logo
زوجة الشهيد أنس الشريف للجزيرة نت: قلبي يتآكل.. من يعيده إليّ؟

زوجة الشهيد أنس الشريف للجزيرة نت: قلبي يتآكل.. من يعيده إليّ؟

الجزيرةمنذ 3 أيام
غزة – تسلل أنس في قلب الليل بلا موعد مسبق حيث رُكنه الآمن في آخر جمعة وآخر اجتماع، زيارة مفاجئة بعد غياب لأكثر من شهر، باغت فيها زوجته التي وجدته أمامها بذراعيه المُشرعتين كأنهما العالم بأسره، حسب تعبيرها.
على غير العادة هرول إلى طفليه وأصر على إيقاظهما، ثم حمل كل واحد منهما بين يديه، يقذفه في الهواء ثم يتلقّفه ويحتضنه بقوة، يدور بهما مرارا كأنما يُخزّن من ضحكاتهما ما يكفيه للغياب القادم.
تنقّل أنس بين الأرائك وتمدد على الأرض، ثم استلقى على السرير فاتحا ذراعيه، كان جسده مرهقا، لكن لأول مرة يُفصح عن ذلك، "تحدثنا طويلا، كانت ملامحه تشي بإنهاك لم أره منه قط، لأول مرة يعبّر عن شوقه لراحة ولعيشة بسيطة خالية من القلق والتهديد"، تقول زوجته بيان.
اللقاء الأخير
لأول مرة أنس بلا هواتف ولا مقاطعات ولا أخبار عاجلة، لا يحمل شيئا سوى مشاعره التي يحوم بها في أرجاء البيت كفراشة تنثر دفئها بين الغرف، وفي عينيه سكون عميق، وفي حضنه وداع مكنون، وبينما هو كذلك علا صوت داخل بيان "هل هو اللقاء الأخير؟" لكنها خنقته، وأقنعت نفسها بأنه الشوق، لا الوداع.
بعد ساعات همّ أنس بالمغادرة، كل خطوة كان يبتعد فيها عنها كانت تشعر كأن سكينا ينغرس في قلبها، وحين بلغ الباب، التفت إليها وقال مبتسما "موعدنا يوم ميلادك، راجع وفي يدي هدية لك"، ضحكت بيان على استحياء فهي تعلم أنه كان يصنع من مناسباتها طقسا مقدسا، وشيعته بنظراتها حتى اختفى.
مر يومان على هذا اللقاء حتى جاء يوم ميلادها في 14 أغسطس/آب الجاري على هيئة يوم عزاء، لم يأتِ فيه أنس بهديته، بل عاد محمولا على الأكتاف بلا صوت ولا هدية ولا مفاجأة ولا عناق.
دقيقةٌ واحدة فقط هي المهلة التي مُنحت لبيان كي تودع حبيبها وداعا أخيرا، صاحت فيهم "افتحوا الكفن أريد أن أرى وجهه وأقبل وجنتيه"، لكن من حولها رفضوا، فأنس "بلا عينين"، تجهش بالبكاء وهي تتحسسه من فوق الكفن، "جسده بارد، لحمه طري".
إعلان
دقيقةٌ واحدة لم تتمكن فيها إلا من أن تهمس في أذنه سؤالا واحدا "أين وعدك لي بأن نموت معا كي لا يتحسر أحدنا على الآخر؟ لم نتفق على هذا يا حبيبي، ألم تعدني بالرجوع يوم ميلادي؟!"، همست بيان بعتبها، ثم رفعوه من أمامها وحملوه لمثواه الأخير.
التقت الجزيرة نت بيان الشريف زوجة الصحفي الشهيد مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف في يوم ميلادها، الذي صار له تأريخ جديد بوصفه يوم عزاء لأغلى من تملك، جلست أمامنا بجسد منهك وعينين متورمتين ورأس مائل يُثقله الوجع، لم تأتِ الهدية، بل جاء الوداع قاسيا ومباغتا كالموت نفسه.
هوس الفقد
"رح نكسر ظهرك بزوجتك وأطفالك يا أنس، لقد عرفنا مكانهم وسنقتلهم"، كان هذا الشكل الجديد للتهديد الأخير الذي تلقاه أنس في اتصال من جيش الاحتلال الإسرائيلي، عاش بعده هوس الفقد كما تقول زوجته، حيث طلب منها مغادرة المنزل بشكل فوري، فقد بدا التهديد بقتل عائلته مباشرا وجادا.
قلقٌ حمله أنس حتى الرمق الأخير، فقبل الغارة بخمس دقائق، هاتفها وقد كان في صوته شجن خفي لكنه بادٍ لها، "مش عارف أقعد يا بيان خايف عليكم، أهرب للتغطية لكن عقلي مشغول بكم"، ثم باغتها بطلبه "عليكم أن تغادروا غزة لجنوب القطاع، إذا وضعت الحواجز بين الشمال والجنوب، لن تمري بسلام، سيبتزونني بكم والموت أهون عليّ من ذلك".
لكن ككل مرة رفضت بيان رفضا قاطعا طلبه، "يمكنني فعل أي شيء إلا أن أبتعد عنك، انزع الفكرة من رأسك".
خمس دقائق فاصلة بين إغلاقها الهاتف والغارة، حاول فيها أنس عبثا إقناع زوجته بالخروج إلى وسط القطاع تحسبا لأي هجوم بري على مدينة غزة ، محاولات لم تجد نفعا مع بيان التي كانت قد رفضت مسبقا عدة فرص لخروجها من القطاع.
"ما سبب رفضك المتكرر للخروج؟"، سألناها، فأجابت باستنكار "أنس كل حياتي، كيف أحرمه من رؤية أبنائه في هذه الظروف إن اشتاق لهم، وقد كانت رؤيتهم بالنسبة إليه متنفسا؟ كيف سأهنأ بالبعد خارج القطاع وأتركه يعيش بؤس الحرب على الأرصفة والشوارع وحده؟".
وُلد بطل القصة أنس الشريف في 3 ديسمبر/كانون الأول 1996، لأسرة من 7 إخوة كان أصغرهم، تزوج قبل 5 أعوام ولديه طفلان، شام ابنته الكبرى (5 أعوام) وقد كان لها النصيب الأوفر من الحب والدلال حتى إنه جعلها مبتدأ الوصية التي كتبها قبيل استشهاده، "لقد عاش ومات وهو يوصيني بها"، تقول بيان.
أما طفله الثاني صلاح فهو وليدُ الحرب وعمره عام ونصف العام، بدأ مؤخرا بالتعرف على وجه أبيه والتعلق به، وبدأ لفظ "بابا" يتدحرج على شفتيه حتى انتزعه الموت من حجره ليغدو وحيدا قبل أن يتنعم بدلاله، تقول بيان "لو أردت عدّ الأيام التي اجتمع فيها أنس بصلاح فلن تتم نصف الشهر"، أما اليوم وبعد فقده فلا مُهدّئ له حين يلح بالنداء على أبيه سوى صورهما معا، ومقاطع أنس المصورة التي يسمع فيها صوته ثم يسكن بعدها.
شام وأنس
خلال مقابلتنا، دخلت طفلته شام بوجه غابت عنه الابتسامة، ارتمت في حضن أمها بذهول وملامح متجمدة، تقول بيان إنها أصرت على الذهاب إلى خيمة والدها للبحث عنه، فلم تجدها ولم تجده، سألت عنه، فأجابتها بيان "في الجنة مع جدّك"، لتمسك الهاتف وتبدأ بالإلحاح على أمها تريد سماع صوته.
قالت لها والدتها "بابا تعبان يا ماما، لم يأخذ معه هواتفه إلى هناك حتى يستريح"، يبدو أن الرواية لم تكن مقنعة لشام تماما كعدم اقتناعها بأن من دخل إليهم محمولا حين الوداع هو والدها؛ فهي لم ترَ وجهه، غير أنها علقت حينها "بابا له قدمان ويستطيع المشي".
تضيف بيان "كانت شام تسأل أنس دوما لماذا لا تعيش معنا، فيجيبها بأن الاحتلال يريد قتله، فتعانقه وتمسح وجهه بكفيها وتقول له لا تخف يا بابا لن يقتلوك".
درس أنس تخصص الإذاعة والتلفزيون في جامعة الأقصى، ثم عمل بعدها مصورا حرا، كان يرى في عدسته نافذة لفضح جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبه، ومع بدء العدوان على غزة، بدأ بالعمل بشكل تدريجي في قناة الجزيرة حتى صار مراسلها في القطاع.
كان قرار الانضمام لطاقم الجزيرة بمثابة تحدٍ لأنس، دفعته إليه زوجته التي كانت تراه قادرا على إيصال الصورة وتغطية الأحداث بشكل أمثل، تقول بيان "حتى قبل انضمام أنس للجزيرة كان صاحب رسالة مفعما بالحيوية، طموحا ومخلصا وعنيدا لا يخاف، وبعدها رأى أن الله قد منحه منبرا ليكون صوت المظلومين، وعليه أن يبلي فيه بلاء حسنا".
وحين بدأت التهديدات تنهال عليه، كانت بيان تعينه على قلقه، "بحذر وبلا مخاطرة يا أنس، وتذكّر أننا بحاجة إليك دوما وعائلتك"، فيجيبها "الله الحامي، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
"زوجك مفخرة"
22 شهرا عاشت فيها بيان القلق والاشتياق والبعد والخوف والحاجة مع طفليها وأب حاضر غائب، "كل ما كنت ألقاه من ضغط نفسي كان يتلاشى بلقائه وقربه وكلماته التي تهوّن عليّ ما أجد، كان هو دافعي للاستمرار والصبر"، تصمت وعيناها ترمقان المكان "لمن تركني الآن؟ من أين سأستمد قوتي يا أنس؟".
وبينما لم يكن يفصل بين أنس وعائلته سوى عدة دقائق وشارعين، كان اجتماعه بهم محدودا، فقد كان يخشى أن يؤذيهم بقربه وأن يُغتال وهم معه، لكن مكالماته مع أبنائه لم تكن تنقطع، "كنت أشعر بالقهر.. وأسأله دوما متى سنجتمع بأمان تحت سقف واحد بلا تهديد أو مطاردة أو استراق الوقت؟" تقول بيان.
وبينما يبدو وصف "رجل كامل" مبالغا فيه لدى الكثيرين، تجده بيان أقل وصف يستحقه أنس، وتؤكد "كان مثاليا معي ومع أمه وأطفاله وأسرته، والله ما بنلاقي (لن نجد) مثله".
قبل 5 أيام، باغت أنس زوجته برسالة حملت وصايا كثيرة، كان أولها ألا تبكي عليه حين يرحل، ومنها أن تهتم بتعليم أطفالهما وأن تربيهما كما كان يحب، وأن تكمل دراسة الوسائط المتعددة التي اختارها لها، كما أوصاها بأمه وبالقرب منها، وختم وصيته "لقد أثبت غيابي عنكِ الفترة الماضية اقتدارك وقوتك، أنا أعتمد عليك يا بيان".
لم يكن يهمها ما يقول بقدر ما كان يخنقها الشعور، "لا تتحدث معي هكذا أرجوك، فليمدد الله في عمرك أو لنمت معا".
في عزاء أنس، تلتف أمهات الشهداء حول والدته، ومن مدخل سرادق العزاء تتساءل زوجات الشهداء عن مكان زوجته وهنّ لا يعرفنها، الناس هنا سواسية في دهس الفقد الذي مرّ بقلوبهن، تحكي كلّ واحدة منهن قصتها، فيهون على الواحدة منهن مصابها، لكن في قصة أنس كانت المواساة الجامعة، "ارفعي رأسك، زوجك مفخرة، تعب كثيرا وآن له أن يرتاح".
وبينما هن كذلك، تحدق بيان في الساعة وتتسمر عيناها على صورته التي على شاشة هاتفها، تميلُ برأسها عليّ وأنا واحدة من الفاقدات القدامى، "أشعر أنه سيباغتني باتصال أو زيارة ليُكذّب ما يقولونه"، تعدل جلستها وتتمتم "قلبي يتآكل.. من يعيده إليّ؟".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"المرأة الخارقة" تنقلب على نتنياهو .. طالبت بوقف الحرب على غزة والإفراج عن الأسرى
"المرأة الخارقة" تنقلب على نتنياهو .. طالبت بوقف الحرب على غزة والإفراج عن الأسرى

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

"المرأة الخارقة" تنقلب على نتنياهو .. طالبت بوقف الحرب على غزة والإفراج عن الأسرى

شاركت الممثلة الإسرائيلية غال غادوت في المظاهرات الشعبية الواسعة التي خرجت في تل أبيب مساء أمس الأحد، مطالبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بوقف الحرب على غزة والإفراج عن الأسرى. كما التقت بطلة فيلم "المرأة الخارقة" (Wonder Woman) بعدد من أقارب الأسرى، إذ نُشر مقطع فيديو ظهرت فيه غادوت وهي تحتضن زوجة أسير. View this post on Instagram A post shared by StandWithUs (@standwithus) وشهدت إسرائيل أمس الأحد إضرابا عاما شلّ مفاصل الحياة بدعوة من عائلات الأسرى للمطالبة بإبرام صفقة تبادل، وخرج مئات الآلاف في احتجاجات واسعة شارك فيها وزير الدفاع السابق يوآف غالانت ورؤساء جامعات، إضافة إلى قادة المعارضة. وقالت هيئة عائلات الأسرى الإسرائيليين إن تقديرات الشرطة تشير إلى مشاركة أكثر من 150 ألف متظاهر في احتجاجات وسط تل أبيب. وأغلق المحتجون عدة طرق رئيسية والطريق السريع رقم واحد عند مدخل القدس، وتقاطع رعنانا شمالي تل أبيب. كما تجمّع عشرات المتظاهرين أمام منازل عدد من الوزراء، بينهم وزير الدفاع يسرائيل كاتس ووزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر. ومنذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، تقود غادوت -التي خدمت في الجيش الإسرائيلي برتبة رقيب بين عامي 2005 و2007- حملة بعنوان "أطلقوا الرهائن" عبر موقع "إكس" مستخدمة صورا للأسرى الإسرائيليين إلى جانب عائلاتهم. كما دفعت الممثلة البالغة من العمر 40 عاما عددا من نجوم هوليود للتوقيع على رسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي السابق جو بايدن للمطالبة بإطلاق الأسرى الإسرائيليين. وفي وقت سابق، نظمت غادوت عرضا خاصا في مدينة لوس أنجلوس الأميركية امتد لنحو 47 دقيقة، تضمن مشاهد مصورة من معارك يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بغرض الترويج للرواية الإسرائيلية. ودعت إلى هذا العرض نحو 120 شخصية من كبار مشاهير هوليود، بينهم ممثلون وممثلات ومنتجون ومديرون تنفيذيون. كما ظهرت الممثلة، التي لعبت مؤخرا دور البطولة في فيلم "سنو وايت" (Snow White)، في مقابلة مع قناة "كيشت" 12 الإسرائيلية، وقالت إنها تعتقد أن الضغط الممارس في هوليود على المشاهير "للتعبير عن آرائهم ضد إسرائيل" أسهم في الأداء المخيب للفيلم في شباك التذاكر. وذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية أن "الانتقادات الواسعة لموقف غادوت المؤيد لإسرائيل أثّرت على مسيرتها المهنية، غير أنها واصلت -رغم ذلك- لفت الانتباه الدولي إلى قضية الرهائن".

غزة كما لم تُروَ من قبل.. وثائقيات تكشف الحصار والتجويع والمجازر
غزة كما لم تُروَ من قبل.. وثائقيات تكشف الحصار والتجويع والمجازر

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

غزة كما لم تُروَ من قبل.. وثائقيات تكشف الحصار والتجويع والمجازر

صُنعت وعرضت العديد من الأفلام عن غزة، بعضها يروي قصصا حقيقية، وأخرى تتناول أحداثا خيالية. أفلام تُظهر الاعتداءات الإسرائيلية، وأخرى تحكي عن الفلسطينيين الذين يحاولون العيش ومواجهة الحياة مثل أي أناس من جنسية أخرى. أغلب هذه الأفلام أخرجها وصنعها مخرجون عرب تشكلت هوياتهم بالقضية الفلسطينية، غير أن هذه القضية عامة وغزة خاصة أثّرتا أيضا على صناع أفلام أجانب واستمالت قدراتهم الفنية، فأصبحوا أصواتا عالية تنقل أوجاع الفلسطينيين للعالم. نستعرض هنا مجموعة من الأفلام الوثائقية العالمية التي وثّقت المجازر وأشكال العنف التي عانى منها سكان غزة على مر السنوات، لتشكّل أرشيفا حقيقيا لما يجري هناك مهما حاول العالم غضّ الطرف عنه. عام من الحرب في غزة "عام من الحرب في غزة" (One Year of War in Gaza) فيلم وثائقي من إنتاج "بي بي سي" (BBC) متاح على منصتها الخاصة وعلى يوتيوب بشكل مجاني، يوثق الحرب الجارية على قطاع غزة بعد عام من اندلاعها، وقد بدأ عرضه في أكتوبر/تشرين الأول 2024. "عام من الحرب في غزة" فيلم صنعه أربعة فلسطينيين يعيشون زمنا استثنائيا، فمنذ الأيام الأولى للحرب، بدأ كل من خالد وآية وآدم وأسيل -وهم مواطنون عاديون من غزة- في تصوير حكاياتهم بأنفسهم، موثّقين ما يمرون به من غارات وقصف، وعمليات نزوح متكررة، وافتراق العائلات ولقائها من جديد، وفقدان أحبة، وحتى استقبال مولود جديد وسط الفوضى، وقد أنجبت أسيل طفلتها حياة خلال نزوحها. يوثق الفيلم شهادات مؤلمة لمن يعيشون الحرب حتى اليوم ويواجهون الهجمات المستمرة والقصف الذي لا يتوقف، واضعا أمام المتفرج الصورة الكاملة لتأثير الصراع المباشر على حياتهم عبر قصص عن الموت واليأس والصدمات التي ما زالت تلاحقهم. يرصد الفيلم أيضا مشاهد النزوح المستمر، والبحث الدائم عن الطعام درءا لشبح الجوع، وخطر الموت في كل لحظة، وغياب مظاهر الحياة الحديثة، حتى إن سكان غزة -على حد قولهم- عادوا إلى مرحلة أشبه ببدايات التاريخ البشري. غزة يحمل فيلم "غزة" (Gaza) توقيع المخرجين الأيرلنديين غاري كين وأندرو ماكونيل، وقد شهد أول عرض له على منصة مهرجان صندانس السينمائي، حيث لفت الأنظار برؤيته الإنسانية للمدينة المحاصرة. يرسم العمل صورة إنسانية لحياة سكان غزة اليومية بعيدا عن ضجيج السياسة وأصوات الحرب. رشّح الفيلم ليمثل أيرلندا في المنافسة على جائزة أفضل فيلم دولي في الدورة الـ92 للأوسكار، لكنه لم يتمكن من بلوغ القائمة النهائية. يكشف الفيلم الجوانب المتعددة للحياة داخل غزة قبل طوفان الأقصى وبين عامي 2014 و2023، فعلى الرغم من الحصار والقيود التي تخنق تفاصيل حياة الفلسطينيين اليومية، فإنهم يبحثون في كل لحظة عن الهدوء والاطمئنان مثل غيرهم من البشر، يستمتعون بصحبة عائلاتهم الممتدة، ويجدون في البحر منفذهم الوحيد الذي يحتضن أحلامهم ومخاوفهم. يعكس الفيلم مشهدا يوازي ما يحدث الآن من دمار في غزة، حيث تحولت حتى الحدود الدنيا من مقومات الحياة، التي كانت ترضي سكان القطاع سابقا، إلى مجرد أحلام في ظل صراعهم اليومي مع الموت، سواء بسبب القصف أو الجوع. احتلال العقل الأميركي أُنجز فيلم "احتلال العقل الأميركي" (The Occupation of the American Mind) عام 2016 في الولايات المتحدة، وأخرجه كل من لوريتا ألبير وجيريمي إيرب، في حين أضفى الفنان البريطاني روجر ووترز صوته على السرد. يسعى العمل إلى كشف الكيفية التي يوظف بها الاحتلال الإسرائيلي وجماعات الضغط المؤيدة له نفوذهم في الإعلام الأميركي لتشكيل الرأي العام تجاه سيطرته على الضفة الغربية وقطاع غزة، وتبرير جرائم الحرب التي يرتكبها ضد الفلسطينيين. يفتتح الفيلم بسرد وقائع حرب غزة عام 2014، حيث يذكر أن إسرائيل أمطرت القطاع بآلاف الأطنان من المتفجرات على مدى 51 يومًا، في حصيلة مأساوية أودت بحياة ما يزيد على ألفي فلسطيني وأصابت عشرات الآلاف، معظمهم من المدنيين. يمضي الفيلم في خطين متوازيين: الأول عرض الحقائق الميدانية لما يحدث في الضفة وغزة، والثاني تحليل ردود الفعل الأميركية التي يصوغها اللوبي الصهيوني بكلمات مدروسة لتضليل الرأي العام العالمي وإظهار الفلسطينيين في موقع المعتدي. واجه الفيلم عراقيل في مشواره نحو الجمهور، إذ تسببت احتجاجات جماعات مؤيدة للصهيونية في تقليص زمن عرضه بأحد العروض إلى 49 دقيقة فقط، مما دفع منتجيه لاحقًا لطرحه عبر يوتيوب بنسختيه الكاملة والمختصرة. ولدت في غزة يحمل فيلم "ولدت في غزة" (Born in Gaza) توقيع المخرج الإيطالي الأرجنتيني هيرنان زين، وقد صُوِّر بعد فترة وجيزة من حرب 2014 ليغوص في آثار العنف على طفولة الفلسطينيين عبر شهادات عشرة أطفال يستعيدون تفاصيل أيامهم تحت وطأة القصف. نال الفيلم مكانًا في القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار، مما ضمن له انتشارًا واسعا، خاصة مع توفره على منصتي "نتفليكس" (خارج الشرق الأوسط) و"آبل تي في بلس"، لكن حضوره العالمي لم يحل دون تكرار المأساة نفسها التي شهدتها غزة عام 2014 بحق الأطفال وسط صمت دولي. وبالرغم شهرته، لم يغير الفيلم من الواقع شيئا، ولم يذكّر العالم بما حدث في 2014 من عنف ضد الأطفال وتجويع ممنهج يتكرر الآن بلا رادع. إعلان تظهر الكاميرا وجوه الأطفال لتكشف بوضوح آثار الصدمات النفسية قبل الجسدية، وجروحا خارجية وداخلية، وبراءة سُرقت منهم حين شاهدوا بأعينهم أحباءهم يتمزقون تحت القصف.

الشريف وقريقع والخبر المغطى بالدم
الشريف وقريقع والخبر المغطى بالدم

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

الشريف وقريقع والخبر المغطى بالدم

كنتُ أشعر بأنها مسألة وقت منذ حوالي سنة، بل زاد هذا الشعور حتى صار أشبه بالقناعة بعد قصف منزله الذي أدى إلى استشهاد والده أواخر العام الماضي. أنس الشريف، الذي جاءنا خبر اغتياله مساء الأحد 10 أغسطس/آب 2025. وقد تابعنا ورصدنا حملات التحريض الإسرائيلية ضده، والتي كانت معلنة صريحة، تُظهر نوايا التصفية الغادرة، وما خفي من تهديد ووعيد كان أعظم. استشهد أنس الشريف الذي لم يبلغ الثلاثين، متعبا حزينا جائعا، مخذولا من أمته ومن عالم طالما تغنت (ديمقراطياته) الكبرى بحرية العمل الصحفي وتوفير الحماية للصحفيين. تمزق جسده الصغير واحترق بصواريخ المسيرات مع عدد من زملائه، ليصبحوا هم الخبر العاجل بعدما كانوا ينقلون لنا (عواجل) مغطاة بل غارقة بالدم والجوع، من غزة التي تعيش منذ ما يقرب من سنتين أكبر مقتلة في العصر الحديث، بل ربما في تاريخ البشرية جمعاء، قياسا بالمساحة وآلة القتل التي لا تتوقف. كانت شاشة الجزيرة ومراسلوها، وخاصة أنس الشريف، نافذة الحقيقة التي أرادت إسرائيل أن تغلقها. ولهذا كان الحزن بفقدان أنس كبيرا في غزة، التي قبل أنس ومعه وبعده لا تتوقف عن توديع الشهداء، لكنها هذه المرة ودعت صوت أنينها وآلامها وآمالها النفس ونبضات الروح خلف أداء أنس تشعر بطعم مختلف إذا طهى لك الطعام شخص ما، ولا تجد ذلك المذاق إن طهى نفس الطعام شخص آخر، مع أن كليهما استخدم المقادير والأدوات نفسها وفي الظروف نفسها. وأتعمد ضرب مثل عن (الطبيخ) كي نتذكر الجوعى الذين بحّ صوت أنس وهو يبكي حالهم على الهواء مباشرة، من أهله وأبناء شعبه الذين نسوا أصناف المطبوخات والمخبوزات، وأصبح أقصى طموحهم رغيف خبز ملوثا بالدم أو التراب مع علبة فول منتهية الصلاحية. ومن يحصل على ما ذُكر يُعتبر ذا حظ عظيم! ما سبب شعورك بهذا المذاق؟ إنه ما يسمى عادة (النفَس) الذي يدخل في الأداء أو العمل فيمنحه نكهة خاصة ويشعرك بشيء مميز؛ كما تسمع موعظة من شيخ ربما يحمل شهادات كثيرة فلا تتأثر بها، ثم تسمع الموعظة نفسها من شيخ أقل علما فتتأثر، لأنك تحس بأنها خارجة من قلبه وأعماق روحه. ومثلما تحرص حين تشعر بأعراض مرض ما أن تذهب إلى طبيب بعينه، ولو قيل لك إن طبيبا آخر أكثر منه خبرة ومهارة، فتجيب: "أنا أرتاح كثيرا لهذا الطبيب وأشعر أنه يعالجني وكأنني ابنه!". مواقف كثيرة مثل هذه تعرفها، لا تُفسر بشيء مادي تدركه الحواس الخمس، ولكنك تستشعره تماما بقلبك وروحك. وهكذا كان أداء أنس الشريف. منذ التحاقه بطواقم شبكة الجزيرة وظهوره على شاشتها مغطّيا أخبار قطاع غزة الذي يتعرض للإبادة الجماعية، كان هناك إحساس عام بأنه ليس مجرد مراسل يؤدي عمله بشكل روتيني، بل هو بصوته ونقله للخبر يضفي شعورا بحجم الكارثة، وكأن ما يسمى (لغة الجسد) تعطي بعدا جديدا للخبر كي لا يتحول قتل الأطفال والنساء وهدم البيوت وتجويع الناس إلى حدث عادي بفعل التكرار. ورأيناه لا يتمالك نفسه وينهار أمام الكاميرا وهو يغطي مشهد امرأة أنهكها الجوع فسقطت تشكو إلى الله ظلم الظالمين وتخاذل المتخاذلين. لهذا كان أنس صوت غزة النابض بكل ما في قلوب أهلها وأحيائها المهدمة من قهر وحزن وألم. وهو ابن مخيم جباليا الذي دفع ثمنا باهظا، واستمر غير آبه بمصير كان يتوقعه، فكتب وصيته قبل أربعة شهور من اغتياله. وجاءت اللحظة التي أبكت غزة وفلسطين وكل أحرار العالم ومن بقي لديهم ضمير، فقد شعروا أن صلة روحية انقطعت بانقطاع أنفاس أنس. وزملاء أنس الآخرون أيضا لهم تلك الحالة الروحانية المخالطة للأداء الصحفي، لكن معظم الناس شعروا أنها عند أنس كانت تفيض وتشع أكثر. وربما كانت وراء تلك الديناميكية والطاقة التي ميزته وهو يتنقل متحديا الخطر لينقل الحقيقة من قطاع غزة الذي ما تزال إسرائيل تمنع الصحفيين من دخوله. فكانت شاشة الجزيرة ومراسلوها، وخاصة أنس الشريف، نافذة الحقيقة التي أرادت إسرائيل أن تغلقها. ولهذا كان الحزن بفقدان أنس كبيرا في غزة، التي قبل أنس ومعه وبعده لا تتوقف عن توديع الشهداء، لكنها هذه المرة ودعت صوت أنينها وآلامها وآمالها. ولم تحاول إسرائيل التنصل من جريمتها أو إلصاقها بغيرها كما فعلت مع (شيرين أبو عاقلة)، بل أعلنتها وتبجحت بها، لأنها كانت تخاف صوت أنس وهيئته وصرخاته وما يبثه مع زملائه من مشاهد مذابحها. فقررت إسكات هذا الصوت؛ ظنا منها أنها تُسكت صوت الحقيقة؛ أما تبجحها فمرده شعورها بأنها آمنة من العقوبة، وألا أحد سيحاسبها! محمد قريقع، مثل وائل الدحدوح وأنس الشريف، اكتوى بلوعة فراق أهله وأحبابه على يد الجيش الإسرائيلي محمد قريقع الصحفي اليتيم أنا وحيد أمي ويتيم، فلا شك أن لدي شعورا بمن نشأ في مثل حالتي. وهذا هو مراسل الجزيرة الذي قضى مع أنس، الثلاثيني محمد قريقع، الذي تعرّف على جثمان أمه قبل شهور من أظافرها وشعرها الأبيض بعد تحلل جثتها التي قُتلت عند اقتحام مشفى الشفاء. ولعل من حكمة الله أن تسبقه إلى رحمته ولا تشرب كأس الحسرة، وأن يُستشهد ابنها في المكان نفسه بعد شهور. محمد قريقع، مثل وائل الدحدوح وأنس الشريف، اكتوى بلوعة فراق أهله وأحبابه على يد الجيش الإسرائيلي. شق محمد طريقه في قلب القطاع المحاصر منذ أن كان فتى يافعا حتى صار مراسلا للجزيرة، ينقل معاناة شعبه. واستشهد مع أنس الشريف وزملائهما: إبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، ومحمد نوفل في قصف خيمتهم بمجمع الشفاء الطبي، ليرتفع عدد شهداء طواقم الجزيرة في غزة إلى 11 منذ بدء الحرب، من إجمالي 238 صحفيا حتى الآن. كونوا على قدر التحدي، فلا خيار إلا هذا، وأنتم أهل له كما برهنتم في أكثر من حدث مفصلي تغطية متواصلة.. ولكن نرجو الله أن تتوقف المقتلة في غزة فورا، ولكن سواء استمرت -للأسف هذا الظاهر- أو توقفت، فإن غزة بحاجة إلى صوت كصوت أنس ورفاقه، وإلى كاميرات زملائه توثق ما جرى ويجري. إعلان والرسالة من رفاق دربه: (مستمرون.. وسنواصل). وهذا حسن ومطلوب، لكن أقول بصراحة: أمامكم تحدٍ كبير ومسؤولية عظيمة؛ فقد أتعب أنس من بعده، فيجب أن تكون التغطية، وخاصة في جانبها المعنوي الروحاني الذي تحدثنا عنه، على مستواه أو أعلى. وإلا فإن رهان إسرائيل، ولو جزئيا، بارتكاب هذه الجريمة سينجح لا سمح الله. فكونوا على قدر التحدي، فلا خيار إلا هذا، وأنتم أهل له كما برهنتم في أكثر من حدث مفصلي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store