تباين موقف الكيانات والمكونات الحضرمية السياسية حول طبيعة العلاقة مع المملكة العربية السعودية سنة 1936
مسعود عمشوش
تعددت اليوم الكيانات السياسية أو شبه السياسية في حضرموت. وتباينت مواقف تلك الكيانات الحضرمية من الرغبة في إقامة علاقة متميزة ومتينة مع المملكة العربية السعودية، التي شارك عدد كبير منهم في بناء نهضتها منذ القرن التاسع العشر، ومنحت هي في الماضي الجنسية لعدد كبير منهم.
وفي الحقيقة من الواضح أن الحضارم لم يتفقوا، لا أمس ولا اليوم، حول طبيعة العلاقة التي يودون أن تربطهم بالجارة. وفي كتابنا (المستكشف هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت) أبرزنا ذلك التباين من خلال عرض ردود فعل سكان حضرموت تجاه الزيارة التي قام بها لحضرموت فيلبي سنة 1936، الذي رأى فيه الحضارم حينها مبعوثا رسميا للملك عبد العزيز بن سعود إليهم، على الرغم من أنه، من خلال متابعتنا لسيرة حياة فيلبي، تبَيَّن لنا أن كثيرا من خياراته ومواقفه نبعت أصلا من رغبته في استكشاف الجزيرة العربية بشكل عام والربع الخالي بشكل خاص. وتبيّن لنا أيضا أن قراءته ومتابعته لتجارب المستكشفين الغربيين الآخرين أقنعته بضرورة التقرب من ابن سعود (سيد الجزيرة العربية) سياسيا ودينيا. ولاشك في أن علاقة فيلبي بالملك عبد العزيز كانت من أهم العوامل التي ساعدته على زيارة مناطق كثيرة في الجزيرة العربية لم يستطع زيارتها أحد من الرحالة الذين سبقوه. فخلال رحلاته الكثيرة في مختلف أجزاء الجزيرة العربية استثمر فيلبي علاقته بالملك ابن سعود إلى أقصى درجة. وفي كثير من المواقف المثيرة التي يضع نفسه فيها لم يستطع أن يُخلـِّص نفسه ومرافقيه إلا بالتأكيد أنه مبعوث الملك ابن سعود. هذا ما حدث له مثلا عند مروره بقرية ضبوع أثناء زيارته لحضرموت التي، حسب زعمه قام بها دون أن يستأذن ابن سعود. فعند وصوله إلى ضبوع كتب فيلبي "وجدناها خالية من سكانها الذين هاجروا إلى وادي صرو القريب. وقابلنا على مشارف القرية خمسة رجال من بدو ضبوع. وقد أجبرونا على التوقف. وأصبحنا بالفعل تحت رحمتهم، ذلك أن السيارة الأولى كانت قد تعرضت لمشكلة في أنبوب توصيل البترول مما اضطرنا للانتظار مدة نصف ساعة لإصلاحه. كانت مطالب الرجال الخمسة - على الرغم من أننا نصطحب اثنين من قبيلتهم- هي دفع رسوم الطريق، وهذا إجراء غير قانوني، وعندما أخبرتهم أنني ممثل لابن سعود تراجع الرجال عن مطالبهم فورا".(بنات سبأ، ص350)
وفي نواحي شبوة توغل فيلبي في منطقة تابعة للنسيين. وحينما سأله صالح، شيخ القبيلة، عن سبب مجيئه رد قائلا: "جئت إلى هنا لدعوة تلقيتها من قبيلة همام وعشيرة الجردان. وكان الهدف من المجيء إشاعة الحبور والسرور في نفوس هؤلاء الذين قدموا لي الدعوة، وليس لدي وقت أضيعه في زيارة أحد بدون دعوة. وأريد أن أرجع إلى نجران ومن هناك إلى ابن سعود". وعندما سأله صالح: "عند مجيئك هنا هل تمثل وتتحدث باسم ابن سعود؟" رد فيلبي: "لكن بدون نفوذ ابن سعود لن أستطيع أن أتنقل في هذه البقعة كما فعلت الآن؛ فاسم ابن سعود جواز سفر آمن لأي شخص في الجزيرة العربية. انظر إلى نجران، كانت قبائلها في الماضي مجرد قطاع طرق، لكنها الآن أكثر الناس طاعة في رعية ابن سعود الذي قال لهم إنه لا يرغب في شيء منهم، وإنه مسئول عن بسط الأمن والطمأنينة والسلام ومنع ارتكاب الجرائم. فالويل لمن ينتهك الحرمات ويرتكب الخطايا التي تلحق الضرر بالآخرين، ففي هذه الحالة لن يتهاون ابن سعود في تطبيق الشريعة الإسلامية". وقاطعه صالح قائلا: "كما تعلم، نحن أناس أحرار، ولا نعترف بسيد علينا إلا الله سبحانه وتعالى. وأهالي بيحان والعوالق وبعض عشائر خليفة لهم علاقات مع حكومة عدن، لكن نحن لا تربطنا بها أي صلة. نحن أحرار ولسنا تحت حماية أحد".(بنات سبأ، ص418-419)
بالإضافة إلى ذلك، لم يتردد الحاج عبد الله فيلبي أن يعطي وعودا كثيرة باسم الملك عبد العزيز بن سعود لمختلف عشائر حضرموت وشبوة وقبائلها. فخلال زيارته لقبيلة همام في شبوة تعهد للناس أنه سيقنع الملك بإعفائهم من الرسوم وكافة الإجراءات المفروضة على الحجاج. ووضح ذلك قائلا: "هناك موضوع فيه كثير من الأهمية عند عشائر النسيين وهمام وبقية العشائر التي تسكن في هذه المناطق؛ وهو الحج. ففي الظروف الراهنة يتوجب على هؤلاء الأقوام أن يدفعوا رسوم الحج. وكانت رعية ابن سعود معفاة من هذه الرسوم. وناقشني عبد الله في هذا الموضوع وتعهدت لهم بأنني لن آلو جهدا في إيجاد موافقة تسمح لأفراد عشيرة همام في الحج القادم (فبراير 1937) فور وصولها نجران بالمرور دونما مساءلة عن الجوازات والرسوم وهم في طريقهم إلى مكة لتأدية فريضة الحج. أما بالنسبة للمستقبل، فإن بوسع ممثلي هذه القبيلة مقابلة الملك في مكة ولعمل الترتيبات الضرورية للحج. وهذا التصرف تمت الموافقة عليه وتأييده من قبل ابن نشمي حاكم نجران الذي أبلغته به".(بنات سبأ، ص422)
ومن الواضح أن وعود فيلبي تلك كانت مجرد وسيلة اتبعها فيلبي لجذب الناس إليه وتحفيزهم على تسهيل مروره في مناطقهم وإعطائه المعلومات التي يحتاجها. ويعترف بذلك صراحة حينما يكتب: "طلب مني أفراد عشيرة النسبيين أن تشملهم المنحة المؤقتة التي أعطيت إلى عشيرة همام بالسماح لهم بالسفر إلى الأراضي المقدسة دونما إجراءات سفر ورسوم طريق. فقلت لهم: إنني لا أستطيع أن أتعامل مع كل فرع من فروع القبيلة على حده، وإنه إذا شعرت أثناء سفري خلال الوادي - وادي بيحان- أن فروع قبيلتهم قد أظهرت مشاعر ود كتلك التي أبدتها عشيرة همام فسوف تشملهم هذه المكرمة المؤقتة لتسهيل السفر إلى الحج".(بنات سبأ، ص423)
وبالإضافة إلي تسهيلات إجراءات الحج استطاع فيلبي أن يجذب اهتمام سكان وادي حضرموت بمشروع تعبيد (طريق الحج) البري الذي ناقشه باستفاضة خلال لقاءاته مع السلطان علي بن منصور الكثيري، وكرس له الفصل العاشر من كتابه (بنات سبأ). وقد كتب فيلبي في مفتتح هذا الفصل: "أثار إعجابي أثناء إقامتي بحضرموت الاهتمام الشديد الذي أبداه الجميع بمختلف طبقاتهم الاجتماعية برحلتنا بالسيارة عبر الصحراء من نجران السعودية إلى اليمن، ذلك أن هذه الرحلة أثبتت إمكانية السفر إلى مكة بالسيارة كبديل مفضل على الرحلة الشاقة بالجمال إلى ساحل البحر، ومن ثم بالباخرة إلى جدة. ولعل الحجيج من النساء هن الأكثر تضررا من السفر بالباخرة بسبب إجراءات الحجر الصحي. وقد تأكد لي بأنه لو تم فتح طريق بري يكون ملائما لحركة السيارات فإن الآلاف من المسلمين سيؤدون الفريضة سنويا بدلا من المئات الحاليين. وقد تمت مناقشة الموضوع بإسهاب في تريم".(بنات سبأ، ص363)
ولاشك في أن قدوم فيلبي من المملكة العربية السعودية برفقة عددا من المسلحين السعوديين، ووعوده لسكان المنطقة بإعفائهم من رسوم الحج ودخول أراضي المملكة العربية السعودية، قد جعل جميع السكان يرون فيه مبعوثا شخصيا لابن سعود، مكلفا باستطلاع آرائهم، ومعرفة إذا كانوا يرغبون في إقامة علاقات أوثق مع السعودية. لذلك فقد طلب منه معظم السكان أن ينقل رغباتهم وهمومهم ومخاوفهم إلى الملك عبد العزيز بن سعود. ومن الواضح أيضا أن ردود فعل سكان حضرموت - سلاطين ورعايا- تجاه زيارة فيلبي كانت متباينة. ويعكس تباينها - في المقام الأول- اختلاف المصالح والمواقف. ففي مدخل العبر، مثلا، يلاحظ فيلبي أن الناس لم يبدوا أي تحفظ أو استياء تجاه وصول (مبعوث ابن سعود) إلى أراضيهم. "بل على العكس تماما كان هناك الكثير من المديح والثناء على ابن سعود". (بنات سبأ، ص97)
و"في شبوة، مثلما حدث في العبر، كانت أخبار قدومنا قد سبقتنا بزمن طويل، وكان أمام الناس الكثير من الوقت ليحددوا ما إذا كانوا يرغبون في إقامة علاقة أشد قربا مع ابن سعود أم لا. وقد أخبرهم مبارك بأننا قادمون بعده مباشرة واستقبلونا بشرف عظيم. ولذلك لم أندهش كثيرا - على أي حال- عندما سمعت صالحا في هذه الدقائق القليلة الأولى من تعارفنا يعرب عن أمله في ألا نتعجل الرحيل. وتحدثوا عن ابن سعود بإعجاب ومودة غير زائفة. وفي الوقت نفسه أشاروا بصورة واضحة إلى الحالة المستديمة للنزاعات الداخلية الضروس التي يعيشونها. إنها القصة المعتادة للعداوات الدموية والثأر الذي لم ينته. إنهم يريدون الهدوء والسلام حتى يزرعوا أرضهم بقليل من الأمل في أنهم سوف يتمتعون بالحصاد بدون إزعاج. وقد قال صالح إنهم ليسوا الوحيدين الذين يتذمرون من ذلك، بل جميع القبائل في المنطقة المجاورة. وأردف قائلا "إنهم جميعا يريدون مقابلتك ورؤيتك، ويريدون خطابات من ابن سعود تضمن أمنهم من أي هجوم". ولم أشك لحظة من هذا اللقاء الأول في أن مثل هذه الأمور قد نوقشت بالفعل قبيل قدومنا. وعلى أي حال اندهشت قليلا من حديثهم معي بصراحة فور أن وطأت أقدامنا هذه الأرض. وليس عندي بالطبع أي سلطان لكي ألزم الملك بأي سياسة أو إجراء. ولكني اقترحت بالفعل أنه بوسعهم أن يختاروا مندوبين عنهم لإرسالهم لمناقشة الأمور مع الملك، ويستطيع هؤلاء الممثلون أن يسافروا معي أثناء رحلة العودة. ومن هذا الاقتراح نشأ قرار صالح نفسه بان يرافقني عند العودة إلى نجران ثم إلى مكة".(بنات سبأ، ص 220)
وبالقرب من بلدة العقدة الواقعة شرقي مدينة شبام التقى فيلبي بسالم بن جعفر بن مرعي بن طالب - أحد آل كثير العائدين من المهجر- الذي قال له: "على ابن سعود أن يتدخل بين الحكومات المحلية المتنافسة من أجل السلام والأمن في البلاد". ويعلق مبعوث ابن سعود "إن ملك العرب ليس لديه نية للامتلاك والكسب في أي اتجاه. وهو فخور باستقلاله الخاص والأمن الموجود في بلاده. وهو دائما مستعد لمساعدة جيرانه من العرب ليتمتعوا بالسلام والاستقلال". بنات سبأ، ص237)
وحتى في تريم، يقول فيلبي إن السيد محمد بن علي بن الشيخ أبي بكر، أحد زعماء السادة العلويين، "لم يخف رغبته الشخصية في أن يرى ابن سعود حاكما مطلقا أو سيدا باسطا سلطته على حضرموت، وليس لديه تحفظات تجاه وجهة نظره هذه". كما استمع فيلبي - في تريم- للسيد عيدروس الذي "صب في أذنه الحكاية الطويلة لكوارث حضرموت ومصائب الحضارمة التي لا يمكن علاجها إلا بتدخل يد قوية. وابن سعود فقط هو الذي يستطيع علاج علل حضرموت". وقد رد عليه فيلبي: "أنت تطلب من ابن سعود أن يمنحكم الأمن. إن ابن سعود – وهذه الحقيقة – نشر نعمة الأمن في كافة ربوع بلاده حتى أقصى حدودها. انظر لحالتي؛ لقد خرجت لتوي سالما من سوريا إلى حضرموت، وفي طول رحلتي لم أسمع طلقة رصاص واحدة حتى وصلت أول قرية في بلدكم. كما أن ابن سعود – وهذه هي الحقيقة – يرغب في أن يرى العرب في كل مكان ينعمون بالأمن والرخاء والاستقلال. لكن بالنسبة للتدخل في شئون الحكومات التي تجاوره، فذلك أبعد ما يكون عن تفكيره. ولا يشتهي بوصة واحدة من أراضيها. فهو بالتأكيد لا يطمع في بلدكم حضرموت، ولا في أي أراض أخرى. وبالنسبة للأمن فانتم وحكوماتكم تملكونه بأيديكم وعليكم أن تسعوا إليه وترسوا دعائمه. وعليكم أولا أن ترغبوا في الأمن إن كنتم تريدون تحقيقه، لأن (الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)".(بنات سبأ، ص262-263)
وقد ضمّن جهاز المخابرات البريطانية جزءا من تقرير كتبه السيد حسن بن سالم العطاس عن اتصالات الحضارم تلك بفيلبي في الوثيقة رقم: 38A التي جاء فيها:
(وثيقة رقم: 38A ، التاريخ: 13 ديسمبر 1938، الموضوع: معلومات مستقاة من تقرير عن السيد حسن بن سالم العطاس: حينما كان يقيم في جيزان سافر مستر فيلبي في البلاد قبل عامين مع 70 جندياً سعودياً، وبما أنه اصطحب جنوداً سعوديين، فقد استنتجنا أن فيلبي واحد من الموثوقين لدى ابن سعود، ولذلك طلبنا منه أن ينقل رسالتنا إلى جلالة الملك ابن سعود ومفادها أن عليه أن يضم بلادنا إليه، ولكن الله وحده يعلم ما إذا كان فيلبي قد نقل رسالتنا إلى جلالته أم لا. لقد صدقناه لأنه كان مصحوباً بجنود سعوديين واعتقدنا أنه مسلم صادق، وخادم مخلص لابن سعود".
ولاشك في أن زيارة فيلبي إلى حضرموت قد أظهرت إلى السطح بقايا الخلافات بين السلطان القعيطي والسلطان الكثيري، وكذلك آثار الصراع العلوي الإرشادي الذي برز في جزر الهند الشرقية، المهجر الشرقي للحضارم، وأصدائه في حضرموت نفسها. وهذا ما يبيّنه التقرير الذي رفعه السلطان القعيطي إلى حكومة عدن في مطلع شهر أكتوبر من عام 1936، والذي يحاول فيه السلطان أن يقدم زيارة فيلبي لحضرموت وكأنها تلبية لدعوة من (الإرشاديين الكثيريين). وتلخص إحدى وثائق المخابرات البريطانية التقرير القعيطي على النحو الآتي:
" وثيقة رقم 25A ، التاريخ: 22 أكتوبر 1936، كاتب الأصل: عدن
الموضوع ملخص المخابرات السياسية رقم 506 عن الأسبوع المنتهي في7 أكتوبر 1936 6052. تسلمنا تقريراً من فخامة سلطان الشحر والمكلا يفيد أن المستر فيلبي نشر دعاية في صالح الحكومة السعودية، وزعم أن رجال القبائل ما وراء البر انخرطوا جميعهم في اتفاقية مع الحكومة السعودية، وأن الحكومة السعودية على استعداد لتقديم مساعدات إلى حضرموت إذا طالب الناس بها. وأكد فخامة السلطان لمقر البعثة هنا أنه لا توجد علاقة بينه وبين الحكومة السعودية، وأنه لا يرغب في خلقها، وأنه يرحب بزيارة أي بعثة لحضرموت بعد حصولها على أذن من الحكومة البريطانية ومنه، وأنه لا يرحب بالزيارات التي قامت بها البعثات المسلحة لحضرموت من دون أذن مسبق. وأفاد السلطان أيضاً أن للإرشاديين في حضرموت وجاوا بعض الروابط مع الحكومة السعودية، وأن معظمهم من آل كثير، وربما تكون لهم يد في وصول فيلبي إلى حضرموت، لأنه ومع الوقت الذي وصل فيه فيلبي إلى حضرموت، ظهرت إفادات من الإرشاديين الكثيريين في ساحل وداخل حضرموت تحتوي على نداء صريح للمواطنين بالانضمام لعلم الحكومة السعودية".
وفي الحقيقة كان من السهل على فيلبي أن يلمس امتعاض سلاطين آل كثير - في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين- من الاتفاقية التي أبرمت بينهم وبين السلطنة القعيطية وبريطانيا عام 1918. وقد حاول فيلبي أن يفسر هذا الامتعاض في كتابه، قائلا: "الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية لم تكن في مصلحة سلاطين آل كثير، مما ملأ صدور جيل كامل منهم بالضغينة والبغضاء. مع العلم أنه - أي الجيل الحديث- لم يستوعب تماما الظروف والملابسات التي أدت إلى إبرام الاتفاقية. ولم يكن هناك أدنى شك في أن سلاطين آل كثير سوف يضعون حدا من جانبهم لهذه الاتفاقية. والمسألة كلها مسألة وقت وأسلوب. وقد تطرق بعض المتحدثين بصراحة إلى إمكانية تدخل ابن سعود لتسوية هذا النزاع، غير أنه كان واضحا للجميع انه لابد أولا من تصفية الضغائن والحسابات التي تسبب فيها البريطانيون قبل وضع حد نهائي للخلافات القعيطية/الكثيرية. وأثناء إقامتي في تريم كان الجميع يأملون تدخل ابن سعود لوضع خطة ترضي الجميع وتؤدي في نهاية المطاف إلى السلام والأمن والاستقرار". (بنات سبأ، ص353-354)
وقد ربط المؤرخ السيد جعفر محمد السقاف - في مقالة له نشرها في عدد جريدة (الجزيرة) السعودية الصادر بتاريخ28/2/1428 هـ، بعنوان (مبعوث الملك عبد العزيز إلى حضرموت: عبد الله فيلبي 1355 - 1936)، بين "إدراك جلالة الملك عبد العزيز لأطماع الاستعمار البريطاني في بلاد حضرموت وبين إرساله مبعوثه عبد الله فيلبي إليها عام 1355 - 1936، حيث وصل عبد الله فيلبي إلى سيؤن فرمى عصفورين بحجر واحد: اكتشاف وتمهيد طريق صحراوي بين البلدين من جهة، ونصح سلطان حضرموت وأهلها للحيلولة دون بسط بريطانيا حمايتها على حضرموت. غير أن ظروف الحرب العالمية الأولى أسقطت حضرموت لقمة سائغة لبريطانيا."
وفي تلك المقالة يورد السقاف نص خطاب مقتضب وجهه السلطان على بن منصور إلى الملك عبد العزيز - وذلك على الرغم من أن اتفاقية عام 1918 مع القعيطي وبريطانيا تمنعه من ذلك. وذكر في هذه الخطاب أن الرسالة الفعلية يحملها عبد الله فيلبي شفهيا. وهذا نص الخطاب:
الحمد لله وهو المستعان وعليه التكلان،
من سيؤن في غرة شهر رجب سنة 1355،
حضرة صاحب العظمة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أدام الله عزه. وبعد: فإني أهدي لجنابكم العالي سلاما عاطرا وتحية مباركة عربية، وأتمنى لكم صحة جيدة وسعادة وهناء، وأشعركم بأن الشيخ المحترم عبد الله فيلبي قد وصل إلينا من الدرب الذي نتمنى تعبيده بمساعدتكم، وقد امتزج بنا وعلم بعض أحوال قطرنا، وهو خابركم شفاهيا. وأسأل الله أن يأخذ بيدكم إلى ما فيه خير للجزيرة وأهلها وأن يجمعنا وإياكم على خير. وفي الختام تقبلوا فائق الاحترام".
أما سكان المكلا، عاصمة السلطان القعيطي، فيبدو أن زيارة فيلبي لحضرموت واهتمامه بـ(طريق الحج) البري قد أزعجهم، إذ أنهم رأوا أن طريق السيارات إلى المدن المقدسة يمكن أن يؤثر في نشاط الميناء. وقد عبروا لفيلبي عن قلقهم ذلك خلال اجتماعهم به في منزل السيد سالم المحضار، شقيق الوزير حامد المحضار الذي كان يرافق السلطان في إحدى جولاته الخارجية. وفي الاجتماع "انحصر النقاش حول الموضوع الذي ظل يفرض نفسه في كل جلسة: وهو طريق السيارات الجديد، والذي يعني الكثير جدا لمدينة المكلا، التي لديها مصالح كثيرة فيما يتعلق بموضوع الحج عن طريق البحر. وربما تكون فكرة استخدام حجاج وادي حضرموت للطريق البري الجديد غير مقبولة للعديد من الذين استمعوا إلى ما قلت. وكان بين الحضور رجل في منتصف العمر، ومن الواضح أنه تعرض لتجربة مريرة أثناء رحلته إلى مكة، لهذا كان أكثر الحاضرين صراحة في التعبير عن قناعته الشخصية بأن لا أحد من الحجاج الحضارمة على استعداد لاستعمال طريق السيارات البري حتى ولو كان أقل تكلفة مالية من الطريق البحري الحالي". (بنات سبأ، ص323)
كما يبرز موقف أقطاب السلطنة القعيطية المختلف عن موقف السلطان الكثيري ورعاياه في ثنايا الحوار الساخن الذي دار في تلك الجلسة نفسها بين فيلبي وقاضي المكلا الشيخ محمد باجنيد. وقد سرد فيلبي المناقشة قائلا: "من الواضح تماما أن الرجل كان منزعجا من احتمال ضم حضرموت إلى الأراضي التابعة لنفوذ ابن سعود. وحاولت طمأنته بعدم النية في الإقدام على هذا الأمر. غير أنني أوضحت له بجلاء تام عدم قبولي بأن حضرموت مخلاف (مقاطعة) تتبع لليمن. واقترحت أنه إذا حصرنا المناقشة في السياق التاريخي وحده يمكن أن تقودنا إلى القول بأن فلسطين يهودية واسبانيا عربية. ومن المؤكد أن المستمعين كانوا يؤيدون وجهة نظري بأن حضرموت دولة مستقلة الآن. وهي لا تنتمي إلى اليمن أو السعودية. وهاجمني القاضي ووصفني بأنني رجل هزيل وجائع. يبحث عن شكوى ومظلمة، لكنه تخلى عن عداوته قبل قليل من مغادرته المجلس". (بنات سبأ، ص323)
أما السلطان صالح بن غالب القعيطي نفسه، الذي عاد لتوه من إحدى سفراته في فترة وجود فيلبي في المكلا فقد كان حذرا، وتحفظ في الإفصاح عن أي موقف لفيلبي الذي كتب عنه: "في حقيقة الأمر، السلطان لا يتحدث كثيرا، ولا يخلو من انعدام الشفافية والعاطفة والحميمية. ومع ذلك فقد كان انطباعي عنه أنه ودود وحريص على القيام بواجباته تجاه رعاياه. وكان شغوفا لسماع أخبار ابن سعود، وما يجري داخل الجزيرة العربية. لكن، من جانبه، ليس لديه الكثير ليقوله عن إسفاره. كما أنه لم يتطرق أبدا خلال المناسبات التي جمعتنا سويا إلى مناقشة أي موضوع حساس أو شائك، ذلك أنه مدرك تماما لموقف سلطات عدن تجاهي. ولكنه لم يشر أبدا إلى أنه يعرف هذا الأمر". (بنات سبأ، ص330)
ومن المثير أن يورد فيلبي وجهة نظر أحد موظفي السلطان صالح بن غالب القعيطي بعد انتهائه مباشرة من الحديث عن موقف السلطان وتحفظه. وتبدو لنا وجهة النظر تلك لافتة للانتباه لأنها تنطوي على قدر لا بأس به من التناقض والمراوغة، وتتنافى مع الموقف الحذر للسلطان القعيطي. ولم يتردد فيلبي في الخلط بين رأي ذلك الموظف (السلطاني) وموقف موظف (قعيطي) آخر ليخرج باستنتاجات تؤكد أن الحضارم يفضلون الانضواء تحت راية ابن سعود. وقد صاغ فيلبي استنتاجاته تلك على النحو الآتي: "لقد حدثني أحد موظفي السلطان بصراحة شديدة بأن عرب حضرموت ليسوا مؤهلين للاستقلال، ولا يرغبون حتى فيه، وهم راضون وقانعون باعتمادهم على الحماية البريطانية، إضافة على أنهم سيكونون أكثر سعادة لتعاون ابن سعود إذا تمكن الأخير من تبرير الأمر بحصافة ولباقة مع البريطانيين. ثم واصل محدثي قوله بأن هناك انطباعا عاما بأن السادة آل الكاف يعادون ابن سعود، إلا أن هذا الانطباع بعيد جدا عن الواقع، ذلك أن عرب حضرموت، من بين جميع الشعوب، سيكسبون كثيرا من تدخل ابن سعود لإحلال السلام والأمن بدلا من الفوضى وعدم الاستقرار. ومن هذا المنطلق فلا توجد عداوة بين الفريقين. والاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذه الملاحظات العامة واضح تماما: أنهم - أي عرب حضرموت- يدركون تماما أن ابن سعود قد فرض السلام والأمن في المملكة العربية السعودية، وهم يرغبون في إحلال هذا السلام في ربوع بلادهم، وأن الحماية البريطانية لم تتمكن في الماضي ولن تستطيع مستقبلا معالجة المشاكل الناتجة عن الفوضى وعدم استتاب الحكم. كما سألني موظف يحتل وظيفة مرموقة بصراحة تامة عمّا إذا كان في مقدور ابن سعود إرسال كتيبة أو تجريدة صغيرة من الجنود السعوديين في حدود مئتي رجل لفرض الأمن والسلام في حضرموت، وواصل المسئول الكبير قوله بأن حكومة السلطان سوف تتحمل جميع نفقات هذه الكتيبة. وأجبت الرجل قائلا: نعم لكن ماذا سيكون موقف أصدقائكم في عدن حيال هذا الأمر؟. وضحك الرجل. فكلانا يدرك الصعوبات التي تحول دون تحقيق هذا الرجاء. إن الحكومة البريطانية لا تستطيع بسط الأمن والسلام في ربوع حضرموت. اما ابن سعود فهو الوحيد القادر على ذلك بدون شك. هل يقوم البريطانيون بدعوة ابن سعود ليؤدي هذا الدور؟ أبدا". (بنات سبأ، ص331-332)
هذا تقديم موجز لموقف الحضارم المتباين حول نوع العلاقة التي يودون إقامتها مع جارتهم المملكة العربية السعودية، الذي برز سنة 1936. والسؤال: ما موقفهم اليوم؟ وما موقف الكيانات السياسية الموجودة في حضرموت؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 2 ساعات
- اليمن الآن
"صحفي يمني يفجّرها: بن مبارك عطّل الدولة وسرّب أسرار الرئاسة للحوثيين! ما حقيقة ذلك؟
اتهم الصحفي اليمني ماجد الداعري، رئيس الوزراء السابق أحمد عوض بن مبارك، بـ"تسخير ذكائه ومهاراته لتعطيل مؤسسات الدولة"، واصفاً إياه بـ"صاحب كفاءة كيدية عالية" أسهمت – وفق قوله – في إفشال المهام الوطنية في مختلف المناصب التي شغلها. وجاءت تصريحات الداعري في منشور مطول، شن فيه هجوماً لاذعاً على بن مبارك، متهماً إياه بـ"تفخيخ مؤتمر الحوار الوطني"، و"الفشل في إدارة ديوان رئاسة الجمهورية"، إضافة إلى "تسريب أسرار الدولة وتسجيلات الرئيس للحوثيين" أثناء فترة سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء. وقال الداعري إن بن مبارك، خلال توليه حقيبة الخارجية، "عطل عمل سفارة اليمن في واشنطن وجمّد النشاط الدبلوماسي للشرعية"، مضيفاً أنه "استمر بنفس النهج عند توليه رئاسة الحكومة، فعطّل مؤسسات الدولة، وأوقف صرف الرواتب، وأفشل الخدمات الأساسية"، حسب تعبيره. وأشار إلى أن بن مبارك "لا يزال يسعى حالياً إلى تعطيل أي دعم دولي للشرعية، ويعمل على تفكيك مجلس القيادة الرئاسي من الداخل"، معتبراً أن هذه الأفعال تأتي ضمن نمط ممنهج ينتهجه الرجل منذ سنوات. وأنهى الداعري منشوره بسؤال ساخر: "فهل عرفتم كيف وهبه الله مواهب خارقة للتعطيل الشامل؟"، مؤكداً أن كل المناصب التي تقلدها بن مبارك تحولت – بحسب وصفه – إلى أدوات لتعطيل الدولة لا خدمتها. يشار إلى أن أحمد بن مبارك تولى مناصب رفيعة في الدولة اليمنية، من أبرزها رئاسة ديوان الرئاسة، ووزارة الخارجية، وأخيراً رئاسة الحكومة، وقد وُجهت له في فترات مختلفة انتقادات حادة من قبل خصوم سياسيين وناشطين، رغم إشادة جهات دولية بأدائه في ملفات دبلوماسية.


وكالة الأنباء اليمنية
منذ 2 ساعات
- وكالة الأنباء اليمنية
اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى تسيِّر قافلة عيدية للمرابطين في جبهتي مأرب وتعز
محافظات سبأ: سيّرت اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى، اليوم، قافلة عيدية للمرابطين في جبهتي مأرب وتعز. ضمّت القافلة أكثر من 60 رأسًا من الأغنام، والفواكه، والفرش السفرية، والملابس العيدية، دعمًا للمرابطين في جبهات العزة والكرامة، وذلك تزامنًا مع حلول عيد الأضحى المبارك. وخلال تسيير القافلة، التي تقدّمها رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى العميد عبدالقادر المرتضى، ونائبه مراد قاسم، وعدد من أعضاء اللجنة، تبادل الزائرون تهاني العيد مع المرابطين.. مشيدين بالمواقف البطولية للمجاهدين في التصدي لمؤامرات مرتزقة العدوان. وقال رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى: "جئنا لزيارتكم في هذه الجبهات المقدّسة للسلام عليكم وتهنئتكم بحلول عيد الأضحى المبارك، ونسأل الله أن يعيده علينا وعليكم، وعلى جميع المجاهدين في كل الجبهات والميادين، وعلى أمتنا الإسلامية، بالخير والبركات والنصر والتمكين والعزة والكرامة". وأشاد بالانتصارات العظيمة والمباركة التي حققها الله بأيدي المجاهدين العظماء على قوى الشر والطغيان وأئمة الكفر من الأمريكيين والإسرائيليين، في معركة "الفتح الموعود والجهاد المقدَّس". وأشار المرتضى إلى أن "الانتصارات التي أبهرت العالم، وصدمت الأعداء، وفاجأت الأصدقاء، في البر والبحر، هي بفضل من الله سبحانه وتعالى، وهي نتيجة لثباتكم وصبركم وتضحياتكم العظيمة ورباطكم المقدس، أنتم وإخوانكم في كل الجبهات والأقسام العسكرية". وأكد على "أهمية الارتباط بالله سبحانه وتعالى، وشكره على الانتصارات، ليتمّ علينا نعمته ويزيدنا من فضله". من جانبه، اعتبر نائب رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى القافلة أقل القليل تجاه تضحيات وصمود من يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله والدفاع عن الوطن. بدورهم، عبّر المرابطون في جبهتي مأرب وتعز عن شكرهم للجنة الأسرى على هذه اللفتة الكريمة.


اليمن الآن
منذ 2 ساعات
- اليمن الآن
اعلان سعودي عاجل بشأن فلسطين
العربي نيوز: صدر اعلان عاجل عن المملكة العربية السعودية، من اعلى مستويات قيادة المملكة، بشأن قطاع غزة، وتصعيد كيان الاحتلال الاسرائيلي عدوانه وحصاره المتواصلين على القطاع وارتكاب جرائم الحرب والابادة الجماعية، منذ اكتوبر 2023م، وعقب استئناف عدوانه وحصاره في مارس 2025م. جاء ذلك في كلمة ألقاها ولي العهد السعودي، في حفل الاستقبال السنوي لقادة الدول وكبار الشخصيات الإسلامية وضيوف الجهات الحكومية ورؤساء الوفود ومكاتب شؤون الحجاج الذين أدوا فريضة الحج لهذا العام، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس). ونيابة عن الملك سلمان، أقام ولي العهد السعودي الحفل السنوي في الديوان الملكي بقصر منى، مساء السبت، وفق (واس)، ودعا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مساء السبت، المجتمع الدولي إلى إنهاء العدوان الإسرائيلي على فلسطين وتداعياته الكارثية. مضيفا في كلمته: : "لقد شرَّف الله تعالى هذه البلاد بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديها، ووضعت المملكة ذلك في مقدمة اهتماماتها، وسخرت جميع قُدراتها لخدمة ضيوف الرحمن والتيسير عليهم، ليؤدوا مناسكهم بيسر وسهولة، وسوف تواصل المملكة هذا الامر، مُدركة عِظم المسؤولية". وتابع ولي العهد السعودي في سياق حديثه عن الأوضاع المآساوية في قطاع غزة الذي يشهد تصعيدا عسكريا إسرائيليا، قائلا: "يأتي عيد الأضحى المبارك هذا العام، ومعاناة إخوتنا في فلسطين مستمرة نتيجة العدوان الإسرائيلي". مضيفا: "نشدد على دور المجتمع الدولي، في إنهاء التداعيات الكارثية لهذا العدوان، وحماية المدنيين الأبرياء وإيجاد واقع جديد، تنعم فيه فلسطين بالسلام وفقًا لقرارات الشرعية الدولية".