
أسباب استمساك الموريسكيين بالخميادية
وما فتئ الموريسكيون، رُحَلُ القلوب والديار، يتشبثون بلسانٍ وإن غيّبته السنون، ألا وهو اللسان العربي، حتى إذا حالت الأقدارُ دون نُطقه علانيةً، أو كُتِبَ بالحرف البيّن، لجأوا إلى وسيلةٍ أخرى تُخفي ولا تُفنِي، تُداري ولا تُجافي، فأبدعوا ما يُسمّى بـ»الخميادية»، يكتبون بها أعزّ ما تبقّى من دينهم وتراثهم، بالحرف العربي واللفظ الأعجمي، عساهم يَسْلمون ويُسلمون.
فأول ما دعاهم إلى هذا الصنيع، ما نالهم من اضطهادٍ شديد، وسلبٍ للهوية، حتى صار الحديثُ بالعربية جرمًا، والكتابة بها مأثمًا، يعاقب عليه قضاة محاكم التفتيش بألوان العذاب، وما كان لِمُسلمٍ أن يُظهر لغته إلا خفيةً بين السطور، يُشبهون بذلك جذور الزيتون، دفينةً في التراب، حيّةً لا تموت.
وإنك لو تأملت في إصرارهم على الحرف العربي، لوقعت على تمرد خفيّ، وصوتٍ لا يُسمَع ولكن يُفهم، يقول: «ما زلنا نحن، وإن سُلبنا كل شيء»، ولعلهم بهذا أرادوا التعلّق بما بقي لهم من الإسلام، لا سيّما لغة القرآن، التي بها نزل الوحي، وبها قُدّست الشريعة، وبها أشرق مجد الأندلس.
وقد أشار إلى هذا المعنى أنخل جنثالث بالنثيا، في تاريخه لفكر الأندلس، إذ قال: «لم يهجروا حروف العرب أبدًا، بل ظلوا بها يخطّون ما تبقّى لهم من علوم الإسلام، ليَحْفَظوا بها إيمانهم، وليُضلّوا عنهم أعين المتربصين»، وكان في ذلك نوع من المقاومة، لا تُرى بالسلاح، ولكن تُرى بالقلم.
وكان مجمع قضاة الإيمان الكاثوليكي لا يُغفل عن مراقبة هذه الأوراق، وكان فيهم من يجيد العربية ويكشف المكتوب، فإن وجدوا نصًا بحروف عربية، ولكن بمضامين أعجمية، عُوقب صاحبه، وإن وُجدت النصوص عربية لفظًا ومعنىً، كان العقاب أدهى وأمرّ.
وأما الموريسكيون، فكانوا وإن جهلوا كثيرًا من دقائق التاريخ ومعارف الفقه، فإنهم احتفظوا بجوهر الثقافة الإسلامية، يخطّون أخبار الأنبياء، وأحاديث الرسول، وأخبار الفاروق وعلي والزهراء - عليهم رضوان الله -، ويستبشرون بقصص الجنة والنار، والمعراج والقيامة، وكأنهم يضمدون بها جراحاتهم اليومية.
وقد شمل الأدب الخميادي كل ما يخصهم، من شؤون الروح والجسد، من أحلام وهواجس، من عادات في العيد، وفي الدفن، وفي المواليد، وكانوا يستحضرون في كتاباتهم كل ما يعين على الثبات في المحنة، ويبعث الرجاء في الفرج.
ومن النصوص ما تضمن المجادلات بين مسلم ويهودي، أو بين مسلم ونصراني، في العقيدة وأصول الدين، ومنها ما تضمّن تمجيدًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وقصصًا عن بدر وحنين، ومنها ما كان فيه تخييل لطيف، أو تنبؤ بمصير إسبانيا، أو وصف لأدوية وأسقام.
ومن ينظر في هذه النصوص، يُدرك أنها ليست دينًا جامدًا، بل دينٌ حيّ، يتناول الدنيا والآخرة، العبادات والمعاملات، الروح والمادة، وكان ذلك التعبير، صورة لصراعٍ دائم بين حفظ العقيدة والنجاة في الدنيا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض، ضاقت معها الحيلة، وكان المصير فشلًا في الظاهر، ولكن في الباطن نصرٌ محفوظ في الحروف، وذكرٌ لا يُمحى.
فما أعظم أولئك الذين كتبوا بالدمع والحبر، وصبروا على الظلم دون أن يُسلِموا قلوبهم، وأبَوا إلا أن تكون الخميادية صدىً خافتًا من مجدٍ عظيم، لم يخبُ نوره بعدُ.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

عمون
منذ 2 ساعات
- عمون
الفاضلة مها احمد مهيار في ذمة الله
بسم الله الرحمن الرحيم "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم عمون - انتقلت الى رحمته تعالى السيدة الفاضلة"مها احمد جميل مهيار" ارملة "محمد مروان العناسوة" والدة احمد وامجد وهبة وربى وسيشيع جثمانها الطاهر من مسجد مقبرة"ال مهيار"في ام الحيران بعد صلاة العصر اليوم إلى مقبرتها إنا لله وإنا إليه راجعون..


الشاهين
منذ 2 ساعات
- الشاهين
الزعبي ينعى والدة الدكتور شكري منصور
الشاهين الإخباري بسم الله الرحمن الرحيم، (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )). ينعى الأستاذ الدكتور خالد ناصر الزعبي بمزيد من الحزن والأسى وفاة المرحومة بإذن الله تعالى عائشة سليمان ابو شيخة والدة الاخ والصديق الدكتور شكري عبدالفتاح منصور. سائلا الله عز وجل ان يتغمد الفقيده بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته ويلهم اهلها وذويها جميل الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون

عمون
منذ 5 ساعات
- عمون
الحاج عبد الحميد الرحاحله (أبو أيمن) في ذمة الله
بسم الله الرحمن الرحيم "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم عمون - انتقل الى رحمته تعالى الحاج عبدالحميد راشد سمور الرحاحله ( أبو أيمن ) وسيشيّع جثمانه الطاهر ظهر اليوم الجمعة من مسجد المرحوم الحاج عبدالرحيم مهيار في أم خروبة إلى مقبرة العائلة في أم خروبة وتقبل التعازي والمواساة في ديوان عشيرة الرحاحلة ، اليوم الجمعة، وغدا السبت بعد صلاة العصر إنّا لله وإنّا إليه رَاجعون..