أحدث الأخبار مع #وثائقبنما


الجزيرة
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
وثائق بنما.. حين تحولت الملاذات الضريبية الآمنة إلى جحيم
في ربيع عام 2016، أخذ الناس حول العالم في ليلة وضحاها يبحثون عن أسمائهم بين ملايين من الوثائق التي نشرتها صحيفة "تسود دويتشه تسايتونغ" الألمانية في تسريب هو الأكبر في العالم حول قضايا فساد يشتبه بالضلوع فيها مئات الأفراد في نحو 200 دولة، بما في ذلك رؤساء دول ومسؤولون ورجال أعمال ومشاهير. وبينما كان الناس يعيشون حياتهم، أصبحت بنما أشهر من نار على علم، وأصبحت الوثائق التي نسبت إليها محل حديث الجميع حول العالم، فمن لم يتورط فيها كان يبحث عن أسماء قد يعرفها من مسؤولي حكومته أو رجال الأعمال في بلده أو حتى مشاهيره المفضلين، وكشف الستار حينها عن حقيقة أن التورط في الفساد لا يعرف مهنة ولا مكانة ولا ثروة، وأن التقصي عنه ومكافحته مسؤولية عالمية. كيف بدأت القصة؟ في عام 2015، اتصل شخص مجهول أطلق على نفسه اسم "جون دو" بصحيفة "تسود دويتشه تسايتونغ" وعرض عليهم تسريب أكثر من 2 تيرابايت من الملفات الحساسة التي يعود تاريخها إلى عام 1977 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2015، من دون أي مقابل. وحصلت الصحيفة الألمانية على نحو 11 مليون وثيقة استقصتها بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين من شركة المحاماة " موساك فونسيكا" التي كانت تتخذ من بنما مقرا لها، وأطلقت عليها اسم "وثائق بنما". وكشفت الوثائق عن شبكة تضم نحو 200 ألف ملاذ ضريبي في أكثر من 200 دولة حول العالم، وضمت معلومات مالية لعدد من قادة الدول آنذاك، ومئات المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال والمشاهير حول العالم. وبعد عام من البحث والتقصي وترتيب المعلومات، نشرت الوثائق في الثالث من أبريل/نيسان 2016، وكانت أولى نتائجها أن أعلن رئيس الوزراء الآيسلندي سيغموندور ديفد جونلوغسون استقالته من منصبه بعد ورود اسمه فيها، ثم في التاسع من مايو/أيار من العام نفسه كشف الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين عناوين الشركات الـ200 ألف الواردة في الوثائق. ومن بين من وردت أسماؤهم في القائمة كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأعضاء من مجلس الدوما الروسي ومقربين من الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، من بينهم ابن خاله رامي مخلوف ، و علاء مبارك نجل الرئيس المصري المخلوع، ورئيس مجلس الدولة السوداني السابق أحمد الميرغني، ورئيس الوزراء الأردني السابق علي أبو الراغب ، ورئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي ، والرئيس الأرجنتيني السابق ماوريسيو ماكري وعائلة الرئيس الأذري إلهام علييف ، والعديد من الرؤساء والمسؤولين الحكوميين حول العالم. وجاء في القائمة من المشاهير لاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي ، ورئيس الفيفا جياني إنفانتينو ، ونادي ريال سوسيداد ورؤساؤه، وبطل الشطرنج العالمي بوبي فيشر، والممثل جاكي شان، والممثلة إيما واتسون، والمحكم البريطاني في برامج المواهب سيمون كويل وآخرون. ماذا يعني ذلك؟ ورود اسمك في إحدى وثائق بنما حينها يعني أنك تضع أموالا في شركة " أوفشور" الوهمية، وهي شركات تسجل في دولة ذات نظام ضريبي "متسامح" يُتيح هوامش ربح أوسع للمستثمر ويسمح له بإخفاء هويته الحقيقية للتهرب من دفع الضرائب. ولا تُصنف شركات "أوفشور" في العادة غير قانونية، ولا يعد التعامل معها جريمة، وهي في الواقع عبارة عن شركات مسجلة في دول مختلفة عن مكان إقامة مالكها. وتكمن الفضيحة في أن تكون شركة "أوفشور" التي وضع المتورطون أموالهم فيها شركات وهمية تقع في ملاذ ضريبي (Tax Haven). وتكمن الحيلة في أن بعض الدول أو الجزر تقدم إعفاءات ضريبية لشركات "أوفشور"، ما يدفع البعض إلى تأسيس واحدة هناك ووضع أموالهم فيها للتهرب من دفع ضرائب قد يضطرون لدفعها لو وضعوا أموالهم في أحد البنوك، وهي إلى جانب كونها تفتح الباب للتهرب الضريبي، فإنها تصنف أيضا في خانة الاحتيال والتهرب من العقوبات الدولية. كيف انتهت القضية؟ بالرغم من ورود العديد من الأسماء في الوثائق، فإن عددا قليلا فقط تعرض للملاحقة والمساءلة، لكن تبعاتها -وفق الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين- كانت نجاح عدد من الدول في استعادة مئات الملايين من الدولارات، بينما مرر الكونغرس الأميركي قانونا يعيد ضوابط مكافحة غسيل الأموال ويطالب ملاك الشركات الأميركية بالكشف عن هوياتهم لوزارة الخزانة. وتعد أبرز تبعات "وثائق بنما" اضطرار شركة "موساك فونسيكا" لبيع الشركات التي تتبعها بأسعار زهيدة بلغت ألف دولار فقط، قبل أن تغلق أبوابها في مارس/آذار 2018 رغم تأكيدها على اتباع الأنظمة والقوانين المعمول بها في مكافحة التهرب الضريبي وغسيل الأموال حول العالم، لكنها اعتبرت أن الضرر الذي لحق بسمعتها "لا يمكن إصلاحه". وفي أبريل/نيسان 2024، اختتمت المحكمة مرافعات رئيسي الشركة يورغن موساك ورامون فونسيكا، مع مطالبة الادعاء بسجن كل منهما 12 عاما، وهي المدة القصوى في قضايا غسيل الأموال، وأصدرت المحكمة في يوليو/تموز من العام ذاته حكما ببراءة موساك وفونسيكا من التهم الموجهة إليهما بعد وفاة فونسيكا في مايو/أيار من العام ذاته. وقد أقر فونسيكا في وقت سابق بصحة المعلومات الواردة في وثائق بنما لكنه نفى تورط الشركة في أي نشاط غير قانوني، مشيرا إلى أن الهجوم يستهدف بنما، "لأن بعض الدول لا تروق لها مقدرتها التنافسية العالية على جذب الشركات". وبالفعل تسببت وثائق بنما في تراجع عدد الشركات المسجلة في البلاد، في حين اعتبر رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين أن الوثائق تعد "أكبر صفعة للشركات العابرة للحدود". وفي عام 2017، اغتيلت الصحفية المالطية دافني كاروانا غاليزي التي قادت تحقيقات الفساد في "وثائق بنما" بانفجار سيارتها في العاصمة فاليتا، وذلك بعد أسبوع من إبلاغها الشرطة المحلية بتلقيها تهديدات بالقتل.


موقع كتابات
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- موقع كتابات
حراس الحقيقة… هل لا تزال الصحافة تستحق ثقة الجماهير؟
في زمن تتسارع فيه الأخبار وتنتشر المعلومات في ثوانٍ عبر وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية، لم تعد الصحافة مجرد مهنة لنقل الأخبار، بل أصبحت مسؤولية اجتماعية تفرض على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الالتزام بالدقة والحياد. فالإعلام ليس مجرد أداة تواصل، بل هو قوة مؤثرة قادرة على تشكيل الرأي العام، التأثير في صنع القرار، وكشف الحقائق أو طمسها. لقد شهد التاريخ مواقف بارزة أكدت أن الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل أداة حاسمة في خدمة المجتمع أو تضليله، وفي كلتا الحالتين، كان للدقة والحياد دور جوهري في تحديد مدى مصداقية الصحفيين والتأثير الذي يتركونه. عندما كشف الصحفيان بوب وودوارد وكارل برنستين في صحيفة واشنطن بوست عام 1972 تفاصيل فضيحة ووترغيت، لم يكن ذلك مجرد تحقيق صحفي، بل كان ممارسة لمسؤولية اجتماعية نبيلة أسقطت رئيسًا أمريكيًا وأكدت دور الصحافة في محاسبة السلطة. كان التحقيق مستندًا إلى دقة المعلومات والبحث العميق والحياد في التغطية، مما عزز مصداقية الصحافة كسلطة رابعة. في المقابل، رأينا كيف يمكن للإعلام أن يكون أداة تضليل عندما استخدمت بعض وسائل الإعلام الأمريكية معلومات غير دقيقة لتبرير غزو العراق عام 2003، إذ اعتمدت تقارير على ادعاءات خاطئة بشأن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. لاحقًا، اعترفت بعض الصحف الكبرى، مثل نيويورك تايمز، بأنها لم تتحقق بدقة من المعلومات قبل نشرها، مما أدى إلى حرب كارثية. هذا يوضح أن الصحافة ليست مجرد ناقل للأحداث، بل هي قوة قادرة على إحداث تغيير إيجابي أو نشر الفوضى، وفقًا لطريقة تعاملها مع الأخبار ومدى التزامها بالمسؤولية المهنية. في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح انتشار الأخبار أسرع من أي وقت مضى، ولكن في المقابل، زادت المعلومات المضللة والأخبار الكاذبةالتي تهدد استقرار المجتمعات. أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان خلال جائحة كوفيد-19، حيث انتشرت أخبار زائفة حول الفيروس واللقاحات، مما أدى إلى نشر الخوف وعرقلة الجهود الصحية. وسائل إعلام كبرى مثل بي بي سي ورويترزاضطرت إلى تخصيص فرق للتحقق من الأخبار الزائفة، مما يؤكد أن الدقة لم تعد مجرد ميزة، بل مسؤولية اجتماعية لإنقاذ الأرواح. من ناحية أخرى، قدمت الصحافة الاستقصائية نموذجًا مثاليًا للدقة، كما في قضية 'وثائق بنما' (Panama Papers) التي نشرتها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين عام 2016. استغرق التحقيق أكثر من عام، وشمل تحليل ملايين الوثائق للكشف عن تهرب ضريبي عالمي ضخم تورطت فيه شخصيات سياسية واقتصادية بارزة. ما يميز هذا النوع من الصحافة هو أن كل معلومة يتم التحقق منها بعناية قبل النشر، لأن أي خطأ قد يضر بمصداقية الوسيلة الإعلامية ويفقد الجمهور ثقته بها. الحياد هو من أكثر المبادئ الصحفية صعوبة في التطبيق، لأن الصحفيين بشر يتأثرون بمعتقداتهم وظروفهم السياسية والاجتماعية. لكن في الوقت نفسه، يُتوقع منهم تقديم جميع وجهات النظر بموضوعية، وترك الحكم للقارئ أو المشاهد. تاريخيًا، لعب الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل النزاعات أو تهدئتها، بناءً على مدى التزامه بالحياد. على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في رواندا عام 1994، ساهمت بعض وسائل الإعلام المحلية في تأجيج الصراع العرقي من خلال خطاب الكراهية، مما أدى إلى زيادة العنف بشكل مأساوي. في المقابل، تُعد تغطية بي بي سي للحروب والنزاعات نموذجًا للحياد، حيث تلتزم المؤسسة بمنح جميع الأطراف فرصة لإبداء وجهات نظرهم، مع التركيز على تقديم المعلومات المستندة إلى الحقائق بدلًا من التوجهات السياسية. ومع ذلك، يُواجه الحياد الصحفي تهديدات متزايدة، خاصة مع ظهور الإعلام الموجه الذي يخدم أجندات سياسية أو اقتصادية. في بعض البلدان، تخضع وسائل الإعلام لضغوط تمنعها من نقل الحقائق بحرية، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالمؤسسات الإعلامية. لكن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون سلاحًا ذو حدين، حيث تم استخدام تقنية التزييف العميق(Deepfake) لإنشاء فيديوهات مزيفة لشخصيات سياسية، مما يعزز التضليل الإعلامي. لذلك، يجب أن يكون للصحفيين دور أكبر في التحقق من الأخبار، وعدم الاعتماد الكامل على التكنولوجيا دون رقابة بشرية. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز الصحافة، لكنه لا يمكن أن يحل محل الحس الصحفي والقيم الأخلاقية التي تضمن الدقة والحياد. في عالم مليء بالمعلومات، تظل الصحافة سلطة اجتماعية مؤثرة تتحمل مسؤولية كبرى في تشكيل وعي الجمهور. الدقة والحياد ليسا مجرد شعارات، بل .