
سيف وانلى.. فنان الإسكندرية وروحهـا وصانع «مرايا» نجيب محفوظ
سيد درويش الرسم وعازف الألوان «18» أسس مع شقيقه «أدهم» أهم مدرسة فنية فى مدينة الإسكندرية جندى استرالى ورسام إيطالى غيرا مسار حياته وصفه بيكار بأنه لوحة من نور.. وقال عنه مختار: اتركوه إنه يعرف طريقه
سمعت اسم "سيف وانلى" لأول مرة من أستاذى الناقد الكبير رجاء النقاش، وجاء فى سياق قصة سمعتها منه مرات بصيغ مختلفة، لكن فى كل مرة كان الاسم المميز قادرا على أن يستوقفنى ويجذبنى، أما القصة الأصلية فكانت تخص نجيب محفوظ وكيف حصل منه رجاء على مسودة روايته الشهيرة "المرايا"، وكيف انفرد بنشرها على حلقات مسلسلة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون بعدما تولى رئاسة تحريرها فى ربيع العام 1971.
كانت "الأهرام" قد اعتذرت عن نشر الرواية، وبحكم صداقة وعلاقة إنسانية وطيدة مع النقاش وافق نجيب محفوظ على أن ينشرها فى المجلة، وعلى سبيل التقدير لتلك الموافقة الكريمة منحه رجاء مكافأة تساوى ما كان يمنحها له هيكل فى الأهرام، وهى ألف جنيه، وكان مبلغا فلكيا بحسابات تلك الأيام، واقتضى الأمر أن يحصل على موافقة وزير الإعلام يومها السيد محمد فائق على صرف هذا المبلغ الاستثنائى..
وفكّر رجاء فى أن يحتفى أدبيا برواية نجيب محفوظ كما احتفى بصاحبها ماليا، وهنا لم يجد أجمل من لوحات سيف وانلى لتجاور إبداع نجيب محفوظ وتزين حلقات "المرايا" وتمنحها هذا الألق البصرى الساحر..
وأعود هنا إلى ما كتبه رجاء النقاش عن سيف وانلى وقيمته وسر اختيار لوحاته بالذات لتلك المهمة الصحفية الاستثنائية، وبنص كلماته:
"وكنت قد تعرفت قبل ذلك بفترة قصيرة إلى الرسام الإسكندرانى العالمى الكبير سيف وانلى، فخطرت لى فكرة نشر رواية "المرايا" مصحوبة بلوحات مستوحاة منها لسيف وانلى، وعرضت الفكرة على سيف فسعد بها جدا وتحمس حماسا شديدا لها، وبالفعل نشرت الرواية مع لوحات سيف التى تقترب من ستين لوحة، وكانت من أبدع ما أنجزته عبقرية سيف وانلى من أعمال فنية، وتمثل هذه اللوحات الآن تراثا فنيا ثمينا مستوحى من رواية "المرايا"، وتصلح هذه اللوحات لمعرض فنى كامل ونادر، ولكن سيف رحل عن عالمنا ولم يعد هناك من يهتم بأعماله اهتماما لائقا".
وظل سيف يُرسل من الإسكندرية لوحاته المستوحاة عن الرواية، يُرسل كل 4 حلقات معا فور أن ينتهى من رسمها، وظل يواصل هذا الجهد الفذ الذى وصل إلى 60 لوحة كانت بمثابة ترجمة بصرية موازية لرواية نجيب محفوظ..
حينها تقافزت أمامى التساؤلات: من يكون هذا الرسام السكندرى صاحب الاسم اللافت الذى اختار رجاء النقاش لوحاته لتضىء مرايا نجيب محفوظ، ورأى أنها – اللوحات – تستحق أن يقيم لها معرضا فنيا يليق بروعتها؟!
وفى سيرة المثّال المصرى الفذ محمود مختار وقفت عند تلك الواقعة المدهشة، حين ذهب صاحب تحفة "نهضة مصر" لزيارة جمعية هواة الفنون، ولفت نظره ذلك الشاب الذى يجلس فى ركن بعيد ذاهلا عن ما حوله، يرسل بصره إلى حيث يجلس رجل عجوز ويرسم ملامحه على لوحة أمامه، واقترب محمود مختار من الرسام الشاب الذى لم يلحظه وظل مندمجا فى رسمه، وتأمل محمود مختار الرسم ودقته وروعته، فبانت علامات الإعجاب على محياه، وربت على كتف الشاب الذى لم يشعر بيده ولا بالواقف على رأسه، وجاء أصدقاء مختار ليشاركوه الإعجاب، فهمس لهم: إنه يملك موهبة حقيقية.. وأرجو ألا يفسدها أحد عليه.. اتركوه.. إنه يعرف طريقه"..
وتجدد السؤال: من يكون ذلك الشاب الذى شهد له محمود مختار بالنبوغ والموهبة وطلب أن يتركوه ليشق طريقه بنفسه؟
ثم حدث بعدها أن وقع فى يدى ذلك الكتاب الصغير بالغ القيمة الذى كتبه الفنان العظيم بيكار، وقدم فيه صفحات من سيرة باقة من نوابغ الرسامين، وكان من بينهم سيف وانلى، ولك أن تعرف أنه وضعه جنبا إلى جنب مع عباقرة عالميين فى قيمة رامبرانت وفان جوخ ورينوار وبيكاسو ومودليانى وكلود مونييه، ومصريين فى مقام محمود سعيد ومحمود مختار والسجينى..
وفى "لكل فنان قصة" استوقفتنى تلك الصلة المدهشة التى عقدها بيكار بين سيد درويش وسيف وانلى، وصاغها بأسلوبه الذى لا يقل عذوبة وشاعرية وبلاغة عن رسوماته، فكتب:
"لقد غنت مصر كلها ألحان ابن الإسكندرية سيد درويش، وتكحلت عيون مصر كلها بألوان ابن الإسكندرية سيف وانلى، كلاهما خالد فى تاريخ مصر ووجدان مصر، وكلاهما ترك بصماته غائرة فى ضمير مصر".
ومن جديد قفز السؤال: من يكون هذا الرسام الذى اعتبره بيكار سيد درويش الرسم؟!
(1)
الحق أن الكلام عن سيف وانلى يبدو ناقصا ومنقوصا إذا لم يرتبط بإنسان ومكان، فإذا ما جاءت سيرته فإنها تستدعيهما فورا وتلقائيا، أما الإنسان فهو توأمه الفنى أدهم وانلى، شقيقه الذى يصغره بعامين، وشكلا معا تجربة خاصة ومتفردة عنوانها الأخوان وانلى.. وأما المكان فهو الإسكندرية، مدينة الميلاد والنشأة والإلهام والسحر..
ولابد أن بيكار كان يقصد ويدرك عمق هذه العلاقة المتشابكة وهو يكتب عن سيف وانلى ويصف تجربته بتلك السطور البليغة:
"سيف.. لوحة من نور، نموذج رائع من العصامية والإصرار وبناء الذات، مدرسته الحياة وجامعته التجربة الشخصية، ومعلمه العطاء الإنسانى كله، وفلسفته العمل فى صمت وتواضع شديد، موقعه ساحل الإسكندرية، لفظه البحر كقطعة من الاسفنج كثير المسام تمتص وتفرز بلا توقف، تربع فوق القمة صعودا من القاع هو وشقيقه فى الدم والفن أدهم وانلى، وكان تسلق الجبل شاقا وقاتلا، ولكن الحب كان أقوى من العرق والنزيف والأنفاس اللاهثة، وعاش الأخوان راهبين فى صومعة فينوس إلهة الجمال.. وبدأ الأخوان رحلة الفن معا.. كانا قطعة نابضة من الإسكندرية، وكان مرسمهما أحد معالمها الثقافية التى لا تخلو من الزوار والأصدقاء والمريدين بالليل والنهار.. كونا معا مدرسة الإسكندرية الحديثة وكان لهما حواريون كثيرون"..
كل الطرق تؤدى إذًا إلى الإسكندرية، مكان الميلاد والنشأة والحلم، مدينة السحر وحاضرة البحر المفتوحة على كل الحضارات والثقافات الحاضنة لتراث الإنسانية، تلك اللوحة الحية بتكوينها البديع من البحر وأمواجه وفناره، والصيادين ومراكبهم وشباكهم، وحواريها وناسها من كل الأجناس والألسنة، وسحرها الخفى وجوها البديع القادر دوما على صناعة الإبداع والمبدعين..
سيف وانلى هو ابن تلك المدينة المفتوحة الحية باذخة السحر صانعة الإبداع، وواحد من أبرز تجلياتها ، فقد كان خليطا من تنوعها الثقافى والحضارى..
ولد محمد سيف الدين وانلى فى حى محرم بك بالإسكندرية مع ميلاد موسم الربيع: 31 مارس 1906، فى عائلة تعبر عن مجتمع المدينة "الكوزموبوليتانى"، حيث تنحدر أصول والده من منطقة بحر قزوين، بل إن اسم الأسرة "وانلى" هو نفسه اسم جزيرة فى تلك المنطقة البعيدة بوسط آسيا..
هو إذن ابن عائلة أرستقراطية ذات حسب ونسب وثراء، كان والده إسماعيل وانلى يحمل رتبة البكوية، وجده لأبيه محمد وانلى يحمل رتبة "السنجق" التركية، فى حين تنحدر أصول عائلة أمه عصمت هانم من أعرق العائلات المغولية فى بلاد داغستان.
ورزقت الأسرة بابنها سيف بعد 4 بنات، لذلك كانت حفاوة استقباله عندما بشرت بقدومه الداية التركية صالحة أفندى، وتزينت سراى عرفان باشا بحى محرم بك التى تسكنها الأسرة ابتهاجا بميلاد أول الأبناء الذكور.. وهو ما تكرر بعدها بعامين عندما جاء الابن الثانى "إبراهيم أدهم" إلى الدنيا بعد عامين وتحديدا فى 25 فبراير عام 1908.
ولد سيف وانلى فى قصر باذخ الثراء، تحيطه حديقة غنّاء، وتميزه تلك المكتبة العامرة بالكتب والأسطوانات واللوحات المرسومة بالخط الفارسى والرسومات التركية، فقد كانت الأسرة إلى الثقافة التركية أقرب..
وعلى عادة العائلات التركية الأرستقراطية جاءت لأولادها بمدرسين إلى السراى، يعلمونهم الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب والدين وشيئا من الثقافة والفن، ومن بين كل المدرسين الذين توافدوا على سراى عرفان باشا تعلق سيف وأدهم بُمدرستهما الفرنسية مدام "إيدول" مدرسة اللغة الفرنسية، ليس حبا فى الفرنسية بقدر ما كانت نافذتهما على تلك الدنيا المسحورة، دنيا الرسم والفنون، إذ وجهت اهتمامهما للمتاحف والرسم وأشهر اللوحات الفرنسية..
(2)
أما كيف تفجرت موهبة سيف وانلى، وكيف بدأ شغفه بالرسم والألوان، فكل الدلائل والشواهد تقول إنها بدأت من بحر الإسكندرية، حيث وقع الطفل الصغير فى غرام البحر منذ أن تفتحت عيناه وإدراكه وصار يُسمح له بالذهاب إليه منفردا، فيجلس أمامه غارقا فى صمته يتأمل أمواجه وصخبه وصوته وألوانه، مسحورا بمنظر النوارس ومراكب الصيادين وشباكهم وأسماكهم، ويزداد شغفه فى الشتاء وهو يتأمل السحب التى تركض كالخيول وتهطل على البحر، سكنته تلك اللوحات، ولما تمكن من الإمساك بالورقة والقلم راح يرسم ما رآه وسحره.. وإذا لم يجد أوراقا فإن نشوة الرسم كانت تستبد به فيرسم على جدران البيت!
هو نفسه – سيف وانلى- يحكى عن تلك البدايات ويتذكرها بوضوح:
"بدأت هواية الرسم عندى من الصغر، ذلك الفن الجميل الذى عشقته أنا وأخى أدهم، وكنت أرسم على الجدران والأبواب والشبابيك، وكنت أنا وأخى نتأمل تلك اللوحات الكبيرة الموجودة بمنزلنا وهى غالبا لفنانين من عصر النهضة ينتمون لمدرسة نابولى وفلورنسا، وكان والدنا يخشى أن يشغلنا الفن عن الدراسة ولكن والدتنا كانت تساعدنا كثيرا، ويرجع الفضل لها فيما وصلنا إليه"..
إلى أن كانت تلك الواقعة الفارقة التى كان شط الإسكندرية شاهدا عليها، يومها كان سيف على مشارف سن المراهقة، وكعادته ذهب إلى صديقه البحر متأملا ومستمتعا، ولفت شقيقه أدهم نظره إلى فنان شاب يجلس على مقربة منهما مستغرقا فى رسم لوحة لمنظر الصيادين وهم يرمون شباكهم بمهارة، وراح الشقيقان يتابعانه فى فضول إلى أن انتهى من لوحته، اقتربا منه وتأملاها وأذهلتهما روعتها ودقتها وألوانها، وعرفا منه أنه فنان استرالى ومن جنود الكتيبة الأسترالية التى انضمت للجيش البريطانى فى مصر، وأنه فى الأصل رسام وجاء معه بأدوات الرسم، ولأول مرة يتعرف الشقيقان على ألوان الزيت، وأهداهما الرسام الاسترالى ما تبقى معه من تلك الألوان الأصلية البديعة، لتكون هى البداية الحقيقية من مرحلة التصوير الزيتى..
لحظة فارقة كان بحر الإسكندرية حاضرا فيها، ليستمر حضوره طاغيا فى مسيرة وتجربة سيف وانلى.. إلى الحد الذى جعل كثيرين يمنحونه لقب فنان الإسكندرية مثلما فعل الناقد الكبير د. نعيم عطية عندما كتب عن علاقة سيف مع الإسكندرية وبحرها:
"إذا ذُكر البحر فى التصوير المصرى الحديث فليس من هو أحق بالكلام عن عطائه فى هذا المقام بعد محمود سعيد أكثر من سيف وانلى الذى لم يكتف بأن يستعير فى ألوانه الصفاء والشفافية من بحر الإسكندرية، بل كان أيضا مثل منارها وسُفنها الغادية الراسخة، ما يستحقه عن جدارة لقب "فنان الإسكندرية"، وعندما نصفه بذلك نكون قد لمسنا ركنا جوهريا فى شخصيته وفهمنا علة ذلك التجدد والتنوع فى إنتاجه. سيف وانلى كالإسكندرية بلده المنفتح على حضارات العالم، كل النسمات والرياح تهب على الإسكندرية، جو الإسكندرية ذاته مشبع فى شكل أسطورى بتنوع فكرى متميز. لو كان سيف وانلى فنانا يعيش فى مدينة أخرى من مدن مصر لما بدا فنه فى هذه الصورة التى بدا عليها، فقد تجاوبت لا محلية الإسكندرية جغرافيا وتاريخيا بمزاج سيف وانلى الذى لا يهدأ له قرار".
المعنى الذى أكده صديقه الموسيقار مدحت عاصم حينما قال:
"إن أسعد أيام سيف هى التى كان يقضيها أمام البحر يسمع منه أنغامًا لم يكن يسمعها سواه وكان يقول: أنا موسيقى أيضًا أعزف الألوان على سطح اللوحات البيضاء".
وسبقهما إليه بيكار:
"ينبغى ألا ننسى أن سيف ابن الإسكندرية المفتوحة، وهذا هو سر ما نراه فى إنتاجه من ثراء وتعدد النوعيات التى هى من معطيات مزاج تجريبى يرفض الرتابة، لا بدافع الملل وإنما رغبة فى الكشف عن آفاق جديدة".
وصدّق سيف وانلى على الجميع عندما اعترف بأن بحر الإسكندرية كان معلمه الأول ومصدر إلهامه الكبير:
"ملك هو البحر. أشعر وأنا على ظهر مركب أننى فى حضرة ملك.. وأى ملك.. عينى لم تعد تراه.. لأنه داخلنى وملأنى فغرقت فيه.. علمنى الألوان كلها ونسماته فى لوحاتى".
(3)
مارس سيف وانلى الرسم على سبيل المتعة والهواية، إنه يعشق الرسم لذاته ويجد فيه لذته ومتعته، بدليل أن أول أجر تقاضاه عن لوحة له كان مقابلا عينيا لا نقديا، فقد حدث أن انضم سيف إلى أحد الأندية الرياضية بالإسكندرية المهتمة برياضة الملاكمة التى يحبها شقيقه أدهم، كان ذلك فى فترة المراهقة، وكان سيف يستغل وقته فى النادى فى ممارسة هوايته المحببة، وذات مرة لاحظ المدير الإنجليزى للنادى رسومات سيف وأدهم، وكان من بينها لوحة لبطل الملاكمة الإنجليزى المعروف حينها "جيوكيت"، ولمعت فى ذهن المدير فكرة، فكلفهما بتجهيز رسومات عن عدد من نجوم الرياضة العالميين ليعلقها على جدران وحوائط النادى، وبالفعل أنجز سيف وأدهم المهمة فى وقت قياسى وببراعة، وعلى سبيل المكافأة والتقدير أهدى المدير لكل واحد منهما ساعة يد ثمينة.. وكانت تلك الساعة هى أول أجر يحصل عليه سيف من ريشته.
لم يكتف سيف وانلى بالموهبة وحدها؛ فخطط لأن يدرس الفن دراسة أكاديمية ليتعلم الرسم على أصوله ومن أساتذته ومدارسه، وهو ما تأكد له عندما زار مع شقيقه القاهرة فى عام 1926، لحضور معرض جماعة الخيال التى أسسها محمود مختار، مثّال مصر العظيم، وشاهدا مستوى أعمال الفنانين الكبار، فعادا إلى الإسكندرية وكلهما إصرار على دراسة الفن دراسة جادة..
لكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد تعرضت الأسرة لأزمة مالية طاحنة اضطرتها لأن تغادر قصرها الفخم بمحرم بك، وتتنازل عن ترف الحياة والخدم والحشم ورغد العيش، وتنتقل للإقامة ببيت متواضع فى حى شعبى بالقرب من ترعة المحمودية، وتسببت هذه الأزمة الاقتصادية فى تغيير جذرى فى حياة الأخوين وانلى، فتعطلت مسيرتهما الدراسية العليا، واضطرا للنزول إلى سوق العمل لتدبير احتياجات الأسرة ونفقاتها المعيشية، فعمل سيف موظفا بأرشيف جمارك الإسكندرية، والتحق أدهم موظفا بمخازن الكتب التابعة للمنطقة التعليمية بالإسكندرية.. ولكن بقى حلم دراسة الفن يراود الأخوين وانلى.
فى ذلك الزمان كان الأمير يوسف كمال قد افتتح مدرسة الفنون الجميلة على نفقته الخاصة فى العام 1908، ولما كان مقر المدرسة بالقاهرة فقد تعذر سفر الأخوين بعيدا عن الإسكندرية، وبقى الأمل معلقا فى واحد من تلك المراسم التى بدأت تزدهر بالإسكندرية، ويديرها فنانون أجانب من المقيمين بها، وكان أشهرها ثلاثة:
- مرسم الفنان الإيطالى "ارتور زائيري"، الذى درس على يديه الفنان السكندرى البارز محمود سعيد عام 1915.
- مرسم الفنانة اليونانية "مدام كرافيا" وكان مقصدا لبنات العائلات بالإسكندرية من محبات وهاويات فنون الرسم.
- مرسم الفنان المجرى "جول بلنت" الذى افتتحه بعد الحــرب العــالميــة الأولـــى الــتى ظلــت نيـرانها مستعرة حتى العام 1918.
وبقيت المشكلة فى مصاريف وتكاليف الالتحاق بواحد منها، فقد كانت فوق طاقتهما المادية.
وجاء الفرج مع قدوم الفنان الإيطالى المعروف "أتورينو بيكى" إلى الإسكندرية التى اختارها مكانا لمعرضه الجديد، وسحرته المدينة وقرر أن يقيم بها خاصة مع وجود عدد كبير من الفنانين الأجانب وازدهار الحركة الفنية، وافتتح بيكى مرسمه الخاص عام 1929 وفتح أبوابه أمام هواة الرسم.. وكان منهم الأخوان سيف وأدهم وانلى وصديقهما أحمد فهمى.
كان من حظ سيف وانلى أنه تتلمذ ودرس على يد هذا الرسام الإيطالى القدير، ولازمه طوال السنوات الأربع التى قضاها "بيكى" فى الإسكندرية، ومعه بدأت تتشكل شخصيته ويتحدد أسلوبه الفنى، وحكى سيف بإعجاب عن تلك التجربة والمرحلة:
"كان معنا أنا وأخى أدهم فى مرسم بيكى زميل آخر اسمه أحمد فهمى.. وأغلقنا على أنفسنا الباب وظللنا نرسم وندرس، وكان لكل منا أسلوبه الخاص به على الرغم من أننا كنا نشترك ثلاثتنا معا فى مرسم واحد ونستعمل نفس الألوان ونفس الفرشاة، وكانت الحوامل التى توضع عليها اللوحات متلاصقة مع بعضها البعض تماما، وهكذا بدأت رحلتنا مع الفن"..
وقبل أن يغادر بيكى الإسكندرية ويودعها فإنه منح الأخوين وانلى شهادة تخرجهما فى جملة كانت كافية ليشعر سيف أنه على الطريق الصحيح.. وكان لها وقع السحر على نفسه.. فقبل سفر أتورينو بيكى وأثناء حفلة الوداع قال لصديقه الفنان «زانيرى» الذى كان يملك مرسما شهيرا بالإسكندرية: إن الأخوين وانلى سوف يكون لهما شأن فى الفن بالإسكندرية كشأن الأخوين «بلينى»، جيوفانى وجنتلى بلينى فى "البندقية"..
خرج سيف إلى الحياة العملية مسلحا بالموهبة والدراسة.. وبعد شهور افتتح الأخوان وانلى مرسما خاصا بمشاركة زميلهما أحمد فهمى، وانضم لهما صديقهما العاشق للسينما والفن والذى قدر له أن يكون واحدا من رواد فن السينما فى مصر وصُنّاعها.. المخرج السكندرى محمد بيومى..
الآن.. ومن هذا المرسم الرباعى (الذى أصبح فيما بعد من معالم الإسكندرية) تبدأ رحلة سيف وانلى ومسيرته الاحترافية التى خلفت إرثا فنيا مبهرا كما وكيفا يتمثل فى ما يُقارب ألف لوْحة وسبعة عشر معرضا فنيا حول العالم.. وللحديث بقية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوابة ماسبيرو
منذ 4 ساعات
- بوابة ماسبيرو
سيف وانلى.. فنان الإسكندرية وروحهـا وصانع «مرايا» نجيب محفوظ
سيد درويش الرسم وعازف الألوان «18» أسس مع شقيقه «أدهم» أهم مدرسة فنية فى مدينة الإسكندرية جندى استرالى ورسام إيطالى غيرا مسار حياته وصفه بيكار بأنه لوحة من نور.. وقال عنه مختار: اتركوه إنه يعرف طريقه سمعت اسم "سيف وانلى" لأول مرة من أستاذى الناقد الكبير رجاء النقاش، وجاء فى سياق قصة سمعتها منه مرات بصيغ مختلفة، لكن فى كل مرة كان الاسم المميز قادرا على أن يستوقفنى ويجذبنى، أما القصة الأصلية فكانت تخص نجيب محفوظ وكيف حصل منه رجاء على مسودة روايته الشهيرة "المرايا"، وكيف انفرد بنشرها على حلقات مسلسلة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون بعدما تولى رئاسة تحريرها فى ربيع العام 1971. كانت "الأهرام" قد اعتذرت عن نشر الرواية، وبحكم صداقة وعلاقة إنسانية وطيدة مع النقاش وافق نجيب محفوظ على أن ينشرها فى المجلة، وعلى سبيل التقدير لتلك الموافقة الكريمة منحه رجاء مكافأة تساوى ما كان يمنحها له هيكل فى الأهرام، وهى ألف جنيه، وكان مبلغا فلكيا بحسابات تلك الأيام، واقتضى الأمر أن يحصل على موافقة وزير الإعلام يومها السيد محمد فائق على صرف هذا المبلغ الاستثنائى.. وفكّر رجاء فى أن يحتفى أدبيا برواية نجيب محفوظ كما احتفى بصاحبها ماليا، وهنا لم يجد أجمل من لوحات سيف وانلى لتجاور إبداع نجيب محفوظ وتزين حلقات "المرايا" وتمنحها هذا الألق البصرى الساحر.. وأعود هنا إلى ما كتبه رجاء النقاش عن سيف وانلى وقيمته وسر اختيار لوحاته بالذات لتلك المهمة الصحفية الاستثنائية، وبنص كلماته: "وكنت قد تعرفت قبل ذلك بفترة قصيرة إلى الرسام الإسكندرانى العالمى الكبير سيف وانلى، فخطرت لى فكرة نشر رواية "المرايا" مصحوبة بلوحات مستوحاة منها لسيف وانلى، وعرضت الفكرة على سيف فسعد بها جدا وتحمس حماسا شديدا لها، وبالفعل نشرت الرواية مع لوحات سيف التى تقترب من ستين لوحة، وكانت من أبدع ما أنجزته عبقرية سيف وانلى من أعمال فنية، وتمثل هذه اللوحات الآن تراثا فنيا ثمينا مستوحى من رواية "المرايا"، وتصلح هذه اللوحات لمعرض فنى كامل ونادر، ولكن سيف رحل عن عالمنا ولم يعد هناك من يهتم بأعماله اهتماما لائقا". وظل سيف يُرسل من الإسكندرية لوحاته المستوحاة عن الرواية، يُرسل كل 4 حلقات معا فور أن ينتهى من رسمها، وظل يواصل هذا الجهد الفذ الذى وصل إلى 60 لوحة كانت بمثابة ترجمة بصرية موازية لرواية نجيب محفوظ.. حينها تقافزت أمامى التساؤلات: من يكون هذا الرسام السكندرى صاحب الاسم اللافت الذى اختار رجاء النقاش لوحاته لتضىء مرايا نجيب محفوظ، ورأى أنها – اللوحات – تستحق أن يقيم لها معرضا فنيا يليق بروعتها؟! وفى سيرة المثّال المصرى الفذ محمود مختار وقفت عند تلك الواقعة المدهشة، حين ذهب صاحب تحفة "نهضة مصر" لزيارة جمعية هواة الفنون، ولفت نظره ذلك الشاب الذى يجلس فى ركن بعيد ذاهلا عن ما حوله، يرسل بصره إلى حيث يجلس رجل عجوز ويرسم ملامحه على لوحة أمامه، واقترب محمود مختار من الرسام الشاب الذى لم يلحظه وظل مندمجا فى رسمه، وتأمل محمود مختار الرسم ودقته وروعته، فبانت علامات الإعجاب على محياه، وربت على كتف الشاب الذى لم يشعر بيده ولا بالواقف على رأسه، وجاء أصدقاء مختار ليشاركوه الإعجاب، فهمس لهم: إنه يملك موهبة حقيقية.. وأرجو ألا يفسدها أحد عليه.. اتركوه.. إنه يعرف طريقه".. وتجدد السؤال: من يكون ذلك الشاب الذى شهد له محمود مختار بالنبوغ والموهبة وطلب أن يتركوه ليشق طريقه بنفسه؟ ثم حدث بعدها أن وقع فى يدى ذلك الكتاب الصغير بالغ القيمة الذى كتبه الفنان العظيم بيكار، وقدم فيه صفحات من سيرة باقة من نوابغ الرسامين، وكان من بينهم سيف وانلى، ولك أن تعرف أنه وضعه جنبا إلى جنب مع عباقرة عالميين فى قيمة رامبرانت وفان جوخ ورينوار وبيكاسو ومودليانى وكلود مونييه، ومصريين فى مقام محمود سعيد ومحمود مختار والسجينى.. وفى "لكل فنان قصة" استوقفتنى تلك الصلة المدهشة التى عقدها بيكار بين سيد درويش وسيف وانلى، وصاغها بأسلوبه الذى لا يقل عذوبة وشاعرية وبلاغة عن رسوماته، فكتب: "لقد غنت مصر كلها ألحان ابن الإسكندرية سيد درويش، وتكحلت عيون مصر كلها بألوان ابن الإسكندرية سيف وانلى، كلاهما خالد فى تاريخ مصر ووجدان مصر، وكلاهما ترك بصماته غائرة فى ضمير مصر". ومن جديد قفز السؤال: من يكون هذا الرسام الذى اعتبره بيكار سيد درويش الرسم؟! (1) الحق أن الكلام عن سيف وانلى يبدو ناقصا ومنقوصا إذا لم يرتبط بإنسان ومكان، فإذا ما جاءت سيرته فإنها تستدعيهما فورا وتلقائيا، أما الإنسان فهو توأمه الفنى أدهم وانلى، شقيقه الذى يصغره بعامين، وشكلا معا تجربة خاصة ومتفردة عنوانها الأخوان وانلى.. وأما المكان فهو الإسكندرية، مدينة الميلاد والنشأة والإلهام والسحر.. ولابد أن بيكار كان يقصد ويدرك عمق هذه العلاقة المتشابكة وهو يكتب عن سيف وانلى ويصف تجربته بتلك السطور البليغة: "سيف.. لوحة من نور، نموذج رائع من العصامية والإصرار وبناء الذات، مدرسته الحياة وجامعته التجربة الشخصية، ومعلمه العطاء الإنسانى كله، وفلسفته العمل فى صمت وتواضع شديد، موقعه ساحل الإسكندرية، لفظه البحر كقطعة من الاسفنج كثير المسام تمتص وتفرز بلا توقف، تربع فوق القمة صعودا من القاع هو وشقيقه فى الدم والفن أدهم وانلى، وكان تسلق الجبل شاقا وقاتلا، ولكن الحب كان أقوى من العرق والنزيف والأنفاس اللاهثة، وعاش الأخوان راهبين فى صومعة فينوس إلهة الجمال.. وبدأ الأخوان رحلة الفن معا.. كانا قطعة نابضة من الإسكندرية، وكان مرسمهما أحد معالمها الثقافية التى لا تخلو من الزوار والأصدقاء والمريدين بالليل والنهار.. كونا معا مدرسة الإسكندرية الحديثة وكان لهما حواريون كثيرون".. كل الطرق تؤدى إذًا إلى الإسكندرية، مكان الميلاد والنشأة والحلم، مدينة السحر وحاضرة البحر المفتوحة على كل الحضارات والثقافات الحاضنة لتراث الإنسانية، تلك اللوحة الحية بتكوينها البديع من البحر وأمواجه وفناره، والصيادين ومراكبهم وشباكهم، وحواريها وناسها من كل الأجناس والألسنة، وسحرها الخفى وجوها البديع القادر دوما على صناعة الإبداع والمبدعين.. سيف وانلى هو ابن تلك المدينة المفتوحة الحية باذخة السحر صانعة الإبداع، وواحد من أبرز تجلياتها ، فقد كان خليطا من تنوعها الثقافى والحضارى.. ولد محمد سيف الدين وانلى فى حى محرم بك بالإسكندرية مع ميلاد موسم الربيع: 31 مارس 1906، فى عائلة تعبر عن مجتمع المدينة "الكوزموبوليتانى"، حيث تنحدر أصول والده من منطقة بحر قزوين، بل إن اسم الأسرة "وانلى" هو نفسه اسم جزيرة فى تلك المنطقة البعيدة بوسط آسيا.. هو إذن ابن عائلة أرستقراطية ذات حسب ونسب وثراء، كان والده إسماعيل وانلى يحمل رتبة البكوية، وجده لأبيه محمد وانلى يحمل رتبة "السنجق" التركية، فى حين تنحدر أصول عائلة أمه عصمت هانم من أعرق العائلات المغولية فى بلاد داغستان. ورزقت الأسرة بابنها سيف بعد 4 بنات، لذلك كانت حفاوة استقباله عندما بشرت بقدومه الداية التركية صالحة أفندى، وتزينت سراى عرفان باشا بحى محرم بك التى تسكنها الأسرة ابتهاجا بميلاد أول الأبناء الذكور.. وهو ما تكرر بعدها بعامين عندما جاء الابن الثانى "إبراهيم أدهم" إلى الدنيا بعد عامين وتحديدا فى 25 فبراير عام 1908. ولد سيف وانلى فى قصر باذخ الثراء، تحيطه حديقة غنّاء، وتميزه تلك المكتبة العامرة بالكتب والأسطوانات واللوحات المرسومة بالخط الفارسى والرسومات التركية، فقد كانت الأسرة إلى الثقافة التركية أقرب.. وعلى عادة العائلات التركية الأرستقراطية جاءت لأولادها بمدرسين إلى السراى، يعلمونهم الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب والدين وشيئا من الثقافة والفن، ومن بين كل المدرسين الذين توافدوا على سراى عرفان باشا تعلق سيف وأدهم بُمدرستهما الفرنسية مدام "إيدول" مدرسة اللغة الفرنسية، ليس حبا فى الفرنسية بقدر ما كانت نافذتهما على تلك الدنيا المسحورة، دنيا الرسم والفنون، إذ وجهت اهتمامهما للمتاحف والرسم وأشهر اللوحات الفرنسية.. (2) أما كيف تفجرت موهبة سيف وانلى، وكيف بدأ شغفه بالرسم والألوان، فكل الدلائل والشواهد تقول إنها بدأت من بحر الإسكندرية، حيث وقع الطفل الصغير فى غرام البحر منذ أن تفتحت عيناه وإدراكه وصار يُسمح له بالذهاب إليه منفردا، فيجلس أمامه غارقا فى صمته يتأمل أمواجه وصخبه وصوته وألوانه، مسحورا بمنظر النوارس ومراكب الصيادين وشباكهم وأسماكهم، ويزداد شغفه فى الشتاء وهو يتأمل السحب التى تركض كالخيول وتهطل على البحر، سكنته تلك اللوحات، ولما تمكن من الإمساك بالورقة والقلم راح يرسم ما رآه وسحره.. وإذا لم يجد أوراقا فإن نشوة الرسم كانت تستبد به فيرسم على جدران البيت! هو نفسه – سيف وانلى- يحكى عن تلك البدايات ويتذكرها بوضوح: "بدأت هواية الرسم عندى من الصغر، ذلك الفن الجميل الذى عشقته أنا وأخى أدهم، وكنت أرسم على الجدران والأبواب والشبابيك، وكنت أنا وأخى نتأمل تلك اللوحات الكبيرة الموجودة بمنزلنا وهى غالبا لفنانين من عصر النهضة ينتمون لمدرسة نابولى وفلورنسا، وكان والدنا يخشى أن يشغلنا الفن عن الدراسة ولكن والدتنا كانت تساعدنا كثيرا، ويرجع الفضل لها فيما وصلنا إليه".. إلى أن كانت تلك الواقعة الفارقة التى كان شط الإسكندرية شاهدا عليها، يومها كان سيف على مشارف سن المراهقة، وكعادته ذهب إلى صديقه البحر متأملا ومستمتعا، ولفت شقيقه أدهم نظره إلى فنان شاب يجلس على مقربة منهما مستغرقا فى رسم لوحة لمنظر الصيادين وهم يرمون شباكهم بمهارة، وراح الشقيقان يتابعانه فى فضول إلى أن انتهى من لوحته، اقتربا منه وتأملاها وأذهلتهما روعتها ودقتها وألوانها، وعرفا منه أنه فنان استرالى ومن جنود الكتيبة الأسترالية التى انضمت للجيش البريطانى فى مصر، وأنه فى الأصل رسام وجاء معه بأدوات الرسم، ولأول مرة يتعرف الشقيقان على ألوان الزيت، وأهداهما الرسام الاسترالى ما تبقى معه من تلك الألوان الأصلية البديعة، لتكون هى البداية الحقيقية من مرحلة التصوير الزيتى.. لحظة فارقة كان بحر الإسكندرية حاضرا فيها، ليستمر حضوره طاغيا فى مسيرة وتجربة سيف وانلى.. إلى الحد الذى جعل كثيرين يمنحونه لقب فنان الإسكندرية مثلما فعل الناقد الكبير د. نعيم عطية عندما كتب عن علاقة سيف مع الإسكندرية وبحرها: "إذا ذُكر البحر فى التصوير المصرى الحديث فليس من هو أحق بالكلام عن عطائه فى هذا المقام بعد محمود سعيد أكثر من سيف وانلى الذى لم يكتف بأن يستعير فى ألوانه الصفاء والشفافية من بحر الإسكندرية، بل كان أيضا مثل منارها وسُفنها الغادية الراسخة، ما يستحقه عن جدارة لقب "فنان الإسكندرية"، وعندما نصفه بذلك نكون قد لمسنا ركنا جوهريا فى شخصيته وفهمنا علة ذلك التجدد والتنوع فى إنتاجه. سيف وانلى كالإسكندرية بلده المنفتح على حضارات العالم، كل النسمات والرياح تهب على الإسكندرية، جو الإسكندرية ذاته مشبع فى شكل أسطورى بتنوع فكرى متميز. لو كان سيف وانلى فنانا يعيش فى مدينة أخرى من مدن مصر لما بدا فنه فى هذه الصورة التى بدا عليها، فقد تجاوبت لا محلية الإسكندرية جغرافيا وتاريخيا بمزاج سيف وانلى الذى لا يهدأ له قرار". المعنى الذى أكده صديقه الموسيقار مدحت عاصم حينما قال: "إن أسعد أيام سيف هى التى كان يقضيها أمام البحر يسمع منه أنغامًا لم يكن يسمعها سواه وكان يقول: أنا موسيقى أيضًا أعزف الألوان على سطح اللوحات البيضاء". وسبقهما إليه بيكار: "ينبغى ألا ننسى أن سيف ابن الإسكندرية المفتوحة، وهذا هو سر ما نراه فى إنتاجه من ثراء وتعدد النوعيات التى هى من معطيات مزاج تجريبى يرفض الرتابة، لا بدافع الملل وإنما رغبة فى الكشف عن آفاق جديدة". وصدّق سيف وانلى على الجميع عندما اعترف بأن بحر الإسكندرية كان معلمه الأول ومصدر إلهامه الكبير: "ملك هو البحر. أشعر وأنا على ظهر مركب أننى فى حضرة ملك.. وأى ملك.. عينى لم تعد تراه.. لأنه داخلنى وملأنى فغرقت فيه.. علمنى الألوان كلها ونسماته فى لوحاتى". (3) مارس سيف وانلى الرسم على سبيل المتعة والهواية، إنه يعشق الرسم لذاته ويجد فيه لذته ومتعته، بدليل أن أول أجر تقاضاه عن لوحة له كان مقابلا عينيا لا نقديا، فقد حدث أن انضم سيف إلى أحد الأندية الرياضية بالإسكندرية المهتمة برياضة الملاكمة التى يحبها شقيقه أدهم، كان ذلك فى فترة المراهقة، وكان سيف يستغل وقته فى النادى فى ممارسة هوايته المحببة، وذات مرة لاحظ المدير الإنجليزى للنادى رسومات سيف وأدهم، وكان من بينها لوحة لبطل الملاكمة الإنجليزى المعروف حينها "جيوكيت"، ولمعت فى ذهن المدير فكرة، فكلفهما بتجهيز رسومات عن عدد من نجوم الرياضة العالميين ليعلقها على جدران وحوائط النادى، وبالفعل أنجز سيف وأدهم المهمة فى وقت قياسى وببراعة، وعلى سبيل المكافأة والتقدير أهدى المدير لكل واحد منهما ساعة يد ثمينة.. وكانت تلك الساعة هى أول أجر يحصل عليه سيف من ريشته. لم يكتف سيف وانلى بالموهبة وحدها؛ فخطط لأن يدرس الفن دراسة أكاديمية ليتعلم الرسم على أصوله ومن أساتذته ومدارسه، وهو ما تأكد له عندما زار مع شقيقه القاهرة فى عام 1926، لحضور معرض جماعة الخيال التى أسسها محمود مختار، مثّال مصر العظيم، وشاهدا مستوى أعمال الفنانين الكبار، فعادا إلى الإسكندرية وكلهما إصرار على دراسة الفن دراسة جادة.. لكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد تعرضت الأسرة لأزمة مالية طاحنة اضطرتها لأن تغادر قصرها الفخم بمحرم بك، وتتنازل عن ترف الحياة والخدم والحشم ورغد العيش، وتنتقل للإقامة ببيت متواضع فى حى شعبى بالقرب من ترعة المحمودية، وتسببت هذه الأزمة الاقتصادية فى تغيير جذرى فى حياة الأخوين وانلى، فتعطلت مسيرتهما الدراسية العليا، واضطرا للنزول إلى سوق العمل لتدبير احتياجات الأسرة ونفقاتها المعيشية، فعمل سيف موظفا بأرشيف جمارك الإسكندرية، والتحق أدهم موظفا بمخازن الكتب التابعة للمنطقة التعليمية بالإسكندرية.. ولكن بقى حلم دراسة الفن يراود الأخوين وانلى. فى ذلك الزمان كان الأمير يوسف كمال قد افتتح مدرسة الفنون الجميلة على نفقته الخاصة فى العام 1908، ولما كان مقر المدرسة بالقاهرة فقد تعذر سفر الأخوين بعيدا عن الإسكندرية، وبقى الأمل معلقا فى واحد من تلك المراسم التى بدأت تزدهر بالإسكندرية، ويديرها فنانون أجانب من المقيمين بها، وكان أشهرها ثلاثة: - مرسم الفنان الإيطالى "ارتور زائيري"، الذى درس على يديه الفنان السكندرى البارز محمود سعيد عام 1915. - مرسم الفنانة اليونانية "مدام كرافيا" وكان مقصدا لبنات العائلات بالإسكندرية من محبات وهاويات فنون الرسم. - مرسم الفنان المجرى "جول بلنت" الذى افتتحه بعد الحــرب العــالميــة الأولـــى الــتى ظلــت نيـرانها مستعرة حتى العام 1918. وبقيت المشكلة فى مصاريف وتكاليف الالتحاق بواحد منها، فقد كانت فوق طاقتهما المادية. وجاء الفرج مع قدوم الفنان الإيطالى المعروف "أتورينو بيكى" إلى الإسكندرية التى اختارها مكانا لمعرضه الجديد، وسحرته المدينة وقرر أن يقيم بها خاصة مع وجود عدد كبير من الفنانين الأجانب وازدهار الحركة الفنية، وافتتح بيكى مرسمه الخاص عام 1929 وفتح أبوابه أمام هواة الرسم.. وكان منهم الأخوان سيف وأدهم وانلى وصديقهما أحمد فهمى. كان من حظ سيف وانلى أنه تتلمذ ودرس على يد هذا الرسام الإيطالى القدير، ولازمه طوال السنوات الأربع التى قضاها "بيكى" فى الإسكندرية، ومعه بدأت تتشكل شخصيته ويتحدد أسلوبه الفنى، وحكى سيف بإعجاب عن تلك التجربة والمرحلة: "كان معنا أنا وأخى أدهم فى مرسم بيكى زميل آخر اسمه أحمد فهمى.. وأغلقنا على أنفسنا الباب وظللنا نرسم وندرس، وكان لكل منا أسلوبه الخاص به على الرغم من أننا كنا نشترك ثلاثتنا معا فى مرسم واحد ونستعمل نفس الألوان ونفس الفرشاة، وكانت الحوامل التى توضع عليها اللوحات متلاصقة مع بعضها البعض تماما، وهكذا بدأت رحلتنا مع الفن".. وقبل أن يغادر بيكى الإسكندرية ويودعها فإنه منح الأخوين وانلى شهادة تخرجهما فى جملة كانت كافية ليشعر سيف أنه على الطريق الصحيح.. وكان لها وقع السحر على نفسه.. فقبل سفر أتورينو بيكى وأثناء حفلة الوداع قال لصديقه الفنان «زانيرى» الذى كان يملك مرسما شهيرا بالإسكندرية: إن الأخوين وانلى سوف يكون لهما شأن فى الفن بالإسكندرية كشأن الأخوين «بلينى»، جيوفانى وجنتلى بلينى فى "البندقية".. خرج سيف إلى الحياة العملية مسلحا بالموهبة والدراسة.. وبعد شهور افتتح الأخوان وانلى مرسما خاصا بمشاركة زميلهما أحمد فهمى، وانضم لهما صديقهما العاشق للسينما والفن والذى قدر له أن يكون واحدا من رواد فن السينما فى مصر وصُنّاعها.. المخرج السكندرى محمد بيومى.. الآن.. ومن هذا المرسم الرباعى (الذى أصبح فيما بعد من معالم الإسكندرية) تبدأ رحلة سيف وانلى ومسيرته الاحترافية التى خلفت إرثا فنيا مبهرا كما وكيفا يتمثل فى ما يُقارب ألف لوْحة وسبعة عشر معرضا فنيا حول العالم.. وللحديث بقية.


الدستور
منذ 13 ساعات
- الدستور
مدير مكتبة الأسكندرية: ركن نجيب محفوظ داخل المكتبة يضم أكثر من 2400 كتاب
قال الدكتورأحمد زايد، مدير مكتبة الأسكندرية، إنه تم افتتاح ركن نجيب محفوظ داخل مكتبة الأسكندرية، وذلك من أجل الحفاظ على تراث هذا الشخص العبقري. وأكد الدكتور أحمد زايد، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج " صباح الخير يامصر" المذاع عبر فضائية " الأولى المصرية"، نحرص الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية. وأضاف في حديثه، أن مقتنيات الأديب الراحل نجيب محفوظ داخل مكتبة الأسكندرية وصلت إلى 2400 كتاب من مكتبته الخاصة، كما أن المكتبة تمتلك الكثير من الصور الرسمية والخاصة بهذا الأديب.


الدستور
منذ 20 ساعات
- الدستور
الوثائقية.. محمد سلماوي يكشف تفاصيل اختيار نجيب محفوظ له لتسلم جائزة نوبل
قال الكاتب محمد سلماوي، إن إلقاءه كلمة أديب نوبل عام 1988، كانت لحظة قومية كبيرة جدًا، معبرًا عن اعتزازه الشخصي باختياره بأن يكون ممثلًا للأديب نجيب محفوظ، مؤكدًا أنه فوجئ بهذا الاختيار لأنه لم يستأذنه. وعن اختياره قال "سلماوي" خلال بودكاست "كلام في الثقافة" خلال الجزء الثاني من الحوار المُذاع على قناة 'الوثائقية'، إن الزميل الصحفي محمد الشاذلي سأل الأديب نجيب محفوظ عن سبب اختياره لسلماوي، رغم أن أمامه كل أدباء مصر وغيرهم، وكان يستطيع الاختيار من بينهم، فرد عليه 'محفوظ' قائلًا إن له ثلاثة أسباب جميلة، أولها أنه أراد أن يمد يده لجيل الشباب فاختار شخصًا منهم، ولم يختر شخصًا من جيله، لأن بعضه "استكتر عليه هذه الجائزة" نظرًا لوجود خلافات بينهم. وتابع أنه أراد أن يقول للناس في الخارج إن مستقبل الأدب في مصر ليس جيل نجيب محفوظ وحده، وإنما هو نشاط متجدد، ولذلك اختار هذا الشاب الكاتب ليرسله لتسلم الجائزة، والسبب الثالث، كما قال، هو أن محمد سلماوي، في رأيه، يمتلك ما يؤهله لهذه المهمة. وعن شعوره في تلك اللحظة قال سلماوي: 'لا تتخيل أن تشعر بأنك تقوم بعمل قومي، ليس للشعب المصري فقط، ولكن الشعوب العربية كلها تنظر لك وتتطلع لما ستقوم به في هذا الموقع، وكنت أرى ذلك من المصاحبين لي في الرحلة'، مشيرًا إلى أن جميع الفائزين بجائزة نوبل كانوا كبارًا في السن، وأغلبهم يستند على عكازه أو ابنه، بينما كان معه وفد من 30 صحفيًا وإعلاميًا، من بينهم مفيد فوزي وعبدالستار الطويلة، وحسني شاه، رئيسة تحرير الكواكب، وناس من التلفزيون المصري. طلب نجيب محفوظ وأشار إلى أنه هو الذي ترجم الخطاب، وطلب منه نجيب محفوظ قراءة الخطاب بالعربية أولًا، ثم بالإنجليزية، لأنه كان يعتقد أن نوبل ليست فقط لنجيب محفوظ، ولكنها أيضًا للأدب العربي، مؤكدًا أن نجيب محفوظ قال له صراحة: "آن الأوان أن يسمع جرس اللغة العربية داخل الأكاديمية السويدية العريقة".