logo
#

أحدث الأخبار مع #وعمىعبدالعزيز

هجرتك!
هجرتك!

الدستور

time٠٥-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الدستور

هجرتك!

قضيت ليلة طويلة أتململ فى فراشى، تنكرت من كل ذنوبى وأنكرت كل مثالبى. أنكرت الزمان والمكان، لحظة مكاشفة. فجوة كبيرة من الإنكار أخذتنى بعيدًا. فتحت باب بيتى وانطلقت فى الشارع. وكأننى فتحت الباب على عالم آخر، الشوارع غريبة، نظيفة وراقية، أبيض وأسود، ولكننى أعرفها جيدًا. فى السنوات الأخيرة دائمًا بدت تلك الشوارع مزدحمة وقذرة وعشوائية. هذا المبنى أعرفه، إنه صيدناوى بواجهته الجميلة وحديقته المنسقة. أرى المصعد الخشبى يتحرك صعودًا وهبوطًا، وذلك المانيكان الوسيم يرتدى البيجامة الكستور ذات الخطوط الزرقاء. نعم هذا مدخل الرويعى من اتجاه شارع حديقة الأزبكية. تفقدت مدخل الحديقة والمسرح، تبدو الأمور هادئة، ليست هناك حفلة للست الليلة، ولا احتفال بعيد الثورة، ولا عيد الربيع. الأمور هادئة. الشوارع مظلمة نوعًا ما لكنها مريحة، أعرف الطريق، سأظل تحت البواكى التى أسسها الخديو إسماعيل، أتسلل داخل هوائها البارد حتى أصل إلى حارة النصارى، وفى مواجهة قهوة الجعافرة، ذاك مدخل شارع الجامع الأحمر، وعلى ناصيته بيت جدتى. وصلت.. القهوة خالية تمامًا، يجلس عليها اتنين أفندية وعلى الطرف الآخر يجلس عم على صاحب القهوة، وهو على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الأفندية. يبدو أنه لا يريد أن يقاطعهما.. ربما منع الناس من المرور حتى لا يزعجهما. كيف عرفت عم على؟ عرفته من الصورة التى كانت معلقة عندنا فى البيت مع جدى وعمى عبدالعزيز.. لا تسألنى عنهما، فهما رحلا قبل مولدى بعشرين سنة. خلينا فى الأفندية.. أحدهما نحيل وقليل الحجم يرتدى بدلة سوداء، وعلى رأسه قبعة ويمسك ورقة فى يده يقرأ منها.. يبدو أنه شاعر غنائى يعرض أغنيته على الآخر. والآخر هذا طويل القامة، يرتدى بدلة رمادية وربطة عنق كبيرة، ووجه ممتلئ بالذكاء والحيوية. - إنت عاوز إيه يا أستاذ؟ - عاوزك تسمع الكلام، وتعمل لحن زى ما أقولك! - طيب ما تخلى الكلام عليك واللحن عليا! - لأ هتعمل اللى هقولك عليه. - طيب اتفضل يا أحمد بك. هجرتك يمكن أنسى هواك واودع قلبك القاسى وقولت أقدر فى يوم أسلاك وافضى من الهوا كاسى لقيت نفسى فى عز جفاك بفكر فيك وانا ناسى - الله عليك يا أستاذ.. قول كمان.. سمعنى كمان غصبت روحى على الهجران وانت هواك يجرى فى دمى وفضلت أفكر فى النسيان لما بقى النسيان همى أنا عاوز اللحن هنا يكون فيه عويل، صراخ، أستنجد بقوى الطبيعة. استنجد بربنا يا سنباطى. عاوز الناس تبكى مع الكمانجات.. عاوزك تنتقم منها.. اتصرف! طيب طيب اهدى الله يخليك. كمل.. صعبان عليا جفاك.. بعد اللى شفته فى حبك كلما اقتربت منهما وضحت لى الرؤية، عرفتهما وعرفت ماذا يصنعان.. الأستاذ رامى يكتب رسالة من نبضه الدامى إلى الست ويستنجد بالسنباطى ليضعها فى قالب موسيقى سحرى.. رامى يريد أن يحول العتاب والرسالة إلى قضية رأى عام. كل الناس فاهمة الحكاية. هو فقط يعيد صياغتها. ركنت ظهرى على باب البيت المواجه للقهوة بعد أن مررت على أطراف أصابعى. وكلما استمعت لهما سالت الدموع من عينى بشكل لا إرادى. أشار لى عم على أن أذهب، ولمّا تلكأت شخط فيا بصوت خفيض: امشى ياض على فوق. الجو متوتر بين الأستاذين! صعدت السلالم ووصلت إلى شقة جدتى، دخلت عليها فإذا هى تجلس أمام عدّة القهوة وحولها الجيران وعيونهم متطلعة إلى الراديو على الرف. مجرد أن رأونى فى نفس واحد «ششششش»، وأشارت إلىّ جدتى أن أجلس دون نفس دون حركة. الغريب أن اليوم فى النتيجة المعلقة عند جدتى هو ٣ مارس ١٩٦٠، عام كامل بين النتيجة المعلقة فى مقهى عم على «١٩٥٩».. هل تلاشى الزمن؟ أم أننى صعدت السلالم فى سنة. ماذا يجرى هنا! لقد قلت لك إننى خارج الزمان والمكان. بدأ الراديو الجديد يتحدث.. من على مسرح حديقة الأزبكية موعدنا مع وصلة جديدة لكوكب الشرق فى أغنيتها «هجرتك» من نبض الشاعر أحمد رامى، وألحان رياض السنباطى. الدقات التقليدية تؤذن برفع الستار عن أم كلثوم! تصفيق شديد. ثم ينحدر صوت القانون ومع كل وتر يشده أحمد عبده صالح تشرئب أعناق الجالسين، بل منهم من انحدرت دموعه مع أول نوتة. أما أنا فلا أعرف إن كنت بينهم حقيقة أم كنت أمام شاشة التليفزيون؟ هل سافرت فى الزمان والمكان؟ وهل كسرت الزمان مرتين بين رؤية أحمد رامى ورؤية جدتى؟ د. شريف.. ماذا يحدث؟ هل عندك تفسير؟ أرسل إليك هذه الرسالة من ٣ مارس ١٩٦٠ الموافق ٤ رمضان.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store