
التسوّل في لبنان: ظاهرة اجتماعيّة أم جريمة منظّمة
عند كل إشارة ضوئية في بيروت، من الدورة إلى العدلية، ومن كورنيش المزرعة إلى طريق المطار، تتكرّر المشاهد ذاتها بنسخ مختلفة: طفل حافي القدمين يتنقّل بين السيارات، امرأة شابة تحمل رضيعًا يغطّ في نوم غير طبيعي، وشيخ مسن بوجه مجعّد ويدين مرتجفتين يمدّهما نحو زجاج سيارتك... عبارات التوسّل تتغيّر بين سائق وآخر، لكن النبرة واحدة: استعطاف، إلحاح، وإصرار.
من يراقب المشهد عن كثب، لن يحتاج إلى كثير من الذكاء ليدرك أن هناك شيئًا غير طبيعي. التسوّل في لبنان خرج من عباءة الفقر، ولم يعد فعلًا فرديًا، بل تحوّل إلى بنية منظّمة، شبكات خفية تديرها كما تُدار المؤسسات: توزيع للأدوار، مناطق للنفوذ، ونقاط للتجمّع والانطلاق، وكأننا أمام "شركة غير شرعية" يديرها عقل إجرامي يعرف كيف يستغل وجع الناس.
ما الذي تغيّر؟ وكيف تحوّل المحتاج إلى ضحية منظومة؟
صحيح أن لبنان يعيش منذ سنوات أزمات متراكمة: انهيار اقتصادي، تفكّك اجتماعي، وتراجع في الخدمات الأساسية. هذا الواقع أفرز بطبيعة الحال فئات مهمّشة، دُفعت دفعًا نحو الشارع. لكن المؤلم أن بعض هذه الفئات وجدت نفسها في قبضة تجار للبؤس، يستثمرون جوعها وحاجتها، ويحوّلونها إلى أدوات لجني المال.
في طرابلس وصيدا وزحلة أيضًا، كما في بيروت، بات من النادر أن تمرّ بسيارتك دون أن يُطرق زجاجها. أطفال بعمر الزهور، لا يتجاوزون العاشرة، يتنقّلون بين المركبات بحرفية لافتة، يتحدّثون بلهجات متعددة بحسب موقعك الجغرافي، ويبتكرون قصصًا مدهشة في ثوانٍ معدودة ليقولوا إنهم من منطقتك نفسها.
"أنا من الخيام، بيتي راح بالحرب"،
"أختي بالمستشفى وبدها دوى"،
"ابني عندو سرطان"،
"أنا نازحة من سوريا، ما عندي ولا لقمة".
وراء هذه الحكايات، هناك دائماً "رجل" أو "امرأة" ينتظر في مكان ما... ينتظر الحصيلة اليومية.
القانون واضح... ولكن من يطبّقه؟
حين نعود إلى النصوص القانونية، نجد أن القانون اللبناني لم يغفل هذا النوع من الجرائم. ففي المادة 610 من قانون العقوبات، يعاقب المتسوّل القادر على العمل بالحبس لمدة قد تصل إلى شهر. وفي المادة 611، تشتد العقوبة إذا كان التسوّل ضمن مجموعات منظّمة، أو باستخدام أطفال أو أشخاص ذوي إعاقات، حيث يُعاقب من يحرّض أو ينظّم أو يستغل بالتسوّل بالأشغال الشاقة المؤقتة.
لكن المفارقة أن هذه النصوص، رغم وضوحها، تبدو وكأنها مجرّد حبر على ورق. على الأرض، لا وجود لحملات رادعة. قوى الأمن موجودة عند الإشارات، لكنها لا تتدخّل. والجواب الشائع دائمًا: "نحن لا نملك أوامر للتصرّف، الموضوع بيد الوزارة المختصّة".
هذا التراخي الأمني يُسهم، من حيث لا يدري، في تغذية هذه المنظومة. فحين يشعر مشغّلو المتسوّلين أن لا رقيب عليهم، يتوسّعون، ويتفنّنون، ويضاعفون أرباحهم، على حساب طفولة تُنهب، وكرامات تُسحق.
شهادات تفضح… وطفولة مستعبدة
"أنا ما بخلّي الولد ينام إلا لما يجيب خمسين ألف!"، هكذا نقل ناشطون في إحدى الجمعيات الحقوقية شهادة إحدى النساء اللواتي يعملن في شبكة تسوّل تديرها عائلة من ضواحي بيروت.
طفل آخر، التقته "الديار" قرب تقاطع الكولا، قال بصوت خافت: "ما فيني آخد المصاري... في واحد بينطرنا، بياخد كل شي، وإذا ما جبنا الرقم، بيضربنا".
كلام كفيل بأن يدقّ ناقوس الخطر. هؤلاء الأطفال، في ظل غياب المدرسة والحماية، باتوا أسرى في دوامة استغلال لا يرحم. تُحرم الطفلة من طفولتها لتُستخدم كوسيلة استجداء، وقد تُزوّج قسرًا لاحقًا كجزء من "تسوية ديون". أما الرضّع الذين يُحملون في الأحضان لساعات طويلة دون حراك، فيُرجّح أنهم يُخدّرون عمدًا.
فالقانون رقم 164/2011 المتعلّق بـ"مكافحة الاتجار بالبشر" واضح أيضًا: "كل من يستخدم قاصرا أو شخصا ضعيفا أو مستضعفا، ويستغلّه في التسوّل، يعاقَب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات"، إضافة إلى غرامة مالية. لكن، مرة أخرى، التنفيذ غائب.
أين تبدأ هذه الشبكات؟ ومن يحميها؟
مصادر أمنية تحدّثت، عن وجود مقرات خلفية لما يمكن تسميته بـ "غرف عمليات" عصابات التسوّل. فمن خلدة إلى صبرا، من الرمل العالي إلى برج حمود، هناك مناطق معروفة محليا كمراكز نشاط مكثّف لهذه العصابات. في بعض الأبنية المهجورة، النساء والأطفال يُجمعون ليلا، قبل توزيعهم صباحا إلى "نقاط العمل" كأنهم موظفون بنظام دوام.
ويبدو أن هذه العصابات تستفيد من عدة عوامل: تداخل الصلاحيات بين الوزارات، ضعف التنسيق بين الأجهزة، الفساد أحيانا، والخوف من "تفجير ملفات" اجتماعية معقّدة مثل النزوح السوري أو واقع العشوائيات.
ما بين الخوف والشفقة... المواطن في حيرة
اللبناني اليوم لا يعرف كيف يتعامل مع المتسوّل. هل يعطيه المال بدافع الشفقة؟ أم يرفض ويُتّهم باللاإنسانية؟ في معظم الحالات، يعيش المواطن لحظة من التوتّر عند كل إشارة. لحظة يجتمع فيها الضمير والخوف، الرحمة والغضب، ولا أحد يعرف كيف يخرج منها مرتاحًا.
لكن الحقيقة أنّ إعطاء المال لا يساعد هؤلاء المتسوّلين كما نعتقد، بل يغذّي الشبكة التي تستغلّهم، ويمنح أرباحًا إضافية لمشغّلين يعيشون على أوجاع الناس.
في الختام، نحن أمام ظاهرة لم تعد بريئة. التسوّل في لبنان أصبح اقتصادًا موازياً، تحكمه معادلات الربح والخسارة، وتغذّيه سلطة غائبة أو عاجزة. القانون موجود، لكن دون تطبيق. الأطفال يُستَغلّون يوميًا، والمواطن يمشي في الشارع مطأطئ الرأس، عاجزًا أمام مشهد يتكرّر دون نهاية.
فإلى متى نبقى شهودًا على هذه المأساة اليومية؟ ومن يوقف مافيا التسوّل قبل أن تتحوّل إلى دولة داخل الدولة؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ 5 ساعات
- الديار
"النادي اللبناني لليخوت" في كتاب مفتوح الى الحجار: ما حصل في مُحيط النادي إنتهاك صريح لحقوقنا
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب وجه النادي اللبناني لليخوت كتابا مفتوحا إلى وزير الداخلية والبلديات العميد محمد الحجار، وضعه فيه في صورة ما جرى في محيط مبنى النادي بتاريخ 25 تموز 2025، إثر تنفيذ أمر إزالة صادر عن المديرية العامة لوزارة النقل. وجاء في الكتاب أن "مجموعة كبيرة من عناصر قوى الأمن الداخلي، نفذت قرار إزالة يتعلق بالمراكب غير الثابتة التابعة للنادي"، مشيرا إلى أن الإدارة تعاملت بـ"إيجابية ومسؤولية كاملة مع القرار، والتزمت بالتنفيذ". أضاف الكتاب "لكن، فوجئنا بعد انسحاب القوى الأمنية بدخول عدد من العمال من الجنسية السورية إلى المبنى المجاور للنادي، حيث قاموا بإخراج موجوداتنا الخاصة وخلع الأبواب والأسقف، في تجاوز واضح لمضمون القرار"، معتبرا أن "ما حصل جرى لصالح صاحب العقار المجاور الذي يبدو بصدد احتلال المبنى الذي نشغله منذ أكثر من عشرين عاما، خارج الأطر الرسمية". وتابع "ان إدارة النادي تُمنع حاليا من استكمال أعمال الإزالة على مسؤوليتها الخاصة، رغم أن القرار صادر باسمها"، محذرة من أن "منعنا من الاستكمال لا يؤدي فقط إلى عرقلة تنفيذ القرار الرسمي، بل يتيح لجهة خاصة الاستفادة من ممتلكاتنا، في انتهاك صريح لحقوقنا". وطالب النادي اللبناني لليخوت عبر كتابه بـ"السماح له باستكمال أعمال الإزالة، وتوفير المؤازرة الأمنية إذا أمكن، وفتح تحقيق في ما حصل بعد تنفيذ القرار"، مؤكدا "ثقته بحرص وزير الداخلية على حماية المؤسسات وتطبيق القانون واحترام الأطر الرسمية".


الديار
منذ 5 ساعات
- الديار
جنوب أفريقيا تُشدد الرقابة الحدودية
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب في إطار جهودها لمكافحة تزوير جوازات السفر والحد من الأنشطة غير القانونية على الحدود، أعلنت هيئة إدارة الحدود في جنوب أفريقيا بدء استخدام جيل جديد من أختام الهجرة ذات أمان عال، يتميز بخصائص تقنية متقدمة تتيح تتبع استخدامها بدقة. ويأتي هذا الإجراء بعد تزايد حالات استخدام الأختام المزورة، والتي تقول السلطات إنها لعبت دورا في تسهيل الهجرة غير النظامية وتهديد الأمن القومي. وأوضح مفوض الهيئة، مايكل ماسياباتو، أن "كل موظف هجرة بات يمتلك ختما خاصا يحمل رقما فريدا، يتيح تتبع عمليات استخدامه في حال الاشتباه بتورطه في تسهيل دخول غير قانوني إلى البلاد". وقد بدأ العمل بالأختام الجديدة اعتبارا من الأول من آب الجاري، وهي مزوّدة بعناصر مضادة للتزوير ونظام تتبع فردي يربط كل ختم بضابط الهجرة المسؤول عنه. مراقبة جوية وفي سياق تعزيز الرقابة الحدودية، بدأت الهيئة توسيع استخدام الطائرات المسيّرة، حيث حصل 6 من عناصر الحرس الحدودي مؤخرا على شهادات قيادة الطائرات بدون طيار. ومن المتوقع أن يخضع مزيد من الموظفين لتدريبات مماثلة، بهدف تعزيز مراقبة المناطق الحدودية الأكثر عرضة للاختراق، لا سيما تلك التي تشهد محاولات تسلل متكررة. تأتي هذه الخطوة في ظل تصاعد القلق من هشاشة حدود جنوب أفريقيا، التي لطالما استُغلت من قبل مهاجرين غير نظاميين وشبكات إجرامية عابرة للحدود. وخلال الفترة الممتدة بين نيسان وحزيران 2025، تمكنت الهيئة من اعتراض وترحيل نحو 9954 شخصا حاولوا دخول البلاد بشكل غير قانوني، غالبيتهم من مواطني ليسوتو وزيمبابوي وموزمبيق.


الديار
منذ 5 ساعات
- الديار
ابعاد مفتي القدس عن الأقصى 6 أشهر اقتحامات في نابلس واعتقالات بالخليل
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب سلمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مفتي القدس الشيخ محمد حسين قرار إبعاد عن المسجد الأقصى مدة 6 أشهر. وقالت محافظة القدس -في منشور لها على فيسبوك- إن قائد منطقة القدس بشرطة الاحتلال أمير أرزاني أصدر قرارا نهائيا بإبعاد المفتي عن المسجد الأقصى فور انتهاء مدة إبعاده التي استمرت 8 أيام. وكانت قوات الاحتلال اعتقلت الشيخ محمد حسين في 25 تموز المنصرم، من داخل المسجد الأقصى عقب إلقائه خطبة جمعة استنكر فيها سياسة التجويع التي تنتهجها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وتواصل شرطة الاحتلال استهداف أئمة وخطباء المسجد الأقصى بالاعتقال والإبعاد، حيث اعتقلت الجمعة الماضية قاضي قضاة القدس الشيخ إياد العباسي أثناء خروجه من المسجد عقب إلقائه درسا تحدث فيه عن التجويع والإبادة في غزة. في غضون ذلك، اقتحمت قوات الاحتلال بلدات جنوبي نابلس وشنت حملات اعتقالات في منطقة الخليل وصادرت مساحات شاسعة شمالي الضفة، في الوقت الذي اقتحم فيه مستوطنون منطقة قبر يوسف بنابلس ودير بلوط في سلفيت، وتجمعا سكنيا شمال أريحا. ففي الضفة الغربية، أصدر قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال ودائرة الآثار الإسرائيلية قرارا يقضي بمصادرة مساحات شاسعة من بعض القرى. ويشمل القرار قرى سبسطية وبرقة ورامين شمالي الضفة الغربية بدعوى تشييد حديقة السامرة الوطنية التي بدأ إنشاؤها قبل قرابة شهرين وتمتد من الموقع الأثري في سبطية وصولاً لمنطقة المسعودية التي أُعلنت منطقة أثرية. وفي نابلس، أفادت مصادر اعلامية، بأن قوات الاحتلال اقتحمت بلدتي، عقربا وبيتا، جنوب نابلس بالضفة الغربية. كما أصيب فلسطينيون بحالات اختناق جراء إطلاق المستوطنين رذاذ الفلفل عليهم خلال اقتحامهم، تحت حماية من قوات الاحتلال، بلدة دير بلوط في محافظة سلفيت شمالي الضفة الغربية. وأفادت مصادر محلية بأن مستوطنين مسلحين وبلباس عسكري اقتحموا المنطقة الغربية من البلدة وهاجموا السكان واعتدوا عليهم وعلى ممتلكاتهم. وأشارت المصادر إلى أن الفلسطينيين تصدوا للمستوطنين. كما أفادت مصادر فلسطينية بأن قوات الاحتلال اعتقلت 15 فلسطينيا على الأقل خلال حملة دهم شملت مناطق مختلفة. وتركزت الاقتحامات والاعتقالات في محافظة رام الله والبيرة، ومدينة جنين، ومخيم عسكر في نابلس. وفي طوباس، هدمت جرافات إسرائيلية، مدرسة قيد الإنشاء في قرية العقبة بالمحافظة، ومنزلا قيد الإنشاء في قرية أرطاس بمحافظة بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة. وقال مدير التربية والتعليم في مدينة طوباس (شمال) عزمي بلاونة، إن "قوات الاحتلال اقتحمت قرية العقبة برفقة جرافات، وبدأت بهدم المدرسة المموّلة من الوكالة الفرنسية"، وفق ما نقلت عنه وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا". وأضاف أن "الاحتلال كان قد أخطر، قبل عدة أشهر، بوقف العمل في المدرسة بدعوى عدم الترخيص، واستولى حينها على جرافات ثقيلة كانت تعمل في الموقع". وفي بيت لحم (جنوب)، أفاد عضو مجلس قرية أرطاس جنوب المدينة سمير أبو صوي، بأن جرافات إسرائيلية "هدمت منزلًا قيد الإنشاء في القرية، بدعوى عدم الترخيص"، وفق ما نقلت عنه وكالة "وفا". وبيّن أبو صوي بأن "قوة إسرائيلية معززة بجرافة اقتحمت منطقة جبل أبو زيد جنوب شرق القرية، وأغلقتها بالكامل، ومنعت المواطنين من الوصول إليها، ثم شرعت بهدم منزل مكون من أساسات وأعمدة وغرفة واحدة، يعود للمواطن إيهاب ملحم".