
"رؤيا ملجأ العامرية: بين الملحمة والأسطورة في شعر حميد سعيد"
تاريخ النشر : 2025-02-24 - 02:43 pm
لهيب عبدالخالق -كاتبة عراقية تقيم في كندا-
ما زلنا نتعلم الكثير من شعر أستاذنا حميد سعيد، الذي يفتح لنا آفاقًا جديدة في الكتابة والرؤية. وأقدم بتواضع قراءة ورؤية تحليلية جمالية في قصيدته "رؤيا ملجأ العامرية"، محاولة استكشاف بنيتها الملحمية وموسيقاها العميقة.
1. البنية الأسطورية والملحمية:
تستدعي القصيدة فضاءً ملحميًا مشحونًا بالإرث البابلي والسومري، حيث يتماهى الخراب التاريخي مع الخراب المعاصر. يستعيد حميد سعيد سرديات الوعود والحرائق، ويربط مأساة ملجأ العامرية بتراجيديات الأساطير الرافدينية، كما يستحضر أنانا، الإلهة الأم والمعبودة الخصبة، ليعكس مفارقة العقم والموت التي جلبتها الحرب. هذه التناصات مع الميثولوجيا القديمة تجعل النص ملحمة حداثية، تسرد الخراب لا بوصفه حادثًا منفصلًا، بل كقدر متجدد ومتكرر.
2. البنية السردية والاسترجاع التاريخي:
القصيدة لا تسير وفق نسق خطيّ، بل تتشظى بين الحاضر والماضي، بين ملجأ العامرية وأساطير بابل، بين حروب الجنود وصرخات الأطفال، بين الجحيم الأرضي والجنات الضائعة. هذا التشظي الزمني يخلق إحساسًا باللازمنية، وكأن الدمار كيان ثابت يتنقل عبر العصور.
3. اللغة والصور الشعرية:
لغة القصيدة تفيض برمزية ثقيلة، تزاوج بين الواقع الحسي والأسطوري، فتصبح القنابل "شوْكَ القبور"، والدماء "زينات" الملجأ، والعواصف "تقطع أرحام البابليات". هذا التوظيف الكثيف للمجاز يجعل من الصور الشعرية حمولة دلالية عالية التأثير، تُحيل القارئ إلى تأمل المأساة عبر وسيط شعري يكثف الفاجعة دون أن يغرق في المباشرة الخطابية.
4. ثنائية المقدس والمدنس:
تستخدم القصيدة ثنائية المقدس والمدنس بطريقة تناقضية، حيث تتداخل رموز الطهارة الإلهية (المساجد، الصلاة، الأرحام، الطلع، وضوء أم البنين) مع أفعال الخراب والقتل والحرائق. هذه الثنائية تعكس مأساة العصر الحديث، حيث تصبح الأديان والوعود السماوية بلا فاعلية أمام وحشية القوة العمياء.
5. التناص مع الأدب العالمي:
يبدو الشاعر واعيًا بالإرث الثقافي العالمي، حيث يُحيل إلى أعمال رامبو، وشكسبير، وماتيس، وفان كوخ، وموزارت، ودالي، وغيرهم. لكنه يضع هذه الرموز ضمن سياق من الشك، متسائلًا عن جدوى الحضارة الغربية التي أنتجت هذا الفن لكنها أيضًا أنتجت الحروب والدمار. هذه المقاربة تمنح القصيدة أفقًا فلسفيًا يتجاوز البكائيات التقليدية إلى نقد حضاري شامل.
6. تقنيات الحداثة الشعرية:
تعتمد القصيدة على تقنيات الحداثة الشعرية مثل:
* التناص التاريخي والأسطوري: استحضار الميثولوجيا والتاريخ بطريقة جديدة.
* التكرار الإيقاعي: كالتكرار المتواتر لعبارة "للبابليات وعد الحرائق"، مما يرسخ الإيقاع الكارثي.
* التشظي السردي: حيث تتداخل الأزمنة والأحداث دون تتابع خطي.
* التقابل بين المأساة والجمال: مثل الجمع بين رمزية الموت والألوان الفنية.
7. التأثير العاطفي والتلقي النقدي:
تمتلك القصيدة قوة وجدانية عميقة، فهي لا تقدم المأساة فقط كخبر أو سرد، بل تغمر القارئ في تفاصيلها الحسية، مما يجعلها تجربة جمالية مفعمة بالألم. نقديًا، يمكن وضعها ضمن الشعر الحداثي الذي يستلهم الملحمية ولكن بصياغة جديدة تخرجها من القوالب التقليدية إلى فضاء أكثر تجريبية وتأملًا.
8. الموسيقى الداخلية والإيقاع المتغير:
حميد سعيد في هذه القصيدة لم يلتزم ببحر واحد، بل انتقل بين أوزان مختلفة، وهو أسلوب يُستخدم في القصائد الطويلة ذات الطابع الملحمي، حيث يسمح التنويع الوزني بالتنقل بين المشاهد والتصاوير المختلفة، مما يخلق تناغمًا موسيقيًا يتناسب مع تدفق العواطف والأحداث.
* استخدم الشاعر التكرار الإيقاعي، كما في "للبابليات وعد الحرائق"، وهو ما يعزز النغم الداخلي ويضفي بُعدًا نشيديًا قريبًا من الترانيم القديمة أو الأناشيد الدينية.
* هناك تنوع في التفعيلات، حيث يبدأ أحيانًا بإيقاع ثقيل حزين، ثم ينتقل إلى إيقاع أسرع أو أكثر حدّة، كأنه يحاكي وقع القنابل أو أنفاس الناجين المتقطعة.
* استخدام الألفاظ الصوتية القوية التي تعزز الموسيقى، مثل "الجحيم"، "العواصف"، "النار"، "الخراب"، مما يجعل الإيقاع أكثر تأثيرًا وقوة.
* الوقفات العروضية غير المنتظمة تخلق توترًا موسيقيًا، وهو ما ينسجم مع طبيعة القصيدة التي تصف حدثًا كارثيًا يتسم بالتشظي والتوتر.
9. التأثير الموسيقي في التجربة الشعورية:
لا يمكن قراءة القصيدة دون الشعور بأن الموسيقى ليست مجرد زينة بل هي عنصر جوهري في البناء الدرامي، فهي تعكس الصدمة، الألم، الحنين، وحتى السخرية أحيانًا. هذه الموسيقى المتغيرة تجعل القارئ يعيش التجربة وكأنه يسمع صوت القنابل، صراخ الأطفال، أو حتى همسات الأمهات وهن يجمعن أشلاء أطفالهن.
10. مقاربة مع الشعر الملحمي القديم:
هذا الأسلوب الموسيقي يقترب من القصائد الملحمية البابلية والسومرية، التي كانت تُنشد بتكرار عبارات معينة وبإيقاع متغير يتناسب مع طبيعة السرد، مما يعزز البعد الغنائي للقصيدة، وكأنها تُحاكي التراتيل الحزينة أو مراثي المدن الضائعة.
إجمالًا، الشاعر هنا لا يوظف الوزن والإيقاع كإطار خارجي فحسب، بل كمكوّن داخلي يعزز البنية الدلالية، ليجعل القارئ ليس فقط يقرأ المأساة، بل يسمعها ويشعر بها على مستوى موسيقي وروحي عميق.
الخاتمة:
قصيدة "رؤيا ملجأ العامرية" ليست مجرد رثاء لمأساة تاريخية، بل هي عمل شعري يتجاوز التوثيق إلى تأسيس رؤية فلسفية وأسطورية للمأساة. إنها قصيدة ملحمية بامتياز، تحمل صدى النواح البابلي وتراجيديات الشعوب المقهورة، لكنها في الوقت نفسه تُعيد مساءلة الحضارة برمتها، واضعةً الفن والحرب في مواجهة ساخرة ومأساوية في آنٍ واحد.
تابعو جهينة نيوز على

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

عمون
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- عمون
لهيب عبد الخالق في ديوانها (ما قالت الريح لليل)
عمون - من محمد المشايخ - تـُعبّر الشاعرة لهيب عبد الخالق في هذا الديوان، بصدق وجمال، عن وقع الاغتراب عن العراق، على وجدان كل الذين غادروه، وتضع العالم في كفة، والعراق في كفة أخرى، فترجح كلفة العراق، التي ألهمتها قصائد، تسترجع باسم كل الذين احتضنتهم المنافي، أيام العز، والفخر، والكبرياء، والإباء حين كانوا في بلدهم، وترى أن الحياة في الوطن، رغم ما كان فيه من فقر ومن جوع ومن حصار ومن حروب، أهنأ مليون مرة من الحياة في المنافي رغم ما فيها من ترف ومغريات، فتدق باب الخزان مطالبة بالعودة، ومتمنية أن يتحقق اللقاء من جديد. وفي ديوانها (ما قالت الريح لليل)، تفتح لهيب عبد الخالق، صفحة شعرية جديدة، تـُـبدع فيها نمطا جديدا من الشعر الذي لم يرد في الشعر العراقي، منذ بدر شاكر السياب وحتى حميد سعيد، على أهميته، فسكبت أحاسيسها شعرا، وملأت الدنيا بقصائدها المليئة بالرموز، فيبدو للقارئ أنه لا علاقة لقصائدها بالسياسة، ولكنها أجادت تسييس الشعر بالخفاء، فلم تذكر أي شخص، يساعد القارئ في كشف من تعني، وكثيرا ما تحدثت بصفتها الفردية، ولكنها في الباطن كانت تنطق باسم الجميع، وعبر انتقالها من الخاص إلى العام، لم تكن تنسى أرض الوطن، ولا الجد والجدة، ولا الأب والأم، ولا كل الأسر العراقية التي ضحت بالمهج والأرواح، حفاظا على حرية واستقلال البلد، ودار الزمان دورته، وقذف بعزيزي القوم إلى المنافي، التي تصدّت لها الشاعرة، لتقنع العالم أن "لا شيء يعدل الوطن". وهنا أعتذر للشاعرة إن كان فهمي لشعرها قاصرا، أو مغايرا لما ورائيات قصائدها، ولكنني رأيت في ديوانها امتلاكها لما في اللغة العربية الفصحى من نحو وصرف، وما في البلاغة من مجازات واستعارات وكنايات، وما في الموسيقى من إيقاع ونغم، وما في العواطف من صدق، وما في المضامين والمعاني من رسائل أدبية ملتزمة بهموم الجماهير العربية وبأرقها وبأحزانها بعد الذي جرى منذ العام2003. ورغم أنها تبدع في مجال الشعر، وتبتعد عن المباشرة، إلا أنها تبث من خلال شعرها حنينها للسرد، من خلال ما سطرته حول شهرزاد، فأضافت لحكاياتها السردية في ألف ليلة وليلة، مقاطع شعرية، يتجدد فيها الخصب والنماء، وتنتصر فيها الحياة على الموت، والعودة للوطن على الاغتراب، مثلما تنتصر للخير على الشر، والأهم من ذلك كله، أنها تستخدم ملكات خيالها المُجنح والمُحلق، لتبدع شعرا واقعيا بامتياز، تتجلى فيه الصور الشعرية البصرية الملونة والمتحركة، واللوحات الشعرية التي تخفي فيما ورائياتها موجات الاشتياق التي تخفيها جوانح شاعرتنا. وهنا أناشد الشاعرة لهيب عبد الخالق، أن تعذرني ثانية، لأنني لا أمتلك بلاغة، ولا أدوات د.أياد عبد المجيد النقدية التي تبدت في مقدمته للديوان، فقد طغى إبداعها على كل ملكاتي، ووجدت نفسي أمام ما في قصائدها من تشخيص وتجسيد، عاجزا عن الارتقاء إلى مكانتها الشعرية، وليطالع القراء معي، هذه السطور الشعرية، ومراقبة مدى توغلها البلاغي فيما وراء الوضوح والمباشرة، وكأنها تحيل الشعر إلى كنوز بيانية، مُحلقة في أجواء شعرية بكر، لم تطأها أنامل من سبقوها من الشعراء: (في نهر الأمس/ تطوف نذوري/ تمضي في رحلتها الأبدية/ تعلق فوق غصون الليل المبهم/ في لحظة شوق غائمة/ تنثرنا الأزمان، / تبعثرنا،/ أوراقا بين منافي الدهر/ نغادر في صمت/ لا نورس يحملنا/ أو بعض جريد..). عرفت لهيب عبد الخالق في بغداد في ثمانينات القرن الماضي، ورأيتها صاحبة طاقة إبداعية عظيمة، تستقبل دائما، وبكل ما تملك من عنفوان، كل الذين أوصلتهم الطائرات والحافلات إلى بلاد الرافدين، ترحب بهم، وتملأ الصحافة العراقية بحواراتهم، ولا تفارقهم حتى يعودوا إلى بلادهم سالمين، وبعد أربعين عاما، أطالع لها، شعرا، يُعبر عن تطلعات كل الذين وطأوا ارض العراق، ونهلوا من مائه، وتذوّقوا من جوده وكرمه، مثلما تعبر عن تطلعات كل العراقيين المغتربين، والمنفيين، والمعذبين في الأرض، رغم كل ما هيأته لهم تلك الأرض الغريبة من خيرات، لا تساوي لحظات هداوة البال، التي كانوا ينعمون فيها، حين كانوا يقيمون في بيوتهم الحنونة، وبين أهلهم الكرام.


جهينة نيوز
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- جهينة نيوز
لهيب عبد الخالق في ديوانها (ما قالت الريح لليل)
تاريخ النشر : 2025-04-15 - 12:47 pm محمد المشايخ تـُعبّر الشاعرة لهيب عبد الخالق في هذا الديوان، بصدق وجمال، عن وقع الاغتراب عن العراق، على وجدان كل الذين غادروه، وتضع العالم في كفة، والعراق في كفة أخرى، فترجح كلفة العراق، التي ألهمتها قصائد، تسترجع باسم كل الذين احتضنتهم المنافي، أيام العز، والفخر، والكبرياء، والإباء حين كانوا في بلدهم، وترى أن الحياة في الوطن، رغم ما كان فيه من فقر ومن جوع ومن حصار ومن حروب، أهنأ مليون مرة من الحياة في المنافي رغم ما فيها من ترف ومغريات، فتدق باب الخزان مطالبة بالعودة، ومتمنية أن يتحقق اللقاء من جديد. وفي ديوانها(ما قالت الريح لليل)، تفتح لهيب عبد الخالق، صفحة شعرية جديدة، تـُـبدع فيها نمطا جديدا من الشعر الذي لم يرد في الشعر العراقي، منذ بدر شاكر السياب وحتى حميد سعيد، على أهميته، فسكبت أحاسيسها شعرا، وملأت الدنيا بقصائدها المليئة بالرموز، فيبدو للقارئ أنه لا علاقة لقصائدها بالسياسة، ولكنها أجادت تسييس الشعر بالخفاء، فلم تذكر أي شخص، يساعد القارئ في كشف من تعني، وكثيرا ما تحدثت بصفتها الفردية، ولكنها في الباطن كانت تنطق باسم الجميع، وعبر انتقالها من الخاص إلى العام، لم تكن تنسى أرض الوطن، ولا الجد والجدة، ولا الأب والأم، ولا كل الأسر العراقية التي ضحت بالمهج والأرواح، حفاظا على حرية واستقلال البلد، ودار الزمان دورته، وقذف بعزيزي القوم إلى المنافي، التي تصدّت لها الشاعرة، لتقنع العالم أن "لا شيء يعدل الوطن". وهنا أعتذر للشاعرة إن كان فهمي لشعرها قاصرا، أو مغايرا لما ورائيات قصائدها، ولكنني رأيت في ديوانها امتلاكها لما في اللغة العربية الفصحى من نحو وصرف، وما في البلاغة من مجازات واستعارات وكنايات، وما في الموسيقى من إيقاع ونغم، وما في العواطف من صدق، وما في المضامين والمعاني من رسائل أدبية ملتزمة بهموم الجماهير العربية وبأرقها وبأحزانها بعد الذي جرى منذ العام2003. ورغم أنها تبدع في مجال الشعر، وتبتعد عن المباشرة، إلا أنها تبث من خلال شعرها حنينها للسرد، من خلال ما سطرته حول شهرزاد، فأضافت لحكاياتها السردية في ألف ليلة وليلة، مقاطع شعرية، يتجدد فيها الخصب والنماء، وتنتصر فيها الحياة على الموت، والعودة للوطن على الاغتراب، مثلما تنتصر للخير على الشر، والأهم من ذلك كله، أنها تستخدم ملكات خيالها المُجنح والمُحلق، لتبدع شعرا واقعيا بامتياز، تتجلى فيه الصور الشعرية البصرية الملونة والمتحركة، واللوحات الشعرية التي تخفي فيما ورائياتها موجات الاشتياق التي تخفيها جوانح شاعرتنا. وهنا أناشد الشاعرة لهيب عبد الخالق، أن تعذرني ثانية، لأنني لا أمتلك بلاغة، ولا أدوات د.أياد عبد المجيد النقدية التي تبدت في مقدمته للديوان، فقد طغى إبداعها على كل ملكاتي، ووجدت نفسي أمام ما في قصائدها من تشخيص وتجسيد، عاجزا عن الارتقاء إلى مكانتها الشعرية، وليطالع القراء معي، هذه السطور الشعرية، ومراقبة مدى توغلها البلاغي فيما وراء الوضوح والمباشرة، وكأنها تحيل الشعر إلى كنوز بيانية، مُحلقة في أجواء شعرية بكر، لم تطأها أنامل من سبقوها من الشعراء: (في نهر الأمس/ تطوف نذوري/ تمضي في رحلتها الأبدية/ تعلق فوق غصون الليل المبهم/ في لحظة شوق غائمة/ تنثرنا الأزمان، / تبعثرنا،/ أوراقا بين منافي الدهر/ نغادر في صمت/ لا نورس يحملنا/ أو بعض جريد....). عرفت لهيب عبد الخالق في بغداد في ثمانينات القرن الماضي، ورأيتها صاحبة طاقة إبداعية عظيمة، تستقبل دائما، وبكل ما تملك من عنفوان، كل الذين أوصلتهم الطائرات والحافلات إلى بلاد الرافدين، ترحب بهم، وتملأ الصحافة العراقية بحواراتهم، ولا تفارقهم حتى يعودوا إلى بلادهم سالمين، وبعد أربعين عاما، أطالع لها، شعرا، يُعبر عن تطلعات كل الذين وطأوا ارض العراق، ونهلوا من مائه، وتذوّقوا من جوده وكرمه، مثلما تعبر عن تطلعات كل العراقيين المغتربين، والمنفيين، والمعذبين في الأرض، رغم كل ما هيأته لهم تلك الأرض الغريبة من خيرات، لا تساوي لحظات هداوة البال، التي كانوا ينعمون فيها، حين كانوا يقيمون في بيوتهم الحنونة، وبين أهلهم الكرام. تابعو جهينة نيوز على


الانباط اليومية
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- الانباط اليومية
لهيب عبد الخالق في ديوانها (ما قالت الريح لليل)
الأنباط - تـُعبّر الشاعرة لهيب عبد الخالق في هذا الديوان، بصدق وجمال، عن وقع الاغتراب عن العراق، على وجدان كل الذين غادروه، وتضع العالم في كفة، والعراق في كفة أخرى، فترجح كلفة العراق، التي ألهمتها قصائد، تسترجع باسم كل الذين احتضنتهم المنافي، أيام العز، والفخر، والكبرياء، والإباء حين كانوا في بلدهم، وترى أن الحياة في الوطن، رغم ما كان فيه من فقر ومن جوع ومن حصار ومن حروب، أهنأ مليون مرة من الحياة في المنافي رغم ما فيها من ترف ومغريات، فتدق باب الخزان مطالبة بالعودة، ومتمنية أن يتحقق اللقاء من جديد. وفي ديوانها(ما قالت الريح لليل)، تفتح لهيب عبد الخالق، صفحة شعرية جديدة، تـُـبدع فيها نمطا جديدا من الشعر الذي لم يرد في الشعر العراقي، منذ بدر شاكر السياب وحتى حميد سعيد، على أهميته، فسكبت أحاسيسها شعرا، وملأت الدنيا بقصائدها المليئة بالرموز، فيبدو للقارئ أنه لا علاقة لقصائدها بالسياسة، ولكنها أجادت تسييس الشعر بالخفاء، فلم تذكر أي شخص، يساعد القارئ في كشف من تعني، وكثيرا ما تحدثت بصفتها الفردية، ولكنها في الباطن كانت تنطق باسم الجميع، وعبر انتقالها من الخاص إلى العام، لم تكن تنسى أرض الوطن، ولا الجد والجدة، ولا الأب والأم، ولا كل الأسر العراقية التي ضحت بالمهج والأرواح، حفاظا على حرية واستقلال البلد، ودار الزمان دورته، وقذف بعزيزي القوم إلى المنافي، التي تصدّت لها الشاعرة، لتقنع العالم أن "لا شيء يعدل الوطن". وهنا أعتذر للشاعرة إن كان فهمي لشعرها قاصرا، أو مغايرا لما ورائيات قصائدها، ولكنني رأيت في ديوانها امتلاكها لما في اللغة العربية الفصحى من نحو وصرف، وما في البلاغة من مجازات واستعارات وكنايات، وما في الموسيقى من إيقاع ونغم، وما في العواطف من صدق، وما في المضامين والمعاني من رسائل أدبية ملتزمة بهموم الجماهير العربية وبأرقها وبأحزانها بعد الذي جرى منذ العام2003. ورغم أنها تبدع في مجال الشعر، وتبتعد عن المباشرة، إلا أنها تبث من خلال شعرها حنينها للسرد، من خلال ما سطرته حول شهرزاد، فأضافت لحكاياتها السردية في ألف ليلة وليلة، مقاطع شعرية، يتجدد فيها الخصب والنماء، وتنتصر فيها الحياة على الموت، والعودة للوطن على الاغتراب، مثلما تنتصر للخير على الشر، والأهم من ذلك كله، أنها تستخدم ملكات خيالها المُجنح والمُحلق، لتبدع شعرا واقعيا بامتياز، تتجلى فيه الصور الشعرية البصرية الملونة والمتحركة، واللوحات الشعرية التي تخفي فيما ورائياتها موجات الاشتياق التي تخفيها جوانح شاعرتنا. وهنا أناشد الشاعرة لهيب عبد الخالق، أن تعذرني ثانية، لأنني لا أمتلك بلاغة، ولا أدوات د.أياد عبد المجيد النقدية التي تبدت في مقدمته للديوان، فقد طغى إبداعها على كل ملكاتي، ووجدت نفسي أمام ما في قصائدها من تشخيص وتجسيد، عاجزا عن الارتقاء إلى مكانتها الشعرية، وليطالع القراء معي، هذه السطور الشعرية، ومراقبة مدى توغلها البلاغي فيما وراء الوضوح والمباشرة، وكأنها تحيل الشعر إلى كنوز بيانية، مُحلقة في أجواء شعرية بكر، لم تطأها أنامل من سبقوها من الشعراء: (في نهر الأمس/ تطوف نذوري/ تمضي في رحلتها الأبدية/ تعلق فوق غصون الليل المبهم/ في لحظة شوق غائمة/ تنثرنا الأزمان، / تبعثرنا،/ أوراقا بين منافي الدهر/ نغادر في صمت/ لا نورس يحملنا/ أو بعض جريد....). عرفت لهيب عبد الخالق في بغداد في ثمانينات القرن الماضي، ورأيتها صاحبة طاقة إبداعية عظيمة، تستقبل دائما، وبكل ما تملك من عنفوان، كل الذين أوصلتهم الطائرات والحافلات إلى بلاد الرافدين، ترحب بهم، وتملأ الصحافة العراقية بحواراتهم، ولا تفارقهم حتى يعودوا إلى بلادهم سالمين، وبعد أربعين عاما، أطالع لها، شعرا، يُعبر عن تطلعات كل الذين وطأوا ارض العراق، ونهلوا من مائه، وتذوّقوا من جوده وكرمه، مثلما تعبر عن تطلعات كل العراقيين المغتربين، والمنفيين، والمعذبين في الأرض، رغم كل ما هيأته لهم تلك الأرض الغريبة من خيرات، لا تساوي لحظات هداوة البال، التي كانوا ينعمون فيها، حين كانوا يقيمون في بيوتهم الحنونة، وبين أهلهم الكرام.