logo
زياد الرحباني... انتفاضتان وإبادة

زياد الرحباني... انتفاضتان وإبادة

النهارمنذ يوم واحد
لم يكن زياد الرحباني فناناً عادياً؛ كان مختلفاً بفنه، وبكونه ابن فيروز وعاصي. كان متمرداً على كل القوانين والأنظمة الدينية والاجتماعية، وعلى كل ما يمكن أن يكون "عادياً" في هذه الحياة. لم يكن يوماً من القطيع، لا كإنسان ولا كفنان. كان متميزاً، له فلسفته الخاصة، وكان مزيجاً من تشي غيفارا وكارل ماركس. كان ذلك الطيف الخفيّ الذي يخترق الوجدان سريعاً.
كم كنّا بحاجة إلى زياد لنكسر حواجز الوعي بين الاحتلال والحرية، بين الممنوع والمرغوب، والمسموح و"التابو". كان مزيجاً من الكوميديا السوداء والسخرية من واقع مرير، ومن الاصطفاف مع المظلومين والمضطهدين في مواجهة كل السلطات الشمولية والأنظمة الديكتاتورية. كان صادقاً، حقيقياً، لا ينافق أحداً، وله رؤيته الخاصة في الحياة، والحرب، والطائفية المقيتة، والعنصرية. نقل مشاعره بصدق، وتأثّرنا به وعشنا تفاصيله في فصل جميل من حياتنا. أحببناه لأنه زياد... "أبو الزوز" كما ناداه محبّوه، بحكم العِشرة، واستحق هذا اللقب المحبّب لأنه القريب البعيد.
بدأت معرفتي بزياد في عمر مبكر، لأسباب كثيرة، من أهمها أن المذياع الذي كان رفيق العائلة لا يُغلق أبداً. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي – كم يبدو ذلك بعيداً! لكنه الأمس القريب – لم تكن هناك شبكة عنكبوتية تقرّب المسافات وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة.
كنّا نستمع لإذاعة "مونت كارلو" من باريس، فدغدغت أغنيات زياد الحواس وألهبت المشاعر الثورية. ومع بداية الانتفاضة الأولى واشتداد حدتها أواخر عام 1987، بدأ وعيي السياسي يتشكّل سريعاً؛ ووسط حركة العصيان المدني التي عمّت الضفة الغربية والقدس وإغلاق المدارس، كان لا بد من إيجاد روتين مختلف لحياتي.
كنت أحمل كتبي وملفاتي، التي كنت أستلمها سراً من المدرسة، وأشقّ طريقي إلى مكتبة رام الله العامة، حيث أقضي يومي أدرس وأقرأ وأبحث بين الكتب.
في الطريق، كنت أمرّ مباشرة بـ"ساوند أوف ميوزك"، أحد أشهر محال بيع الأسطوانات والكاسيتات الموسيقية في رام الله، وكان يملكه الراحل توفيق البومباشي، صاحب الذوق الرفيع. كنت أسأله عن آخر الإصدارات، فكثير من الألبومات آنذاك كانت ممنوعة، نشتريها خلسة، بلا غلاف أو طابع يدل على محتواها، ومنها ألبومات زياد الرحباني، ومارسيل خليفة، وأحمد قعبور، والشيخ إمام. وبعد الشراء، كنت أضع الكاسيت في "الوكمان" الذي أهدتني إياه جدتي من الولايات المتحدة. كانت ثنائية جوزيف صقر وزياد رفيقتي اليومية.
حتى في أيام الإضرابات أو منع التجوال، كنت أتسلّق الشجرة خلف البيت، وأجلس بالساعات مع كتبي، وكان زياد رفيقي هناك أيضاً. أستمع لكل ما يمكن الحصول عليه من أغنياته ومسرحياته.
في الانتفاضة الثانية عام 2000، وفي مرحلة النضوج، لم يغب زياد عن وجداني. كنت أبحث عنه أكثر، أغنيات، مسرحيات، مقابلات. أذكر أننا كعائلة انتظرنا لقاءه الطويل مع الراحلة جيزيل خوري، الذي استمرّ ست ساعات على حلقتين، وكان حديث الناس لأيام.
بعد انتقالي إلى باريس، كانت مسرحيات زياد رفيقة نهاية الأسبوع: "نزل السرور"، "فيلم أميركي طويل"، "ميس الريم"... كانت تخفف من وطأة الغربة وتترك تلك اللمسة التي تشعرني بالانتماء إلى مكان وثقافة رغم البعد. ببساطة، لم يغب زياد يوماً، كما لم تغب السيدة فيروز عن صباحاتنا.
ولا ننسى أن كثيراً من الفرق الموسيقية الفلسطينية تأثرت بفلسفة زياد ونهجه، أبرزهم فرج سليمان في أغنيته "إسا جاي"، وألبومه "أحلى من برلين".
اليوم، في زمن الإبادة الجماعية والنكبة المستمرة، تحولت كلمات زياد: "أنا مش كافر، بس الجوع، والذل، والقهر كافر"، إلى عنوان فصل كارثي نعيشه وسط حرب ومجاعة تجاوزت 22 شهراً. تجد تلك الكلمات متجلّية في كل مكان. واقعية زياد السريالية تطفو وسط إيديولوجيا التعتير، في بلدٍ كله مهزوز.
الكلمة واللحن... رفقة أجيال
يقول الصحافي الفلسطيني في إذاعة "مونت كارلو" يوسف حبش، لـ"النهار": "عندما استضفنا زياد في برنامج 'هوى الأيام'، بدأت أستعيد الذكريات تدريجاً. الأغاني التي سمعتها أول مرة كانت في جامعة بيرزيت، خلال فترة العمل الطلابي، خصوصاً أثناء إضراب الطعام دعماً للأسرى. أغنية 'أنا مش كافر' ظلت ملتصقة بذاكرتي".
ويتابع حبش: "أغاني زياد وكلماته الناقدة للواقع اللبناني والعربي وارتباطها بالقضية الفلسطينية رافقتنا في تكوين هويتنا الوطنية. حتى عندما التقيته في باريس، وأثناء تبادلنا سريعاً للكلمات، لم أتذكر أن لقاءنا كان في بيروت، وكان الشعور وكأنني ألتقيه للمرة الأولى". ويضيف: "اليوم مع عودة الذاكرة بقوة لكل ما يمثله لنا زياد، أذكر صورته على المسرح في شارع الحمرا، حيث دعيت من بعض الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني لحضور ذكرى جمول والاحتفال المركزي". ويتابع: "كان زياد حاضراً يومها، وكان شعوراً ممزوجاً بين الفرح والترقب بكل الحواس. أن تكون حاضراً لتسمع كل كلمة، وكل تنهيدة ونفس، وكل نقد موسيقي، وكلمات تحملك من المكان الذي عشت تستمع فيه لصوته لتراه أمامك بصوته وجسده وصورته. إنه شعور مختلف".
ويستذكر حبش: "في ختام الحفلة، قدّم زياد فرقة موسيقاه عبر طوائفهم، شيعي، سنّي، درزي، مسيحي أرثوذكسي وكاثوليكي... في نقد صريح للطائفية اللبنانية. وعندما ذكر الأرثوذكس، أشار إلى جورج حبش ووديع حداد، ليختم بذكر فلسطين ومبادئها وقيمها".
كان زياد حالة تربوية وفنية وفكرية لن تتكرر، كما كثير من الرموز اللبنانية والعربية اليسارية. للأسف، رحل زياد ولم يلتقِ جورج، وجورج لم يلتقِ زياد. هل في ذلك مغزى؟ بالتأكيد، فلبنان احتضن جورج، وسيودّع زياد، وبينهما فلسطين، واليسار، والمنطقة، وكل القيم التي تربّينا عليها... ستبقى حيّة، بوجودهم، وبرحيلهم.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أتقدم بأحرّ التعازي.. وائل كفوري ينعى زياد الرحباني
أتقدم بأحرّ التعازي.. وائل كفوري ينعى زياد الرحباني

صدى البلد

timeمنذ 8 دقائق

  • صدى البلد

أتقدم بأحرّ التعازي.. وائل كفوري ينعى زياد الرحباني

نعى المطرب وائل كفوري، الموسيقار الراحل زياد الرحباني، وعبّر عن حزنه الشديد لفقدانه. وكتب وائل كفوري عبر حسابه الخاص بموقع إكس: "ببالغ الحزن والأسى، أتقدّم من السيدة فيروز وعائلة الفنان الراحل زياد الرحباني وكلّ محبّيه بأحرّ التعازي والمواساة، له الرحمة والحياة الأبدية ولعائلته الصبر والسلوان". وفاة زياد الرحباني وتوفي الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني صباح السبت الماضي 26 يوليو 2025، عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد معاناة طويلة مع مرض تليّف الكبد، وهو السبب الرئيسي الذي أدى إلى تدهور حالته الصحية في الفترة الأخيرة، وتسبب في وفاته. وكشفت وسائل إعلام لبنانية، صباح السبت 26 يوليو، عن وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني -ابن الفنانة فيروز- عن عمر يناهز الـ 69 عاما. وعانى زياد الرحباني، قبل وفاته من مرض تليّف الكبد، وهو السبب الرئيسي الذي أدى إلى تدهور حالته الصحية في الفترة الأخيرة، وتسبب في وفاته. تعرض الرحباني لوعكة صحية شديدة تمثلت في ضيق حاد في التنفس وتعب عام، فتم نقله إلى مستشفى خوري في بيروت. وعند وصوله، تبين أن مرض الكبد أثر أيضًا على عضلة القلب، وأدخل في غرفة العناية الفائقة إثر أزمة قلبية حادة. وحرصت الفنانة الكبيرة فيروز علي حضور مراسم الصلاة علي جثمان نجلها الفنان اللبناني الراحل زياد الرحباني، داخل كنيسة رقاد بجبل بكفيا بلبنان. واحتشد جمهور الفنان الراحل زياد الرحباني ، أمام ساحة المستشفي التي يرقد بها بمنطقة الحمراء، تمهيدًا لبدء مراسم القداس عليه.

الأخبار: كل الأحبّة كانوا في الجنازة (والآخرون أيضاً): زياد الرحباني… تشييع شعبي من الحمرا إلى بكفيا
الأخبار: كل الأحبّة كانوا في الجنازة (والآخرون أيضاً): زياد الرحباني… تشييع شعبي من الحمرا إلى بكفيا

وزارة الإعلام

timeمنذ 8 دقائق

  • وزارة الإعلام

الأخبار: كل الأحبّة كانوا في الجنازة (والآخرون أيضاً): زياد الرحباني… تشييع شعبي من الحمرا إلى بكفيا

كتبت صحيفة 'الأخبار': سار الموكب بين الناس، وساروا هم خلفه تصفيقاً وغناءً وبكاءً، ورمَوا الورود والأرُز للحبيب المسجّى في النعش. لقد كانت تلك لحظة توّجت زياد الرحباني ملك الساحة ع بياض كلهم أتوا. بكل تناقضاتهم، من الحمرا إلى بكفيا. أتوا من خلف آلاتهم، من مسرحهم، من صحفهم، ومن حياتهم اليومية، طلاباً وموظفين، وأناساً عاديين أحبّوا زياد الرحباني حتى الدمع الأخير. لم يثنِهم أنّ يوم الإثنين، ظلّ يوم عملٍ عاديّاً ولم يُعلن يوم حداد رسميّاً كما طالبوا على منصات التواصل. ورغم بقاء السير قائماً في الحمرا، استطاع زياد أن يقفل السير مرةً أخرى في الشارع. اجتمع محبّوه والسمة المشتركة: الوجوم حدّ الاختناق. • وردة وتحية بدأ التجمّع أمام «مستشفى خوري» في الحمرا قرابة الساعة السابعة صباحاً، بعدما قرّر رفاق زياد الالتقاء لإلقاء التحية عليه قبل انطلاق الموكب إلى «كنيسة رقاد السيدة» في المحيدثة في بكفيا. منهم مَن قام بترديد أغانيه، والأغلبية بكت لسماع مقطع من أغانيه. تشقّ الأسيرة المحرّرة سهى بشارة طريقها بين الحشود أمام «مستشفى خوري» في الحمرا، حاملةً باقة من الورد الأحمر، وتوزّعها على الحضور. أتى طارق تميم أيضاً، وربيع الزهر، وأحمد قعبور، وزياد سحاب، وندى أبو فرحات، وطبعاً رفيق دربه أحمد مدلج. بعد قرابة الساعة ونصف الساعة، علا التصفيق والبكاء، فقد خرج الحبيب في النعش، ليودّع محبّيه. لم يتمكّن ابن عمّه غدي الرحباني من حبس دموعه وهو جالس في السيارة الأمامية التي تنقل النعش. وبعد تحية لزياد أمام المستشفى، سار الموكب بين الناس، وسار الناس خلفه تصفيقاً وغناءً وبكاءً، ورمَوا الورود عليه، قبل أن يتّجه بعيداً، نحو بكفيا. أثناء المسار، توقّف لدقائق في ساحة انطلياس حيث تُليت الصلاة لروحه، وأكمل طريقه صعوداً. • لافتات وداعيّة على طول الطريق من انطلياس إلى مزرعة يشوع وبكفيا، رُفعت لافتات حملت صور زياد كُتب عليها «بلا ولا شي» و«أنا صار لازم ودّعكم». وصعوداً نحو المحيدثة، قطعت القوى الأمنية الطريق باتجاه الكنيسة، والمسار الباقي سيراً على الأقدام. عند قرابة الساعة الحادية عشرة والنصف، وصل موكب غامض، تقدّمته سيارة يقودها النائب إلياس بوصعب. تترجّل منها الفنانة جوليا بطرس، ثم يحاول بوصعب ركن السيارة عند مدخل باب الكنيسة، ليلتمّ الناس حولها، كأنّ حدسهم قادهم إلى فيروز. وفجأة، يصدح صوت «ممنوع التصوير، السّت فيروز ما بدها تصوير»، وكأنّ قرار المنع أشبه بنداء لمن لا يعرف أنّ سيدتنا قد وصلت. احتشدت الكاميرات، ورُفعت الهواتف عالياً لالتقاط مشهد لأم زياد. ترجّلت ريما ثم فيروز وتوجّهتا إلى داخل الكنيسة حيث وُضع نعش زياد. جلست فيروز أمام بكرها لتبكيه بصمت، ثم عادت ودخلت صالة العزاء، وجلست في الزاوية صامتةً وهادئة لساعات، لتواسي وتُواسى بزياد. ومن قلب سكونها وحزنها، بدأت استعراضات المزايدين في حبّ زياد، وسط تعجّب واستغراب الحاضرين. جلست ريما على يمين والدتها، وجنبها جلست هدى حداد، وزوجة رئيس مجلس النواب رندة بري على يمينها، وتوسّط أبناء منصور صفّ العائلة، فيما جلس غسان الرحباني قرب ريما. في آخر الصف، جلس أمين عام «الحزب الشيوعي اللبناني» حنا غريب، ومعه عدد من قدامى الحزب. وحضر أيضاً عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب إبراهيم الموسوي. • التناقض في حب زياد بدأ توافد المعزّين من كل تناقضاتهم نجوماً وفنانين وممثّلين ومخرجين ومبدعين: وصل مرسيل خليفة وشقيقه أنطوان وشربل روحانا، ثم وصل الشاعر الكبير طلال حيدر، ورافقه خليفة إلى صالة العزاء. وأتى خالد الهبر ونجله ريان، والفنان المصري حازم شاهين، ولينا خوري وكارول سماحة، وجورج شلهوب وجوزف عازار ونجله كارلوس، والليدي مادونا، ومايا دياب، وهيفا وهبي، وراغب علامة، وعاصي الحلاني، ومحمد إسكندر، ونجوى كرم، ومحمد الدايخ وشقيقه حسين، وحسين قاووق، ونادر الأتات، وريتا حايك، ونزار فرنسيس، وجورج نعمة، وماجدة الرومي، ورندة كعدي وغيرهم. كما حضر سياسيون، من السيدة الأولى نعمت عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ووزير الإعلام بول مرقص والثقافة غسان سلامة، ورئيس حزب «الكتائب» السابق أمين الجميّل، ورئيس «حركة الشعب» نجاح واكيم، ورئيس حزب الوطنيين الأحرار كميل شمعون. في وقت تنافس فيه النجوم للحديث عن زياد، اكتفى أصدقاؤه بتعزية بعضهم، ورفضوا الحديث علناً. وكانت كارمن لبس، وصلت بهدوء، اقتربت من النعش وقدّمت القبلة الأخيرة لحبيب العمر، وعادت لتجلس بهدوء وحزن. أما الأخت مارانا سعد، فقد طلبت من الربّ أن يكافئه على كلّ ما قدّمه لهذا الوطن، وللفن والمدرسة اللبنانية. جمع زياد هذه التناقضات في مشهد يعكس الإجماع حوله. لكن لو كان زياد بيننا وشاهد مراسم وداعه لقال «شو هالعجقة هي» على حدّ تعبير صديقته الصحافية ضحى شمس التي وصفت زياد بأنّه كان مرجعاً في أي عمل تقوم به. وقالت إنهما كانا صديقي لعب، فهو كان يحب اللعب معهم وفيهم، لتتحول أي لحظة جدّية إلى نكتة وضحكة. والعمل معه كان صعباً وجميلاً، لأنه يحبّ الكمال ولا يحبّ الإهمال، ويغضب إن لم يقدّم أحدهم أفضل ما لديه. أتى خبر موت زياد كالصاعقة على الممثّلة رندة كعدي، التي وصفته بضمير الوطن. ورغم أنها شاهدت كل أعماله، فهو أيضاً شاهد كل مسرحياتها، لكنهما لم يجتمعا في عملٍ واحد، وانهمرت بالبكاء متمنّيةً «يا ريتك تضل». وفجأة يظهر بين الحضور عاصي زياد الرحباني، الذي أتى خصّيصاً من دبي. ربما يشكّل حضوره مفاجأة، لكن ما كُتب في الإعلام عن مشاكل البيوت، لا يعكس حقيقة أعمق، بين أبٍ وابنه، ولو فقدا رابط الدم. وكان عاصي قد نعى زياد على صفحته على فايسبوك أمس بمقولة لجبران خليل جبران: «المحبّة لا تعطي إلا ذاتها، ولا تأخذ إلا من ذاتها. لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأنّ المحبة مكتفية بالمحبة». • سأدفن ابني لوحدي يجمع الحضور على حبّ زياد وعلى عتبهم على غيابه. والكل يلتفت ليسأل عن فيروز. وصفها بعضهم بالـ«قديسة». دفنت بالأمس ثاني أولادها، بعدما دفنت ليال في العام 1988. يومها رتّلت «أنا الأم الحزينة»، لكن بالأمس لم تهمس بكلمة. زياد ليس بكرها فقط، بل هو امتداد والده الراحل عاصي الرحباني، هو الذي صنع صورة فيروز الفنّية الجديدة. هو الذي جعلها تضحك على المسرح وتغنّي للبوسطة، وجعلها تقول «بس هو هي». عند الساعة الرابعة عصراً، بدأت صلاة الجنازة، وعند قرابة الخامسة والنصف، خرج نعش زياد، ليُلقي محبّوه التحية الأخيرة عليه. ورقص الزياد بين أيديهم، وصفّقوا له، ودخل إلى سيارة نقلته، وحيداً، إلى مثواه الأخير. إذ إنّ قرار فيروز كان واضحاً: «سأدفن زياد لوحدي» حيث المقبرة التي بنتها قرب منزلها في شويّا في قضاء المتن. • المثوى الأخير في بكفيا، وُلد عاصي الرحباني عام 1923، وتلاه شقيقه منصور عام 1925. عمل والدهما شرطياً في البلدة، وتلقّى الأخوان دراستهما الأولى في مدارس البلدة، وتكوّنا ثقافياً ضمن مناخٍ محافظ إلى حدّ ما، يجمع بين القيم المسيحية والعائلية والروحية. لم تكن بكفيا مجرّد مكان للنشأة، بل بيئة اجتماعية وثقافية أثّرت بعمق في المخزون البصري واللغوي والموسيقي لدى الأخوين. العديد من الصور التي حضرت لاحقاً في مسرحيات الرحابنة، مثل الجبال، الساحة، المختار، الفتاة القروية، الغابة، الكنيسة، الجنازات، الأعراس، كلّها تعود في أساسها إلى المشاهد اليومية في بكفيا. تمرّد زياد الرحباني على هذا المخزون، وقرّر انتماءه وحياته، بمعظم تفاصيلها خارج سياج الرحابنة، وانطلق في الدنيا، وخاض تجارب جعلته «أسطورتنا». ورغم أنّ إرث العائلة بقي في بكفيا، في أعالي المتن، حتى بعد وفاة عاصي عام 1986، خصوصاً كمقرّ عائلي، إلا أنّ زياد اليساري ما كان له هذا الارتباط، بل بنى قطيعة مع الطابع اليميني الذي طغى على المنطقة. لكن بعد رحيله، خسر سلطته على نفسه، وقرّرت العائلة أنّ هذا اليوم لها، ليعود زياد إلى عائلته وجذورها، وتتحوّل بكفيا أمس إلى مثوى زياد الأخير.

زياد الرحباني... نبيّ الوجع الصامت
زياد الرحباني... نبيّ الوجع الصامت

النهار

timeمنذ 25 دقائق

  • النهار

زياد الرحباني... نبيّ الوجع الصامت

الأب فادي سميا ليس من السهل أن تكتب عن زياد الرحباني. فهو ليس "فنانًا" فقط، ولا مجرد ابن فيروز وعاصي. زياد حالة، وعي جارح، صرخة تسكنها سخرية، وسخرية يسكنها وجع، وصمتٌ يحكي أكثر من آلاف الخُطب. وأنا أكتب عنه الآن، لا أبحث عن تصنيفه، بل أكتب لأنّي أشعر أنه واحد من الذين لم يُنصفهم شعبهم كما يجب. وكم من نبيّ رُجم لا لأنه كذب، بل لأنه صدق. أنت يا زياد، الرؤيوي الذي رأى ما لم نكن نريد أن نراه. تنبّأت بانهيار وطن، لا من خلال نشرات الأخبار، بل من خلال تفاصيل الحياة اليومية: في التزوير، في الطائفية المقنّعة، في القهر المغلّف بالضحك. كنت تفضحنا ونحن نضحك. تجعلنا نواجه أنفسنا ونحن نصفّق لك. تشتمنا ونظنّك تمزح. لكنك لم تكن تمزح. كنت تتألّم. ومن يعرف أن يتألّم، يعرف أن يرى. لم تُهادن، لا السلطة ولا الدين. قد يزعجك زياد إن كنتَ متديّنًا من الخارج فقط. يزعجك حين يسخر من الدين الطقوسي، من الإيمان المعلّب، من الصلوات التي تُتلى بلا محبة. لكنه لم يكن يسخر من الله، بل كتب له اجمل الترانيم، بل كان يفتّش عنه وسط خراب المدينة. يبحث عنه في المقهورين، في الحزانى، في الذين "ما بقى فيهم يِصدّقوا"، في الذين خذلتهم الوعود، وتاهوا بين منابر السياسة وأسرّة المستشفيات. كثيرًا ما شعرنا أنه يقول ما لا يجرؤ كثيرون على قوله. كان صادقًا حدّ الوجع، ضعيفًا حدّ الإنسانية، عنيدًا كأنّه يحمل نبوءة لا مكان لها في هذا الزمن. في زمن الكذب الجماعي، يصبح الصدق فعلاً انتحاريًا. وزياد اختار أن يكون صادقًا حتى الثمالة. سكت زياد اليوم لأنّ الصوت حين لا يُصغى له، يتحوّل إلى صمت. والنبي حين يتعب من التحذير، يعود إلى الجبل، كما فعل إيليا، ليقول لله: "خذني، لقد تعبت". لكن حتى في صمته، زياد ما زال يُحاورنا. كلماته تنخر في وعينا، موسيقاه تسكن وجداننا، ومسرحياته تحفر في ذاكرتنا كأنها كُتبت البارحة. زياد، إِعلم أن هناك من صدّقك. من رأى فيك مرآة، لا مسرحًا. من اعتبرك نبيًّا، لا مهرّجًا. من سمع صمتك، كما يسمع المؤمن أنين الروح. قد لا نوافقك على بعض أفكارك و سياستك، وقد لا نتبنّى بعض نظرتك إلى الله أو إلى الإنسان أو إلى الإيمان كما طرحتها، لكننا لا نملك إلا أن نرفع القبّعة أمام عبقريّتك. فأنت العبقري الذي لن تُعاد. وحدك كنت تجرؤ أن تقولها كما هي. بنقصها و كمالها... وهذا... لا يفعله إلا الكبار.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store