logo
استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات الحربين والقنبلة النووية

استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات الحربين والقنبلة النووية

Independent عربيةمنذ 4 أيام

باسوناري كاواباتا كاتب الخسارات الهائلة، والحزن الهادئ، والجمال النائم. وحين نقرأه اليوم، لا نسبر فقط ما يعتمل في أنفسنا، بل نعيد طرح سؤال الرواية نفسها: هل هي حكاية؟ أم مغامرة لاقتناص شيء على وشك الزوال؟ وما عساه أن يكون هذا الشيء؟
خواطر في العزلة
ولد ياسوناري كاواباتا في الـ14 من يونيو (حزيران) عام 1899، وما إن فتح عينيه على العالم حتى بدأت الأشياء تتساقط من حوله. فقد والديه وهو في الثانية، ثم جدته في السابعة، فجده في الـ15. واضطر إلى الانتقال من بيت لبيت ومن مدرسة إلى أخرى، بعدما لفظته البيوت والأسرة الدافئة. تكونت وحشة كاواباتا على مقاعد المدارس الداخلية، وبين أروقة جامعة طوكيو الإمبراطورية، كأنها جغرافيا بديلة لحياة اقتلعت من جذورها.
كتب أولى قصصه "مشهد من جلسة أرواح" عن شاب يستدعي روح حبيبته الراحلة، بحثاً عن أي تواصل بعد الموت، لكنها لا تمنحه سوى أصوات مبهمة، وكلمات لا تشكل معنى. وهكذا، ينقلب اللقاء المرتجى إلى درس مبكر في استحالة التواصل. تبلغ هذه الرؤية ذروتها في رائعته "الجميلات النائمات"، لا يوجد حوار، فقط مونولوغ متصل أو بالأحرى منفصل كلية عن الجميلة النائمة جواره.
في هذا الصمت المطبق، تتجلى استحالة التواصل كعتبة أولى لقراءة كاواباتا، وللقراءة في دواخلنا أيضاً. إننا نلتقي، نتحادث، نضحك، نربت على أكتاف بعضنا، نقدم ألوان المواساة في أوقاتها، لكن لا أحد منا ينفذ إلى أعماق الآخر، لهذا نشبه جزراً معزولة في محيط هائج.
لم يكن كاواباتا من أولئك الذين يحبون الإعراب عن أنفسهم، ففي حوار أجري معه عقب فوزه بجائزة نوبل، بدا كما لو أنه مجبر على الجلوس أمام الكاميرا. ربما لهذا جلس إلى جواره تلميذه الوفي ميشيما، يترجم صمت معلمه، ويملأ فجوات الإجابات المقتضبة، التي لم تكن في أحيان كثيرة سوى هزة رأس، أو رفة كف، أو ابتسامة شاردة من عينين مغلقتين على اتساعهما!
ومثلما فشل في الانخراط في الواقع، رفض الرواية كمرآة تعكس هذا الواقع، على طريقة الواقعية الاشتراكية والمدارس الطبيعية ذات النزعة المادية الحتمية. كما أعاد الاعتبار لفن البياضات والفجوات، حيث يسود الصمت كعنصر بنائي، تماماً كما في لوحات الحبر اليابانية القديمة، التي تترك المساحة البيضاء تنطق بظل الجبل وهو ينسحب إلى ضبابه.
حين كانت اليابان تغلي في أتون الحرب، لم يتحمس كاواباتا لضجيج التعبئة، ولا انزلق في شعارات الإمبراطورية. اختار الانسحاب إلى صمته الوديع، ذاك الذي تنكمش فيه العاطفة كما تنكمش أصابع في مقدمة حذاء مبتل. آنذاك، كتب "بلد الثلج"، مصوراً بطلاً يعبر الزمن ويهجر الحاضر لصالح لحظة جمالية هشة، قوامها الرغبة والخسارة.
وعندما خرجت اليابان من الحرب مضرجة بعار الهزيمة النووية، مثقلة بـ"ذنب النجاة"، كأنهم خاضوا يوم الحساب من دون حضور الإله. في ذلك المزاج التعس، أقر كاواباتا بإذعان: "لن أستطيع بعد اليوم إلا أن أكتب المراثي". هكذا جاءت روايته "سيد الغو"، سرداً رمزياً لهزيمة أمة، عبر هزيمة معلم عتيق أمام شاب هاو، كفعل نبل أخير أمام سطوة الزمن!
في منزل الأحلام
ضمن مجمل أعماله، تقف الجميلات النائمات بوصفها ذروة الانفصال، بحيث تبدأ من منتصف حوار، كما لو أن القارئ قد تأخر عن الدخول، ليصطدم بجملة تحذيرية على لسان المرأة المضيفة: "وأرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة!".
ثم نتبين معالم المكان التي تجعله أقرب إلى معبد طقوسي منه إلى بيت بغاء: "كانت هناك غرفتان في الطابق الأول، الغرفة ذات البسط الثمانية حيث يتبادل إيغوشي الحديث والمرأة، والغرفة المجاورة وهي للنوم على الأرجح. كما أن الطابق الأرضي، الذي رآه وهو يمر، لا يحتوي على غرفة استقبال، المنزل إذاً غير جدير بأن يسمى فندقاً. فضلاً عن ذلك، ليست هناك أية لافتة تشير إلى أنه نزل. لعل سرية هذا المنزل تمنع، على كل حال، مثل هذه العلنية."
داخل هذا النادي السري، تتجاور طقوس الاحتفاظ بالجمال طازجاً، وطقوس الحداد على الزمن المفقود، إذ يسمح لكبار السن بالنوم إلى جانب فتيات نائمات تحت تأثير مخدر قوي، بشرط صارم: ألا يلمسن بعنف، أو تفقد إحداهن عذريتها. وعلى رغم ارتفاع كلفة الليلة مقارنة ببيوت البغاء، يدفع العجوز المبلغ عن طيب خاطر، طمعاً في الفائدة المرجوة: ثمة زبائن يقولون إنهم رأوا أحلاماً جميلة أثناء نومهم، وآخرون تذكروا أيام الشباب."
على مدى خمس ليال، يستضيف إيغوشي القارئ في منزل الأحلام، وتخصص له في كل ليلة فتاة مختلفة، على الفراش ذاته. في الليلة الأولى، تفاجئه رائحة الحليب المنبعثة من جسد النائمة، رائحة تفوح من الرضيع، فتوقظ فيه ذكريات أطفاله وأحفاده، وتستدعي صورة عشيقته التي ثارت عليه ذات يوم حين شمت تلك الرائحة في سترته بعد أن حمل ابنته الرضيعة. بالفعل، يشعر القارئ كما لو أن "قلباً جديداً خفق بأجنحته في صدر إيغوشي". نواصل عبر الليالي، النزول التدريجي في أعماق العجوز السرمدية، حتى يبلغ ليلته الخامسة والأخيرة: إذ يقدم له جسدان، فتاة بيضاء وأخرى سمراء، ينام بينهما بعدما انتشر خبر موت العجوز فوكورا، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة جوار إحدى الفتيات، تاركاً أثراً دموياً في عنقها وصدرها. لعل ذلك ما جعل المضيفة تستغرب قدومه تلك الليلة، خصوصاً أنها ليلة ماطرة، ثقيلة، تذكر بالرعشة الأخيرة.
عندما يسألها عن سبب وجود فتاتين، أهو خوف الصغيرة من أن تبقى بمفردها مع رجل يحتضر؟ لا تجيب. تترك المفتاح وتمضي نحو الجزء المخفي من المعبد، المكان الذي لا يدخله إلا القائمون على الطقس. ليظهر السؤال الأهم: هل التحديق في الجسد النائم نوع من الافتراس، أم ضرب من التقديس؟
تنتهي "الجميلات النائمات" بموت الفتاة السمراء التي أيقظت في إيغوشي مشاعر غامضة، ذكرته بأجمل امرأة رآها في حياته، وأعادته دفعة واحدة للحظة موت أمه الرهيبة. كانت الليالي الخمس بمثابة رحلة هبوط حر إلى أعماق الذات، تبدأ برائحة الحليب وتنتهي برائحة الموت. رحلة تهزه في الصميم، فيستدعي أمه، أول امرأة في حياته، ويقرر أن تكون تلك الفتاة آخر امرأة يراها. ما بين الأولى والأخيرة، تمر شذرات من سير نساء عبرن حياته: زوجته، وبناته الثلاث، وعشيقاته.
لكن المدهش، أنه حين يسمع جرجرة جسد الفتاة على السلم، ثم انطلاق العربة التي تقلها بعيداً، يراوده سؤال غريب لم يخطر ببال القارئ، ولن يجاب عليه: "هل يتم نقلها إلى النزل المشبوه الذي تخلصوا فيه من جثة العجوز فوكورا؟". بهذا تبدأ الرواية من منتصف حوار، وتنتهي بسؤال معلق، ألا يشبه هذا البتر في البداية والنهاية رحلة الإنسان على الأرض؟ تلك المقطوعة من طرفيها، يسبقها ما لا نعرفه، ويليها ما نخشاه!
محاولة فاشلة لفهم الآخر
خلال الليالي الخمس، يتمادى إيغوشي في محاولاته المستميتة لإيقاظ شريكته في الفراش، تلك التي يسمع نبض قلبها ويمرر أصابعه في فجوات عمودها الفقري من دون أن يظفر بأية استجابة. يسألها همساً: «هل أنت نائمة؟ ألن تفيقي؟»، وحين تنفلت من شفتيها صرخة خافتة، يهزها بقوة: "هل تشاهدين أنت أيضاً كابوساً ما؟".
وقد يصل الأمر إلى أن يتوسل إليها "لو تستديرين ناحيتي الآن"، فتستدير طائعة، كأنها تسمعه. لكن العجوز المتعطش للتواصل لا يزيده هذا التجاوب إلا ظمأ، يحاول جاهداً إقلاق نوم شريكته، يهزها يجذبها من شعرها الذي تبث رؤوسه في أنامله شحنات كهربية، يضع أصابعه في فمها، وحين يعجز عن إيقاظها، يتخيلها، بعد أن حفظ ملامح جسدها داخل ستائر مخملية، كأن يراها لاحقاً في متجر أو في الطريق. ولكنه عندما يخبر المضيفة بهذا التصور، تقاطعه مستنكرة: الفتاة لا تعرفك، ولا تحمل أية ذكرى عن تلك الليلة، تحذره أن كل ما يراه ليس له سند في الواقع.
في لحظة محزنة من الرواية، يطلب إيغوشي من المضيفة أن يحقن بالمخدر ذاته الذي يستخدم لتنويم الفتيات، رغبة في اجتياز المسافة الفاصلة بينه وبينهن، كمن يريد أن يشارك التجربة حتى ولو من قلب الغياب ذاته. لقد بلغ حد يأسه من إمكان الوصول إلى الآخر مبلغاً لا يمكن احتماله، ولا بد من العبور إلى شرنقة الصمت والانفصال نفسها، كي تصبح لحظة التواصل ممكنة. لكن المضيفة ترفض، بحجة أن جسده العجوز لن يحتمل، وأن المخدر خطر على من هم في عمره. وهكذا لا تصبح الفتاة النائمة وحدها من يسكن عالماً مغلقاً، فهي تؤكد بصيحاتها وتلك المقاطع غير المكتملة، التي لا تنم سوى عن الألم على عكس النعيم المراد بالنسبة إلى العجوز، تؤكد أن الغيبوبة لا يمكنها أن تصبح مكاناً للقاء، إنها جب عميق يبتلع كل ذات على حدة.
في الميثولوجيا تبدو الأميرة النائمة رمزاً للبراءة المجمدة، الجمال الذي عبثت به يد الشر وينتظر الخلاص الأكيد، ودائماً ما يكون في صورة قبلة دافئة من فم الفارس الشاب بوسعها أن تبعث الحياة في الجسد المسحور. إن لحظة يقظة الأميرة كانت دائماً إعلاناً عن انتصار الحياة، لكن الجميلات النائمات، لا ينتظرن الخلاص إنهن لا محالة في سبيلهن إلى الموت.
في الليلة الثانية، تفوح رائحة زهور الكاميليا، فتوقظ فيه جذوة شبابه، وتدفعه إلى انتهاك حرمة هذا المعبد، وتكبيد الفتاة الأجيرة ثمن إذلالها للعجائز، لولا أن تصده عذريتها. هنا يفكر بحسرة: "أن تكون فتاة مثيرة إلى هذا الحد ومتمرسة قد بقيت عذراء، فهذا الدليل القاطع ليس فقط على احترام العجائز أو حرصهم على التمسك بالتزاماتهم، بل على الأصح، الدليل على عجزهم الفظيع. إن عذرية الفتاة، في المقابل، برهان على فظاعة الشيخوخة."
أيمكن أن تكون هذه هي التكملة المظلمة للأسطورة؟ ماذا لو بقيت الأميرة نائمة إلى الأبد؟ ماذا لو لم يتبق إلا العجائز؟ ماذا لو لم يكن ثمة "قبلة" دافئة، بل فم بارد مطبق على لثة خاوية؟

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ اللحظة الأولى، لا يسلمنا كاواباتا إلى صوت راو محايد، بل إلى رجل يرافقه لقب "العجوز" في كل مرة يذكر فيها، حتى لا ننسى أننا أمام هوية مهتزة. هذا اللقب المتكرر على طول السرد، والمقحم عمداً، يحيلنا إلى تجربة سابقة في روايته ضجيج الجبل، إذ يرصد فساد الذاكرة وتلاشي الحدود بين التذكر والاختلاق. إيغوشي يدخل "بيت الجميلات" كمبتدئ، لا كزبون معتاد، ومع ذلك يكثر من تذكر مغامراته مع النساء، لكن غروره الذكوري لا يثمر شيئاً أمام أجساد نائمة، لا حيلة لها في المقاومة.
وبالتالي ما يراه إيغوشي عبر ستائر الزمن لا يطابق بالضرورة ما حدث بالفعل، كما أن وجوه الجميلات لا تنطفئ، والعيون لا ترتخي، والأنفاس ليست ثقيلة من أثر المخدر، بل كأننا في حضرة مسحورات لا مخدرات. مفعمات بالحياة الغامضة، كما لو أنهن يطفحن بفتنة تتجاوز الجسد الفاعل، وتمنح الجسد النائم قدرة على الإغواء الصامت. وكلما أوغل الليل، وتحولت الرواية إلى مشهد هلوسي، تراكم من الأحلام والكوابيس والاستنباطات والذكريات التي تثار قبل منتصف الليل وتنقشع مع طلوع الصباح. لا شيء مؤكداً حتى استنتاجه بأن الفتيات "مسحورات" لا مخدرات، يكشف عن التصدع الخطر بين الواقع والتخيل، بين العيني والميتافيزيقي، إذ لا نعرف إن كان البيت مكاناً حقيقياً أم استعارة، وإن كانت الفتيات مخلوقات من دم ولحم، أم تجليات لأطياف ذاكرته المنخورة.
هل يفسر هذا ما دار في رأس إيغوشي العجوز وهو يجتاز عتبة البيت الغامض من كلمات لشاعرة منتحرة: "هو ذا الليل يخبيء لي /ضفادع وكلاباً ميتة وغرقى"، التي تدفعه للتساؤل قبل دخوله إلى أرض الأحلام: هل الفتاة النائمة أو التي نومت في الغرفة المجاورة تنتمي إلى هؤلاء الغرقى؟
تبدو الرواية اليابانية في هذه المرحلة كأنها تروى من داخل حفرة زمنية، لا تبحث عن مستقبل بل تفتش في الحطام، في الرائحة التي خلفها الغائبون. في مقابل مجايليه، مثل جونتشيرو تانيزاكي المنغمس في غواية الجسد، ويوكيو ميشيما الذي صقل نصوصه كحد السيف، وأوسامو دازاي المسكون بشهوة الفناء، بدا كاواباتا كنبع صاف يعكس هشاشة الزوال. ولهذا، لم يكن فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1968 حدثاً عابراً، بل لحظة اعتراف عالمي بحزن اليابان الشفيف. فلا عجب أن تنتهي مسيرته بالانتحار عام 1972 في ظروف غامضة، كأنه اختار بنفسه خاتمة تليق بعالمه، نهاية مفتوحة على التأويل، أشبه بنقطة بيضاء وسط لوحة من الحبر، أو سطر مبتور من منتصف حوار، ينتهي بسؤال معلق.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات حربين وقنبلة نووية
استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات حربين وقنبلة نووية

Independent عربية

timeمنذ 4 أيام

  • Independent عربية

استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات حربين وقنبلة نووية

باسوناري كاواباتا كاتب الخسارات الهائلة، والحزن الهادئ، والجمال النائم. وحين نقرأه اليوم، لا نسبر فقط ما يعتمل في أنفسنا، بل نعيد طرح سؤال الرواية نفسها: هل هي حكاية؟ أم مغامرة لاقتناص شيء على وشك الزوال؟ وما عساه أن يكون هذا الشيء؟ خواطر في العزلة ولد ياسوناري كاواباتا في الـ14 من يونيو (حزيران) عام 1899، وما إن فتح عينيه على العالم حتى بدأت الأشياء تتساقط من حوله. فقد والديه وهو في الثانية، ثم جدته في السابعة، فجده في الـ15. واضطر إلى الانتقال من بيت لبيت ومن مدرسة إلى أخرى، بعدما لفظته البيوت والأسرة الدافئة. تكونت وحشة كاواباتا على مقاعد المدارس الداخلية، وبين أروقة جامعة طوكيو الإمبراطورية، كأنها جغرافيا بديلة لحياة اقتلعت من جذورها. كتب أولى قصصه "مشهد من جلسة أرواح" عن شاب يستدعي روح حبيبته الراحلة، بحثاً عن أي تواصل بعد الموت، لكنها لا تمنحه سوى أصوات مبهمة، وكلمات لا تشكل معنى. وهكذا، ينقلب اللقاء المرتجى إلى درس مبكر في استحالة التواصل. تبلغ هذه الرؤية ذروتها في رائعته "الجميلات النائمات"، لا يوجد حوار، فقط مونولوغ متصل أو بالأحرى منفصل كلية عن الجميلة النائمة جواره. في هذا الصمت المطبق، تتجلى استحالة التواصل كعتبة أولى لقراءة كاواباتا، وللقراءة في دواخلنا أيضاً. إننا نلتقي، نتحادث، نضحك، نربت على أكتاف بعضنا، نقدم ألوان المواساة في أوقاتها، لكن لا أحد منا ينفذ إلى أعماق الآخر، لهذا نشبه جزراً معزولة في محيط هائج. لم يكن كاواباتا من أولئك الذين يحبون الإعراب عن أنفسهم، ففي حوار أجري معه عقب فوزه بجائزة نوبل، بدا كما لو أنه مجبر على الجلوس أمام الكاميرا. ربما لهذا جلس إلى جواره تلميذه الوفي ميشيما، يترجم صمت معلمه، ويملأ فجوات الإجابات المقتضبة، التي لم تكن في أحيان كثيرة سوى هزة رأس، أو رفة كف، أو ابتسامة شاردة من عينين مغلقتين على اتساعهما! ومثلما فشل في الانخراط في الواقع، رفض الرواية كمرآة تعكس هذا الواقع، على طريقة الواقعية الاشتراكية والمدارس الطبيعية ذات النزعة المادية الحتمية. كما أعاد الاعتبار لفن البياضات والفجوات، حيث يسود الصمت كعنصر بنائي، تماماً كما في لوحات الحبر اليابانية القديمة، التي تترك المساحة البيضاء تنطق بظل الجبل وهو ينسحب إلى ضبابه. حين كانت اليابان تغلي في أتون الحرب، لم يتحمس كاواباتا لضجيج التعبئة، ولا انزلق في شعارات الإمبراطورية. اختار الانسحاب إلى صمته الوديع، ذاك الذي تنكمش فيه العاطفة كما تنكمش أصابع في مقدمة حذاء مبتل. آنذاك، كتب "بلد الثلج"، مصوراً بطلاً يعبر الزمن ويهجر الحاضر لصالح لحظة جمالية هشة، قوامها الرغبة والخسارة. وعندما خرجت اليابان من الحرب مضرجة بعار الهزيمة النووية، مثقلة بـ"ذنب النجاة"، كأنهم خاضوا يوم الحساب من دون حضور الإله. في ذلك المزاج التعس، أقر كاواباتا بإذعان: "لن أستطيع بعد اليوم إلا أن أكتب المراثي". هكذا جاءت روايته "سيد الغو"، سرداً رمزياً لهزيمة أمة، عبر هزيمة معلم عتيق أمام شاب هاو، كفعل نبل أخير أمام سطوة الزمن! في منزل الأحلام ضمن مجمل أعماله، تقف الجميلات النائمات بوصفها ذروة الانفصال، بحيث تبدأ من منتصف حوار، كما لو أن القارئ قد تأخر عن الدخول، ليصطدم بجملة تحذيرية على لسان المرأة المضيفة: "وأرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة!". ثم نتبين معالم المكان التي تجعله أقرب إلى معبد طقوسي منه إلى بيت بغاء: "كانت هناك غرفتان في الطابق الأول، الغرفة ذات البسط الثمانية حيث يتبادل إيغوشي الحديث والمرأة، والغرفة المجاورة وهي للنوم على الأرجح. كما أن الطابق الأرضي، الذي رآه وهو يمر، لا يحتوي على غرفة استقبال، المنزل إذاً غير جدير بأن يسمى فندقاً. فضلاً عن ذلك، ليست هناك أية لافتة تشير إلى أنه نزل. لعل سرية هذا المنزل تمنع، على كل حال، مثل هذه العلنية." داخل هذا النادي السري، تتجاور طقوس الاحتفاظ بالجمال طازجاً، وطقوس الحداد على الزمن المفقود، إذ يسمح لكبار السن بالنوم إلى جانب فتيات نائمات تحت تأثير مخدر قوي، بشرط صارم: ألا يلمسن بعنف، أو تفقد إحداهن عذريتها. وعلى رغم ارتفاع كلفة الليلة مقارنة ببيوت البغاء، يدفع العجوز المبلغ عن طيب خاطر، طمعاً في الفائدة المرجوة: ثمة زبائن يقولون إنهم رأوا أحلاماً جميلة أثناء نومهم، وآخرون تذكروا أيام الشباب." على مدى خمس ليال، يستضيف إيغوشي القارئ في منزل الأحلام، وتخصص له في كل ليلة فتاة مختلفة، على الفراش ذاته. في الليلة الأولى، تفاجئه رائحة الحليب المنبعثة من جسد النائمة، رائحة تفوح من الرضيع، فتوقظ فيه ذكريات أطفاله وأحفاده، وتستدعي صورة عشيقته التي ثارت عليه ذات يوم حين شمت تلك الرائحة في سترته بعد أن حمل ابنته الرضيعة. بالفعل، يشعر القارئ كما لو أن "قلباً جديداً خفق بأجنحته في صدر إيغوشي". نواصل عبر الليالي، النزول التدريجي في أعماق العجوز السرمدية، حتى يبلغ ليلته الخامسة والأخيرة: إذ يقدم له جسدان، فتاة بيضاء وأخرى سمراء، ينام بينهما بعدما انتشر خبر موت العجوز فوكورا، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة جوار إحدى الفتيات، تاركاً أثراً دموياً في عنقها وصدرها. لعل ذلك ما جعل المضيفة تستغرب قدومه تلك الليلة، خصوصاً أنها ليلة ماطرة، ثقيلة، تذكر بالرعشة الأخيرة. عندما يسألها عن سبب وجود فتاتين، أهو خوف الصغيرة من أن تبقى بمفردها مع رجل يحتضر؟ لا تجيب. تترك المفتاح وتمضي نحو الجزء المخفي من المعبد، المكان الذي لا يدخله إلا القائمون على الطقس. ليظهر السؤال الأهم: هل التحديق في الجسد النائم نوع من الافتراس، أم ضرب من التقديس؟ تنتهي "الجميلات النائمات" بموت الفتاة السمراء التي أيقظت في إيغوشي مشاعر غامضة، ذكرته بأجمل امرأة رآها في حياته، وأعادته دفعة واحدة للحظة موت أمه الرهيبة. كانت الليالي الخمس بمثابة رحلة هبوط حر إلى أعماق الذات، تبدأ برائحة الحليب وتنتهي برائحة الموت. رحلة تهزه في الصميم، فيستدعي أمه، أول امرأة في حياته، ويقرر أن تكون تلك الفتاة آخر امرأة يراها. ما بين الأولى والأخيرة، تمر شذرات من سير نساء عبرن حياته: زوجته، وبناته الثلاث، وعشيقاته. لكن المدهش، أنه حين يسمع جرجرة جسد الفتاة على السلم، ثم انطلاق العربة التي تقلها بعيداً، يراوده سؤال غريب لم يخطر ببال القارئ، ولن يجاب عليه: "هل يتم نقلها إلى النزل المشبوه الذي تخلصوا فيه من جثة العجوز فوكورا؟". بهذا تبدأ الرواية من منتصف حوار، وتنتهي بسؤال معلق، ألا يشبه هذا البتر في البداية والنهاية رحلة الإنسان على الأرض؟ تلك المقطوعة من طرفيها، يسبقها ما لا نعرفه، ويليها ما نخشاه! محاولة فاشلة لفهم الآخر خلال الليالي الخمس، يتمادى إيغوشي في محاولاته المستميتة لإيقاظ شريكته في الفراش، تلك التي يسمع نبض قلبها ويمرر أصابعه في فجوات عمودها الفقري من دون أن يظفر بأية استجابة. يسألها همساً: «هل أنت نائمة؟ ألن تفيقي؟»، وحين تنفلت من شفتيها صرخة خافتة، يهزها بقوة: "هل تشاهدين أنت أيضاً كابوساً ما؟". وقد يصل الأمر إلى أن يتوسل إليها "لو تستديرين ناحيتي الآن"، فتستدير طائعة، كأنها تسمعه. لكن العجوز المتعطش للتواصل لا يزيده هذا التجاوب إلا ظمأ، يحاول جاهداً إقلاق نوم شريكته، يهزها يجذبها من شعرها الذي تبث رؤوسه في أنامله شحنات كهربية، يضع أصابعه في فمها، وحين يعجز عن إيقاظها، يتخيلها، بعد أن حفظ ملامح جسدها داخل ستائر مخملية، كأن يراها لاحقاً في متجر أو في الطريق. ولكنه عندما يخبر المضيفة بهذا التصور، تقاطعه مستنكرة: الفتاة لا تعرفك، ولا تحمل أية ذكرى عن تلك الليلة، تحذره أن كل ما يراه ليس له سند في الواقع. في لحظة محزنة من الرواية، يطلب إيغوشي من المضيفة أن يحقن بالمخدر ذاته الذي يستخدم لتنويم الفتيات، رغبة في اجتياز المسافة الفاصلة بينه وبينهن، كمن يريد أن يشارك التجربة حتى ولو من قلب الغياب ذاته. لقد بلغ حد يأسه من إمكان الوصول إلى الآخر مبلغاً لا يمكن احتماله، ولا بد من العبور إلى شرنقة الصمت والانفصال نفسها، كي تصبح لحظة التواصل ممكنة. لكن المضيفة ترفض، بحجة أن جسده العجوز لن يحتمل، وأن المخدر خطر على من هم في عمره. وهكذا لا تصبح الفتاة النائمة وحدها من يسكن عالماً مغلقاً، فهي تؤكد بصيحاتها وتلك المقاطع غير المكتملة، التي لا تنم سوى عن الألم على عكس النعيم المراد بالنسبة إلى العجوز، تؤكد أن الغيبوبة لا يمكنها أن تصبح مكاناً للقاء، إنها جب عميق يبتلع كل ذات على حدة. في الميثولوجيا تبدو الأميرة النائمة رمزاً للبراءة المجمدة، الجمال الذي عبثت به يد الشر وينتظر الخلاص الأكيد، ودائماً ما يكون في صورة قبلة دافئة من فم الفارس الشاب بوسعها أن تبعث الحياة في الجسد المسحور. إن لحظة يقظة الأميرة كانت دائماً إعلاناً عن انتصار الحياة، لكن الجميلات النائمات، لا ينتظرن الخلاص إنهن لا محالة في سبيلهن إلى الموت. في الليلة الثانية، تفوح رائحة زهور الكاميليا، فتوقظ فيه جذوة شبابه، وتدفعه إلى انتهاك حرمة هذا المعبد، وتكبيد الفتاة الأجيرة ثمن إذلالها للعجائز، لولا أن تصده عذريتها. هنا يفكر بحسرة: "أن تكون فتاة مثيرة إلى هذا الحد ومتمرسة قد بقيت عذراء، فهذا الدليل القاطع ليس فقط على احترام العجائز أو حرصهم على التمسك بالتزاماتهم، بل على الأصح، الدليل على عجزهم الفظيع. إن عذرية الفتاة، في المقابل، برهان على فظاعة الشيخوخة." أيمكن أن تكون هذه هي التكملة المظلمة للأسطورة؟ ماذا لو بقيت الأميرة نائمة إلى الأبد؟ ماذا لو لم يتبق إلا العجائز؟ ماذا لو لم يكن ثمة "قبلة" دافئة، بل فم بارد مطبق على لثة خاوية؟ اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) منذ اللحظة الأولى، لا يسلمنا كاواباتا إلى صوت راو محايد، بل إلى رجل يرافقه لقب "العجوز" في كل مرة يذكر فيها، حتى لا ننسى أننا أمام هوية مهتزة. هذا اللقب المتكرر على طول السرد، والمقحم عمداً، يحيلنا إلى تجربة سابقة في روايته ضجيج الجبل، إذ يرصد فساد الذاكرة وتلاشي الحدود بين التذكر والاختلاق. إيغوشي يدخل "بيت الجميلات" كمبتدئ، لا كزبون معتاد، ومع ذلك يكثر من تذكر مغامراته مع النساء، لكن غروره الذكوري لا يثمر شيئاً أمام أجساد نائمة، لا حيلة لها في المقاومة. وبالتالي ما يراه إيغوشي عبر ستائر الزمن لا يطابق بالضرورة ما حدث بالفعل، كما أن وجوه الجميلات لا تنطفئ، والعيون لا ترتخي، والأنفاس ليست ثقيلة من أثر المخدر، بل كأننا في حضرة مسحورات لا مخدرات. مفعمات بالحياة الغامضة، كما لو أنهن يطفحن بفتنة تتجاوز الجسد الفاعل، وتمنح الجسد النائم قدرة على الإغواء الصامت. وكلما أوغل الليل، وتحولت الرواية إلى مشهد هلوسي، تراكم من الأحلام والكوابيس والاستنباطات والذكريات التي تثار قبل منتصف الليل وتنقشع مع طلوع الصباح. لا شيء مؤكداً حتى استنتاجه بأن الفتيات "مسحورات" لا مخدرات، يكشف عن التصدع الخطر بين الواقع والتخيل، بين العيني والميتافيزيقي، إذ لا نعرف إن كان البيت مكاناً حقيقياً أم استعارة، وإن كانت الفتيات مخلوقات من دم ولحم، أم تجليات لأطياف ذاكرته المنخورة. هل يفسر هذا ما دار في رأس إيغوشي العجوز وهو يجتاز عتبة البيت الغامض من كلمات لشاعرة منتحرة: "هو ذا الليل يخبيء لي /ضفادع وكلاباً ميتة وغرقى"، التي تدفعه للتساؤل قبل دخوله إلى أرض الأحلام: هل الفتاة النائمة أو التي نومت في الغرفة المجاورة تنتمي إلى هؤلاء الغرقى؟ تبدو الرواية اليابانية في هذه المرحلة كأنها تروى من داخل حفرة زمنية، لا تبحث عن مستقبل بل تفتش في الحطام، في الرائحة التي خلفها الغائبون. في مقابل مجايليه، مثل جونتشيرو تانيزاكي المنغمس في غواية الجسد، ويوكيو ميشيما الذي صقل نصوصه كحد السيف، وأوسامو دازاي المسكون بشهوة الفناء، بدا كاواباتا كنبع صاف يعكس هشاشة الزوال. ولهذا، لم يكن فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1968 حدثاً عابراً، بل لحظة اعتراف عالمي بحزن اليابان الشفيف. فلا عجب أن تنتهي مسيرته بالانتحار عام 1972 في ظروف غامضة، كأنه اختار بنفسه خاتمة تليق بعالمه، نهاية مفتوحة على التأويل، أشبه بنقطة بيضاء وسط لوحة من الحبر، أو سطر مبتور من منتصف حوار، ينتهي بسؤال معلق.

استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات الحربين والقنبلة النووية
استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات الحربين والقنبلة النووية

Independent عربية

timeمنذ 4 أيام

  • Independent عربية

استعادة كاواباتا الذي عاش ويلات الحربين والقنبلة النووية

باسوناري كاواباتا كاتب الخسارات الهائلة، والحزن الهادئ، والجمال النائم. وحين نقرأه اليوم، لا نسبر فقط ما يعتمل في أنفسنا، بل نعيد طرح سؤال الرواية نفسها: هل هي حكاية؟ أم مغامرة لاقتناص شيء على وشك الزوال؟ وما عساه أن يكون هذا الشيء؟ خواطر في العزلة ولد ياسوناري كاواباتا في الـ14 من يونيو (حزيران) عام 1899، وما إن فتح عينيه على العالم حتى بدأت الأشياء تتساقط من حوله. فقد والديه وهو في الثانية، ثم جدته في السابعة، فجده في الـ15. واضطر إلى الانتقال من بيت لبيت ومن مدرسة إلى أخرى، بعدما لفظته البيوت والأسرة الدافئة. تكونت وحشة كاواباتا على مقاعد المدارس الداخلية، وبين أروقة جامعة طوكيو الإمبراطورية، كأنها جغرافيا بديلة لحياة اقتلعت من جذورها. كتب أولى قصصه "مشهد من جلسة أرواح" عن شاب يستدعي روح حبيبته الراحلة، بحثاً عن أي تواصل بعد الموت، لكنها لا تمنحه سوى أصوات مبهمة، وكلمات لا تشكل معنى. وهكذا، ينقلب اللقاء المرتجى إلى درس مبكر في استحالة التواصل. تبلغ هذه الرؤية ذروتها في رائعته "الجميلات النائمات"، لا يوجد حوار، فقط مونولوغ متصل أو بالأحرى منفصل كلية عن الجميلة النائمة جواره. في هذا الصمت المطبق، تتجلى استحالة التواصل كعتبة أولى لقراءة كاواباتا، وللقراءة في دواخلنا أيضاً. إننا نلتقي، نتحادث، نضحك، نربت على أكتاف بعضنا، نقدم ألوان المواساة في أوقاتها، لكن لا أحد منا ينفذ إلى أعماق الآخر، لهذا نشبه جزراً معزولة في محيط هائج. لم يكن كاواباتا من أولئك الذين يحبون الإعراب عن أنفسهم، ففي حوار أجري معه عقب فوزه بجائزة نوبل، بدا كما لو أنه مجبر على الجلوس أمام الكاميرا. ربما لهذا جلس إلى جواره تلميذه الوفي ميشيما، يترجم صمت معلمه، ويملأ فجوات الإجابات المقتضبة، التي لم تكن في أحيان كثيرة سوى هزة رأس، أو رفة كف، أو ابتسامة شاردة من عينين مغلقتين على اتساعهما! ومثلما فشل في الانخراط في الواقع، رفض الرواية كمرآة تعكس هذا الواقع، على طريقة الواقعية الاشتراكية والمدارس الطبيعية ذات النزعة المادية الحتمية. كما أعاد الاعتبار لفن البياضات والفجوات، حيث يسود الصمت كعنصر بنائي، تماماً كما في لوحات الحبر اليابانية القديمة، التي تترك المساحة البيضاء تنطق بظل الجبل وهو ينسحب إلى ضبابه. حين كانت اليابان تغلي في أتون الحرب، لم يتحمس كاواباتا لضجيج التعبئة، ولا انزلق في شعارات الإمبراطورية. اختار الانسحاب إلى صمته الوديع، ذاك الذي تنكمش فيه العاطفة كما تنكمش أصابع في مقدمة حذاء مبتل. آنذاك، كتب "بلد الثلج"، مصوراً بطلاً يعبر الزمن ويهجر الحاضر لصالح لحظة جمالية هشة، قوامها الرغبة والخسارة. وعندما خرجت اليابان من الحرب مضرجة بعار الهزيمة النووية، مثقلة بـ"ذنب النجاة"، كأنهم خاضوا يوم الحساب من دون حضور الإله. في ذلك المزاج التعس، أقر كاواباتا بإذعان: "لن أستطيع بعد اليوم إلا أن أكتب المراثي". هكذا جاءت روايته "سيد الغو"، سرداً رمزياً لهزيمة أمة، عبر هزيمة معلم عتيق أمام شاب هاو، كفعل نبل أخير أمام سطوة الزمن! في منزل الأحلام ضمن مجمل أعماله، تقف الجميلات النائمات بوصفها ذروة الانفصال، بحيث تبدأ من منتصف حوار، كما لو أن القارئ قد تأخر عن الدخول، ليصطدم بجملة تحذيرية على لسان المرأة المضيفة: "وأرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة!". ثم نتبين معالم المكان التي تجعله أقرب إلى معبد طقوسي منه إلى بيت بغاء: "كانت هناك غرفتان في الطابق الأول، الغرفة ذات البسط الثمانية حيث يتبادل إيغوشي الحديث والمرأة، والغرفة المجاورة وهي للنوم على الأرجح. كما أن الطابق الأرضي، الذي رآه وهو يمر، لا يحتوي على غرفة استقبال، المنزل إذاً غير جدير بأن يسمى فندقاً. فضلاً عن ذلك، ليست هناك أية لافتة تشير إلى أنه نزل. لعل سرية هذا المنزل تمنع، على كل حال، مثل هذه العلنية." داخل هذا النادي السري، تتجاور طقوس الاحتفاظ بالجمال طازجاً، وطقوس الحداد على الزمن المفقود، إذ يسمح لكبار السن بالنوم إلى جانب فتيات نائمات تحت تأثير مخدر قوي، بشرط صارم: ألا يلمسن بعنف، أو تفقد إحداهن عذريتها. وعلى رغم ارتفاع كلفة الليلة مقارنة ببيوت البغاء، يدفع العجوز المبلغ عن طيب خاطر، طمعاً في الفائدة المرجوة: ثمة زبائن يقولون إنهم رأوا أحلاماً جميلة أثناء نومهم، وآخرون تذكروا أيام الشباب." على مدى خمس ليال، يستضيف إيغوشي القارئ في منزل الأحلام، وتخصص له في كل ليلة فتاة مختلفة، على الفراش ذاته. في الليلة الأولى، تفاجئه رائحة الحليب المنبعثة من جسد النائمة، رائحة تفوح من الرضيع، فتوقظ فيه ذكريات أطفاله وأحفاده، وتستدعي صورة عشيقته التي ثارت عليه ذات يوم حين شمت تلك الرائحة في سترته بعد أن حمل ابنته الرضيعة. بالفعل، يشعر القارئ كما لو أن "قلباً جديداً خفق بأجنحته في صدر إيغوشي". نواصل عبر الليالي، النزول التدريجي في أعماق العجوز السرمدية، حتى يبلغ ليلته الخامسة والأخيرة: إذ يقدم له جسدان، فتاة بيضاء وأخرى سمراء، ينام بينهما بعدما انتشر خبر موت العجوز فوكورا، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة جوار إحدى الفتيات، تاركاً أثراً دموياً في عنقها وصدرها. لعل ذلك ما جعل المضيفة تستغرب قدومه تلك الليلة، خصوصاً أنها ليلة ماطرة، ثقيلة، تذكر بالرعشة الأخيرة. عندما يسألها عن سبب وجود فتاتين، أهو خوف الصغيرة من أن تبقى بمفردها مع رجل يحتضر؟ لا تجيب. تترك المفتاح وتمضي نحو الجزء المخفي من المعبد، المكان الذي لا يدخله إلا القائمون على الطقس. ليظهر السؤال الأهم: هل التحديق في الجسد النائم نوع من الافتراس، أم ضرب من التقديس؟ تنتهي "الجميلات النائمات" بموت الفتاة السمراء التي أيقظت في إيغوشي مشاعر غامضة، ذكرته بأجمل امرأة رآها في حياته، وأعادته دفعة واحدة للحظة موت أمه الرهيبة. كانت الليالي الخمس بمثابة رحلة هبوط حر إلى أعماق الذات، تبدأ برائحة الحليب وتنتهي برائحة الموت. رحلة تهزه في الصميم، فيستدعي أمه، أول امرأة في حياته، ويقرر أن تكون تلك الفتاة آخر امرأة يراها. ما بين الأولى والأخيرة، تمر شذرات من سير نساء عبرن حياته: زوجته، وبناته الثلاث، وعشيقاته. لكن المدهش، أنه حين يسمع جرجرة جسد الفتاة على السلم، ثم انطلاق العربة التي تقلها بعيداً، يراوده سؤال غريب لم يخطر ببال القارئ، ولن يجاب عليه: "هل يتم نقلها إلى النزل المشبوه الذي تخلصوا فيه من جثة العجوز فوكورا؟". بهذا تبدأ الرواية من منتصف حوار، وتنتهي بسؤال معلق، ألا يشبه هذا البتر في البداية والنهاية رحلة الإنسان على الأرض؟ تلك المقطوعة من طرفيها، يسبقها ما لا نعرفه، ويليها ما نخشاه! محاولة فاشلة لفهم الآخر خلال الليالي الخمس، يتمادى إيغوشي في محاولاته المستميتة لإيقاظ شريكته في الفراش، تلك التي يسمع نبض قلبها ويمرر أصابعه في فجوات عمودها الفقري من دون أن يظفر بأية استجابة. يسألها همساً: «هل أنت نائمة؟ ألن تفيقي؟»، وحين تنفلت من شفتيها صرخة خافتة، يهزها بقوة: "هل تشاهدين أنت أيضاً كابوساً ما؟". وقد يصل الأمر إلى أن يتوسل إليها "لو تستديرين ناحيتي الآن"، فتستدير طائعة، كأنها تسمعه. لكن العجوز المتعطش للتواصل لا يزيده هذا التجاوب إلا ظمأ، يحاول جاهداً إقلاق نوم شريكته، يهزها يجذبها من شعرها الذي تبث رؤوسه في أنامله شحنات كهربية، يضع أصابعه في فمها، وحين يعجز عن إيقاظها، يتخيلها، بعد أن حفظ ملامح جسدها داخل ستائر مخملية، كأن يراها لاحقاً في متجر أو في الطريق. ولكنه عندما يخبر المضيفة بهذا التصور، تقاطعه مستنكرة: الفتاة لا تعرفك، ولا تحمل أية ذكرى عن تلك الليلة، تحذره أن كل ما يراه ليس له سند في الواقع. في لحظة محزنة من الرواية، يطلب إيغوشي من المضيفة أن يحقن بالمخدر ذاته الذي يستخدم لتنويم الفتيات، رغبة في اجتياز المسافة الفاصلة بينه وبينهن، كمن يريد أن يشارك التجربة حتى ولو من قلب الغياب ذاته. لقد بلغ حد يأسه من إمكان الوصول إلى الآخر مبلغاً لا يمكن احتماله، ولا بد من العبور إلى شرنقة الصمت والانفصال نفسها، كي تصبح لحظة التواصل ممكنة. لكن المضيفة ترفض، بحجة أن جسده العجوز لن يحتمل، وأن المخدر خطر على من هم في عمره. وهكذا لا تصبح الفتاة النائمة وحدها من يسكن عالماً مغلقاً، فهي تؤكد بصيحاتها وتلك المقاطع غير المكتملة، التي لا تنم سوى عن الألم على عكس النعيم المراد بالنسبة إلى العجوز، تؤكد أن الغيبوبة لا يمكنها أن تصبح مكاناً للقاء، إنها جب عميق يبتلع كل ذات على حدة. في الميثولوجيا تبدو الأميرة النائمة رمزاً للبراءة المجمدة، الجمال الذي عبثت به يد الشر وينتظر الخلاص الأكيد، ودائماً ما يكون في صورة قبلة دافئة من فم الفارس الشاب بوسعها أن تبعث الحياة في الجسد المسحور. إن لحظة يقظة الأميرة كانت دائماً إعلاناً عن انتصار الحياة، لكن الجميلات النائمات، لا ينتظرن الخلاص إنهن لا محالة في سبيلهن إلى الموت. في الليلة الثانية، تفوح رائحة زهور الكاميليا، فتوقظ فيه جذوة شبابه، وتدفعه إلى انتهاك حرمة هذا المعبد، وتكبيد الفتاة الأجيرة ثمن إذلالها للعجائز، لولا أن تصده عذريتها. هنا يفكر بحسرة: "أن تكون فتاة مثيرة إلى هذا الحد ومتمرسة قد بقيت عذراء، فهذا الدليل القاطع ليس فقط على احترام العجائز أو حرصهم على التمسك بالتزاماتهم، بل على الأصح، الدليل على عجزهم الفظيع. إن عذرية الفتاة، في المقابل، برهان على فظاعة الشيخوخة." أيمكن أن تكون هذه هي التكملة المظلمة للأسطورة؟ ماذا لو بقيت الأميرة نائمة إلى الأبد؟ ماذا لو لم يتبق إلا العجائز؟ ماذا لو لم يكن ثمة "قبلة" دافئة، بل فم بارد مطبق على لثة خاوية؟ اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) منذ اللحظة الأولى، لا يسلمنا كاواباتا إلى صوت راو محايد، بل إلى رجل يرافقه لقب "العجوز" في كل مرة يذكر فيها، حتى لا ننسى أننا أمام هوية مهتزة. هذا اللقب المتكرر على طول السرد، والمقحم عمداً، يحيلنا إلى تجربة سابقة في روايته ضجيج الجبل، إذ يرصد فساد الذاكرة وتلاشي الحدود بين التذكر والاختلاق. إيغوشي يدخل "بيت الجميلات" كمبتدئ، لا كزبون معتاد، ومع ذلك يكثر من تذكر مغامراته مع النساء، لكن غروره الذكوري لا يثمر شيئاً أمام أجساد نائمة، لا حيلة لها في المقاومة. وبالتالي ما يراه إيغوشي عبر ستائر الزمن لا يطابق بالضرورة ما حدث بالفعل، كما أن وجوه الجميلات لا تنطفئ، والعيون لا ترتخي، والأنفاس ليست ثقيلة من أثر المخدر، بل كأننا في حضرة مسحورات لا مخدرات. مفعمات بالحياة الغامضة، كما لو أنهن يطفحن بفتنة تتجاوز الجسد الفاعل، وتمنح الجسد النائم قدرة على الإغواء الصامت. وكلما أوغل الليل، وتحولت الرواية إلى مشهد هلوسي، تراكم من الأحلام والكوابيس والاستنباطات والذكريات التي تثار قبل منتصف الليل وتنقشع مع طلوع الصباح. لا شيء مؤكداً حتى استنتاجه بأن الفتيات "مسحورات" لا مخدرات، يكشف عن التصدع الخطر بين الواقع والتخيل، بين العيني والميتافيزيقي، إذ لا نعرف إن كان البيت مكاناً حقيقياً أم استعارة، وإن كانت الفتيات مخلوقات من دم ولحم، أم تجليات لأطياف ذاكرته المنخورة. هل يفسر هذا ما دار في رأس إيغوشي العجوز وهو يجتاز عتبة البيت الغامض من كلمات لشاعرة منتحرة: "هو ذا الليل يخبيء لي /ضفادع وكلاباً ميتة وغرقى"، التي تدفعه للتساؤل قبل دخوله إلى أرض الأحلام: هل الفتاة النائمة أو التي نومت في الغرفة المجاورة تنتمي إلى هؤلاء الغرقى؟ تبدو الرواية اليابانية في هذه المرحلة كأنها تروى من داخل حفرة زمنية، لا تبحث عن مستقبل بل تفتش في الحطام، في الرائحة التي خلفها الغائبون. في مقابل مجايليه، مثل جونتشيرو تانيزاكي المنغمس في غواية الجسد، ويوكيو ميشيما الذي صقل نصوصه كحد السيف، وأوسامو دازاي المسكون بشهوة الفناء، بدا كاواباتا كنبع صاف يعكس هشاشة الزوال. ولهذا، لم يكن فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1968 حدثاً عابراً، بل لحظة اعتراف عالمي بحزن اليابان الشفيف. فلا عجب أن تنتهي مسيرته بالانتحار عام 1972 في ظروف غامضة، كأنه اختار بنفسه خاتمة تليق بعالمه، نهاية مفتوحة على التأويل، أشبه بنقطة بيضاء وسط لوحة من الحبر، أو سطر مبتور من منتصف حوار، ينتهي بسؤال معلق.

مراثي محمود
مراثي محمود

الشرق الأوسط

time١٠-٠٦-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

مراثي محمود

عام 2007 أصدر البرتغالي الكبير خوسيه ساراماغو («نوبل» 1999) جزءاً من دفاتره بعنوان بسيط: «مفكرة». يومها كتبتُ في هذه الزاوية احتفاء بالعمل الجميل. كانت آنذاك ذكرى غياب محمود درويش، وقد كتب ساراماغو أنه لو كان هذا العالم عادلاً لكان وضع محمود درويش في مصاف بابلو نيرودا؛ شاعرِ الإسبانية وقضاياها. مُذْ بدأتْ مجازر غزة وأنا أبحث عن محمود. هذه الملحمة في حاجة إلى شعره وحنانه وصلابته. لا يجوز ألّا يكتب شاعر فلسطين شيئاً من مراثيه الغنائية. عدتُ إلى كِتاب ساراماغو كما أفعل غالباً... ليس فقط من أجل أن أستعيد ما كتب عن محمود، بل ما كتب عن كل القضايا. إنه واحد من أجمل كُتّاب الإنسانيات في هذا العصر. قَلَّبتُ الصفحات بحثاً عن: «أول أبريل (نيسان): محمود درويش»، فإذا هناك مقالتان بعنوان «غزة»! واحدة بتاريخ يناير (كانون الثاني)، وأخرى في يناير من العام التالي. ماذا يقول؟ «ماذا يمكن لشعب غزة أن يقول للأمم المتحدة اليوم، وقد نَفِدَتْ مساعدات الأغذية؟ الإسرائيليون عازمون على تجويع 750 ألف لاجئ فلسطيني. هؤلاء لم يَعُدْ لديهم أي خبز... والزيتُ نَفِد، والعدس استُهلك؛ بسبب الحصار الإسرائيلي. ومنذ أسابيع والشاحنات الدولية حاملة المساعدات تنتظر أن يسمح لها الجيش الإسرائيلي بالدخول إلى غزة»... «معتمدةً على التواطؤ الدولي والجبن، تضحك إسرائيل في سِرِّها من البيانات والتصريحات والتوصيات. إنها تمنع دخول الكتب والآلات الموسيقية، كأنها تشكل تهديداً لأمن إسرائيل. لو أن التفاهة تقتل لما بقي سياسيٌ، أو عسكريٌ إسرائيلي حياً... أولئك المختصون بالقسوة والحقد والكُره». في مقال آخر، يحيّي ساراماغو مظاهرةً كبرى خرجت في إسبانيا تضامناً مع غزة: «إن هدف هذه المظاهرة الاحتجاج ضد الأعمال العسكرية الإجرامية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي منذ 60 عاماً ضد الفلسطينيين». كتب ساراماغو هذا الكلام قبل نحو 20 عاماً. ماذا لو كان يكتب اليوم؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store