعد له حق التراجع، وغالبا ما تكون إحدى الجواري هي من تبادر، كما حدث في هذه الحالة، فقد أعلنت إحداهن رغبتها في الموت مع سيّدها، ومنذ ذلك وُكّلت بها جاريتان تخدمانها وترافقانها في كل مكان، حتى غسلت رجليها، كأنما تطهّرها لرحلة الآخرة. وفي الوقت ذاته، بدأ الناس يحضرون الطقوس، وتشمل تجهيز القارب الكبير، ورفعه من النهر، ونصب أعمدة الخشب حوله، ثم بناء قبة مزخرفة عليه فُرشت بأغطية الحرير، ووضعوا في داخلها سريرا مبطنا بالمساند، استعدادا لوضع الجثمان. كما تظهر هنا امرأة عجوز تسمّى 'ملك الموت'، وهي المسؤولة عن إعداد الجثمان والقتل، فتخيط الكفن، وتضطلع بإتمام الطقوس الدموية، ويصفها ابن فضلان بأنها ضخمة، ذات ملامح مخيفة. وبعد مضي الأيام العشرة، أخرج الجثمان من القبر، وكان قد تغيّر لونه إلى السواد بسبب برودة المناخ، لكنه لم يتحلّل. وأُلبس ثيابا فاخرة من حرير، وزيّن بقبعة سمورية مرصعة، ثم جلس على السرير داخل القبة في وضع مهيب، وأحيط بالمأكولات والنبيذ، ووضعت بجانبه أسلحته. ثم إنهم ذبحوا بعض الدواب قربانا داخل القارب، منها كلاب وبقرات ودجاج وأحصنة. أما الجارية، فقد اقتيدت إلى السفينة يوم الحرق، وقدّمت أساورها لامرأة الموت، وقلائدها للجاريتين اللتين خدمتاها. ثم أُعطيت النبيذ، فغنّت وشربت مودعة رفيقاتها، ودخلت القبة، فطرحت إلى جوار مولاها، وأمسك بها رجال، ولفّت المرأة العجوز حبلا حول عنقها، وهي تغرز في صدرها خنجرا عريض النصل. ولم يعلم ابن فضلان هل ماتت الجارية خنقا أم طعنا؟ ثم تقدّم أقرب الناس إلى الميت، وأشعل نارا في الحطب الموضوع تحت السفينة، عاريا يمشي إلى الخلف، ثم اجتمع الناس كلّهم يحمل شعلة، يلقونها على السفينة حتى اشتعلت بأكملها، واندلعت النيران في الجثمان والجارية والأمتعة. ثم هبّت ريح قوية، فرأى الجمع علامة على رضا الآلهة، وفسّروها بأنها محبة الرب له، جاءت لتسرّع وصوله إلى 'النعيم'. في الختام، بُني على موقع السفينة المحترقة تلة مستديرة، وغرست فيها خشبة كبيرة، كُتب عليها اسم الميت واسم ملك الروس، في مشهد ينطوي على مزيج من الفجيعة والأسطورة والرمزية. وكان ترجمان ابن فضلان يحدث رجلا، فقال له: أنتم يا معاشر العرب حمقى. فقلت: لم ذلك؟ قال: إنكم تعمدون إلى أحبّ الناس إليكم وأكرمهم عليكم، فتطرحونه في التراب، وتأكله التراب والهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة، فيدخل الجنة من وقته وساعته. في ذكر يأجوج ومأجوج من العجائب ما تطرّق إليه ابن فضلان، في ذكر أقوام ظنّ أنهم يأجوج ومأجوج، فقد ركب مع القوم حتى بلغوا نهر إتل، وهو أطول نهر في أوروبا، ففوجئوا برجل غريب الهيئة هائل الطول، بلغ طوله 12 ذراعا، ورأسه كأكبر القدور، وأنفه يزيد على شبر، وعيناه واسعتان جدا، وأصابعه طويلة يتجاوز طول كل منها الشبر. أصاب الرعب الجميع من منظره، وحاولوا الحديث معه، لكنه لم يردّ عليهم بكلمة، بل ظلّ يحدّق فيهم بصمت. أخذ ابن فضلان يستفسر ويستفتي في أمر ما شاهدوه، فجاءه الرد بأن هذا الرجل من قوم يأجوج ومأجوج، الذين يسكنون على شاطئ بحر يفصلهم عن بقية الناس، وهم عراة، يعيشون على هيئة البهائم، ويخرج الله عزّ وجل لهم كل يوم سمكة من البحر، فيأخذ كل منهم منها ما يكفيه ويكفي عياله، فإن زاد على حاجته، أصيب هو وأهل بيته بأوجاع في البطن، وربما هلكوا جميعا، وبعد أن يأخذوا كفايتهم، تعود السمكة إلى البحر، وهكذا شأنهم كل يوم وفقا لما جاء في الرسالة. وقد قال إنه يقال إن بين الناس وبين يأجوج ومأجوج بحرا من جهة، ومن الجهات الأخرى جبالا تحيط بهم، وسدا عظيما يحول بينهم وبين المخرج الذي اعتادوا أن ينفذوا منه. ثم سأله أحدهم أن يرافقه إلى حيث اقتيد أحد أولئك الرجال العمالقة، وقد ربط في شجرة عالية حتى هلك، فوافق وذهب يتفحص الأمر بنفسه. فلما وصلوا إلى غابة عظيمة كثيرة الأشجار، بلغوا فيها شجرة كانت عظام الرجل ورأسه قد سقطت تحتها. فنظر ابن فضلان فإذا رأسه كالوعاء الكبير، وأضلاعه أعرض من جذوع النخل، وكذلك عظام ساقيه وذراعيه، فبهِت من ضخامة خلقه، ثم انصرف من المكان متعجبا.8 [1] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: د. سامي الدهان. الطبعة الثالثة. بيروت: مكتبة الثقافة العالمية، 1987م. ص51 [2] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: ي. كراچكوفسكي، ترجمة: صلاح الدين المنجد. بيروت: دار صادر، 1959م. [3] مكتبة الرضوية، مشهد (التاريخ غير معروف). المخطوطة رقم 5229. الاسترداد من: [4] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: د. سامي الدهان. الطبعة الثالثة. بيروت: مكتبة الثقافة العالمية، 1987م. ص42 [5] نفس المصدر السابق. ص43 [6] نفس المصدر السابق. ص73 [7] نفس المصدر السابق. ص69 [8] نفس المصدر السابق. ص95
الجزيرةمنذ يوم واحدعلومالجزيرةرحلة ابن فضلان.. من بلاط بغداد إلى مقابر الفايكنغ وجحيم يأجوج ومأجوجفي غرفة تتوسط أخرى، على الطريقة العتيقة التي اعتمدها سكّان وسط آسيا قديما لحفظ الدفء، كان يستلقي وحيدا على حصير سميك، في رحلة تكاد تكون مستحيلة نحو أقاصي الشمال، حيث تنقطع الأخبار، وينتهي العالم المألوف. كان أزيز الرياح الباردة يقرع صدره المرتجف، وبدنه المكدود قد احتضن ذاته بشدة فوق الأرض، متدثّرا بأغطية الفرو الثقيلة، فبدا وجهه كأنما التصق بالوسادة الخشنة من شدة البرد. وبرغم ما هو فيه من حال يرثى لها، آثر أن يدوّن فصول واحدة من أندر الرحلات التاريخية، فكتب من بلدة نائية بأقصى غرب أوزبكستان، تطلّ على نهر جيحون العظيم الذي ينبع من جبال بامير، ويصبّ في بحر 'آرال' (بحيرة خوارزم)، قائلا إن 'بابا من الزمهرير قد فتح عليها'، فلا يهطل الثلج إلا وريحه عاصفة، وإذا أراد الرجل أن يكرم ضيفه أوقد له نارا يستدفئ بها، 'هذا إذا بالغ في برّه وصلته'، على حد تعبيره.1 كان ذلكم أحمد بن فضلان، مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله، وقد خرج في بعثة استجابة لطلب بلغار الفولغا (الصقالبة)، الذين التمسوا المساعدة من الخليفة في صد الخزر، وأن يأتيهم من يعلمهم ويفقههم في أصول الدين، فلم يكن قد مضى وقت طويل على إسلامهم. وكانت البعثة انطلقت في صفر 309 هـ، الموافق يونيو/ حزيران 921م، وسلكت طريقا طويلا مرّ بعدة مناطق تاريخية، منها همدان والريّ ونيسابور ومرو وبخارى، ثمّ ساروا بمحاذاة نهر جيحون إلى خوارزم عند بحر آرال، ثمّ عبروا صحراء أوست أورت ثم خاضوا لجة نهر يايق، حتى وصلوا إلى حوض الفولغا، حيث جمهورية تتارستان الروسية اليوم. وقد دوّن ذلك في كتابه 'رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة'، فأجاد الحديث عن أحوال أمم انقطعت أخبارها، تعيش في أصقاع نائية عند حدود العالم المتمدّن، وتحدث عن عدد من القبائل التركية البدوية القاطنة في آسيا الوسطى، وبعض الشعوب المنغلقة على ذاتها في أوروبا الشرقية مثل البلغار والخزر، وخصّ بالوصف المفصل الشعوب الروسية، وكانوا يومئذ من الشعوب الإسكندنافية المقيمة على ضفاف الفولغا. فوضع إرثا بشريا قيّما للغاية، تستند عليه اليوم جميع المصادر الحديثة. وقد استفاض ابن فضلان في شرح كثير من عادات تلك الشعوب الغريبة، من مأكل ومشرب وملبس وطقوس جنائزية، فوصف حرق جثة أحد الزعماء مع جاريته بطريقة مروعة، وتحدث عن العلاقة بين الملوك والحاشية، وكان أول من وصف الفايكنغ، كما سجّل فصلا عن يأجوج ومأجوج، جامعا بين الدقة في وصف الشعوب والسرد الغني بالتفاصيل. رحلة ابن فضلان.. نافذة نادرة على شعوب الشمال تعد رسالة ابن فضلان من أبرز وأقدم النصوص الجغرافية والأدبية، التي وصلتنا عن شعوب شمال أوروبا وشرقها في نهاية الألفية الميلادية الأولى، ومع أن نص الرحلة لم يصل إلينا كاملا بخط يده، فإن أجزاء كبيرة منه حفظت ضمن كتاب 'معجم البلدان' لياقوت الحموي (ت: 626هـ – 1229م) وكتاب 'آثار البلاد وأخبار العباد' لأبي عبد الله القزويني (ت:682هـ – 1283م). وكان أن أول استكشاف أوروبي لجزء من نصوص ابن فضلان على يد المستشرق الروسي 'كريستيان مارتن فرين' عام 1823، بعنوان 'تقارير العرب عن الروس في العصور القديمة'.2 وفي عام 1923، اكتشف المؤرخ التركي 'زكي وليدي طوغان' مخطوطة أكثر اكتمالا في مكتبة 'العتبة الرضوية' بمدينة مشهد الإيرانية، وتُعرف المخطوطة باسم 'MS 5229″، وتعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وتحتوي على نسخة أكثر تفصيلا من رسالة ابن فضلان، مع أنها لا تزال غير مكتملة، فهي تنقطع عند وصفه لشعب الخزر.3 وقد ترجمت الرحلة إلى عدة لغات، وصدرت منها عدة طبعات عربية محققة، منها طبعة إحسان عباس، وكذلك ترجمة سمير اليوسف عن دار الجمل. أما في الإنجليزية، فقد صدرت بعنوان 'ابن فضلان وأرض الظلام' (Ibn Fadlan and the Land of Darkness). فضلا عن الحقائق العلمية، فإن السرد الأدبي في رسالة ابن فضلان لم يخلُ من الحس التشويقي والأسلوب القصصي، وكأنها ملحمة درامية يعيش فيها البطل لحظات تحبس الأنفاس من عالم الخيال العلمي، مارّا على عدة محطات تختلط فيها المشاعر من دهشة وخوف، ويستطرد الكاتب في وصف حاله بين تارة وأخرى، وكأنما يريد أن يعيش القارئ تلك الرحلة مرافقا إياه. أحمد بن فضلان.. صفحة من التاريخ لم يسلط عليها الضوء لم نجد مصادر تاريخية تتحدث عن أحمد بن فضلان نفسه، فليس معروفا منصبه ولا تفاصيل عن حياته، حتى أن عمره من الأمور المجهولة تماما، كما أن رحلته لم تشتهر إلا على لسان بعض المؤرخين، منهم ياقوت الحموي، الذي نقل عنه مقتطفات. ووفقا لطبيعة المهمة التي وكلت إليه، فإن المؤرخين يفترضون أنه كان يجب أن يحمل خصالا واضحة، مثل الحكمة والحنكة والقوّة البدنية والقدرة على التحمل، وأيضا أن يكون عالما وفقيها، وأن يكون رجلا نيّرا ذا ثقافة مقبولة، ودليل ذلك وصفه المتأني للبلدان والتقاليد التي شاهدها عيانا. كما أن مظهره الخارجي كان ينبغي أن يتسم ببعض الوقار والهيبة، ذلك لأنه مبعوث الخليفة العباسي، لمقابلة ملوك الصقالبة والخزر والروس. انطلق الوفد تلبية لطلب من حاكم الصقالبة 'ألمش بن شيلكي'، الذي أشهر إسلامه حديثا، وأراد إقامة حلف مع الدولة العباسية، يُعينه في مقاومة سطوة دولة الخزر اليهود، الذين فرضوا عليه التبعيَة لهم. وكان هدف السفارة التي جهزها الخليفة العباسي أن تحمل إلى حاكم الصقالبة هدايا وأموالا، ليبني بها مسجدا وحصنا يحتمي به من هجمات الخزر، وأن يرافقها فقهاء ومعلّمون يلقنون أهل بلغار تعاليم الإسلام. وقد ضمّت البعثة 4 أعضاء، وهم: سوسن الرسي، ويبدو من نسبته أنه من بلاد الروس. بارس الصقلابي، ويدل اسمه على أنه سلافي. تكين التركي، وهو يجيد لغات الأتراك المتعددة. ابن فضلان، وهو رئيس الوفد، وكان يجهل اللغات الأجنبية كما ذكر.4 ولا يبرز ابن فضلان بطلا أساسيا في الرحلة، ولم تعكس كتاباته محاولة لبناء مجد أدبي لنفسه، بل إنه شارك في نصوصه تفاصيل مرافقيه، ذاكرا إياهم في مواضع عدة، متجاهلا أن يكون محور السرد الروائي. وقد يظن البعض بأن ما دوّنته يداه ربما كان تقريرا عن الرحلة للخليفة، بصفته سفيرا. مسار الرحلة التاريخية من بغداد غادرت بعثة ابن فضلان مدينة بغداد، عاصمة الدولة العباسية يوم 11 صفر سنة 309 هـ، الموافق 21 يونيو/ حزيران 921 م. وقد سلكت البعثة طريق خراسان، وهو من أشهر طرق الرحالة في تلك الحقبة، ويمتد عبر سلسلة جبال زاغروس في غرب فارس، ثم يمر بجبال ألبرز شمال إيران، ويتوغل في الهضبة الصحراوية شرق البلاد، حتى يصل إلى آسيا الوسطى. واصلت البعثة مسيرها حتى بلغت مدينة بخارى، وكانت يومئذ عاصمة الدولة السامانية، فأقاموا فيها مدة طويلة في انتظار المال لمتابعة الرحلة، ويعزى هذا التأخير إلى أن الخليفة المقتدر بالله لم يسلّم الأموال المخصصة للصقالبة مباشرة إلى الوفد، بل أوعز بأن تقتطع من خراج 'أرثخشمثين' الواقعة في ولاية خراسان. لكن المكلّف بتسليم ذلك الخراج كانت قد اعتقلته السلطات السامانية، فحال ذلك دون وصول المال، فاضطر ابن فضلان ومرافقوه إلى استئناف مسيرتهم دون الموارد المنتظرة، تحاشيا لخطر حلول فصل الشتاء. توجه القوم إلى نهر جيحون، ثم عبروا إلى مدينة الجرجانية في إقليم خوارزم، فتوقفوا عدة أشهر أيضا، ثم استأنفوا السير باتجاه هضبة 'استشورت'، وهي صحراء قاحلة بين بحر آرال وبحر قزوين، وقد لاقوا فيها بعض قبائل الترك. ثم وصلوا إلى مدينة بلغار -المعروفة اليوم باسم قازان- على ضفاف نهر الفولغا، وذلك في 14 مايو/ أيار عام 922م. ووفقا لمسار الرحلات التاريخية، فالرحلة من بغداد إلى بلاد البلغار له مساران محتملان؛ أما الأول فهو الأقصر والأسرع، ويمر عبر جبال القوقاز في أذربيجان وأرمينيا، وصولا إلى سواحل بحر الخزر (قزوين)، ومنه إلى الفولغا. وأما المسار الثاني الذي اختارته البعثة، فكان أطول بكثير، ويدور عبر خراسان وبلاد ما وراء النهر، أي المناطق الواقعة حاليا في تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، قبل أن يصل إلى بلغار. وقد فضّل هذا الطريق الأطول لتجنب عبور أراضي دولة الخزر اليهودية، التي كانت تسيطر على معظم أجزاء الطريق الأول، وكانت في نزاع سياسي وعسكري مع البلغار، فاستعصى المرور عبر أراضيها بأمان. كما أن الطريق الجبلي عبر القوقاز كان وعرا جدا، ولا يمكن اجتيازه إلا من ممر باب الأبواب، أو مدينة دربند، فكان ذلك مما زاد صعوبة الخيار الأول. ووفقا لما دوّنه ابن فضلان بنفسه، فإن مسار الرحلة كان على النحو الآتي بهذا التسلسل.5 وبذلك فإن المسافة التقديرية بلغت نحو 5 آلاف كيلومتر، وهو مسار خط الذهاب فحسب، أمّا تاريخ الرجعة وخطّ سيرها فليس معروفا، لأن خاتمة الرسالة قد فُقدت. ويرجح البعض بأنه عبر أراضي الخزر في طريق عودته إلى بغداد، لما ينسب إليه من وصف دقيق لمدينة أتيل، وهي عاصمة الخزر التاريخية، وتقع اليوم قرب مدينة أستراخان جنوبي روسيا. انتظار الإعدام عند قبائل الترك البدوية مر ابن فضلان بعدة مدن إيرانية، ومكث فيها مكثا طويلا، لكنه لم يكلّف نفسه عناء الكتابة عن الشعوب الفارسية، ربّما لأنهم معلومو الطباع آنذاك، ويعيش كثير منهم في ظل الدولة العباسية، فوجودهم أمر مألوف، أما ما أتى من مناطق واقعة فيما وراء النهر فهو ما كان يشد انتباهه أكثر. وقد صادف عددا من قبائل الترك البدوية، كان لهم حضور بارز في كتابه، لما لمس فيهم من اختلاف كبير في العادات واللغة والدين والمعيشة. وقد قدّم وصفا دقيقا لطباعهم وأسلوب حياتهم، عاكسا دهشة مثقف مدني جاء من بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، ووجد نفسه في قلب مجتمعات لا تزال تعتمد على الترحال، وتعتمد في معيشتها على الرعي وتربية المواشي، وتعيش في خيام متنقلة تسمى اليورت. وقد قال إن قبائل الترك البدوية تميّزت بالقوة والبأس، وكانوا أهل قتال وفروسية، لا يعرفون الاستقرار ولا البناء، ويتنقلون بين السهوب والجبال بحثا عن الماء والكلأ، وتتعدد لهجاتهم وأزياؤهم وتقاليدهم، وتختلف باختلاف كل قبيلة، بل إن بعضهم كان لا يفهم الآخر، مع أنهم أبناء أصل واحد. وبرغم ما بدا من خشونة في طباعهم، فقد لاحظ أن بعض القبائل قد بدؤوا يدخلون الإسلام، لكن فهمهم للدين سطحي، فكانوا يخلطون بينه وبين عاداتهم القديمة. وكان ذلك دافعا آخر للبعثة، التي أوكلت إليها مهمة تعليمهم أصول العقيدة والشريعة. وذكر ابن فضلان في هذا الصدد: ومنهم من يزعم أنّ له 12 ربا؛ للشتاء رب، وللصيف رب، وللمطر رب، وللريح رب، وللشجر رب، وللناس رب، وللدواب رب، وللماء رب، ولليل رب، وللنهار رب، وللموت رب، وللأرض رب، والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنّه يجتمع مع هؤلاء باتفاق، ويرضى كل واحد منهم بما يعمل شريكه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات، وطائفة تعبد السمك، وطائفة تعبد الكراكي (طيور مائية كبيرة)، فعرفوني أنهم كانوا يحاربون قوما من أعدائهم فهزموهم، وأن الكراكي صاحت وراءهم، ففزعوا وانهزموا، فعبدوا الكراكي لذلك، وقالوا: هذه ربنا وهذه فعالاته، هزم أعداءنا. فهم يعبدونها لذلك.6 وحين وصلت البعثة إلى إحدى القبائل التركية، أبلِغوا بأنهم رسل من 'ملك العرب' إلى ألمش بن شلكي، الذي هو صهر زعيمهم، فشكك زعيم القبيلة بقولهم، ونادى وجهاء قومه مستشيرا إياهم، ودار نقاش بينهم. وعبّر الزعيم عن شكه في نيات البعثة، وقال إنهم لم يشهدوا في تاريخهم مرور رسل من أي سلطان، لا هو ولا أجداده، وإنه يظن أن الخليفة دبّر خدعة وأرسلهم ليحرّضوا مملكة الخزر على مهاجمتهم. لذلك اقترح أن يقتل الرسل وتقسم أجسادهم إلى نصفين، وتؤخذ ممتلكاتهم. لكن رجلا آخر قدّم اقتراحا أقل عنفا، فقال إنهم ليس لهم أكثر من أخذ ما يحمله الرسل من أموال، وتركهم يرحلون عراة، ثم تدخل ثالث، فقال إن لديهم أسرى محتجزين لدى ملك الخزر، فاقترح الاحتفاظ بالرسل، واستخدامهم لتبادل الأسرى لاحقا. ودام هذا الجدل والمفاوضات بينهم 7 أيام، ذاق فيها وفد ابن فضلان خوفا شديدا، وكأنهم ينتظرون حكما بالإعدام. وفي النهاية، قرر القوم إطلاقهم وتركهم يمضون.7 عجائب وغرائب في بلاد الصقالبة حطت البعثة بعد لأي في بلاد الصقالبة، بمدينة بلغار المدرجة اليوم ضمن قائمة التراث التاريخي، فكان الملك بانتظارهم، وتركهم يرتاحون 4 أيام من عناء السفر الطويل، الذي استغرق نحو عام كامل. يصف ابن فضلان أول ليلة قضاها في تلك البلدة، فيقول إنه قبل غروب الشمس بساعة، لاحظ احمرارا شديدا يملأ الأفق (الشفق القطبي)، وسمع في السماء أصواتا غريبة تشبه الهمهمة العالية، فرفع بصره فرأى سحبا حمراء كأنها نار قريبة منه، تنبعث منها تلك الأصوات. 'ومن رسومهم أنه إذا وُلد لابن الرجل مولود، أخذه جدّه دون أبيه، وقال: أنا أحقّ به من أبيه في حضنه حتّى يصير رجلا. وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده.' في وصف الصقالبة وفي وسط تلك الغيوم رأى أشكالا تشبه الناس والحيوانات، وبعضها يحمل أسلحة تشبه الرماح والسيوف، بل يبدو أن مجموعتين منها تتقابلان كأنهما جيشان يتقاتلان، فشعر بالرعب هو ومن معه، وبدؤوا بالدعاء والتضرّع، وكان أهل البلد يضحكون من خوفهم، ويستغربون من رد فعلهم. ثم انتقل لوصف طول النهار في تلك المناطق، فقد لاحظ أن النهار يمتد طويلا، ويقصر الليل جدا، ثم ينعكس الحال في الشتاء. وفي الليلة التالية جلس يراقب السماء، فلم يرَ سوى عدد قليل من النجوم، نحو 15 نجما فقط، ولم يختفِ الشفق الأحمر الذي يسبق الغروب، بل بقي ظاهرا طوال الليل، فصار الظلام خفيفا، لدرجة أن الإنسان يستطيع تمييز الآخرين من مسافة تزيد على مدى رمية السهم. كما لاحظ ظاهرة غريبة للقمر، فلم يكن يرتفع عاليا في السماء، بل يظهر قليلا ثم يختفي عند الفجر. وحدثه الملك أن في مناطق أخرى -أبعد شمالا- قوما يسمون 'ويسو'، ليلهم لا يتجاوز ساعة واحدة. ويذكر ابن فضلان أنه لم ير أكثر من الصواعق في بلدهم، وإذا وقعت صاعقة على بيت لم يقربوه، بل يتركونه على حالته وجميع من فيه، من رجال ومال وغير ذلك، حتى يتلفه الزمان، ويقولون: هذا بيت مغضوب عليهم. يقول في الرسالة: ولقد أسلم على يدي رجل، يقال له طالوت، فأسميته عبد الله، فقال: أريد أن تسمّيني باسمك محمدا، ففعلت، وأسلمت امرأته وأمه وأولاده، فسموا كلهم محمدا، وعلمته 'الحمد لله'، و'قل هو الله أحد'، فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة. سُكر وقذارة.. عادات الشعوب الروسية والفايكنغ من المعلوم أن ابن فضلان هو من القلائل الذين تحدثوا عن الروس المنحدرين من الشعوب الإسكندنافية، أو من يسمون شعوب 'الفايكنغ'، مع أنه لم ينطلق شمالا ولا غربا بعد أن بلغ مدينة بلغار، فلم يدخل الأراضي الروسية، بل لقيهم في أراضي البلغار، حين أقبلت قوافل تجارية روسية محملة بالجواري والفراء والنبيذ عند ضفاف نهر 'إتل' (أو نهر فولغا). وفي وصفه الخارجي لهم، قال إنه لم ير قوما أتمّ خلقا منهم ولا أقوى بنية، شبههم بالنخل من طولهم وضخامتهم، وكانت بشرتهم تميل إلى الحمرة، وشعرهم إلى الشقرة. لا يلبسون الملابس الشرقية كالقراطق أو الخفّات، بل يلقون على أجسادهم قطعة من قماش، تغطي أحد شقي البدن، وتخرج الذراع الأخرى، بأسلوب يذكّر باللباس الجرماني أو الإسكندنافي القديم. ويحمل كل رجل منهم سلاحه في جميع الأوقات؛ فأس وسيف وسكّين لا تفارق جسده، وكانت سيوفهم مميزة ذات صفائح مشطّبة، يرجّح أنها من صناعة فرانكية. 'ولا بدّ لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه.' في وصف طباع الروس والمثير في مظهرهم الجسدي هو ما لاحظه على أجسادهم من وشوم خضراء تمتد من الأظافر حتى العنق، نقشوا بها رسومات لأشجار وصور غريبة، ربما تمثّل رموزا دينية. أمّا حليّهم المفضلة، فخرز أخضر يقال إنه من الخزف الصيني أو من زجاج السفن، يعلّقونه في عقود لنسائهم، وتصل قيمة الخرزة الواحدة درهما، مما يدل على علو قيمتها الرمزية لديهم. وقد أثار اشمئزازه طقس النظافة الجماعية لديهم، فهو أغرب ما وصفه، إذ تجلب الجارية في الصباح قصعة ماء واحدة، يغسل فيها السيد يديه ووجهه وشَعر رأسه، ويمتشط ويبصق ويمتخط في الماء. ثم تمرَّر القصعة لمن يليه، فيفعل مثل ذلك، وهكذا إلى أن يتداولها جميع من في البيت، ومع أن الأمر قذر، فقد كان عادة يومية لا يتخلفون عنها. وعند وصولهم إلى أرض البلغار، كان أول ما يفعلونه إقامة شعيرة وثنية في موضع يشبه المعبد البدائي، يتمثّل بتمثال خشبي كبير له وجه إنسان، تحيط به تماثيل أصغر وأخشاب طويلة مثبتة بالأرض، فيسجد التاجر الروسي للتمثال ويخاطبه بوصفه 'الإله'، يقر أمامه بما جلبه من جوارٍ وفراء، ويتقرب له بخبز ولحم وبصل ونبيذ، ثم يدعوه أن يرزقه بتاجر غنيّ يشتري بضاعته بلا مماطلة ولا نقاش. ومن عاداتهم المروّعة أيضا، أنهم حين يمرض أحدهم يبعد عن الجماعة، وتُنصب له خيمة على طرف المعسكر، يترك فيها مع قليل من الخبز والماء ولا يقترب منه أحد، حتى يتعافى أو يموت. فإن مات أحرقوه إن كان حرا، أو تركوه تأكله الكلاب والطيور إن كان مملوكا. وأما العقاب فكان وحشيا، إذ يعلّق السارق على شجرة، ويترك معلقا حتى تتحلّل جثته من المطر والريح. وكان ابن فضلان يعلّق على إدمانهم للنبيذ. فقد قال: وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلا ونهارا، وربّما مات الواحد منهم والقدح في يده. القارب المقبرة.. طقوس فظيعة ترعاها نار ضخمة اختصت بعض القبائل الروسية بمراسم جنائزية مرعبة، ومراسم دفن تميّزوا بها دون غيرهم من الشعوب المجاورة، ألا وهي الدفن بالقوارب، فكان الميت يوضع في قارب ثم يحرق فيه، وقد كتب ابن فضلان شرحا مفصلا لهذه الطقوس، ونقل مشاهداته لمراسم دفن أحد الزعماء الروس، وكان قد أحب أن يراها بعينه. يقول في الرسالة: وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورا أقلها الحرق، فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موت رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام، حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. روى ابن فضلان أن من طقوس تلك القبائل، أن الفقير يحرق في قارب صغير يصنع له، أما الغني، فماله يقسّم على 3 أجزاء؛ جزء لورثته، وآخر لتجهيز الثياب الجنائزية، والثالث لصناعة النبيذ الذي يشرب يوم الاحتراق، وهو يوم تقتل فيه إحدى الجواري نفسها لتحرق معه، تعبيرا عن الولاء. فحين يموت رئيس القبيلة، يعرض على الجواري والغلمان مرافقته في الموت، فإذا قبل أحدهم، لم يعد له حق التراجع، وغالبا ما تكون إحدى الجواري هي من تبادر، كما حدث في هذه الحالة، فقد أعلنت إحداهن رغبتها في الموت مع سيّدها، ومنذ ذلك وُكّلت بها جاريتان تخدمانها وترافقانها في كل مكان، حتى غسلت رجليها، كأنما تطهّرها لرحلة الآخرة. وفي الوقت ذاته، بدأ الناس يحضرون الطقوس، وتشمل تجهيز القارب الكبير، ورفعه من النهر، ونصب أعمدة الخشب حوله، ثم بناء قبة مزخرفة عليه فُرشت بأغطية الحرير، ووضعوا في داخلها سريرا مبطنا بالمساند، استعدادا لوضع الجثمان. كما تظهر هنا امرأة عجوز تسمّى 'ملك الموت'، وهي المسؤولة عن إعداد الجثمان والقتل، فتخيط الكفن، وتضطلع بإتمام الطقوس الدموية، ويصفها ابن فضلان بأنها ضخمة، ذات ملامح مخيفة. وبعد مضي الأيام العشرة، أخرج الجثمان من القبر، وكان قد تغيّر لونه إلى السواد بسبب برودة المناخ، لكنه لم يتحلّل. وأُلبس ثيابا فاخرة من حرير، وزيّن بقبعة سمورية مرصعة، ثم جلس على السرير داخل القبة في وضع مهيب، وأحيط بالمأكولات والنبيذ، ووضعت بجانبه أسلحته. ثم إنهم ذبحوا بعض الدواب قربانا داخل القارب، منها كلاب وبقرات ودجاج وأحصنة. أما الجارية، فقد اقتيدت إلى السفينة يوم الحرق، وقدّمت أساورها لامرأة الموت، وقلائدها للجاريتين اللتين خدمتاها. ثم أُعطيت النبيذ، فغنّت وشربت مودعة رفيقاتها، ودخلت القبة، فطرحت إلى جوار مولاها، وأمسك بها رجال، ولفّت المرأة العجوز حبلا حول عنقها، وهي تغرز في صدرها خنجرا عريض النصل. ولم يعلم ابن فضلان هل ماتت الجارية خنقا أم طعنا؟ ثم تقدّم أقرب الناس إلى الميت، وأشعل نارا في الحطب الموضوع تحت السفينة، عاريا يمشي إلى الخلف، ثم اجتمع الناس كلّهم يحمل شعلة، يلقونها على السفينة حتى اشتعلت بأكملها، واندلعت النيران في الجثمان والجارية والأمتعة. ثم هبّت ريح قوية، فرأى الجمع علامة على رضا الآلهة، وفسّروها بأنها محبة الرب له، جاءت لتسرّع وصوله إلى 'النعيم'. في الختام، بُني على موقع السفينة المحترقة تلة مستديرة، وغرست فيها خشبة كبيرة، كُتب عليها اسم الميت واسم ملك الروس، في مشهد ينطوي على مزيج من الفجيعة والأسطورة والرمزية. وكان ترجمان ابن فضلان يحدث رجلا، فقال له: أنتم يا معاشر العرب حمقى. فقلت: لم ذلك؟ قال: إنكم تعمدون إلى أحبّ الناس إليكم وأكرمهم عليكم، فتطرحونه في التراب، وتأكله التراب والهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة، فيدخل الجنة من وقته وساعته. في ذكر يأجوج ومأجوج من العجائب ما تطرّق إليه ابن فضلان، في ذكر أقوام ظنّ أنهم يأجوج ومأجوج، فقد ركب مع القوم حتى بلغوا نهر إتل، وهو أطول نهر في أوروبا، ففوجئوا برجل غريب الهيئة هائل الطول، بلغ طوله 12 ذراعا، ورأسه كأكبر القدور، وأنفه يزيد على شبر، وعيناه واسعتان جدا، وأصابعه طويلة يتجاوز طول كل منها الشبر. أصاب الرعب الجميع من منظره، وحاولوا الحديث معه، لكنه لم يردّ عليهم بكلمة، بل ظلّ يحدّق فيهم بصمت. أخذ ابن فضلان يستفسر ويستفتي في أمر ما شاهدوه، فجاءه الرد بأن هذا الرجل من قوم يأجوج ومأجوج، الذين يسكنون على شاطئ بحر يفصلهم عن بقية الناس، وهم عراة، يعيشون على هيئة البهائم، ويخرج الله عزّ وجل لهم كل يوم سمكة من البحر، فيأخذ كل منهم منها ما يكفيه ويكفي عياله، فإن زاد على حاجته، أصيب هو وأهل بيته بأوجاع في البطن، وربما هلكوا جميعا، وبعد أن يأخذوا كفايتهم، تعود السمكة إلى البحر، وهكذا شأنهم كل يوم وفقا لما جاء في الرسالة. وقد قال إنه يقال إن بين الناس وبين يأجوج ومأجوج بحرا من جهة، ومن الجهات الأخرى جبالا تحيط بهم، وسدا عظيما يحول بينهم وبين المخرج الذي اعتادوا أن ينفذوا منه. ثم سأله أحدهم أن يرافقه إلى حيث اقتيد أحد أولئك الرجال العمالقة، وقد ربط في شجرة عالية حتى هلك، فوافق وذهب يتفحص الأمر بنفسه. فلما وصلوا إلى غابة عظيمة كثيرة الأشجار، بلغوا فيها شجرة كانت عظام الرجل ورأسه قد سقطت تحتها. فنظر ابن فضلان فإذا رأسه كالوعاء الكبير، وأضلاعه أعرض من جذوع النخل، وكذلك عظام ساقيه وذراعيه، فبهِت من ضخامة خلقه، ثم انصرف من المكان متعجبا.8 [1] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: د. سامي الدهان. الطبعة الثالثة. بيروت: مكتبة الثقافة العالمية، 1987م. ص51 [2] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: ي. كراچكوفسكي، ترجمة: صلاح الدين المنجد. بيروت: دار صادر، 1959م. [3] مكتبة الرضوية، مشهد (التاريخ غير معروف). المخطوطة رقم 5229. الاسترداد من: [4] ابن فضلان، أحمد. رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة. تحقيق: د. سامي الدهان. الطبعة الثالثة. بيروت: مكتبة الثقافة العالمية، 1987م. ص42 [5] نفس المصدر السابق. ص43 [6] نفس المصدر السابق. ص73 [7] نفس المصدر السابق. ص69 [8] نفس المصدر السابق. ص95