#أحدث الأخبار مع #ودادنبيالعربي الجديد٠٩-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالعربي الجديدمهلاً يا كاتب التاريخ(إلى الشاعرة السورية وداد نبي) يا سيدتي، لفت نظري جمال أحد المقاطع من قصيدة مُترجمة للشاعر الكردي الكبير، شيركو بيكه سه، نُشرت في ثمانينيات القرن العشرين في أحد أعداد مجلة "الهدف" التي أسّسها غسّان كنفاني صيف عام 1969 في بيروت. جاء فيه: "نهضت قطعة طباشير في الصف، وقفت أمام الكرسي، قالت: سأغدو معلماً، رفع كرسي يده، سأل: عمَّ يتحدث درسنا؟ حكّتْ قطعة الطباشير البيضاء رأسها بالسبورة السوداء، تساقطت الأحرف البيضاء، تجمعت في كلمات، ثمَّ هتفت: عاش الحمام، عاشت الأنهار، عاشت القطط، عاشت الأشجار، عاشت أختي وأخي، وتسقط الدبابة". رغم بساطة المقطع إلا أنه شكَّل عقدة استعصت على الحلّ، لأنّ تلك الدبابة الملعونة فعلت فعلها المروّع مع مئذنة الجامع الأموي في مدينة حلب. وفي ذلك اليوم الحزين خرج صاحب مكتبة "المدى" قرب كنيسة الروم الأرثوذكس في مدينة إدلب مقهوراً حزيناً، والدمع المالح يكاد يطفر من عينيه، ومن ضيق صدره وخلقه كان يريد أن يخبط رأسه في أحجار جدران بيوت زقاق المسيحيين، يريد الحديث مع أيّ عابر سبيل، فلمح خوري الكنيسة خارجاً لتوّه من بابها القريب من المكتبة، فناداه: - يا أبونا! انظر ما أصاب المسجد الأموي في مدينة حلب الشهباء. - وما أصابه؟ - وتسأل ما أصابه!؟ لقد ناهز عمر هذا المسجد أكثر من ألف ومئتي عام، وأحجاره تحكي تاريخ المدينة، وقد مرَّت على أبوابه مصائب ونكبات، وفتكت آلة الحرب الوحشية بأحجاره. ويُحكى أنّ منارته كانت أجمل منارة في مدينة حلب. رغم تتابع النكبات، فقد فات ما فات، تعال فتش إن استطعت عن سبب كلّ هذا الخراب المجنون - كانت؟ - نعم كانت، فقد قوّضتها قذائف الدبابات، وأمست أثراً بعد عين. كنتُ أقف إلى جوارها وتعتريني الدهشة من مهارة تلك الأيدي التي صنعت هذه التحفة الفنية. كنّا نقف، أنا وزوجتي، في ظلِّها نشرب عصير الرمان المثلَّج من دكان صغير على الكتف اليمنى من أحد أزقة أسواق "المدينة" التجارية القديمة في وسط حلب الشهباء. بماذا كان يفكّر سليمان بن عبد الملك حين بناه، وتأنّق في بنائه؟ هل يا ترى ليضاهي ما عمله أخوه الوليد في الجامع الأموي في دمشق؟ المسجد الأموي الكبير في دمشق تمَّ العمل فيه سنة 96 هجرية، لذلك لا بُدّ من أنّ مسجد حلب قد بُني في نهاية القرن الأول، أو في السنوات الأولى من القرن الثاني الهجري. يُقال في الكتب إنّ المئذنة بناها قاضي المدينة أبو الحسن محمد بن يحيى الخشاب سنة 1090 ميلادية وتأنّق في عمارتها. وقد كتبت ليلى السيد، وهي من أهل حلب، عن منارة الجامع الأموي تقول: "ترتفع مئذنة الجامع الأموي الكبير في وسط مدينة حلب القديمة، وتتوضع في الركن الشمالي الغربي من صحن الجامع، وتقع على قاعدة مربعة الشكل، طول ضلعها خمسة أمتار تنقص سنتيمترات، ويبلغ ارتفاعها 45 متراً، وتضم سلماً حجرياً يتكوّن من 174 درجة، وتحيط ببدنها الباسق أربعة أدوار من الكتابة الكوفية البديعة، تقسمه بعد ركن القاعدة إلى أربعة أقسام متساوية، يزدان القسمان العلويان منها بحنيات زخرفية، ويتخلّل كلّ حنية منها نافذة مدورة أو مربعة، وينتهي القسم الرابع أعلى الأقسام جميعها بدورين يشكلان بروزاً عن مستوى البدن لتكون عليه شرفات المؤذن، وتكون قاعدة الجوسق الذي يحمل قوس المئذنة". هل يجد الحمام دربه ليحطّ من تعبٍ على ما تبقى من أحجار المسجد الأموي في حلب؟ نعم، لقد مرَّت محن شداد على هذا المسجد، بل قُل كوارث. نقض بنو العباس ما كان فيه من الزخارف والآلات، ونقلوها إلى جامع الأنبار في العراق، ثم أحرقه الرومان حين دخلوا حلب سنة 315 من الهجرة، ثم أُحرق مرّة ثانية في زمن نور الدين زنكي، وأحرقه التتار أيضاً سنة 658 من الهجرة. وكان الفضل في إعادة بنائه إلى سيف الدولة الحمداني صاحب حلب، وابنه أبي المعالي، وإلى نور الدين زنكي الذي زاد فيه من الجهة الشرقية، حين ضمّ إليه سوق البزر وجعله أقرب إلى التربيع، وإلى الملك الظاهر، والملك المنصور قلاوون، وفيه تجديدات تمّت في العهد العثماني، وفي أوائل القرن العشرين. وكذلك جُدّد الباب الشمالي والواجهة الشمالية الخارجية وأقيمت أمامه حديقة واسعة في أواخر عام 1953. وكانت آخر أعمال الترميم في المئذنة عام 2010 والتي كانت أجمل منارات حلب. - نعم، مرّة أخرى، كانت. - ومن المسؤول عن نكبتها؟ - رغم تتابع النكبات، فقد فات ما فات، تعال فتش إن استطعت عن سبب كلّ هذا الخراب المجنون. - الجنون، وإن جنَّ ربعك عقلك لا ينفعك. نعم، إن جنَّ قومك فهل عليك أن تفقد عقلك وتجن كجنونهم حتى تستقيم الأمور، أم تحتفظ بعقلك الذي قد ينفعك أو لا ينفعك؟ يا كاتب التاريخ مهلاً، لقد جنَّ القوم، مع أنّ الكل مروا من هنا، الكافر والمؤمن، الظالم والعادل، الجندي والشاعر، الغني والفقير، ورغم تتابع النكبات على أبواب المسجد، فهل يجد الحمام دربه ليحطّ من تعبٍ على ما تبقى من أحجار المسجد الأموي في حلب؟
العربي الجديد٠٩-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالعربي الجديدمهلاً يا كاتب التاريخ(إلى الشاعرة السورية وداد نبي) يا سيدتي، لفت نظري جمال أحد المقاطع من قصيدة مُترجمة للشاعر الكردي الكبير، شيركو بيكه سه، نُشرت في ثمانينيات القرن العشرين في أحد أعداد مجلة "الهدف" التي أسّسها غسّان كنفاني صيف عام 1969 في بيروت. جاء فيه: "نهضت قطعة طباشير في الصف، وقفت أمام الكرسي، قالت: سأغدو معلماً، رفع كرسي يده، سأل: عمَّ يتحدث درسنا؟ حكّتْ قطعة الطباشير البيضاء رأسها بالسبورة السوداء، تساقطت الأحرف البيضاء، تجمعت في كلمات، ثمَّ هتفت: عاش الحمام، عاشت الأنهار، عاشت القطط، عاشت الأشجار، عاشت أختي وأخي، وتسقط الدبابة". رغم بساطة المقطع إلا أنه شكَّل عقدة استعصت على الحلّ، لأنّ تلك الدبابة الملعونة فعلت فعلها المروّع مع مئذنة الجامع الأموي في مدينة حلب. وفي ذلك اليوم الحزين خرج صاحب مكتبة "المدى" قرب كنيسة الروم الأرثوذكس في مدينة إدلب مقهوراً حزيناً، والدمع المالح يكاد يطفر من عينيه، ومن ضيق صدره وخلقه كان يريد أن يخبط رأسه في أحجار جدران بيوت زقاق المسيحيين، يريد الحديث مع أيّ عابر سبيل، فلمح خوري الكنيسة خارجاً لتوّه من بابها القريب من المكتبة، فناداه: - يا أبونا! انظر ما أصاب المسجد الأموي في مدينة حلب الشهباء. - وما أصابه؟ - وتسأل ما أصابه!؟ لقد ناهز عمر هذا المسجد أكثر من ألف ومئتي عام، وأحجاره تحكي تاريخ المدينة، وقد مرَّت على أبوابه مصائب ونكبات، وفتكت آلة الحرب الوحشية بأحجاره. ويُحكى أنّ منارته كانت أجمل منارة في مدينة حلب. رغم تتابع النكبات، فقد فات ما فات، تعال فتش إن استطعت عن سبب كلّ هذا الخراب المجنون - كانت؟ - نعم كانت، فقد قوّضتها قذائف الدبابات، وأمست أثراً بعد عين. كنتُ أقف إلى جوارها وتعتريني الدهشة من مهارة تلك الأيدي التي صنعت هذه التحفة الفنية. كنّا نقف، أنا وزوجتي، في ظلِّها نشرب عصير الرمان المثلَّج من دكان صغير على الكتف اليمنى من أحد أزقة أسواق "المدينة" التجارية القديمة في وسط حلب الشهباء. بماذا كان يفكّر سليمان بن عبد الملك حين بناه، وتأنّق في بنائه؟ هل يا ترى ليضاهي ما عمله أخوه الوليد في الجامع الأموي في دمشق؟ المسجد الأموي الكبير في دمشق تمَّ العمل فيه سنة 96 هجرية، لذلك لا بُدّ من أنّ مسجد حلب قد بُني في نهاية القرن الأول، أو في السنوات الأولى من القرن الثاني الهجري. يُقال في الكتب إنّ المئذنة بناها قاضي المدينة أبو الحسن محمد بن يحيى الخشاب سنة 1090 ميلادية وتأنّق في عمارتها. وقد كتبت ليلى السيد، وهي من أهل حلب، عن منارة الجامع الأموي تقول: "ترتفع مئذنة الجامع الأموي الكبير في وسط مدينة حلب القديمة، وتتوضع في الركن الشمالي الغربي من صحن الجامع، وتقع على قاعدة مربعة الشكل، طول ضلعها خمسة أمتار تنقص سنتيمترات، ويبلغ ارتفاعها 45 متراً، وتضم سلماً حجرياً يتكوّن من 174 درجة، وتحيط ببدنها الباسق أربعة أدوار من الكتابة الكوفية البديعة، تقسمه بعد ركن القاعدة إلى أربعة أقسام متساوية، يزدان القسمان العلويان منها بحنيات زخرفية، ويتخلّل كلّ حنية منها نافذة مدورة أو مربعة، وينتهي القسم الرابع أعلى الأقسام جميعها بدورين يشكلان بروزاً عن مستوى البدن لتكون عليه شرفات المؤذن، وتكون قاعدة الجوسق الذي يحمل قوس المئذنة". هل يجد الحمام دربه ليحطّ من تعبٍ على ما تبقى من أحجار المسجد الأموي في حلب؟ نعم، لقد مرَّت محن شداد على هذا المسجد، بل قُل كوارث. نقض بنو العباس ما كان فيه من الزخارف والآلات، ونقلوها إلى جامع الأنبار في العراق، ثم أحرقه الرومان حين دخلوا حلب سنة 315 من الهجرة، ثم أُحرق مرّة ثانية في زمن نور الدين زنكي، وأحرقه التتار أيضاً سنة 658 من الهجرة. وكان الفضل في إعادة بنائه إلى سيف الدولة الحمداني صاحب حلب، وابنه أبي المعالي، وإلى نور الدين زنكي الذي زاد فيه من الجهة الشرقية، حين ضمّ إليه سوق البزر وجعله أقرب إلى التربيع، وإلى الملك الظاهر، والملك المنصور قلاوون، وفيه تجديدات تمّت في العهد العثماني، وفي أوائل القرن العشرين. وكذلك جُدّد الباب الشمالي والواجهة الشمالية الخارجية وأقيمت أمامه حديقة واسعة في أواخر عام 1953. وكانت آخر أعمال الترميم في المئذنة عام 2010 والتي كانت أجمل منارات حلب. - نعم، مرّة أخرى، كانت. - ومن المسؤول عن نكبتها؟ - رغم تتابع النكبات، فقد فات ما فات، تعال فتش إن استطعت عن سبب كلّ هذا الخراب المجنون. - الجنون، وإن جنَّ ربعك عقلك لا ينفعك. نعم، إن جنَّ قومك فهل عليك أن تفقد عقلك وتجن كجنونهم حتى تستقيم الأمور، أم تحتفظ بعقلك الذي قد ينفعك أو لا ينفعك؟ يا كاتب التاريخ مهلاً، لقد جنَّ القوم، مع أنّ الكل مروا من هنا، الكافر والمؤمن، الظالم والعادل، الجندي والشاعر، الغني والفقير، ورغم تتابع النكبات على أبواب المسجد، فهل يجد الحمام دربه ليحطّ من تعبٍ على ما تبقى من أحجار المسجد الأموي في حلب؟