
ياه، ما أحلاكن
يُحكى في حينه أن رجل الظل لإذاعة «صوت الشعب»، كان هذا المرابض في شارع الحمرا، ويتسرّب إلى وطى المصيطبة، كمقرّر ومشرف على استوديوهات فيها كل حبال الصوت وأثيره.
والبنت القادمة من عشائر بني مسرح للفنون، وإيماءات فايق حميصي، وخصور سهام ناصر، وجنون يعقوب الشدراوي، وسحر بطرس روحانا ، يقرّر ابن انطلياس أن يعزلها إلى رمال سياسية متحركة، كانت تُسمّى «قسم الأخبار».
لستة أشهر، بكيت طويلاً من زياد وعصبة حنا صالح وطوني فرنسيس وحسن الشامي وطانيوس دعيبس وآخرين، لأن آراءهم هجّرتني من ضفاف الفنون إلى عِلْم الجن السياسي.
واليوم، بعد عقود، لا أعرف كم سأبكيه وطناً عمّرَه على وزن مكسور، وليوم مع لياليه، يكتنز أطول ساعات الصيف، وقفت أدقّق في النبأ المؤكد، وأنا التي أدّعي تَحدّري من سلالة صناعة الخبر.
رفضت تصديق الرواية المنسوجة زوراً، عن رجل لا يموت، يعيش فينا قبل الميلاد، ونحياه نغماً، وتمرداً، وتحرراً من كل قيود.
أول حزن سبق الدمع كان فيروز، التي تسلّلتُ إلى أحوالها، وتَجسّستُ على رُبوعها، وأيقنت في حينه أنها لا تزال في حالة عدم اليقين. رَفضتْ شائعاتنا، لازمت صمتها، احترفت الحزن والانتظار، وارتأت ألا تصدّقنا، نحن معشر الصحافة الشاردة.
قد تكون قالت: تلك روايات من صنيعة «اللّي بيلفّقوا أخبار... فزياد مشوار يا عيوني، مرق مشوار».
وهذا الزياد، الوارث عن أمه كل هزلية الدنيا وضحكاتها، كان ونيسها الدائم، حتى في زمن «التباعد الاجتماعي».
تجلس على أريكتها وتسمع موسيقاه من راديو لصيق، وترشدك إلى مكامن الإبداع، ترويه عبقرياً يجدّد زمانه، وتشرح لك يوماً، وفي جلسات ممنوعة من الصرف الإعلامي، كيف قفز من «البوسطة» التي كانت متجهة إلى تنورين، هرباً من عيون عليا الحلوين، على مسرح «بالنسبة لبكرا شو».
هي تسكن هديره الطاحن في الموسيقى، العابر عن أزمنة وحدود، المؤسس لجمهورية مرّة، فيها كل حلاوة الدنيا وسخريتها.
عالبال يا فيروز، في حزنها الواسع وسع المدى.
لا بدّ أنها الآن رجعت إلى طفولة زيادها، لترنّم:
«وشو الدني يا بني، وشو طَعم الدني
إنْ ما هَبّجتْ وجي بإيديك الحرير،
وهالقلب عم حفّو على جرين السرير
عم مرمغو بلعبك، بمطارحك، بفراشك،
بريحة ريشات جوانحك،
بغبرة حوافر حصانك، هالزغير يا بني»
أقامت فيروزنا بين الرحيل والسُكنْى، مسيّجة ببلادها العالية، المعمّرة بقلوب وغناني.
ودارت الأسئلة كموال من سهرة حب: كيف لقلب سيّدة لبنان الأولى أن يحتمل كل هذا الغياب؟
فقبل سنوات، سقطت ليال عن قمة الكاميرا الشاهقة، وهي التي ارتفعنا معها في سماء «بنت الحارس» على ورق وخيطان، في أغنية لم تهرب منها البنت الصغيرة مع «هالورق الطاير».
وكان «هالي» رقيباً على الغياب، بصمت الغارقين في وحدتهم، العازفين عن الحراك، المشاركين بالدمع حصراً، المتوقدين عصراً. يسمع صوتها يتسلل:
«غِديو هلي يا هلي... بالسّحر، ما هي ربوعن دواني».
لا تهنأ حياة لهالي من دونها، ولا تكون فيروز «بلاه»،
هي صوت الله الشافي، الذي أتاه على أطباق من ذهب: عاصي وزياد، الخام منه والمشغول.
كل هذا الحب النازف، تختزنه الأم التي نادت ذات صلاة:
«واه حبيبي، أي حال أنت فيه؟»
فأي حزن سيكفيها الآن، وهي تودّع سفينتها كما في أورفيليس؟
كيف ستمضي عن مدينة زياد من غير كآبة؟
ستسمع شعوباً يهتفون: «لا تفارقنا، لا تفارقنا»، فالمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.
فيروز وزياد: ستظلان معاً، حتى في سكون تذكارات الله، ومعاً حين تبدد كما أجنحة الموت البيضاء.
وفي يوم اثنين، صوب بكفيا، ستبحر السفينة. ستعود فيروز إلى عرزالها برفقة ريما
«واسألوا ريما:
كيف بوعى بهاللّيالي،
بقعد أنا وحالي،
أهْدُس فيكن،
حاكيكن،
طرقات عمّار مشاريع،
ووزّع هالمدى،
لا آخد من رزق حدا،
ولا زعّل حدا...
قوليلن يا ريما».
وفي يوم تُلقى فيه التحية على زياد... قد نلمح طيفها هناك،
ونمسك بقطعة حزن عنها، ربما نلتقط دمعتها، لنزرعها في ريف العيون.
سيكون حزننا مشتركاً، فزيادك للعموم، للبنان، لشعبه المسكين الذي لا يعرف «أرضه لمين؟»
من قال لك يا زياد إنه:
«ولا غنيّة نفعت معنا،
ولا كلمة، إلا شي حزين؟»
نحن بكينا ودمّعنا،
لكن كل ودائعك هنا... معنا.
مخزونك طاف بين المدن، أغنياتك، صوتك، سخريتك منّا، وعلى الشعب العنيد، صارت نشيداً بين الناس.
يا أبو علي... يا رفيق القمح وصبحي الجيز، صديق المجانين ومخفف عنهم وطأة الجمهورية، ستغادرنا في اثنين من رماد الأيام المتكسّرة، وتترك بلاداً كما صنعتها مسرحياتك: لبنان لحم بعجين.
لكن هذا العجين تلاحم على رحيلك، خرق إطلاق النار اللبناني على اللبناني، أوقف الخلاف، كما أوقف رشيد السير في شارع الحمرا.
سنختلف على كل تفصيل، إلا عليك،
أنت الذي تنبأت بماضينا، وحاضرنا، والآتي إلينا، عرّيتنا من تزيّفنا، وكنت لبنان المُلتهب طائفياً.
شكراً يا رفيق... «ما رح فينا نمشي ونكفّي الطريق؟»
شكراً على جمهورية مهريّة، وصفتها على واقعها،
لكننا سنستل بعض أمل من صوت فيروز،
ونشدّ على صمودها، ونقتدي بنصائح زياد، العابرة للأوطان المشيّدة على صخر جوزيف حرب:
«فيكن تنسوا
الخبز، الكلام،
الأسامي، الأيام،
والمجد اللي إلكن،
لكن شو ما صار،
ما تنسوا وطنكن»
زياد وفيروز «ياه، ما أحلاكن، شو حلوين».
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الميادين
منذ 21 دقائق
- الميادين
تشييع الفنان والمسرحي اللبناني الكبير زياد الرحباني
يودّع لبنان، اليوم الاثنين، الفنان والمسرحي الكبير زياد الرحباني، إلى مثواه الأخير، حيث انطلقت جنازته من أمام مستشفى خوري في بيروت، وسط احتشاد جموع كبيرة لتوديعه.


ليبانون 24
منذ 34 دقائق
- ليبانون 24
زياد الرحباني كما رآه الجيل الجديد: هل فهمه من لم يعش زمنه؟
رحل زياد الرحباني ، وسقطت وراءه صفحة ممتلئة بالموسيقى والمسرح والسياسة والنقد المرّ. لكن بينما امتلأت الصحف ووسائل التواصل بالرثاء من جيلٍ عاشه وتأثر به، يبرز سؤال آخر لا يُطرح كثيرًا: كيف رآه من لم يعرفه حيًّا؟ هل فهمه من لم يعش زمنه؟ وهل تمكن من الدخول إلى عقول الجيل الجديد، وعرّفهم على عالمه الخاص؟ بالنسبة إلى جيلٍ وُلد بعد الحرب، وتعرّف إلى زياد عبر مقاطع مبتورة على " يوتيوب" أو عبر أقوال منسوبة له تُتداول على "إنستغرام"، لم يكن الرجل أكثر من ظلّ أسطوري بصوت أجشّ وكلمات لاذعة وصور أرشيفية بالأبيض والأسود. لا المسرحيات الكاملة متاحة بسهولة، ولا المقابلات الإذاعية الشهيرة متوفرة بأكملها، ولا حتى أرشيف إذاعة محفوظ كما يجب. وهكذا، يكتشف كثير من الشباب زياداً مجزوءاً: إما ملهمًا أو غامضًا، إما قريبًا أو طاردًا، وإما لا يكتشفون أي شيء حتى! خلال تواجدي في الفترة الجامعية، خلال إحدى الحصص الدراسية، كانت مجموعة من الطلاب تتابع مقاطع للراحل زياد الرحباني.. حاولوا مشاهدة مسرحية "فيلم أميركي طويل"، لكن بعضهم توقف بعد 20 دقيقة.. "كان النص ثقيلاً، والرموز قديمة، والمونولوجات طويلة جدًا. لم نعرف عمّن يتكلم أو يسخر، وكأننا دخلنا في حفلة مغلقة لجيل لا يعرفنا". تكررت الشكوى من آخرين: لغة زياد تحتاج إلى "قاموس"، والخيبات التي يتحدث عنها سياسية وفكرية لا تشبه الإحباطات التي يعانيها جيل اليوم، الغارق في الديليفري والتيك توك والعملات المشفّرة والهجرة الرقمية. في المقابل، هناك من يرى في زياد ملاذًا من ضجيج الحاضر. يحبون موسيقى زياد لأنه "ما كان عم يكتب أغاني... كان عم يحكي متلنا"، فبعض مقاطع الأغاني، خصوصًا تلك التي غنّاها بنفسه، تصف تمامًا المشاعر التائهة التي يشعر بها الشباب اليوم، "بس من دون ما يحكي عن السوشيال ميديا أو الذكاء الاصطناعي". ورغم الفارق الزمني ، تُحدث بعض مقاطع زياد صدى لدى هذا الجيل، خاصةً تلك التي تتناول الحب المنكسر، الغربة في الوطن، والتشكيك في كل شيء. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل أخفق المجتمع في إيصال زياد إلى الجيل الجديد؟ أم أن زياد نفسه لم يُرد أن يُفهَم؟ هل كان فعلاً فنان الناس، أم فنان النخبة المتعبة؟ ربما الرحيل يفتح نافذة للعودة إليه. فكما يحدث مع كثير من الكبار، لا يُفهمون إلا بعد أن يختفوا. ومع التطور الرقمي وإمكانية أرشفة أعماله وتقديمها بسياقات مفهومة حديثًا، قد يجد الجيل الجديد في زياد أكثر من صوته المتهكم وأغانيه الحزينة. قد لا يفهموه تمامًا، لكنهم قد يشعرون به... وهذا يكفي أحيانًا.


النهار
منذ ساعة واحدة
- النهار
زياد الرّحباني
في أحد الأيّام، خلال إحدى رحلاتي إلى لبنان في السّبعينيّات من القرن الماضي، تسنّى لي أن أستمعَ إلى أعمالِ زياد الرّحباني على الرّاديو. وبينما كنتُ في بيروت، أُجريَتْ لي مقابلةٌ مع أَحَدِ المراسلين، ولم أستطعِ الانتظارَ للتّعبيرِ عن رأيي، فقلتُ له: "زياد الرّحباني عبقريٌّ لبنانيٌّ أصيلٌ". كان زياد في ذلك الوقتِ مُجَرَّدَ مراهقٍ، بينما كنتُ في منتصفِ العشرينيّاتِ من عمري. وحين قرأَ زياد ذلك في الصّحافةِ، أصرَّ على دعوتي لتناولِ الغداءِ، فقبلتُ الدّعوةَ بكلِّ سرورٍ، وكان ذلكَ اللّقاءُ بدايةَ صداقتِنا. لم أنسَ أبدًا، قبلَ سنواتٍ من ذلكَ، أثناءَ زيارةٍ قمتُ بها لوالِدَيّ زياد في يومٍ من أيّامِ الصّيفِ في قريةِ المحيدثة قرب بكفيّا، كيف قالَ والدُهُ عاصي مازحًا: "تعا شوف هالدّيّوث شو كاتب: رقصة الحشّاشين". كانت تلكَ قطعةً موسيقيّةً على البيانو ممتعةً للغاية. وكان زياد آنذاك في التّاسعةِ من عمره عندما أَلَّفَها! لحسنِ حظّي، كان مقرُّ زياد الرّحباني في منطقةِ رأسِ بيروت الّتي أعرفُها جيدًا. في كلِّ رحلةٍ إلى لبنان، كان زياد يرحّبُ بزياراتي إلى شقّتِهِ وإلى الأستوديو الّذي سمّاه: "نوتا". كنتُ أحسدهُ على مهاراتِهِ الارتجاليّةِ في الجاز على البيانو وأُعجَبُ بمؤلّفاتِهِ الموسيقيّةِ البارعةِ. أحيانًا كان يعطيني أشرطةً لأعمالِهِ الحديثةِ. في إحدى المناسباتِ، كنتُ في أستوديو زياد أعزفُ على البيانو بشكلٍ عشوائيٍّ عندما دخلَ فجأةً عازفُ إيقاعِ جاز أميركيٌّ شابٌّ، وبدأ يرافقني على الطّبلِ. أمّا زياد، "ذلك الدّيوث"، فكان يسجّلُ عزْفَنا سرًّا. وحين عزَفْنا اللّحنَ الأخيرَ، صرخ بلهجتهِ العامّيّةِ المميّزةِ: "عْطُونا وِحْدِة تانَية"! لم تتركْ كلماتُهُ المحفّزةُ الّتي سُمِعَتْ على الشّريط لي خيارًا. فعزفتُ واحدةً أخرى مع عازفِ الطّبلِ المرْتَجِلِ بينما ﭐستمرَّ زياد في التّسجيلِ. تلك الأيّامُ كانت أيّامَ "الدّيناصورات" لأجهزةِ الكاسيت. وها أنذا أحتفِظُ بذلك الشّريطِ كبؤبؤِ العينِ... أثناءَ رحلةٍ أخرى إلى بيروت، عرضَ عليَّ زياد لحنًا تقليديًّا لباخ Bach كان قد أَلَّفَهُ. كتبَ نوتاتهِ وأعطاني إيّاه قائلًا: "خُذْ هذا اللّحنَ المُسمّى: «إلى باخ» وﭐنظُرْ ما يمكنُ أن تفعلَ بهِ". حالَتْ جولاتي الموسيقيّةُ دون بذلِ الجهدِ المطلوبِ. وحين تسنّى لي ذلكَ، تناولتُ اللّحنَ بشَغَفٍ، وكتبتُ تأليفًا موسيقيًّا للبيانو مع مقدّمةٍ تشبهُ الأرغنَّ، ثم سكبتُ قلبي في ﭐبتكارٍ موسيقيٍّ طويلٍ قبلَ أن أضيفَ لمسةَ جازٍ بأسلوبِ "بوغي ووجي" boogie woogie. وفي زيارةٍ لاحقةٍ إلى لبنان، قدّمتُ العملَ لأوّلِ مرّةٍ في الجامعة الأميركيّةِ في بيروت. ولكن للأسف، لم يكن زياد موجودًا في لبنان وتاليًا لم يسمعْهُ. فسّجلتُهُ في ما بعدٍ على قرصٍ مُدمَج، لكنّني فقدْتُ الاتّصالَ بذلكَ "الدّيّوث" الّذي يعيشُ حياةَ ﭐبنِ بطّوطة. وقد تشرّفتُ في أحَدِ الأيّامِ بمرافقةِ ريما الرّحباني أختِ زياد، إلى منزلِ والدتِها فيروز. فعزفْتُ لهما قطعتي الموسيقيّةَ على البيانو بعنوان: "إلى باخ وما بعده"، وبعنوان فرعيٍّ: "كورال وﭐبتكارٌ على لحنٍ لزياد الرّحباني". على الأقلّ سمعَتْ فيروز اللّحنَ. لكنّني لم أعرفْ ألبتَّةَ ما إذا كان زياد قد سمعَهُ، وهذا ما يؤلمني... السّيّدة فيروز العزيزة، بقلبٍ دامٍ، أرسل إليكم وإلى العائلة الكريمة أحرّ التّعازي والمواساة من شواطئ الولايات المتّحدة الأميركيّة البعيدة بمناسبة انتقال ابنكم زياد الّذي كان كنزًا للبنان وللعالم العربيّ. سأفتقده دائمًا. رحل زياد ولكنّه باقٍ بإرثه وعبقريّته...