logo
"ليالي" نجيب محفوظ ارتبطت بالوجدان الرمضاني المصري

"ليالي" نجيب محفوظ ارتبطت بالوجدان الرمضاني المصري

Independent عربية٠٥-٠٣-٢٠٢٥

هذا الأثر لم تستحوذ عليه الدراما المستوحاة من السردية العربية الكبرى وحسب، بل إنها في هيئتها الورقية ظلت مقصداً للقراء من كل حدب وصوب، كذلك حاول بعض الكتاب العرب استلهام عوالمها السحرية في أعمالهم، على رأسهم نجيب محفوظ في روايته "ليالي ألف ليلة".
تتجلى صلة نص أديب نوبل بالنص التراثي عبر عنوان الرواية، ومع تدفق السرد تتوثق هذه الصلة، ولا سيما مع بروز تيمات السحر والجن والترحال والمغامرة، ومع استدعاء شخصيات السندباد والإسكافي ونور الدين ودنيا زاد، وغيرهم، ويوظف الكاتب هذه العوالم والتيمات والشخصيات لتمرير العديد من الرؤى الفلسفية والإسقاطات الرمزية، وكحال الليالي الأصلية شرع محفوظ سرده من حكاية إطارية وانتقل منها إلى تفريعات حكائية. تبدأ أحداث الحكاية الأم في ليالي محفوظ من حيث انتهت أحداث الحكاية التراثية، لتنبئ عن تحول شهريار الذي رضي أخيراً عن زوجته شهرزاد، ولم يعد متعطشاً للدماء، وإن لم يتخلَّ عن قسوته وغروره.
رواية نجيب محفوظ (مكتبة ديوان)
أما المدينة البائسة فكما امتلأت بالفرح لتوقف شلال الدم، امتلأت أيضاً بالمنافقين، بعدما قُتل الأبرياء والصادقون (في السردية التراثية)، وهؤلاء المنافقون كانوا رافد الشر في الحكايات المتناسلة من الحكاية الأم، وكانت أحداث هذه الحكايات باعث تحولات عاد صداها مرة أخرى إلى شهريار نفسه.
وعلى رغم هذا الاستلهام لعوالم ألف ليلة على مستوى الموضوع والتقنية، فإن نجيب محفوظ عمد إلى بنية مغايرة، إذ حرم شهرزاد من دور الراوي، وحولها إلى إحدى شخصيات الحكاية، ووضعها في بعض مواضع السرد في موقع المحكي له، في حين لجأ إلى تقنية الراوي العليم، ومنحه عبء قيادة الرحلة.
وتشارك أبطال الحكايات الفرعية مع أبطال الحكاية الإطارية الفضاءين المكاني والزماني أنفسهما، وجمعتهم روابط وعلاقات وثيقة، ولم يكونوا كما في حكايات ألف ليلة وليلة أبناءً لخيال شهرزاد وحكاياتها.
تقلب الدهر
ينطلق السرد من رؤية فلسفية تعي تقلب الدهر وتحولاته، التي تنسحب على كل الموجودات، ومرر نجيب محفوظ هذه الرؤية عبر مساحات الحوار، وعبر أجناس أدبية أخرى استدعاها إلى نسيجه الروائي، مثل الشعر "من عادة الدهر إدبار وإقبال/ فما يدوم له بين الورى حال"، (ص 203 طبعة دار ديوان).
ومثلما عمد إلى التصريح بهذه الرؤية في بعض مواضع السرد، مررها ضمناً في مواضع أخرى، كما في دلالات تكراره عبارة "لا تأمن هذه الدنيا يا إبراهيم" على لسان "صنعان الجمالي"، وهيأ مناخاً ملائماً ومحفزاً لهذه التحولات، فأبرز الثنائيات المتقابلة في النفس والعالم، التي عادة ما تتحول الشخوص من أحد قطبيها إلى الآخر، فيؤول العزيز إلى ذليل، ويتبدل الفقر بالغنى، والغنى بالفقر، ويتحول البؤس إلى بهجة، والسعادة تصبح حزناً مقيماً، وبذا منح التحول دور البطولة في كل الحكايا.
دراما مصرية مستوحاة من رواية محفوظ (ملف الدراما)
وبينما تشاركت أغلب الشخوص الطبيعة البشرية ذاتها، التي تراوح ما بين الخير والشر، كان تحول بعضها نتيجة مباشرة لما يعتمل في دواخلها من صراع بين نوازع طيبة وأخرى رديئة، في حين كان تحول شخوص أخرى ناتجاً عن قوى خارجية، حفزت ظلام النفس، وأذكت صراعاتها، فكان العفريت "قمقام" مسؤولاً عن تحول "صنعان الجمالي" من الصفاء إلى الكدر، ومن السكينة إلى القلق، الذي حفّز بدوره ظلام نفسه، فتحول التاجر الخيّر الوقور إلى مغتصب قاتل، وتلوثت يده الممدوة للفقراء بالدماء، وكان تحوله سبباً في عسر أسرته بعد يسر، وهوانها بعد طيب المقام، كذلك كان العفريت "سنجام" محفزاً لتحولات "جمصة البلطي"، الشرطي الذي كان ينصاع إلى أوامر الفاسدين، بحجة الواجب وقلة الحيلة، مما جعل منه يدَهم التي تبطش بالأبرياء.
وعزَّز الشيخ "عبدالله البلخي" بذرة هذا التحول، التي ألقاها العفريت في قلب "جمصة"، ليتغلب خيره على شره، وتتحول استكانته إلى تمرد وينقلب انحيازه للسلطة إلى ثورة عليها، ويسلك بذلك طريقاً معاكساً لطريق سلكه "صنعان الجمالي". وبينما كانت العفاريت التي بدا بعضها وكأنه معادل للقدر في فرض الاختبارات والفتن (قمقام وسنجام)، وبدا بعضها الآخر معادلاً للشيطان الذي يوسوس بالشر ويقود إليه (سخربوط وزرومباحة)، مثيرات خارجية قوية باعثة على التحول، كان التناقض الداخلي الصارخ والصراع العنيف بين الخير والشر في دواخل النفس الإنسانية، مسؤولاً على نحو أكبر عن تحول بعض الشخوص، بعدما تأججت هذه الصراعات الداخلية بفعل إغراءات السلطة والحكم والشهوة والمال والجمال والمغامرة: "قال سخربوط بفتور: عباس الخليجي حاكم الحي، سامي شكري كاتم السر، خليل فارس كبير الشرطة، لا يتوقع منهم انحراف قريب، فتساءلت زرمباحة بسخرية: لماذا؟
- جاؤوا في إثر تجربة مريرة أطاحت بالمنحرفين.
- دعنا من الحكام، وانظر إلى ذلك الفتى الهمام فاضل صنعان"، ص235.
تجليات التحول
كان لأغلب الشخوص في كل الحكايات نصيب من التحولات، وإن اختلفت هذه التحولات في مستوياتها، وتجلياتها، فبدت على مستوى المظهر، وهيئة الشخوص الخارجية، كما في شخصية "جمصة البلطي"، الذي تحول إلى صور وهيئات بشرية عدة، فتبدلت صورته قبل إعدامه إلى هيئة عبد حبشي "عبدالله الحمال"، ثم تحول إلى هيئة جديدة، بعدما نزل إلى الماء استجابة لنداء عبدالله البحري، وكذلك تحولت العفريتة "زورمباحة" إلى امرأة طاغية الجمال "أنيس الجليس"، ثم تحولت مرة أخرى من الهيئة الإنسانية إلى دخان ورماد، وتحول شهريار إلى فتى أمرد، بعد نزوله للماء المسحور، ثم تحول إلى شيخ طاعن في العمر، بعدما دفعه الفضول إلى اقتراف الممنوع، وفتح الباب المغلق في المدينة المسحورة، على رغم التحذير المكتوب عليه.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلاف المظهر والهيئة الخارجية، طاولت التحولات مشاعر الشخوص وسلوكها ومصائرها، فتشارك كل الحكام وأعوانهم من الشرطة وكاتمي السر، في كل الحكايات مصير الضعف بعد القوة، وصعد "نور الدين" من مراتب العامة إلى مراتب النبلاء، وتحول "السندباد" بعد معايشة البحر وأهواله، من الفقر ومحدودية التجربة إلى الثراء والحكمة، وطاول التحول العفريتين أيضاً، فتخلص "قمقام" من السحر الأسود، وتحول من العبودية إلى الحرية، وخرج "سنجام" من القمقم فتحول من الحبس إلى الحرية، كذلك تحول "عجر" من الفقر إلى الغنى، ثم تحول عائداً إلى الفقر مرة أخرى، وتحول "معروف" من إسكافي فقير إلى حاكم وصاحب نفوذ، وتحول "حسام الفقي" إلى قاتل تحت سطوة الجمال والشهوة، وتحول "فاضل" من عزيز ثري إلى فقير رقيق الحال، ومرة أخرى من مناضل في سبيل الحق والعدل إلى لص وقاتل ومعتدٍ، كذلك بدا التحول في مشاعر أهل المدينة الذين عاشوا الخوف لجنون شهريار في قتل النساء، ثم تحولوا إلى الابتهاج والطمأنينة بعد إعلانه الرضا بزوجته شهرزاد، وتوقفه عن القتل، كما تبدل حال المدينة مرات بين الاستقرار والاضطراب "مات كثيرون وشبعوا موتاً، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة، هبط من الأعالي قوم، وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع، وتسول آخرون بعد عز"، ص 273.
ولعبت كل تلك التحولات دوراً رئيساً في تطور البنية الدرامية، وكانت كذلك دافع التحول التدريجي في شخصية شهريار، إذ تهذبت نفسه عقب كل حكاية، ليجد في النهاية طريقه نحو الخلاص، "على مدى 10 سنوات عشتُ ممزقاً بين الإغراء والواجب، أتذكر وأتناسى، أتأدب وأفجر، أمضي وأندم، أتقدم وأتأخر، أتعذب في جميع الأحوال، آن لي أن أصغي إلى نداء الخلاص... نداء الحكمة"، ص 285.
التناص وتيار الوعي
وظَّف محفوظ، إضافة للغة الحية، العديد من التقنيات السردية في خدمة التحولات، ولا سيما تيار الوعي، فكان حلم نور الدين و"دنيا زاد" سبيلاً لتحولهما، إلى حال العشق، كما كان جسراً عبره "نور الدين" من الفقر وضيق الحال إلى الثراء والجاه والسلطان، وكان أيضاً وسيلة لفكاك "دنيا زاد"، وتحولها من زوجة لكرم الأصيل القزم القبيح صاحب الملايين إلى زوجة للشاب الوسيم "نور الدين"، الذي التقته في أحلامها، كذلك كان المونولوغ الداخلي وسيلة لاستجلاء الصراعات الداخلية لدى النفس المأزومة بالتأرجح بين الخير والشر"، التي تنتهي بها متحولة من الخير إلى الشر، أو العكس "جعل يسائل نفسه أهو العفريت، أهو المنزول؟ أهو صنعان الجمالي"، ص29، وحتى النزوع الصوفي الذي بدا في غير موضع من النسيج، وبرز على نحو خاص في شخصية "عبدالله البلخي"، وظفه الكاتب لإبراز تيمة التحول، إذ إن جوهر الصوفية قائم على "تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء"، ص221، كذلك وظف التناص لخدمة الفكرة ذاتها، فاستدعى في خروج شهريار من النعيم، نتيجة الفضول والرغبة في المعرفة، قصة خروج آدم من الجنة. وهكذا كان استلهام "محفوظ" عوالم ألف ليلة وليلة وسيلة لتمرير رؤاه حول وجود الإنسان وحاله المتراوحة والمتحولة بين المعصية والتوبة، وطبيعته المجبولة على النقص والخطأ.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب
«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب

الشرق الأوسط

timeمنذ 2 أيام

  • الشرق الأوسط

«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب

تشكل السخرية ملمحاً بارزاً من ملامح ديوان «فوات الأوان» للشاعر محمد أبو زيد، الصادر حديثاً في القاهرة عن «دار ديوان»، حيث تتسع لتشمل رؤيته للعالم والبشر والأشياء من حوله، كما يصل فيها الشاعر إلى حد انتقاد نفسه كشاعر وانتقاد زملائه الشعراء، بل السخرية من فكرة الشعر نفسها. في قصيدة «جد عجوز فاض به الكيل لا يحتمل أحداً» تمتزج السخرية بمحاولة التجريب في الشكل من خلال بداية تبدو هجومية النبرة، قصصية الطابع، تجمع بين الفصحى والعامية الدارجة ينادي فيها «الشاعر - الراوي» على عدد من الشخصيات مستنكراً مواقفهم الحياتية، كما تعيد قراءة التراث العالمي المتمثل في قصتي «السندريلا» و«الشاطر حسن» من منظور مختلف. يقول الشاعر: «هاهاها. والله أنت طفل مسخرة. هل صدقت حكاية الشاطر حسن الذي سيتزوج الأميرة في نهاية القصة؟ وأنت؟ هل فعلاً تعتقدين أن سندريلا لم تتناس الحذاء؟ الأحمق الذي يفكر في المستقبل هناك أخبرني أولاً لماذا ننزلق إلى قاع البالوعة؟ أين عقولكم؟ ماذا تتعلمون في المدرسة؟ أنتِ؟ أليس من الأولى أن تفكري في غسل الصحون المتراكمة في المطبخ؟ وأنتَ لماذا تأخر راتبك حتى الآن؟ هل سيستغنون عنك؟». ويسخر الشاعر من فكرة التجديد في شكل كتابة القصيدة حيث يبدي نوعاً من الحنين للشكل الكلاسيكي العمودي قائلاً: «لا أفهم لماذا يكتب الشعراء قصائدهم بهذه الطريقة! كان السطران مريحين أكثر، أضع رأسي في واحد وأمدد قدمي في الآخر. أتغزل في فتاة لا أعرفها أول القصيدة وأمدح رجلاً لا أعرفه في منتصفها وأملأ جيبي بصرة دنانير وأنا أغلق درفتي دولابها خلفي». وتمتزج السخرية بالمأساة في قصيدة «كم أنت جميل أيها الموت»، فرغم رهبة المقابر، فإنها تتحول هنا إلى مباراة عبثية بين اثنين من «الحانوتية» يتنافسان على أيهما قام بدفن جثة أجمل من الأخرى: «أمام مقبرتين متجاورتين، قال الحانوتي لزميله: جثتي أجمل من جثتك رد الزميل: تؤتؤ جثتي أجمل - لكن جثتي عيناها خضراوان كطحالب بركة آسنة - لجثتي عينان سوداوان كحقل قمح محروق - جثتي شعرها أطول من لسانك.. انظر»، ويستشهد الشاعر في مقدمة ديوانه بكلمة كان قد قالها في ديوانه «سوداء وجميلة»، الصادر 2015، تتعلق بعنوان ديوانه الحالي وحيثيات اختياره له جاء فيها: «أفكر أن أسمي كتابي القادم (فوات الأوان) لكنني لم أحدد هل أضيف في البداية (قبل) أم (بعد)، لكن أياً ما يكون الأمر سأكون قد أطلقت صرختي الأخيرة وأنا راض تماماً. يتحدث ميلان كونديرا على أن الحياة لا تتكرر ويسخر من فكرة نيتشه عن العود الأبدي، لكنني لست بحاجة إليه لأدرك أنني عرفت هذا بعد فوات الأوان، فكل شيء أدركه بعد أن تكون قدمي وصلت إلى الحافة وتأرجح جسدي في الهواء». يشار إلى أن محمد أبو زيد شاعر وصحافي مصري، وهو مؤسِّس ورئيس تحرير «موقع الكتابة الثقافي». ولد بمحافظة سوهاج بصعيد مصر عام 1980، وتخرَّجَ في كلية التجارة بجامعة الأزهر، وعمل بالصحافة أثناء دراسته الجامعية بمكتب صحيفة «الشرق الأوسط» بالقاهرة، ثم بجريدة «التحرير» المصرية. أصدر عدداً من الدواوين الشعرية، منها «قوم جلوس حولهم ماء»، «مديح الغابة»، «طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء». وصدرت له أعمالٌ سردية، منها رواية «أثر النبي»، «عنكبوت في القلب» و«ملحمة رأس الكلب». فازت روايته «ممر طويل يصلح لثلاث جنازات متجاورة» بجائزة يحيى حقي بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر 2003، وفي عام 2005 حصل على جائزة سعاد الصباح في الشعر عن ديوانه «أمطار مرت من هنا».

حبكة روائية سعودية تجمع «سيمون دي بوفوار» و«ديستويفسكي»، و«جورج أورويل» وغازي القصيبي
حبكة روائية سعودية تجمع «سيمون دي بوفوار» و«ديستويفسكي»، و«جورج أورويل» وغازي القصيبي

الشرق الأوسط

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

حبكة روائية سعودية تجمع «سيمون دي بوفوار» و«ديستويفسكي»، و«جورج أورويل» وغازي القصيبي

ماذا تفعل الكاتبة والمفكرة والناشطة السياسية الفرنسية، «سيمون دي بوفوار» في رواية «نمزكان» للسعودي ياسر الغسلان؟ وما الحفلة الباذخة داخل الرواية التي جمعت «فيودور ديستويفسكي»، و«ليو تولستوي»، و«أنطون تشيخوف»، و«مكسيم غوركي»؟ لا يقتصر الأمر على رموز الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ولا حتى الشخصيات الأدبية الأوروبية، أمثال: جورج أورويل، وروايته «1984»... وألبير كامو وروايته «الغريب»، وروايات أخرى من القرن التاسع عشر: «دم وخمر»، و«آنا كارنينا»، و«أقاصيص سيفاستوبول» و«القوازق»... يحضر كذلك الروائيون العرب يحملون أهمّ أعمالهم الروائية: نجيب محفوظ، والطيب الصالح، وحنا مينا، وجمال الغيطاني. من الوهلة الأولى تبدو رواية «نمزكان» للكاتب السعودي ياسر الغسلان، الصادرة عام 2025 عن دار مقام للنشر، وكأنها تُقدم تجربة سردية فريدة تمزج بين الخيال العلمي والفلسفة والأدب الكلاسيكي. تدور أحداث الرواية في عالم يتداخل فيه الواقع بالخيال، حيث يواجه البطل تحديات تتعلق بالهوية والوجود والمعرفة، ومن خلال سرد متعدد الطبقات، يستعرض المؤلف لقاءات البطل مع شخصيات أدبية وتاريخية، حيث ينتقل البطل إلى العالم الأدبي المنتعش في روسيا 1870 ورموز القرن التاسع عشر ليتعرف على ديستويفسكي ويجري معه محاورة تلقي بظلالها على مسار الرواية، كما تنتقل الرواية لتشرك شخصيات من الأدب العالمي من روسيا وأوروبا، مما يُثري النص بتأملات حول الأدب والفكر الإنساني. لا تقف الراوية عند هذا الحدّ، فهي تفتح نافذة تطلّ من خلالها على الشخصيات الأدبية السعودية، وإن كان حضورها جاء بشكل تقريري وأقل تفاعلاً من الشخصيات العالمية: نقرأ على سبيل المثال في (ص 48 - 49): «مرحباً بك سيدة عبير. إليك أسماء أهم الروائيين السعوديين الذين كان لهم أثر واضح على الساحة الأدبية من الناحية النقدية والجماهيرية، وتحديداً خلال العقود الماضية، سأبدأ أولاً بفهد العتيق. ومن بين أهم أعماله: رواية (كائن مؤجل)، و(مسافات للمطر الآتي)، ثانياً، لدينا بدرية البشر، التي من أبرز أعمالها رواية (غراميات شارع الأعشى)، و(تزوَّج سعودية)، و(هند والعسكر). أما ثالثاً فهو عبده خال الذي من أشهر روايته (ترمي بشرر)، و(مدن تأكل العشب)، ورواية (الطين)، كما يجب أن نذكر الروائي يوسف المحيميد الذي كتب روايَتي (لغط موتى)، و(القارورة)، وتُعدَّان من أهم أعماله، ولا يمكن الحديث عن الروائيين السعوديين دون أن نشير بإجلال للدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي الروائي والشاعر والدبلوماسي والوزير الذي ألف العديد من الأعمال الناجحة. نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر رواية (شَقَّة الحرية)، ورواية (العصفورية). هل تودين أن أكمل سيدة عبير؟ سألت العجلة النابضة والملتهبة بألوانها المتراقصة. «نعم، أكمل يا (ناجي الوليد)»، «حسناً سيدتي، لدينا بالإضافة للأسماء التي ذُكِرت كلّ من عبد الحفيظ الشمري وروايته (فيضة الرعد)، ورواية (جرف الخفايا) ورواية (شام... يام)، بالإضافة إلى الروائية رجاء عالم مؤلفة رواية (ستر)، ورواية (خاتم)، ورواية (طوق الحمام)، وكما أنه من المعيب أن ننسى غازي القصيبي فمن العار ألا نذكر عبد الرحمن منيف رغم أن بعض العرب من العراق وسوريا يا سيدتي قد يقولون إنه ابن بلادهم. ولكن على أي حال فإن من أشهر أعمال المنيف خماسية (مدن الملح) ورواية (شرق المتوسط)، وأخيراً نذكر أميمة الخميس التي تمثل روايتي (الوارفة) و(زيارة سجى) أهم أعمالها الروائية، هل تودين أن أكمل وأذكر أسماء أخرى سيدة عبير؟!». سألت العجلة الملتهبة. «شكرًا لك يا (ناجي الوليد). يكفي هذا القدر». تبرز رواية «نمزكان» بوصفها عملاً أدبياً يجمع بين الإبداع والابتكار، تنقل القارئ في رحلة من واقع ملموس إلى عوالم تتجاوز حدود الزمن والمكان، تطرح أسئلة تغوص في بحر من الأفكار والتساؤلات عن الوجود والهوية، ويحاول الكاتب توظيف الأسماء الأدبية التي رسخت في التراث الأدبي الإنساني لكي يتحول الإبداع إلى لغة عالمية توحد بين الماضي والمستقبل، وتمنح القارئ تجربة فريدة تُثري الروح وتُلهم العقل لاستكشاف عوالم الرواية والأدب. ومع الحشد الهائل للشخصيات العالمية التي تطلّ في عوالم الرواية وأجوائها وتتقاطع مع الشخصيات الرئيسية في الرواية ليصنعوا جميعاً حدثاً مشتركاً وحواراً ممتداً من الماضي للحاضر، يتحول الزمان إلى مشهدٍ متقلبٍ تتداخل فيه الحقائق مع الأحلام، وتشكل لغة النص جسراً بين عصور مضت وأحلام لم تتوقف من تكرار ولادتها، مما يجعل كل قراءة رحلة اكتشاف جديدة. وعلى الرغم من أن الرواية تنتمي للواقعية، فإن فيها شيئاً من الخيال والمستقبلية، تأخذ القارئ من عالم إلى عالم آخر غير حسي وغير ملموس. سبق لياسر الغسلان أن أصدر روايتين، الأولى: «الأمارجي»، والثانية: «تزه شا»، كما أصدر عدداً من الكتب في مجال الإعلام. وبسؤالنا للكاتب ياسر الغسلان عن الهدف من إقحام كل هذه الأسماء الأدبية الحقيقية في الرواية؟ قال الروائي السعودي المقيم في الولايات المتحدة، لـ«الشرق الأوسط»: الرواية لم تُقحم هذه الشخصيات، بل استدعتها بوصفها جزءاً من آلية السرد ومختبر التجربة الذي يعيشه البطل. الأسماء الأدبية – من ديستويفسكي إلى أورويل – هي شخصيات حقيقية ولكنها ليست شخصيات واقعية ضمن حبكة واقعية، بل إسقاطات رمزية يُعيد من خلالها (آدم/ البطل الرئيسي) بناء أسئلته عن الأدب، الإبداع، المصير. لكن ما الهدف من كل هذا الحشد للأسماء؟ يقول: الهدف لم يكن استنساخها أو تمجيدها رغم أنها الأسماء التي نفهم من أحداث الرواية أنها تركت في (آدم) أثراً كبيراً بصفته كاتباً وإنساناً يحاول أن يلامس الحدود الخارجية للصندوق، بل كان الهدف هو استخدام تلك الشخصيات مرايا تعكس أفكاراً أكثر تعقيداً حول الرواية العظيمة، وحدود الكاتب، وزمن الكتابة. لكن، ألا يخشى المؤلف عندئذٍ أن تغوص روايته في الواقعية وتخسر الرمزية والخيال؟ يقول الغسلان: الخيال في «نمزكان» ليس خيالاً هارباً من الواقع، بل خيال يستحضر الرموز ليعيد تأمل الواقع عبرها. الروائي السعودي ياسر الغسلان وروايته «نمزكان» وسألنا المؤلف: ألا تخشى أن يتحول كل هذا السرد للأسماء والأحداث الحقيقية داخل الرواية إلى حالة تقريرية؟ ليجيب: لا أخفيك القول إن هذه النقطة تحديداً كانت من أبرز التحديات التي فكرت فيها خلال الكتابة. الرواية تقوم على أرضية «جلسات الذكاء الاصطناعي الأدبي»، وهي بطبيعتها تحفّز الأسلوب الحواري الجدلي، وقد يسهل الانزلاق نحو التقريرية، لكنني حاولت أن أوازن ذلك عبر تفعيل الدراما الداخلية للشخصيات وصراعات المصالح المتشابكة والمتضادة فيما بينها، خصوصاً (آدم) و(غالية) و(عبير) و(أبو خالد). ويضيف: «كل حوار أدبي في الرواية ليس مجرد عرض أفكار، بل صراع بين معتقدات وشكوك وأهداف، بين ما يُراد للكاتب أن يصدقه، وما يكتشفه بنفسه. السرد يتقدم بالمجابهة، لا بالشرح، وهذا ما أظنه قد أبعد الرواية إلى حد مقبول بالنسبة لي على أقل تقدير عن التقريرية السطحية». وحين تحضر شخصيات من الأدب العالمي في فضاء الرواية، فهي تحضر بالصورة والرمزية التي يرسمها المؤلف، وليس بالضرورة صورتها الواقعية، وهنا نسأل الكاتب عن هذه التجربة التي قد تجعل القارئ يشاهد شخصيتين لأديب واحد، شخصية يعرفها، وأخرى تخيّلها المؤلف، وجعلها تعبر عن نفسها بأسلوب جديد... فكان جوابه: نعم أتفق معك في ذلك، لكنني أحب أن أراها بعدّها مغامرة واعية فيها شيء من تحدي الذات وربما أيضاً تحدي القارئ وتحفيزه على التأمل والتفكير في أعمال تلك الأسماء العملاقة، أنا أقبل أن القارئ سيضع أمامه صورتين لأي من هؤلاء: الأديب الذي يعرفه من كُتبه، ونسخته التي تظهر في «نمزكان». ويضيف: لكن الرواية لم تدّع أنها تقدم النسخة «الحقيقية» لهؤلاء، بل تنسج تصوّراً احتمالياً نابعاً من خيال (آدم)، ومن سياق التجربة الذهنية التي يخوضها مع نظام (ناجي) الواعي. بمعنى آخر، الرواية لا تزيف الأديب، بل تُعيد تأمله عبر عيون كاتب مأزوم يبحث عن خلاص. لهذا قد يقول «ديستويفسكي» ما لم يقله، ولكن السؤال الأهم هو: ما كان من الممكن أن يقوله السيد ديستويفسكي لو جُرّ إلى مختبر الأدب المعاصر والذكاء الاصطناعي. هذه المفارقة هي لبّ الرواية. لكن، ما الهامش الذي تتحرك فيه الشخصيات الحقيقية للرواية في ظلّ وجود شخصيات كثيرة وذات حضور طاغٍ؛ ألا يساهم وجود هذه الشخصيات العالمية في تحجيم دور، أو (تقزيم) شخصيات الرواية؟ يقول الغسلان: بالعكس تماماً، هذه الشخصيات العالمية خُلقت لتُواجه شخصيات الرواية الأصلية، لا لتطغى عليها. (آدم) لا ينصهر فيها، بل يواجهها ويتعلم من تموجاتها. شخصية (غالية)، ابنته، تُقدّم بُعداً نقياً ومعاصراً في مقابل هذا الثقل التاريخي، وهي تمثل المستقبل الذي ربما لا يهمه ماضي الأدب بل يخلق مساحته الخاصة. (عبير) تمثل المألوف، الاجتماعي، الواقعي، الانتهازي. في حين أن (ناجي الباطن) يمثل اللاوعي الجمعي والتاريخي، أو فلنقل: الحُلم/ الكابوس الذي يتسلل من تحت جلد الرواية. يضيف: التفاعل بين هذه الشخصيات والأسماء الأدبية لم يُقزّم الأولى، بل كشف عن طبقات أعمق فيهم، وجعل القارئ ينظر إليها ليست بصفتها أدوات روائية بل كائنات تواجه أسئلة وجودية موازية لما واجهه الأدباء الكبار. ويقول الغسلان، في رواية «نمزكان»: «حاولت ألا أجعل الشخصيات مجرد كائنات واقعية تتحرك داخل النص، بل حاولت أن أخلقها لتكون أدوات لكسر الجدار بين الزمن والخيال، بين الواقع وما يجب أن يُقال. لم أسعَ إلى تقديم شخصيات (كاملة) أو نماذج جاهزة، بل شخصيات في حالة بحث، انكسار، طموح، غرور، حلم، انتهاز، مقاومة». ويضيف: «تحوّل كل شخصية من شخصيات الرواية سواء كانت من لحم الرواية أو من لحم الذاكرة الأدبية، هو في ذاته سؤال في هيئة إنسان. لهذا السبب أعتقد أن الرواية لا تُصنّف أو تقولب شخوصها، بل تضعهم في مرآة واحدة، ربما تُربك القارئ أحياناً، لكنها تمنحه في الوقت نفسه فرصة ليصغي إلى ما لم يُكتب بعد». «نمزكان» ليست عن الشخصيات، بل عما تكشفه الشخصيات حين تُجبر على أن تواجه ذاتها، لا كما هي، بل كما يمكن أن تكون.

«الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي
«الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي

الشرق الأوسط

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

«الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي

تتناول رواية «الحب عربة مهترئة»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب الجزائري أحمد طيباوي، تجربة رجل استقر على سرير المرض في إحدى مصحات العلاج. ينطلق السرد من تلك المنطقة المفعمة بالهشاشة الإنسانية ليطرح تأملات إنسانية في الماضي والحاضر، المرض والصحة، الحياة والموت، من خلال قيام الراوي بما يمكن تسميته «كشف حسابه» للعديد من الجوانب التي لم ينتبه لها سابقاً في حياته، فضلاً عن الشخصيات التي عاش معها، في لحظة أقرب إلى جلسة محاكمة شاملة. عبر «لعبة التذكر» يستعيد الراوي علاقة شائكة مع الوالد ومع الزوجة التي هجرته، ويرسم تفاصيل علاقته بالفتاة الوحيدة التي أحبها أملاً في استردادها، كما يتأمل علاقته مع صديقه الوحيد. على هذه الخلفية، يرسم الراوي ثلاثة سيناريوهات متخيلاً الحياة بعد المرض حيث يتلاعب فيها بمصيره ومصير الشخصيات كافة تحت ضغط اللحظة الهشة التي يعيشها. «الحب عربة مهترئة» رواية عن جيل يسميه الكاتب «جيل الاختيارات المحدودة» الذي تسير حياته دائماً وفق الاختيار الوحيد المتاح وضمن «الحتمية» المفروضة عليه. يذكر أن أحمد طيباوي أكاديمي يحاضر في إدارة الأعمال، حصلت روايته «اختفاء السيد لا أحد» على جائزة «نجيب محفوظ» التي تقدمها الجامعة الأميركية، كما فازت روايته «موت ناعم» بجائزة «الطيب صالح» للإبداع الكتابي. ومن أجواء الرواية نقرأ: «كان مستواي لا بأس به في الرياضيات ولم أجد أي صعوبة في سبيل التخرج، رغم أنني أحببت الانتساب لكلية الآداب لولا حكمة الرجل الذي وُلدت ووجدته والدي، حكمة علوية لم أدركها أبداً. تخرجت وعملت أستاذاً في ثانوية بضاحية بائسة من ضواحي العاصمة، بيوت قصديرية وأطفال مشردون... يا له من مجد أراده لي! بدأت حياتي المهنية في حي ابن طلحة، الذي بالكاد تعافى أهله من ذكرى مجزرة فظيعة حدثت في التسعينات، وسمع بها العالم كله وكانت وقتها أقوى إثبات على أن الإنسان هو العدو الأكبر للإنسانية. في البداية حاولت أن أبقي على حماسي في التدريس، وحققت الرضا عن نفسي، وكان بعض تلاميذي نجباء وأسعدوني بنتائجهم ثم سنة بعد سنة انطفأ الحماس وأصابني فتور كبير. الروتين والتكرار واستغراق الأيام في عمل نسخ كربونية عن بعضها البعض، التلقين بدل الفهم وبناء العقول، الشهادة المضمونة للجميع بأوامر عليا والنجاح المزيف، الغش في الامتحانات وسلوك التلاميذ، زملائي الأساتذة وهم يتحدثون عن تأخر راتبهم الشهري، الناس في الشوارع والمقاهي، الحرارة والرطوبة، الذباب الذي يترك آثاره على الأشياء أو يحط على أنفي ليستريح، الاهتمام الغبي للجماهير بكرة القدم، كل شيء أصبح مصدر قلق ويصيبني بالضيق والكآبة. أنا من جيل الاختيارات المحدودة، بل إني حالة خاصة من بين أبناء ذلك الجيل حيث كانت حياتي تسير دائماً وفق الاختيار الوحيد المتاح وهو «الحتمية». لم يكن لتاريخي بدائل ضائعة. كل الآخرين الذين أعرفهم وحتى أولئك الذين لم ألتقِ بهم يوماً وحركوا حياتي من خلف الستار والمدعون أساتذتي وأصحابي، كلهم كانوا أنا، إلا أنا لم أكن نفسي يوماً. الآخرون هم جحيمنا الأبدي».

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store