
حاجة الأمّة إلى فقه الواقع واستقلالية الفقيه
أثبتت النّكبات المتوالية التي تكبّدتها الأمّة خلال الرّبع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، مدى حاجتها إلى إعمال وإشاعة الفقه المقاصدي، بإزاء الفقه الظّاهري المعاصر الذي فشا في العقود الأخيرة وتسبّب في إرباك الساحة الدعوية والإسلامية، وأدّى إلى خلخلة سلم الأولويات، وأسّس لفقه الفرد بإزاء فقه الجماعة، وفقه الطّائفة في مقابل فقه الأمّة، فشاعت بين شباب الصّحوة مصطلحات 'الفرقة الناجية' و'الطّائفة المنصورة'، وقصر الاهتمام على العبادات الفردية، وأهمل الاهتمام بواجب الإصلاح الجماعيّ.
أدّى تضخيم دور الفقه الظّاهريّ الفردي وفقه الطّائفة، أواخر القرن العشرين، إلى زعزعة مفاهيم الولاء والبراء، حتى صار المسلم المخالف عند بعض شباب الصّحوة الإسلامية أشدّ خطرا من اليهوديّ والنّصرانيّ، وأضحت الجماعة غير الموافقة أشدّ خطرا من الصهيونيّ المحتلّ! وأمست غالب النّقاشات تدور –بنفَس حادّ- في مسائل الفقه الفرعية، وأفردت مصنّفات كثيرة ملأت ما بين الخافقين تحمل عناوين مفزعة تُشعر من يطالعها بأنّ القضية تتعلّق بحرب تُشحذ لها أمضى الأسلحة وأشدّها فتكا!
ليس منكرا ولا عيبا أن يهتمّ شباب الأمّة بمسائل الفقه الفرعية، ويتعلّموها ويشيعوا تعلّمها، لكنّ المشكلة عندما تصبح هذه المسائل مدار الرّحى والهمّ الأوّل والأوحد الذي يتنافس فيه شباب الأمّة، في وقتٍ كيانُ الأمّة ينتقص من أطرافه ووجودها يهدّد ودينها يرام تحريفه، ويُمكر بها مكرٌ تزول منه الجبال، ويتّسع الخرق على الرّاقع عندما يصرّ بعض شباب الصّحوة على النّظر إلى فقه الأمّة وفقه الواقع على أنّه في أحسن أحواله 'ترف'، بل لعلّه من خصائص أهل البدع والهوى والرّأي!
إنّه لمن المؤسف حقا أن يكون علماء الأمّة وأعلامها قد تفطّنوا إلى أهمية فقه الأمّة وفقه الواقع في قرون وأزمنة لم تكن فيه التحديات التي تواجه الأمّة والمكر الذي يحاك لها، بمثل التحديات والمكر الذي تواجهه الأمّة في هذا الزّمان الذي يصرّ فيه الظّاهريون الجدد على تزهيد شباب الأمّة في خوض تحدّي فقه الواقع وفقه الواجب فيه.. قبل 7 قرون من الآن كان الإمام ابن القيم (ت 751هـ) يقول: 'ولا يتمكّن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحقّ إلا بنوعين من الفهم'، ثمّ ذكر: 'أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، فالعالم يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة'، ويقول في موضع آخر: 'والواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب'.. هذه الحقيقة كانت من المسلّمات عند أعلام الأمّة على مرّ القرون، وكان الفقيه الحقّ هو الفقيه الذي 'يعرف الواقع ولا يجهله، ويلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ'.. لكنّ كثيرا من شباب الأمّة في هذا الزّمان أُفهموا أنّ فقه الواقع يعني أن يكون الواقع حاكماً على النصوص، يؤوَّل بعضها تأويلات بعيدة ويهمَل بعضها الآخر، لأجل موافقة الواقع! وهذه فزّاعة لا حقيقة لها ولا يدعو إليها أحد من علماء الأمّة المعتبرين الذين اهتمّوا بفقه الواقع ورابطوا لإشاعته، وبيّنوا أنّه يعني الاهتمام بكيفية تطبيق النصوص على الوقائع وإنزالها عليها، وهو ما يعبّر عنه علماء الأصول بـ'تحقيق المناط'، وكذا الاهتمام بالاجتهاد السائغ شرعاً فيما لا نص فيه من الوقائع المتجددة.
لقد أريد لشباب الأمّة أن يزهدوا في الواقع وفي فهمه وفقهه، ليعيشوا زمانا غير زمانهم، ويحملوا هموما ربّما تقصر عن هموم أمّتهم، ومن ثمّ يسهل توجيههم وربّما تسخيرهم في معارك خاسرة ظالمة، ضدّ مشروع أمّتهم، يقودهم فيها رؤوس متعالمون زهدوا في فقه الواقع وتشبّثوا بظواهر نصوص منتقاة من بين نصوص كثيرة لا يُستغنى عنها، مع فهم الواقع، لمعرفة الموقف الصّحيح الواجب اتّخاذه.
المعلومة القاصرة والفقه الرّسميّ!
بإزاء الفقه الظّاهريّ الذي شاع ولا يزال شائعا في أوساط كثير من شباب الأمّة، هناك فقه آخر لا يزال يأخذ حظّه في تأخير الأمّة عن خوض معاركها المصيرية، هو الفقه الرّسميّ الذي يراد له أن يبقى مرتهنا للمعطيات التي تجود بها الجهات الرسمية وتضعها بين أيدي الفقهاء الرسميين، ليصدروا الفتاوى الرسمية المراد لهم إصدارها، بعيدا عن تمحيص المعطيات المقدّمة ومراجعتها والنّظر في مصداقيتها ومدى مطابقتها للواقع.
في كلّ مرّة تنزل بالعالم نازلة يصيب شررُها دول المسلمين، تنطلق المؤسّسات الفقهية الرسمية في مختلف البلاد الإسلاميّة، لتُبدي رأيها في تلك النّوازل بناءً على ما يوضع بين أيدي فقهائها من معلومات غالبا ما تكون قاصرة عن الإحاطة بكلّ حيثيات النّازلة، وغالبا ما تكون هذه المعلومات هي القدر الذي تسمح 'المؤسّسات الرسمية العالمية' بمعرفته، والتي بدورها لا تذيع إلا ما تسمح به الدّول الكبرى!
وعلى هذا الأساس، لا يستبعد ولا يستغرب أن تصدر عن المؤسّسات الفقهية الرسمية فتاوى تكون مطابقة لما هو مرغوب ومطلوب! ما يؤكّد مسيس حاجة الأمّة إلى مؤسّسات فقهية مستقلّة وكبيرة تسخّر لها كافّة الإمكانات وترصد لها وسائل الوصول إلى المعلومات، وينضوي تحت لوائها علماء الأمّة المتبحّرون في الأصول والمقاصد الذين يستعينون بدورهم بالعلماء في مختلف التخصّصات للوصول إلى المعلومة الصّحيحة من مَعينها، لبناء الفتاوى الصّحيحة على أساسها.
شباب الأمّة يعيشون زمن الفضاء المفتوح، وينتظرون أن يجدوا لدى علمائهم عامّة وفقهائهم خاصّة القول الفصل فيما يختصم فيه المختصمون مدعّما بنصوص الشّرع وحقائق الواقع، وهي الأمنية التي –ربّما- يصعب تحقّقها في ظلّ الواقع الذي تعيشه الأمّة، لكنّ تحقّقها ليس مستحيلا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الخبر
منذ 2 ساعات
- الخبر
المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي...
تقدمت المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية، اليوم الثلاثاء، بتعازيها في وفاة الصحفي القدير نور الدين عزوز. وجاء في نص التعزية: "بتأثر بالغ وحزن عميق، تلقت المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية نبأ فاجعة انتقال الصحفي القدير نور الدين عزوز إلى جوار ربه، تغمده الله بواسع رحمته، بعد مسيرة طويلة من العطاء الإعلامي الملتزم والمحترف، عبر العديد من المنابر الإعلامية في الصحافة المكتوبة. و"إثر هذا المصاب، تتقدم المديرية العامة للاتصال بأصدق تعازيها إلى عائلته، وإلى الأسرة الإعلامية قاطبة. نتضرع إلى الله العلي القدير، أن يرحمه ويغفر له ويلهم ذويه جميل الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون".


النهار
منذ 3 ساعات
- النهار
ربيقة: الجزائر تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها المركزية
قال وزير المجاهدين وذوي الحقوق، العيد ربيقة، أن الجزائر دوماً تعتبر القضية الفلسطينية، قضيتها المركزية وقضية كل العرب والمسلمين، ومواقفها ثابتة من هذه القضية المركزية، وهو موقف نابع من الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، مع ما ينطوي عليه من تطبيق القرارات الأممية، القاضية بحق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم ووطنهم. وفي كلمة ألقاها بمناسبة إحياء الذكرى 77 للنكبة الفلسطينية 15 ماي 1948/2025، أكد الوزير أن تلك المأساة الإنسانية التي حلت بالشعب الفلسطيني الأبي منذ سبعة وسبعين عامًا وهي ذكرى النكبة التي نشبت مخالبها الآثمة في أرض فلسطين ذات الخامس عشر من شهر ماي سنة 1948، وأسفرت كما هو معلوم عن تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم على أيدي الاحتلال الصهيوني، مما تمخض عن أزمة إنسانية مازالت تشكل هما لكل أحرار العالم إلى يوم الناس هذا. وأضاف الوزير 'إِن تَجَدُّدَ هذه الذكرى الأليمة، ذكرى النكبة هو في مغزاه الحقيقي تجدد طبيعي لنداء ظل يتكرر منذ سبعة وسبعين عاما وهو حق العودة الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يزال موقوف النفاد بفعل آلة الاحتلال التي ما فتئت تجهض كل تسوية أو اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ومنها حقوق أولئك الذين هجروا قسرًا في شهر النكبة - ماي سنة 1948'. ووصال الوزير قائلا 'إن الجزائر التي أحيت منذ أيام قليلة ذكرى أليمة لا تقل ضراوتها عن النكبة الفلسطينية، وهي ذكرى مجازر الثامن ماي 1945 تقف حيال هاتين المأساتين موقف الاعتبار والتذكر والتثمين لتضحيات الشعبين الشقيقين الجزائري والفلسطيني في سبيل رسم مسارهما التحرري الذي حفته قساوة الاستعمار وبطش المحتلين، كما، وفي جانب مهم آخر تبقى الذاكرة المشتركة تنوء بأحمال التاريخ الاستعماري وما يجنيه على أوطاننا'. كما ذكر العيد ربيقة بموقف الجزائر اتجاه القضية الفلسطينية قائلا 'إننا إذ نشارككم إحياء الذكرى السابعة والسبعين لنكبة الشقيقة فلسطين ومع ما تعيشه اليوم من مأساة إنسانية، فإن الجزائر دوماً تعتبر القضية الفلسطينية، قضيتها المركزية وقضية كل العرب والمسلمين، ومواقفها ثابتة من هذه القضية المركزية، وهو موقف نابع من الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، مع ما ينطوي عليه من تطبيق القرارات الأممية، القاضية بحق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم ووطنهم'. وتابع ربيقة 'كما أن الجزائر التي عانت أبلغ المعاناة في تاريخها من الاستدمار الفرنسي، وسجلت أروع الوقفات وأعظم التضحيات من أجل استقلالها وماتزال تحتفي بمخزون ذاكرتها التاريخية وهي تسجل دوما وأبداً موقفها الثابت من مسألة حق الشعب الفلسطيني في الأمن والحياة الكريمة ضمن دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف في إطار الشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، وهو ما أكد عليه رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون في رسالته بمناسبة القمة العربية 2025، حين قال: 'نحن مطالبون اليوم بتعزيز التفافنا حول قضيتنا المركزية، لأن دفاعنا عن هذه القضية ليس جوداً أو تَكَرماً مِنَّا ، بقدر ما هو وفاء تجاه أمانة تاريخية تحملها الأمة العربية في أعناقها، وتُجَاهَ مسؤولية قانونية وأخلاقية وحضارية تتحملها الإنسانية جمعاء'. مشيرا أن هذا الموقف يعكس روح التناغم مع الثوابت التاريخية المستمدة من قيم ثورة أول نوفمبر 1954، على محور تصفية أشكال الاستعمار واحترام حقوق الشعوب والأوطان في الحياة الكريمة، وتحقيق السلم العالمي، الذي لن يتأتى في ظل التنكر للشرعية الدولية والاستنكاف عن مقررات الأمم المتحدة. وفي ختام كلمته، قال وزير المجاهدين 'بحول الله، ستزول المظلمة على الشعب الفلسطيني ويسترد أرضه، ويمن عليه بالنصر المكين وينعم كباقي شعوب المعمورة بحريته وسيادته، وستبقى مثل هذه الذكريات رغم آلامها مخزوناً لا ينضب من القيم السامية تنهل منها الأجيال، جيلاً بعد جيل'. كما جدد الترحيب بضيوف الجزائر الكرام، من فلسطين الشقيقة، في بلدهم أرض الشهداء والمجاهدين، لنقاسمهم إحياء هذه الذكرى بما تحمله من ألم وأمل.


الجمهورية
منذ 3 ساعات
- الجمهورية
المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي نور الدين عزوز
تقدمت المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية, بأصدق تعازيها إلى عائلة الصحفي نور الدين عزوز, الذي وافته المنية اليوم الثلاثاء. وجاء في نص التعزية: "بتأثر وحزن عميق, تلقت المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية نبأ فاجعة انتقال الصحفي القدير نور الدين عزوز إلى جوار ربه, تغمده الله بواسع رحمته, بعد مسيرة طويلة من العطاء الإعلامي الملتزم والمحترف, عبر العديد من المنابر الإعلامية في الصحافة المكتوبة". وإثر هذا المصاب, "تتقدم المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية بأصدق تعازيها إلى عائلته, وإلى الأسرة الإعلامية قاطبة. نتضرع إلى الله العلي القدير بأن يرحمه ويغفر له ويلهم ذويه جميل الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون"