logo
هيثم مفيد يكتب: المسكوت عنه في عالم مصطفى بيومي

هيثم مفيد يكتب: المسكوت عنه في عالم مصطفى بيومي

البوابة١٠-٠٢-٢٠٢٥

"الكتابة!. كم هي فعل بسيط هين"، هكذا قال الأديب الراحل مصطفى بيومي، حينما قرأ قصة "موت موظف" لأنطون تشيخوف، وهو لا يزال ابن السابعة عشر. ولكن، ما أثقل فعل الكتابة حين تنعي عزيزًا لم يسعني الوقت لأنهل المزيد من علمه، أو أنهي ما بدأناه - قبل سنوات ليست بالطويلة - من محادثات ولقاءات لطالما روت ظمأي، لكنني لم أكتفِ من لذة مذاقها ما حييت. هنا، أستطيع القول، ليس بتواضع من أصابهم داء الحكمة وهم على مشارف الستين، ولكن بمن آلمهم أعراض الفراق، بأن "الكتابة!. يا لها من عملية شاقة ومعقدة".
طيلة سنوات، وأنا أترقب "الأستاذ" خلسة حين يصل مكتبه القابع في ذات الدور الذي أعمل به، فلطالما اكتنف هذه الغرفة السحر والغموض، والسلام أيضًا؛ وكأنها بقعة معزولة لا صلة لها بما حولها. ووقت يحين موعد مغادرته، أظل متأملًا هدوء خطواته المتواضعة، وتفاصيله الصغيرة: كالحقيبة الجلد التي كانت لا تفارق يده دومًا، وباقة الكتب التي كانت لا تبرح يده الأخرى، فالكتب والكتابة هما المتنفس الوحيد في هذه الحياة المحدودة والمملة التي لم تتسع يومًا لرحاب خيال شيخي الرقيق.
بدأ تعارفي على كتابات "بيومي" من خلال الصفحة الأخيرة لجريدة "البوابة"، التي كان يكرسها أسبوعيًا للحديث عن وجوه سينمائية، لكنها ليست تلك الوجوه المعتادة أصحاب الأسماء الرنانة، إنما القلة المنسحقة داخل عجلة صناعة السينما التي تعيش على هامش الظل، والذين لا تعمر الأرض إلا بهم. فهم ملح الأرض - كما أسماهم في كتابه "عباقرة الظل" - وبدونهم لا يصبح للطعام عظيم التكلفة أي مذاق.
خلال مرحلة الدراسة الثانوية، انتبات أديبنا الراحل حالة من مشاعر اللذة والسعادة وهو يقرأ كتاب "ناس في الظل" للمبدع يحيى حقي، فوقع على إثره أسيرًا لرؤيته الإنسانية الخلابة، ومحبته الدافئة لبسطاء الناس. تعلم منه أن يتعلق قلبه دائمًا بهؤلاء الذين لا تعمر الأرض إلا بهم، لكننا لا نشعر بأهميتهم وعظمة عطائهم إلا عند غيابهم، فبات نصيرًا للمهمشين والمظلومين، والمنسيين أيضًا. وهذه مفارقة غريبة، لأن صاحب "عباقرة الظل"، هو نفسه "عبقري ظل" لم يحظى بالشهرة أو التقدير المادي المستحق، تمامًا كأبطال قصصه وحكاياته. فكما يقول "شيخي": "إن الأمر لا علاقة له بالشفقة، لكنه الحب الذي لا يعرف التعالي والتعاطف الكاذب المصنوع". وهكذا الحال في مشاعري الحزينة تجاهك أيها الأستاذ.
في عام 2021، ومع بداية عملي في شركة "ميديا فيجن"، أوكلت إليّ مهمة البحث عن فكرة لبرنامج تلفزيوني جديد، ولم أجد أنسب من الحديث عن "نجوم الظل". ولما لا، فهذه الحكايات هي ما تشبعت بها ذاكرتي على مدار أسابيع طويلة مضت، وجعلتني قريبًا أكثر إلى عوالم مصطفى بيومي، المليئة بالحنين والحب نحو المهمشين. هنا، جاءت فرصة الحديث الأول مع الأستاذ المجهول، الذي غمرني بمحبته وعطفه، لدرجة تكاد تجعلك تصب جم لعنتك على هذه الحياة التي لم تتح لك الفرصة للقاءه من قبل. ولكن هكذا الحال مع الدنيا، شريط طويل من الملل يتخلله فواصل قصيرة جدًا من السعادة الخالصة التي يمنحها أناس أمثال مصطفى بيومي.
ظاهريًا، ربما كانت تلك مجرد اجتماعات عمل وتصوير روتينية، لكنها - رفقة الأستاذ - كانت أشبه بجلسات استرخاء في رحاب عالمٍ لا تمل الحديث معه في شتى مناحي الحياة. من السياسة، إلى أحوال البسطاء من عموم الشعب، وحكايات أهل الفن؛ لا سيما قصة لقاءه الأول مع الجميلة الفاتنة في الزمن القديم، الفنانة فاطمة رشدي، والتي قابلها حين كان نزيلًا في "لوكاندة توفيق" بوسط البلد، وتعلم من لقاءاته المتكررة بها كيف يكون الزمن قاسيًا بلا رحمة.
تتداعى الكلمات في حضرة مصطفى بيومي، فكل ما عليك فعله هو أن تجلس وتنصت لحديثه بعناية. أما في غيابه المادي، فالتداعِ من أثر الرحيل وألم الفراق الموحش. لا أقوى على نعي "الأستاذ" بكلمات بليدة جافة، لكنني سأقتبس من شبه سيرته الذاتية "النبش في الذاكرة"، حين نعى صديقه الحنون المؤتمن على أسراره وأوجاعه "أنطون تشيخوف":
"تنتهي حياته القصيرة مع كأس من الشمبانيا ثم يموت في سلام وهدوء، راضيًا لأنه يترك وصيته في صورة سؤال يلح عليه: ألا يمكن أن تكون حياتكم أفضل قليلًا أيها السادة؟!. لست أدري كيف تكون نهايتي، ولا أظن المحيطين بي عند احتضاري يسمحون لي بسيجارة وقدح من الجعة، لكنني سأوصيهم بأن يضعوا صورته في قبري، فمع عينيه الحانيتين لن أشعر بالوحدة والغربة، ولن تنهشني ديدان الابتذال".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مي مختار: "النبش في الذاكرة" نافذة على عالم مصطفى بيومي مليء بالأصدقاء غير العاديين
مي مختار: "النبش في الذاكرة" نافذة على عالم مصطفى بيومي مليء بالأصدقاء غير العاديين

البوابة

time١١-٠٤-٢٠٢٥

  • البوابة

مي مختار: "النبش في الذاكرة" نافذة على عالم مصطفى بيومي مليء بالأصدقاء غير العاديين

قالت الكاتبة مي مختار خلال حفل تأبين مصطفى بيومي : أن كل من لم يقترب من عالم الكاتب مصطفى بيومي يسطيع أن يعرفه عند قراءة كتابه "النبش في الذاكرة"، مؤكدة أن هذا العمل يفتح نافذة مدهشة على شخصيات أثرت فيه ورافقته روحيًا وفكريًا، لكنه لم يشأ أن يصفهم بـ"الأصدقاء الموتى لأن مثل هؤلاء لا يموتون فاعمالهم تظل باقية. يتصدر القائمة فؤاد حداد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وطه حسين، إضافة إلى المطربة نور الهدى، التي وصف صوتها بـ"الملائكي". غير أن الأجمل في الكتاب، كما ترى مي مختار، هو اعتراف الكاتب بخمسة شخصيات كانوا الأقرب إلى قلبه، وكانوا له أصدقاء من نوع خاص، يتجدد حضورهم في حياته كلما احتاج إلى ما يوقظ شغفه أو يسكن قلبه. أول هؤلاء كان الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، الذي يبدأ بيومي صباحه بقراءة كتبه ليستعيد من خلالها شغفه بالكتابة. الصديق الثاني كان صوتًا سماويًا لا يُنسى: الشيخ محمد رفعت، الذي قال عنه بيومي: "لن يغسل قلبك، وتسمو روحك، إلا عند سماع تلاوته". أما الصديق الثالث فكان فيلسوفًا، بدأت العلاقة به من خلال كتابه "المواقف والمخاطبات"؛ ذلك الذي رأى فيه مصطفى بيومي تجليًا عميقًا لفكرة "الإنسان". الصديقة الرابعة كانت مفاجأة: الممثلة الأمريكية ساندرا بولوك، التي أحبها لحضورها البريء، وصرّح أنه لو لم يكن يعرف جنسيتها، لكان ظن أنها مصرية. تأثره بها بلغ ذروته بعدانفصالها عن زوجها ، إذ شعر بالحزن وكأنه فقد شيئًا منه، حتى إنه كان يحلم بلقائها. أما الصديقة الخامسة فهي كوكب الشرق أم كلثوم. كتب عنها بإعجاب بالغ، مؤكدًا أن علاقته بها بدأت عندما سمع أغنيتها "راجعين بقوة السلاح". كان بيومي يفسر كلماتها، يقف على معانيها الظاهرة والخفية، ويؤمن بأنها تسيّدت عرش الغناء، دون أن يزاحمها أحد.

انطلاق حفل تأبين الراحل مصطفى بيومي
انطلاق حفل تأبين الراحل مصطفى بيومي

البوابة

time١١-٠٤-٢٠٢٥

  • البوابة

انطلاق حفل تأبين الراحل مصطفى بيومي

انطلقت منذ قليل، ندوة تأبين الراحل مصطفى بيومي في صالون مي مختار الذي رحل رحل عن عالمنا في فبراير الماضي. ويشارك في حفل التأبين عدد كبير من محبيه إلى جانب عدد كبير من الكتاب والروائيين والأصدقاء. مسيرة الكاتب مصطفى بيومي ويذكر أن الكاتب مصطفى بيومي، ولد في محافظة المنيا، وحصل على بكالوريوس في الصحافة من كلية الإعلام بجامعة القاهرة في مايو 1980، وحصل على ماجستير الصحافة عن رسالة الكتابات الصحفية ليحيى حقي وقضايا التغير الاجتماعي في مصر، وعلى شهادة الدكتوراة من كلية التربية بجامعة المنيا، في 1984، شارك بكتاباته في عدد من الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية منها: الآداب، وأدب ونقد، وإبداع، وفصول، والقاهرة، والهلال، وأخبار الأدب، وروز اليوسف، وصباح الخير، والمصور، والكواكب، والناقد. وقدم مجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية المميزة، وله دراسات نقدية في أعمال نجيب محفوظ، ووصف مصر في أدب نجيب محفوظ، وألف قراءات عن شخصيات روايات أديب نوبل.

الناقدة سلوى بكر تقدم مقترحا لإحياء تراث مصطفى بيومي
الناقدة سلوى بكر تقدم مقترحا لإحياء تراث مصطفى بيومي

البوابة

time١١-٠٤-٢٠٢٥

  • البوابة

الناقدة سلوى بكر تقدم مقترحا لإحياء تراث مصطفى بيومي

قالت الناقدة والروائية سلوى بكر خلال حفل تأبين الراحل مصطفى بيومي بصالون مي مختار أن الراحل كان ينتمي إلى الجيل المبدع من الكفاءات العالية لم يكن يسعى إلى الشهرة بقدر ما كان يسعى إلى تقديم شيء يفيد المجتمع. واضافت بكر : أنها تتمنى أن يكون يكون الاحتفال بمصطفى بيومي بشكل عملي بحيث نسعى إلى جمع أعماله التي كان له بصمة كبير في الثقافة والمجتمع وتطبع وتكون متاحة للجميع بسعر رمزي حتى تخرج اعمال مصطفى بيومي وتراثه للنور لتكون بين أيدي الجيل الجديد وهذه مسئولية الأسرة والمثقفين كاملا. يذكر أن الكاتب مصطفى بيومي، ولد في محافظة المنيا، وحصل على بكالوريوس في الصحافة من كلية الإعلام بجامعة القاهرة في مايو 1980، وحصل على ماجستير الصحافة عن رسالة الكتابات الصحفية ليحيى حقي وقضايا التغير الاجتماعي في مصر، وعلى شهادة الدكتوراة من كلية التربية بجامعة المنيا، في 1984، شارك بكتاباته في عدد من الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية منها: الآداب، وأدب ونقد، وإبداع، وفصول، والقاهرة، والهلال، وأخبار الأدب، وروز اليوسف، وصباح الخير، والمصور، والكواكب، والناقد. وقدم مجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية المميزة، وله دراسات نقدية في أعمال نجيب محفوظ، ووصف مصر في أدب نجيب محفوظ، وألف قراءات عن شخصيات روايات أديب نوبل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store