
جبر الخواطر
كانت والدتي تقول لنا دائماً: «يوم بتعطون حد شيء لابد أن يكون لديكم ما يكفي جميع الموجودين حتى لا يشعر أحد بأنكم استثنيتموه من حيز الوجود.. تذكروا أن جبر الخواطر أفضل من كسرها»، تلك عبارات سيدة توفي زوجها وهي في عز الشباب، ورفضت أن ترتبط بغيره حتى لا يتعرض لأطفالها أو يكسر خواطرهم بكلمة. منذ تلك الأيام وأصداء كلماتها في آذاننا، وأرى الجمال في كل شيء في البشر ولا توجد مقاييس أو درجات أو مواقع. مثال ذلك أني رأيت ابن أحد الزملاء، وقد رافق والده عند نهاية الدوام، لوح لي بيده مسلماً وبادلته التحية عن بُعد، ولم أزل عيني عن الصبي حتى وجدته ووالده يقفان أمامي، فقلت للأب: «هذا هو الاستنساخ بعينه.. يالهذا الشبه وكأن الزمان عاد بك إلى الطفولة!»، ابتسم بكل فخر وقال: «كيف حالك دكتورة؟ هذا ابني»، نظرت إلى الصبي وقلت له: «إن والدك من أفضل الرجال والزملاء الذين أعمل معهم، عليك أن تركز على تعليمك لتصبح مثله، وربما في مقامٍ نحن نريده لك»، ابتسم الفتى وقال: «إن شاء الله خالتي»، نظرت في عين والده فوجدتها مليئة بالاعتزاز بنفسه وبابنه وبالإطراء الذي جاء صادقاً وفي محله. هؤلاء الزملاء نور المكان وبهجة اليوم ورفقتهم سرور ومودة.
***
هناك من يحلم بالشهرة والعظمة والخبرة، فتنام ضمائرهم وتستتر ويتمارضون، ولكنهم يصدحون بأعلى أصواتهم، ويتغيبون عن العمل ليقدموا عملاً يفترض أنه ذو جدوى. يقول ابن العربي: إن السارق هو فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ، لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ مَعَانٍ أهمّها الْعَقْلُ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا. نتحدث هنا عن سرقة الوقت الذي ثمنه يأتي عند غرة كل شهر. إن سلوكيات كهذه تكسر خاطري فقد ضاع العلم والأدب وما بينهما من تربية في هوامش ومساعٍ لا تعرف للمجد مكاناً.
***
للعارفين أقول: أغرقت نفسي في محبة من يودني، واكتشفت أن اللطف رحمة ولين القلب رزق وجمال الإنسان من آيات خلق الله. إذاً أقسمت أن أفعل كل ما هو جميل لبلادي، وأبذل في سبيلها الغالي والنفيس والمال والولد، وأن لا أترك شيئاً إلا فعلته.. حتى أذوق الموت.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاتحاد
منذ 33 دقائق
- الاتحاد
«الأرشيف والمكتبة الوطنية» يُعرّف بثقافة وتقاليد المجتمع الإماراتي
أبوظبي (الاتحاد) بوصفه شريكاً استراتيجياً في التنشئة الوطنية للأجيال، نظم «الأرشيف والمكتبة الوطنية» بمقره، الملتقى السنوي لتدريب المعلمين العرب والأجانب على مدار ثلاثة أيام، شارك فيه نحو 200 معلم ومعلمة، وذلك بهدف تعريفهم بالعادات والتقاليد الأصيلة في المجتمع الإماراتي، وبتفاصيل ثقافة المجتمع، وأهمية نشر القيم والمبادئ الوطنية، وترسيخ الهوية الوطنية لدى الطلبة. ضمّ برنامج الملتقى محاضرة وطنية ثقافية قدمتها مهرة الأحبابي، من الأرشيف والمكتبة الوطنية، سلطت فيها الضوء على ثقافة المجتمع الإماراتي، وأهمية نشر قيم التسامح والتعايش، والعمل على التنمية المستدامة، وذلك بالتزامن مع عام المجتمع 2025، وتحدثت الأحبابي عن المجالس، التي قال عنها المؤسس والباني المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه»: (المجالس مدارس)، ويعد المجلس لدى أبناء المجتمع الإماراتي وجهة ثقافية تؤكد دوره في إنتاج الثقافة واستدامتها. وتطرقت المحاضرة للسنع الإماراتي ولا سيما مجموعة العادات والتقاليد الإماراتية الأصيلة في الضيافة، وتحدثت عن المناسبات الاجتماعية، والاحتفالات الشعبية، وعن الأزياء الإماراتية. وشرحت المحاضرة للمشاركين أهمية الرياضات التراثية والمحافظة عليها في الدولة، حفاظاً على الموروث الثقافي والشعبي، وأبرز هذه الرياضات: سباقات الهجن، سباقات الخيل، والصيد بالصقور، والرياضات البحرية... وغيرها. وركزت المحاضرة على حرص المجتمع الإماراتي على كيفية التعامل مع كبار السن، ومع الجيران، وآداب الزيارات، والاهتمام بالأعمال الإنسانية. وتابع المعلمون المشاركون فيلماً وثائقياً عن «الإمارات عبر العصور»، ثم قاموا بجولة في مرافق الأرشيف والمكتبة الوطنية، بدأت بقاعة الشيخ زايد بن سلطان، التي تعدّ منصة تفاعلية ومعرضاً يوثِّق محطاتٍ من مسيرة الاتحاد، ويعرض صوراً ووثائق تاريخية نادرة تجسِّد رؤية المؤسِّس والباني المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في بناء الدولة الحديثة. وزار المعلمون قاعة الشيخ سرور بن محمد آل نهيان، التي تعد إضافةً نوعيةً لمرافق الأرشيف والمكتبة الوطنية، بما تضمُّه من مقتنيات نادرة ووثائق وصور تؤرِّخ لمحطات مهمة في تاريخ الدولة، وتوثِّق سيرة إحدى الشخصيات الوطنية البارزة التي أسهمت بشكل كبير في خدمة الوطن. وتجولوا أيضاً في قاعتي المطالعة التابعتين للمكتبة، وتعرفوا على أبرز المقتنيات من المصادر والمراجع والدراسات التي توثق بالمعلومة الدقيقة تاريخ وتراث دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الخليج.


الاتحاد
منذ 2 ساعات
- الاتحاد
رواية «الفقراء»
رواية «الفقراء» عند العودة إلى قراءة الأعمال التي صدرت قديماً في الأدب العالمي، مثال رواية «الفقراء» للكاتب الروسي الكبير دوستويفسكي، ورصد أسلوب الاشتغال على الصياغة الأدبية، وكم تبدلت بعده طريقة المعالجات لفن الكتابة، ومع ذلك يظل الأدب العظيم والمعالجات الإبداعية عند هذا الكاتب الكبير فيها الكثير من الفارق في الطرح والمعالجة والخصوصية التي لا يصل إليها إلا الكبار من كتاب الرواية. رواية «الفقراء» صدرت من زمن بعيد. وهي رواية في غاية الجمال والأهمية. وطريقة المعالجة والرؤية والهدف من تناول حكايات بهذا المستوى، بالتأكيد لا تأتي إلا من كاتب عظيم، والانحياز إلى هذه الفئات المهمشة والضعيفة، لا يتناولها غير كتاب عظام وكبار مثل دوستويفسكي، إنه يقدم صورة حقيقية وواقعية عن ذلك الزمن، ولعل طريقته السردية والمباشرة تجعل النص مرآة للواقع في ذلك الزمن. قدرة دوستويفسكي العالية في الكتابة جعلت من الرواية إضافة جميلة ورائعة للأعمال الأدبية في زمنه وحتى الآن. متعة النص أنك تعيش واقع ذلك الزمن البعيد وبأسلوبه الراقي العظيم. تعود إلى أزمنة كافح فيها الإنسان ليعيش ويهزم ظروفه مهما عظمت وقست عليه الحياة. كاتب بحجم ديستويفسكي عندما يلتفت إلى القضايا الاجتماعية وحياة الناس البسطاء/ الفقراء في ذلك الزمن القاسي البعيد، تقول لنا كتاباته وأعماله، كم هو عظيم في رواياته، وهذه الرواية من بدايات كتاباته الروائية والسردية، حيث كتبت في عام (1844 - 1845) ونشرت في عام (1846). يا الله ما أبعد ذلك الزمن ومع ذلك مازالت رائعة وجميلة، تنقلك إلى الزمن البعيد وتقدم صورة جلية عن ذلك المجتمع الذي كان يتشابه مع مجتمعات كثيرة وقته. أظن يكفي أن نذكر رواية (الجريمة والعقاب (1866) ورواية الأخوة كارامازوف (1880) لنبرهن على عظمة هذا الكاتب الكبير. هل من المفيد أن نعود إلى هذه الأعمال الأدبية القديمة، وأن يعاد طباعتها؟ بالتأكيد نعم، وهو أمر مهم للأجيال الجديدة حتى تقف على أرضية صلبة وتعرف كم قدمت الثقافة والمعرفة وفنيات الكتابة من كتاب عظام، وأيضاً لنعرف كم تطورت فنون التعبير وطريقة المعالجة للنص الأدبي. قد تكون الأعمال الفنية السردية المباشرة ليست ذات أهمية الآن في ظل تقدم فنون الكتابة، ولكن لابد من معرفة كل الأساليب والطرق الجميلة في إبداع النصوص. ملخص ما تقدمة «رواية الفقراء» أصناف من الاضطهاد والعذاب والإذلال الذي يتعرض له بطلا الرواية، يتحملان الفقر وما لا يطاق، ومع ذلك يحملان قلبين كبيرين، ومحبة للناس جميعاً. لم يؤدِ القهر والإحباط والذل إلى صنع شر داخلهما لأذية الآخرين. نماذج رائعة يقدمها هذا الكاتب العظيم دوستويفسكي، ويكفي أن يذكر اسمه حتى يصمت كل الحكي.


البوابة
منذ 4 ساعات
- البوابة
حكايات يرويها - سامح قاسم: صنع الله إبراهيم.. الذاكرة المضادة
برحيل صنع الله إبراهيم، يفقد الأدب العربي أحد أكثر كتّابه عنادًا ونقاءً، كما يفقد أيضًا شاهدًا نادرًا على تحولات مصر والمنطقة طوال النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين. لم يكن صنع الله مجرد روائي يُضيف عناوين إلى رفوف المكتبات، لكنه كان ذاكرة حيّة، ومؤرّخًا غير رسمي للوجع العربي، وصوتًا لم يعرف التواطؤ مع السلطة أو المساومة على الكلمة. لقد ظلّ طوال حياته يجلس على الطرف النقيّ من المعادلة: أن تكون كاتبًا يعني أن تكتب ما يجب، لا ما يُطلب. وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، في فترة كانت فيها مصر على أعتاب تحولات سياسية واجتماعية كبرى، من نهاية الحقبة الملكية إلى صعود المدّ القومي العربي. عاش شبابه في خضمّ هذه الاضطرابات، وانخرط في النشاط السياسي اليساري، فدفع ثمنًا باهظًا حين قضى سنوات في السجن في عهد جمال عبد الناصر. لكن السجن، بدل أن يُكسر إرادته، صقل وعيه، وحوّل نظرته إلى الأدب من مجرد ممارسة جمالية إلى مشروع مقاومة ثقافية وفكرية. حين خرج من المعتقل عام ١٩٦٤، كان قد رأى ما يكفي ليعرف أن معركته ليست فقط مع "العدو الخارجي" بل مع الاستبداد الداخلي، ومع البنية التي تُعيد إنتاج القمع في كل جيل. جاءت روايته الأولى "تلك الرائحة" عام ١٩٦٦ لتعلن عن ميلاد صوت أدبي مغاير؛ نصّ قصير، مقتصد في اللغة، فجّ في صدقه، كاشف في عريه، حتى أن السلطات منعت توزيعه لبعض الوقت. ومنذ تلك اللحظة، صار واضحًا أن هذا الكاتب لن يدخل بيت الطاعة الأدبية. لم يكن صنع الله إبراهيم يتعامل مع الكتابة كترف، أو كزينة ثقافية، بل كوسيلة لمقاومة النسيان والتزييف. في "اللجنة"، و"ذات"، و"شرف"، و"بيروت بيروت"، و"العمامة والقبعة"، لم يكتب روايات بالمعنى التقليدي فقط، لكنه كتب "ملفات إدانة" ضد الاستبداد، وضد التبعية، وضد انهيار القيم العامة. في كل نص من نصوصه، كان يضع القارئ أمام وقائع ملموسة، بالأسماء والتواريخ والأرقام، ليجعل الأدب نفسه وثيقة يصعب على التاريخ الرسمي محوها. لكن عظمة صنع الله إبراهيم لم تكن في نصوصه وحدها، وإنما عظمته كانت في مواقفه الحياتية. فهو الكاتب الذي، في عام ٢٠٠٣، صعد إلى منصة تسلّم "جائزة الدولة التقديرية" من وزارة الثقافة، ثم أعلن أمام الحاضرين رفضه الجائزة احتجاجًا على سياسات النظام وفساده وتواطئه مع الاحتلال الأميركي للعراق. في لحظة كهذه، أدرك كثيرون أن ما يكتبه الرجل ليس شعارات بل ميثاق حياة، وأنه مستعد لدفع ثمن الكلمة حتى آخر العمر. اليوم، مع غيابه، لا نودّع كاتبًا، إنما نودّع "ذاكرة مضادة" كانت تصرّ على مواجهة التيار الجارف للتزييف، و"صوتًا أخلاقيًا" ظلّ يذكّر بأن الأدب إذا فقد صدقه فقد مبرّر وجوده. رحيله يترك فراغًا هائلًا، لكنه يترك أيضًا تراثًا سيبقى، لأنه مكتوب بحبر الحقيقة، والحبر الذي تكتبه الحقيقة لا يجفّ أبدًا. من الذات إلى العالم في تاريخ الرواية العربية الحديثة، قلّما نجد كاتبًا ظلّ وفيًّا لوعيه النقدي، وموقفه الأيديولوجي، ومشروعه الفني، كما فعل صنع الله إبراهيم. إنه أحد هؤلاء الكُتّاب الذين ظلوا، على امتداد عقود، أشبه بـ"ضمير" أدبي وثقافي يقظ، لا يتورّط في المساومات، ولا يهادن سلطة، ولا يكتب من أجل الجوائز أو التصفيق، بل من أجل قول الحقيقة حتى وإن كانت جمرًا على لسانه. منذ بداياته، لم يكن صنع الله مأخوذًا بفكرة الكاتب "المترف" أو "النخبوي"، بل كان مسكونًا بإلحاح السؤال الاجتماعي والسياسي، متأثرًا بأجواء الخمسينيات والستينيات التي شهدت صعود المدّ القومي واليساري في العالم العربي. التحق بالعمل الصحفي، وهناك، في بلاط الصحافة، تدرّب على الدقة، وعلى جعل الوثيقة نصًا، وعلى فن "الاقتصاد في العبارة" دون التضحية بالمعنى. هذه الصحافة، مع ما رافقها من تجربة الاعتقال السياسي لاحقًا، ستصبح حجر الأساس في مشروعه الروائي. تجربة الاعتقال التي تعرّض لها بين عامي ١٩٦٥ و١٩٧١ على خلفية انتمائه إلى الحركة الشيوعية المصرية، كانت لحظة تأسيسية في حياته. لم يكن السجن بالنسبة له مكانًا لقتل الوقت، بل مختبرًا حادًّا لتفكيك البنية السلطوية، ولتأمل النفس البشرية تحت الضغط. في السجن، قرأ كثيرًا، وتأمل كثيرًا، واكتشف أن الحرية الحقيقية لا تمنحها السلطة، بل ينتزعها الكاتب من اللغة والخيال. وكأن الكتابة، بالنسبة له، صارت منذ تلك اللحظة شكلًا من أشكال المقاومة. هنا يمكن استحضار قوله في أحد الحوارات: لم أكتب لأكون محبوبًا من السلطة، ولا لأكون مرضيًا عنه في الصالونات الثقافية، بل كتبت لأنني كنت أختنق، ولأن الكتابة كانت نافذتي الوحيدة للهواء." ومع أن أول أعماله المنشورة جاءت بعد خروجه من السجن، فإن "شخصية" صنع الله الإبداعية كانت قد تبلورت بالفعل: مزج بين التوثيق والخيال، بين لغة تقريرية صارمة وبين إيقاع سردي جاف ظاهريًا لكنه مشحون بالدلالات. روايته الأولى "تلك الرائحة" كانت بمثابة إعلان صادم عن صوت جديد في الأدب العربي: نص قصير، مكثف، يكتب عن تجربة السجن والإفراج، لكن بعيدًا عن البطولة التقليدية أو الميلودراما. نص يصف الحياة اليومية، العلاقات العابرة، الإحساس بالفراغ بعد السجن، دون خطابية أو شعارات. هذه الرواية، التي رفضتها الرقابة في حينها، كشفت عن ملامح مشروع صنع الله: تفكيك الواقع عبر التفاصيل، لا عبر الخطابات الرنانة. ولعل أهم ما يميز بداياته أنه لم ينفصل عن الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر، ولم يتخذ من الكتابة منفى عن الحياة، بل ظل منحازًا إلى الهامش، إلى المهمّشين، إلى الذين لا صوت لهم. ولأنه كان يرى الأدب أداة كشف، فقد جعل من رواياته مرايا مشروخة، تعكس قبح السلطة، وانكسارات الحلم، وتناقضات المجتمع. في هذا السياق، يمكن النظر إلى صنع الله إبراهيم ككاتب "ما بعد الأمل"، أو كما وصفه بعض النقاد: "كاتب الخراب الجميل". فهو ابن جيل عاش الحلم القومي العربي في أوج مجده مع جمال عبدالناصر، ثم عاش انهياره المدوي بعد هزيمة ١٩٦٧. هذه الهزيمة، بما حملته من جرح عميق في الوعي الجمعي العربي، ستتردد أصداؤها في أعماله كلها تقريبًا، سواء بشكل مباشر أو كظل طويل يلوح في خلفية السرد. إن البدايات عند صنع الله إبراهيم لم تكن مجرد مرحلة زمنية، بل كانت بمثابة "معمل" لصياغة موقفه من العالم: أدب لا يجامل، لغة لا تتزين، ووعي نقدي لا يساوم. وهذا ما جعله، منذ الصفحات الأولى التي كتبها، مختلفًا عن مجايليه، ومثيرًا للجدل، ومحفزًا للقراء على إعادة النظر في العلاقة بين الأدب والواقع، بين الروائي والمجتمع، بين الكلمة والحرية. عزلة الكاتب وصخب العالم يبدو صنع الله إبراهيم وكأنه يقيم في تخومٍ متوترة بين عالمين: عالمه الداخلي المجبول بالتأمل الحاد، والحذر من الأوهام، والبحث المضني عن المعنى؛ وعالم خارجي مضطرب، ينهشه التسلط والفساد والانكسارات السياسية. هذه المسافة ـ أو بالأحرى هذه "الفجوة" ـ لم تكن يومًا فراغًا خاملًا في حياته، بل صارت مادةً إبداعية، ومختبرًا دائمًا لإعادة فحص العلاقة بين الإنسان والتاريخ، بين الأمل واليأس، وبين الحرية والاستسلام. منذ بداياته، بدا واضحًا أن صنع الله لا يقيم في "الوسط المريح" الذي يرضى به كثيرون، بل يصرّ على العيش في تلك النقطة الحرجة التي تتماس فيها الكتابة مع المخاطرة. كان يكتب وفي ذهنه قناعة شبه وجودية أن "الكتابة ليست مهنة"، بل هي فعل مقاومة، وسردٌ موازٍ للتاريخ الرسمي، وكشفٌ عن المسكوت عنه. ولهذا ظلّ غريبًا بعض الشيء في الوسط الأدبي؛ ليس انعزالًا عن الناس، ولكن انعزالًا عن أي انسجام زائف مع سلطة أو تيار. عزلته لم تكن صمتًا، بل صخبًا داخليًا، يشتبك فيه الكاتب مع أرشيف من الصور والأحداث والأسماء والروائح والمشاهد اليومية. ولهذا جاء سرد صنع الله باردًا أحيانًا في سطحه ـ كما في "اللجنة" و"بيروت بيروت" ـ لكن هذا البرود لا يخلو من حرارة كامنة، أشبه بجمر تحت رماد. يكتب كأنه يضع القارئ أمام مرآة لا تجامل، ثم يتركه يواجه نفسه، بلا إملاءات أو نهايات مريحة. لقد خبر صنع الله عزلة السجن، وعزلة المراقبة المستمرة، لكنه جعل من هذه التجارب وقودًا لخياله الوثائقي. في كتاباته، تتقاطع الأخبار الصحفية مع قصاصات الإعلانات، والتقارير الرسمية مع المذكرات الشخصية، والخرائط مع الحوارات العادية. وكأن العالم كله موجود في أرشيف ضخم، يفتحه أمامنا، ثم يتركنا نكتشف التناقضات بين "ما يقال" و"ما يُعاش". أما صخب العالم، فكان دائمًا حاضرًا في كتاباته، كطرف فاعل في السرد. العالم ـ بأحداثه السياسية الكاسحة وحروبه وانقلاباته ـ ليس إطارًا للحكاية، لكنه هو الحكاية نفسها. ولهذا حين نقرأ صنع الله نشعر أننا نقرأ عن "مصر" و"العالم العربي" و"القرن العشرين" أكثر مما نقرأ عن أبطال بعينهم. شخصياته لا تعيش في فراغ، إنها تتحرك في فضاء يضغط عليها ويعيد تشكيلها، حتى يصير من الصعب الفصل بين الإنسان والمكان، بين السيرة الفردية والسيرة الوطنية. لقد كان صنع الله ـ في جوهره ـ مؤرخًا مضادًا، يكتب التاريخ من هوامشه، من الحكايات الصغيرة التي يسحقها السرد الرسمي. وحين نقرأه، ندرك أن عزلة الكاتب لم تحرمه من رؤية العالم، بل مكنته من النظر إليه من زاوية أكثر وضوحًا، وأقل خضوعًا للزيف. إرث صنع الله إبراهيم حين نتأمل حصيلة صنع الله إبراهيم بعد عقود من الكتابة المتفرّدة، نكتشف أن هذا الكاتب لم يكن مجرد روائي يسرد الحكايات أو يسجل مشاهد الواقع، إنه كان مشروعًا ثقافيًا قائمًا بذاته، ينتمي إلى تقاليد الكتابة النقدية المقاومة، ويؤسس في الوقت نفسه لأسلوب خاصّ يصعب تقليده. لقد حملت أعماله، منذ "تلك الرائحة" وحتى أحدث نصوصه، هاجسًا أساسيًا: أن يضع القارئ أمام صورة واقعية، صارمة، وغير مجاملة للعالم من حوله، فيكشف تناقضاته، ويعرّي مظالمه، ويؤرشف انكساراته على نحو يرفض المحو أو التزييف. لقد منح صنع الله إبراهيم للأدب العربي ملمحًا جديدًا، حيث اندمج الحسّ التوثيقي بالوعي الجمالي. فأعماله ليست سردًا خالصًا ولا وثائق باردة، هي مزيج دقيق بين السرد الروائي وتقنيات التحقيق الصحفي والتأريخ الاجتماعي والسياسي. بهذا المزج، أسس لما يمكن أن نطلق عليه "الرواية-الأرشيف"، التي تحفظ تفاصيل زمنها من الانزلاق إلى النسيان، وتمنح النص وظيفة مزدوجة: فنية وتوثيقية. ومن خلال هذه الرؤية، تحوّل إلى مؤرخ غير رسمي لمصري والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما أن رفضه الدائم للجوائز الرسمية، مثلما فعل حين رفض "جائزة الرواية العربية" التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة عام ٢٠٠٣، لم يكن مجرد موقف شخصي، لقد كان بيانًا صريحًا ضد ثقافة التواطؤ، وضد محاولات احتواء الكاتب المتمرد داخل أطر مؤسسية. هذا الرفض عزز صورته ككاتب ملتزم لا يساوم، وكشخص يرى أن استقلالية الكلمة أغلى من أي تكريم رسمي. إرث صنع الله إبراهيم لا يتمثل فقط في نصوصه، ولكن في قدرته على الحفاظ على مسافة نقدية من السلطة، أيًّا كانت طبيعتها، وفي التزامه الدائم بأن تكون الكتابة فعل مقاومة. لقد ألهم أجيالًا من الكتّاب الشباب الذين وجدوا فيه نموذجًا للكاتب الحر، الذي يستطيع أن يزاوج بين الحرفية الفنية والنزاهة الفكرية، دون أن يخضع لإغراء السوق أو إملاءات الأيديولوجيا المغلقة. ويمكن القول إن مكانته في الأدب العربي شبيهة بمكانة كتّاب عالميين مثل جون دوس باسوس أو ماكسيم جوركي أو جابرييل غارسيا ماركيز في مراحلهم الملتزمة سياسيًا، إذ جمع بين الحسّ النقدي المرهف والانغماس العميق في الشأن العام. لقد بنى نصوصه على قناعة راسخة بأن الأدب لا ينفصل عن الحياة، وأن الكاتب، كما قال هو نفسه، "إذا لم يزعج السلطة، فهو يكتب في الاتجاه الخطأ". في النهاية، يظل صنع الله إبراهيم شاهدًا على عصرعربي مثقل بالتقلبات، وكاتبًا آمن أن مهمته ليست تزيين الواقع بل فضحه، وأن الرواية ليست ملاذًا للهروب، لكنها ساحة للمواجهة. وإذ نقرأه اليوم، فإننا لا نقرأ فقط سيرة أبطال عابرين أو مدن متغيرة، بل نقرأ تاريخنا المعاصر من خلال عينين لا تتعبان من النظر مباشرة في قلب الحقيقة، مهما كانت مؤلمة. حين نتأمل حصيلة صنع الله إبراهيم بعد عقود من الكتابة المتفرّدة، نكتشف أن هذا الكاتب لم يكن مجرد روائي يسرد الحكايات أو يسجل مشاهد الواقع، إنه كان مشروعًا ثقافيًا قائمًا بذاته، ينتمي إلى تقاليد الكتابة النقدية المقاومة، ويؤسس في الوقت نفسه لأسلوب خاصّ يصعب تقليده. لقد حملت أعماله، منذ "تلك الرائحة" وحتى أحدث نصوصه، هاجسًا أساسيًا: أن يضع القارئ أمام صورة واقعية، صارمة، وغير مجاملة للعالم من حوله، فيكشف تناقضاته، ويعرّي مظالمه، ويؤرشف انكساراته على نحو يرفض المحو أو التزييف.