
ازرع اليوم لتحصد غدًا
الحياة عبارة عن طرق تمتد بها الكثير من المطبات والتعرجات ، وأحيانًا تقابلنا منعطفات شديدة الخطورة والوعورة، نقف تارة أمام تلك الطرق مشدوهين لا نعرف كيف نتخطى كل ذلك الخطر، ولكننا ما نلبث إلا أن نستعين بالله ونكمل المسير، لأننا يجب أن نسلك تلك الطرق ونعبرها شئنا أم أبينا.
في رحلة مسيرنا في طرق الحياة، هناك محطات تصادفنا لا يمكن نسيانها، تلك المحطات إما أن تكون محطات فرح ونجاح وتميز، أو محطات يأس وحزن وألم وإحباطات تكون في أشد ذروتها. وفي لحظةٍ ما من العمر، حين تضيق الطرق، يشعر الإنسان منا أن العالم كله قد قرر أن يدير له ظهره دون سبب منطقي.
أتذكر أحد المواقف التي صادفتني يومًا، ولا زلت أذكر ذلك الموقف ولا أنسى تلك الليلة التي استيقظت فيها على صراخ فلذة كبدي، ابني، من ألمٍ يطرق معدته. لوهلةٍ ظننت الأمر عابرًا، فاقترحت عليه تناول بعض المسكنات لعلها تكون سببًا، بعد الله، في تحسنه وتهدئة تلك الآلام، ولكن الألم اشتد، وليس في يدي حيلة للذهاب به إلى المستشفى، وذلك بسبب تردي الوضع المادي لي في ذلك التوقيت.
جلست بجواره أنظر إليه وهو يعاني ألمًا مستمرًا، وأنا مكتوفة اليدين، أين أذهب به وقد انتصف الليل؟ وماذا عساي أن أفعل؟ تملكتني حينها مشاعر مضطربة كيف أتركه هكذا؟ كيف أتركه يعاني كل ذلك الألم؟ كيف آخذه إلى المستشفى؟ نهضت من أمامه وأخذت أسير في ردهات المنزل ذهابًا وإيابًا، وأنا لا أملك من أمري شيئًا، ولا أعرف كيف أساعده
أخذت أتساءل: أين أذهب؟ باب من أطرق؟ وبعد أن تقطعت بي السبل، وجدت نفسي ممسكة بهاتفي وقمت بالاتصال بإحدى قريباتي التي ظننت يوما أنها قريبة.
طلبت منها مبلغًا من المال، وأخبرتها بوضع ابني الصحي، وأنني بحاجة ماسة لذلك المال لعلاجه على وجه السرعة، ولكن مع كل أسف وحزم قالت: 'آسفة، ليس لدي مال لك'، بكل غلظة، ثم أغلقت الهاتف حتى قبل أن أشكرها!
أصابني اليأس والإحباط والعجز، فقررت هذه المرة أن أراسل إحدى زميلاتي في العمل، لعل وعسى أجد مخرجًا سريعًا لذلك الموقف الصعب الذي أمر به. وبالفعل، قمت بإرسال رسالة شارحةً لها الوضع الذي أمر فيه، وطلبت منها ذات الطلب الذي طلبته من قريبتي تلك، فجاءني الرد سريعًا وقالت: 'أبشري'، وهدّأت من روع قلقي.
قالت: 'أنا معك، لست وحدك، وعند الله الفرج، لا عليك، نحن أخوات'. كانت كلماتها كالبلسم الذي يشفي الجراح، وأعطتني بكل رحابة صدر ذلك المال.
لم تكن كلماتها بلسما فقط، بل كانت قلبًا نابضًا بالرحمة، وأمانًا يسكن الروح، وطمأنينةً تأسر العالم كله. كانت عناقًا صامتًا في لحظة عجز، ورسالة حب في ظرف خانق. لم يكن ذلك المبلغ كبيرًا، لكنه حمل ما لا تحمله الأرقام، وهو أن الخير لم يُمحَ من هذا العالم.
لقد أدركت حينها أن هناك أنواعًا من العطاء لا تُرَد، ليس لعظم قدرها، بل لعظم أثرها في اللحظة التي جاءت فيها.
أسرعت إلى ابني المنهك، الذي لا زال صراخه يملأ أرجاء المنزل، وقمت بطلب سيارة واصطحبته إلى أقرب مستشفى. عاينه الطبيب وطلب بعض الفحوصات، ثم قام بإعطائه بعض الأدوية اللازمة والفورية مع ضرورة البقاء لبعض الوقت لمتابعة حالته.
بقينا هناك إلى ما بعد الفجر، ثم عدنا أدراجنا إلى المنزل وقد استعاد ابني، بفضل الله، أنفاسه، وانفرجت بعض الشيء أساريري بزوال الألم واطمئناني عليه. حمدت الله كثيرًا، ودعوت لتلك الزميلة التي مدت يد العون وكانت سندًا لي في أحلك الظروف
وبعد فترة وجيزة، أعدت لتلك الزميلة مالها، ممتنة وشاكرة لها صنيعها معي. ذلك الأمر الذي حدث معي جعلني أقف وأتأمل في كل شيء حولي
بلا شك، كما تُدين تُدان، ولكن ليس الأمر مقتصرًا على الأذى وردّ الإساءة بمثلها، بل يتجاوزه إلى أعمق من ذلك بكثير، ستدان حين تمد يد العون والمواساة لقلوب تئن، أو حين تبتسم في وجه مهموم فتخفف عنه عبئًا أثقل كاهله، أو حينما تربت على كتف أضناه الألم، أو حينما تنطق بكلمة طيبة فتزرع بها الأمل في روح يائسة
ستدان عندما تجبر خواطر الآخرين بلطف تعاملك وحسن قولك، أو تزيل همومهم بحسن صنيعك، وتنثر السعادة في دروبهم دون أن تنتظر مقابلًا.
فالخير الذي تزرعه اليوم، مهما بدا صغيرًا أو عابرًا، سيعود إليك يومًا ما، ربما في لحظة تحتاج فيها لمن يرد لك الجميل.
فدائمًا المعروف لا يضيع، وإن طال الزمن، فلا يحصد الخير إلا من زرعه.
بعض القلوب، حتى وإن توقّف نبضها، تبقى حيّة فينا، لأنها، في يومٍ ما، اختارت أن تضيء عتمتنا بيدٍ لا تُنسى، وحتما سيتركون لنا إرثًا لا يُقاس بالمال، بل يُحفظ في المواقف والقلوب.
دائمًا وأبدًا، اجعل قلبك موطنًا للرحمة، ولسانك دربًا للعذوبة، ويدك وسيلةً لنشر الجمال في حياة الآخرين، وسترى كيف يجازيك الله أضعاف ما أعطيت.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجمهورية
منذ 26 دقائق
- الجمهورية
ما هو الأفضل في الأُضحيَّة"البقر أم الغنم أم الإبل"؟
و أوضحت أن ما عليه الفتوى أن الأفضل في الأُضْحِيَّة الغنم ثم الإبل ثم البقر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالكباش من الغنم؛ وورد ذلك في أحاديث كثيرة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ» أخرجه البخاري.


الجمهورية
منذ 27 دقائق
- الجمهورية
ما يُسن للحاج فعله فى أشواط الطواف
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف بالبيت، كلما أتى الركن (أي الحجر الأسود) أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر ويدعو: «اللهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار» وبما تيسر له من الدعاء المأثور أو غيره.


الجمهورية
منذ 27 دقائق
- الجمهورية
فنانة متفرّدة أعطت للفن حياتها ووهبت جمهورها مشوارًا استثنائيًا
وقال وزير الثقافة إن الراحلة كانت نموذجًا للفنانة الوطنية المخلصة والمبدعة، التي أعطت للفن حياتها، ووهبت جمهورها مشوارًا استثنائيًا من الإبداع والتفرّد، مضيفًا: 'ستظل أعمالها منارات تضيء طريق الأجيال القادمة، وستبقى ذكراها خالدة في قلوب محبيها'. وأكد الدكتور أحمد فؤاد هنو أن رحيل سميحة أيوب يمثل خسارة فادحة للفن المصري والعربي، لما كانت تمثّله من قيمة فنية وإنسانية رفيعة، ومسيرة متميزة تركت خلالها إرثًا سيظل حيًّا في الوجدان. وتقدّم وزير الثقافة بخالص العزاء إلى أسرة الراحلة وجمهورها ومحبيها، داعيًا الله أن يتغمّدها بواسع رحمته.