logo
الحج والرابطة المكانية

الحج والرابطة المكانية

سعورسمنذ 4 ساعات

"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 27)، أحد الأسئلة المهمة هي: لماذا يأتي الناس لنفس المكان؟ وكيف تتشكل الرابطة المكانية؟ التحدي المكاني الذي يقدمه "الحج" كونه يتكرر منذ 3800 عام وفي واد غير ذي زرع، فمنذ رفع النبي إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام قواعد أوّل بيت وضع للناس، والناس تهفو إلى هذا المكان رغم أنه مكان لا زرع فيه ولا ماء إلا ماء زمزم الذي جرى بين يدي النبي إسماعيل وهو رضيع.
كان إبراهيم عليه السلام يعي أنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع لذلك دعا الله بقوله "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم: 37). أساس الارتباط بالمكان أن أفئدة من الناس تتعلق بهذا المكان وتقوم بزيارته في كل حين، وهذا ما حدث، فالحج يمثل أحد أهم مظاهر الارتباط بالمكان المجرّد لأن نظريات "الارتباط المكاني" Place Attachment تتحدث عن "الحافز" الذي يمتلكه المكان ويحرك ذاكرة الناس ليجعلهم يرتبطون به ويكررون الزيارة له، لكن في مكة والمشاعر المقدسة هي الأمكنة البسيطة الخالية من مقومات الحياة التي شكّلت توجها مغايرا لتلك النظريات، فأفئدة الناس تهفو لهذا المكان منذ تلك الدعوة المباركة وظلت مكة محطة للحجاج قبل الإسلام لمدة 2400 سنة، فما هو السر في هذا المكان الذي جعل الناس تتعلّق به وما زالت؟
البعض يرى أنه يصعب تطبيق نظريات الرابطة المكانية على الأماكن المقدسة، وقد كان العرب قبل الإسلام يعرفون أن الكعبة بيت الله رغم مظاهر الشرك التي كان يستعرضونها حول البيت العتيق، فها هو عبدالمطّلب ابن هاشم، جد الرسول صلى الله عليه وسلم، يطلب إبرها الحبشي وجنوده الذي أتوا لهدم الكعبة، أن يردوا له إبله، وعندما سأله الناس عن كيف يسأل من سيهاجم الكعبة أن يرد الإبل ولا يدافع عن الكعبة، قال: "للبيت رب يحميه"، فالتعلق بمكة والمشاعر المقدسة كان كامنا أحيانا وظاهرا أحيانا أخرى، وبعد أن أصبح الحج ركنا من أركان الإسلام، تحولت هذه الرابطة إلى علاقة ذهنية وإيمانية عميقة لدى كل مسلم.
مظاهر الارتباط العاطفي بالمكان تتصاعد في حال الأماكن المقدسة، لأنها نابعة من عاطفة إيمانية، لكن في حال مكة ، مع صعوبة المكان والتحديات الكامنة فيه وصعوبات الوصول إليه، فهو يتطلب قطع الصحاري والتعرض للمهالك، حتى أن كثيرا من الحجاج كانوا يكتبون وصيتهم قبل الذهاب للحج، ومع ذلك كانت هذه الرابطة المكانية تزيد يوما بعد يوم، وكانت وما زالت أفئدة كثير من الناس تهفو إليه حتى أن ملم تتح له الفرصة لزيارة البيت الحرام تدمع عينيه من الشوق إليه. إنها درجة غير مسبوقة من مظاهر الرابطة المكانية المستمرة التي لم تنقطع في يوم منذ الدعوة المباركة لأبينا إبراهيم.
من المعروف أن الرابطة المكانية تشترك مع مفهوم الهوية في توظيف "الذاكرة" لاستعادة الصور الذهنية التي تعزز من مفهوم الانتماء لمكان أو شيء ما.. لذلك الأسئلة الكثيرة حول "هوية مكة" لا أجد لها مبررا، وهذا قد يعارض رأي كثير من المهتمين بالعمارة على وجه الخصوص، فهل مكة هي المكان أم العمارة التي تعبّر عن المكان في مرحلة تاريخية معينة؟ شكّل هذا السؤل منعطفا جدليا منذ فترة طويلة ولا يزال، لكن حسب ما أرى، مكة هي ظاهرة مكانية وليست ظاهرة معمارية، فالمكان هو الذي سيبقى إلى الأبد أما ما يبنى على هذا المكان فهو خاضع لتغير الظروف عبر الزمن. كثير من الذين "ينعون" هوية مكة يرجعون إلى بعض المواقع المقدسة في الديانات الأخرى ويقولون إن هويتها لم تتغير، والحقيقة أن الوضع مختلف كليا، لأن مكة حاضنة لشعائر حية تمارس يوميا وموسميا، وليست مكانا "للمناسبات"، لذلك من يتباكون على بيوت مكة القديمة ورواشينها وبساطة الحياة فيها لا يعون استحالة قدرة المكان على استيعاب الاعداد المتزايدة من الزوار والحجاج. هذا ما يجعل مكة هي "المكان" وليس "الشكل" والصورة المشاهدة. سألني أحدهم في محاضرة قدمتها في جدة عن هوية مكة وهل تغيرت؟ فقلت له: اسأل نفسك هل ارتباطك بمكة تغير لأن عمارتها التاريخية تغيّرت؟ لن أذكر إجابة الرجل لأني اعتقد أن أغلب القرّاء يعرفونها.
الحج ظاهرة مكانية، فالمشاعر وتسلسل شعائر الحج المرتبطة بالمكان هي سلسلة من الأفعال التي تستعيد، كل عام، القيمة الكامنة في كل مكان من تلك الأمكنة المقدّسة.. المدهش في الأمر أن التحدي الذي تواجهه نظريات الرابطة المكانية تبلغ أقصاها في هذه الأمكنة التي لا تحتوي على ذاكرة بصرية صريحة فهي أماكن جرداء تحيط ببعضها جبال سوداء، ومع ذلك تختزن ذاكرة بشرية ضخمة وتدور حولها حكايات لا تنتهي. دون شك، لا يوجد أي نظرية مكانية لا يشكل الإنسان محورها الأساسي، فهو الذي يجعل لها قيمة. في اعتقادي أن مكة والمشاعر المقدسة يشكّلان مفهوما مغايرا للمفهوم السائد حول التعلّق بالمكان، ومع ذلك فإن الله ذكر أن هذا التعلّق لا يخلو من المنافع والتجارة، فكل لقاء يجمع الناس، تولد من خلاله فكرة "المنافع" التي ذكرها الله في القرآن وجعلها رديفة للتعلق بالمكان.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حرائق الغابات عرض أم مرض
حرائق الغابات عرض أم مرض

صحيفة مكة

timeمنذ 3 ساعات

  • صحيفة مكة

حرائق الغابات عرض أم مرض

اندلعت الأسبوع الماضي عدة حرائق في أماكن مختلفة وفي أوقات متتابعة، استمر بعضها لعدة أيام، ولله الحمد أخمدت بعد جهود مضنية من الدفاع المدني، نظرا لوعورة التضاريس وانكشاف المنطقة وكثرة الوقود من حشائش وشجيرات وأشجار سريعة الاشتعال ونشاط الرياح وغيرها من الأسباب. لن أخوض في سبب أو أسباب الحرائق فلم تعلن نتائج التحقيقات، ولا نعلم أهي عرضية أم مفتعلة، ولكن سأتحدث عن حرائق الغابات لدينا بشكل عام سواء من ناحيتي الوقاية والحماية، فالوقاية هي منع نشوب الحرائق بمنع أسبابها، والحماية هي مكافحة الحرائق بعد نشوبها. والحريق بشكل عام يعتبر عرضا لمرض من أسبابه الجهل والإهمال. تكاد تكون مملكتنا الحبيبة قليلة الغطاء النباتي وخصوصا الغابات لطبيعتها الصحراوية، وتكاد تنحصر الغابات في سلسلة جبال السروات، وهي فقيرة بيئيا لأسباب منها الجفاف والزحف العمراني، لذلك فالمحافظة على هذا الكنز الأخضر يعتبر مطلبا وطنيا، وهو الأمر الذي دعا وزارة البيئة لسن قوانين تمنع الرعي والاحتطاب، وقد لمسنا له جانبا إيجابيا يتحدث عن نفسه، وجانبا آخر سلبيا حيث انتشرت بكثافة في تلك الغابات الحشائش والأشجار اليابسة التي تشكل بيئة خصبة للحرائق. ولذا ينبغي على وزارة البيئة إعادة النظر في قانون منع الرعي والاحتطاب، بحيث تراعي فيه مواسم للرعي، حيث تقوم المواشي بتناول الأعشاب مما يساهم في تقليلها، وأما من حيث الاحتطاب فيمكن أن تقوم الوزارة بتكليف متعهدين مختصين بإزالة الأشجار والفروع اليابسة التي تنتشر في الغابات أو تلك التي جرفتها السيول وألقت بها في بطون الشعاب والأودية، وهذا يمكن أن يسهم في تحقيق إيرادات للوزارة إضافة لأثره الإيجابي على البيئة، وفي الوقت نفسه يجب التنسيق مع الجامعات ومراكز الأبحاث في إعادة تأهيل وتوفير بدائل لما يتم قلعه. ومن ناحية أخرى يجب تكثيف الدور الرقابي للوزارة، فالدوريات السيارة لا تكفي ما لم تدعم بدوريات راجلة، وكذلك عن طريق استخدام التقنية الحديثة سواء بطائرات الدرون أو عن طريق الأقمار الصناعية. هذا من ناحية الوقاية، أما من ناحية الحماية فالدفاع المدني بحاجة إلى تأهيل فرق متخصصة في حرائق الغابات والمناطق المفتوحة والوعرة، فالتعامل مع هذه الحرائق من أصعب ما تواجهه فرق الإطفاء حتى في أكثر الدول تقدما، ويجب تأهيل هذه الفرق من حيث التدريب وتوفير الآلات والتقنيات الحديثة المخصصة لحرائق الغابات والمناطق المفتوحة والوعرة. كما يمكن استخدام هذه الفرق للمشاركة في الدول الأخرى التي تنشب بها حرائق الغابات لاكتساب المزيد من المهارات والخبرات. وبالنسبة للاستعانة بالمتطوعين كما رأيت في هذه الحرائق فللأسف الشديد كانت تجربة غير ناجحة لعدة أسباب أهمها العشوائية، فكثير حاول التطوع للمساهمة، ولكن بصورة بدائية تفتقر للفحص الطبي واللياقة البدنية فضلا عن توفر الملابس الواقية والتدريب والتأهيل. ومن هذا المنبر يمكن توجيه الدعوة للدفاع المدني بتكثيف برامج التطوع واختيار المتطوعين من المؤهلين صحيا وبدنيا وإلحاقهم ببرامج دورية متخصصة في حرائق الغابات، وربما لا يخفى عليكم أن هناك محطات إطفاء الحريق في بعض الدول المتقدمة يتم تشغيلها بالكامل من قبل المتطوعين. كما يجب على الدفاع المدني عمل خطط افتراضية لحرائق الغابات والمواقع الوعرة بشكل دوري، بحيث يتم في هذه الفرضيات قياس مستوى التدريب والتنسيق، والمعدات، ومركز القيادة والسيطرة. في الختام، نحمد الله أن هذه الحرائق لم ينجم عنها خسائر في الأرواح، ولكن الخسائر الفادحة كانت تلك الأشجار النادرة والمعمرة وتلك الموائل الطبيعية لكثير من الكائنات الحية والتي نحتاج إلى عقود من الزمن لتأهيلها وتعويضها، نسأل الله أن يحمي بلادنا من كل سوء. raheenalzain@

فرحة حاجة طلبت من زوجها أن يكون مهرها تأدية الحج.. فيديو
فرحة حاجة طلبت من زوجها أن يكون مهرها تأدية الحج.. فيديو

صدى الالكترونية

timeمنذ 3 ساعات

  • صدى الالكترونية

فرحة حاجة طلبت من زوجها أن يكون مهرها تأدية الحج.. فيديو

أبدت سيدة سورية فرحتها بعدما قدم لها زوجها مهرها الذي كانت تتمناه وهو السماح لها بتأدية فريضة الحج. وقال الزوج إن زوجته لم تطلب مهر وإنما طلبت منه أن يكون مهرها هو الحج في بيت الله الحرام، وذلك بحسب ما ذكره بقناة العربية. من جهتها، عبرت الحاجة عن سعادتها بالقدوم إلى مكة لأداء مناسك الحج، مشيرة إلى أنها ولدت في مكة المكرمة لكنها عاشت في سوريا. وأبدى الثنائي فرحتهما بالقدوم إلى المملكة مقدمين الشكر إلى القيادة الرشيدة على ما تم تقديمه لخدمة الحجاج.

"السعودية للكهرباء": ثاني أيام عيد الأضحى يسجل أحمالًا بلغت (358) ميجاوات في مشعر منى
"السعودية للكهرباء": ثاني أيام عيد الأضحى يسجل أحمالًا بلغت (358) ميجاوات في مشعر منى

غرب الإخبارية

timeمنذ 3 ساعات

  • غرب الإخبارية

"السعودية للكهرباء": ثاني أيام عيد الأضحى يسجل أحمالًا بلغت (358) ميجاوات في مشعر منى

المصدر - واس أعلنت الشركة السعودية للكهرباء عن تسجيل أحمال كهربائية تاريخية بلغت (358) ميجاوات، في ثاني أيام عيد الأضحى بمشعر منى، بزيادة تُقدّر بـ(4%) مقارنة بالعام الماضي، مؤكدةً جاهزية فرقها الفنية ومتابعتها الدقيقة لأداء الشبكة على مدار الساعة، ولم تُسجَّل أي انقطاعات أثّرت على الخدمة. وأوضحت "السعودية للكهرباء" أن لديها قدرات كهربائية احتياطية كافية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، تُمكّنها من تقديم خدمة كهربائية عالية الكفاءة والاستمرارية، بما يضمن راحة حجاج بيت الله الحرام، مشيرةً إلى أن الخطة التشغيلية تسير وفق ما هو مخطط لها. وبيّنت الشركة أن تنفيذ الخطة التشغيلية لموسم حج هذا العام يشارك فيه أكثر من (2,200) مهندس وفني، من خلال (57) مركز انطلاق موزعة في المنطقة المركزية ومناطق إسكان الحجاج بالمشاعر، بما يضمن استدامة الخدمة الكهربائية خلال الموسم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store