logo
حكايات عربية متنوعة في مهرجان برلين السينمائي الـ75

حكايات عربية متنوعة في مهرجان برلين السينمائي الـ75

الجزيرة٠٣-٠٣-٢٠٢٥

تنوعت الأفلام العربية المشاركة في الدورة الماسية من 'مهرجان برلين السينمائي الدولي' (البرليناله)، بين الروائي الطويل والقصير والوثائقي، بواقع 8 أفلام؛ منها 4 أفلام روائية طويلة، وروائي قصير واحد، و3 أفلام وثائقية، من سوريا ومصر والسودان والعراق وفلسطين وتونس.
أقيمت فعاليات هذه النسخة من المهرجان ما بين 13 إلى 23 فبراير/ شباط 2025، وكان أول المهرجانات السينمائية الأوروبية الكبرى انعقادا هذا العام.
'يونان'.. الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الرئيسية
لم ينافس في 'المسابقة الرئيسية' من المهرجان سوى الفيلم السوري 'يونان'، وقد أخرجه الموهوب أمير فخر الدين، الذي وُلد عام 1991 في العاصمة الأوكرانية كييف.
فيلم 'يونان' فيلم تأملي حول الهجرة والمنفى والانتماء، وهو ثاني روائي طويل لمخرجه، ويأتي ضمن ثلاثية بعنوان 'الوطن'، كان أولها قد أنجز تحت عنوان 'الغريب' (2021)، وسوف تختتم بفيلم ثالث يحمل عنوان 'الحنين'.
في فيلم 'الغريب' قدم المخرج شخصية غريبة عمن حولها، تعاني أزمة أحبطتها، وتركتها حطاما، وجعلتها غير مرغوبة لدى أسرتها ومحيطها الضيق ومجتمعها. ثمة رغبة حارقة في مبارحة المكان، والهجرة بعيدا عن مرتفعات الجولان المحتل إلى باريس أو برلين.
نجد أنفسنا في 'يونان' إزاء شخصية كاتب أو أديب يحمل اسم منير، يعيش في المنفى بمدينة هامبورج الألمانية، وقد أدى دوره باحترافية وإقناع الممثل اللبناني جورج خباز.
ينقل المخرج في فيلم 'الغريب' شعورا بالعجز والخواء لدى رجل لا يزال يكابد مأساة وطن، ومع ذلك، لا يستطيع فعل شيء له ولا لنفسه وأسرته. وتلك استعارة شعرية كئيبة للغربة، التي يشعر بها أي إنسان في المستويات كلها، عندما يعيش في الأسر.
ونجد أن شخصية منير التي يقدمها في فيلمه الجديد لا تختلف كثيرا عن تلك الشخصية في فيلم 'الغريب'، بل هي امتداد لها.
يعاني منير من أزمة ضيق في التنفس، لأسباب ليست مرضية بل نفسية بالأساس، مما يدفع طبيبه لنصحه بالابتعاد عن محيطه بعض الوقت، والانعزال عن حياة المدينة، التماسا لقدر من الهدوء والسكينة.
يشرع منير في رحلته تلك، بعد مكالمة موجزة مع أخته ووالدته المصابة بالخرف، فيتوجه للانعزال بإحدى الجزر الألمانية النائية، التماسا للوحدة والعزلة والتأمل، لكن شعور الغربة والحنين يسيطران عليه، وحين يعجز عن إنهاء حياته، يجد العزاء في وجود الشخصية الحكيمة الهادئة 'فاليسكا' (الممثلة هانا شيغولا) التي أعادت له إرادته المتلاشية في الحياة، بطريقة غير مباشرة.
صوت متفرد يحمل صدى المخرجين العظماء
مع توالي مشاهد 'الغريب' و'يونان'، يصعب على المشاهد المتمرس تجنب ذلك الانطباع المتكرر، بكونهما يحملان بصمات بصرية من أفلام عدة في تاريخ السينما، في موضوعهما وطريقة معالجتهما.
تحضر بقوة آثار مخرجين؛ منهم اليوناني 'ثيو أنجلوبولس'، والروسي 'أندريه تاركوفسكي'، والمجري 'بيلا تار' وغيرهم، فنراهم بصريا ودراميا في الفيلمين، لا سيما هيئة 'ألكسندر' بطل الفيلم الشهير 'الأبدية ويوم' (Eternity and a Day) للمخرج 'ثيو أنجلوبولوس'، فنرى تشابهه مع بطلنا في لحيته ومعطفه وكلبه، وفي مشكلته الوجودية والصحية، ومفارقته للحياة.
مع هذا، وبعيدا عن كون خاتمة الفيلمين مزعجة جدا، وغير موفقة بتاتا من حيث المباشرة، وخشية المخرج من أن تكون رسالته ورؤيته لم تصلا بالشكل الواضح والمرغوب، استطاع المخرج أمير فخر الدين في جديده 'يونان' أن يجد صوته ورؤيته البصرية المميزة للغاية واللافتة للانتباه بقوة، مقارنه بفيلمه 'الغريب' الأول في الثلاثية.
سيما وقد ضفر هذه الرؤية مع خيوط حبكة تثري عالم شخصية منير بحكاية تتماس مع الأسطورة أو الأمثولة، التي تنطوي على إسقاطات وجودية ودينية أيضا (ربما من هنا جاء عنوان الفيلم الذي يحيل للنبي يونان أو يونس)، تخدم الحبكة الرئيسية وبقوة، بلا مباشرة ولا فجاجة. وعبر انتقال مونتاجي وزمني وبصري سلس، ربط بمهارة بين الواقع المعاصر والزمن غير المحدد للحكاية أو الأسطورة.
بعد فيلم روائي ثان طويل، يثبت أمير فخر الدين باقتدار أنه من المخرجين العرب القلائل الذين لهم صوت ذاتي متفرد، ينشغل بقضايا إنسانية حقيقية، بلا افتعال ولا ادعاء، وأنه صاحب رؤية بصرية وتأملية، وحسن فني مرهف، وكلها مفردات ومقومات سينما فنية رفيعة، تخاطب العقل والوجدان، يندر وجودها في السينما العربية المعاصرة.
'المستعمرة'.. محاولة لتقديم الجديد في قصة متكررة
دُشن في دورة هذا العام قسم جديد تحت عنوان 'وجهات نظر'، وهو مخصص لتنافس الأعمال الروائية الأولى للمخرجين الشباب، وقد عُرض في هذا القسم فيلم 'المستعمرة'، أول روائي طويل للمصري محمد رشاد.
نال الفيلم تمويلا من 'صندوق برلين السينمائي العالمي' عام 2022، وغيرها من المؤسسات الألمانية، ومن 'مؤسسة الدوحة'، وصندوق 'البحر الأحمر'، وصندوق 'سيني الجونة'، وقد صُور في مواقع محصورة تقريبا بمنطقة المستعمرة العمالية، الواقعة على أطراف مدينة الإسكندرية، وتلك محاولة للوفاء قدر الاستطاعة لأحداث القصة المستوحاة من واقع تلك المنطقة.
اختار المخرج ممثلين غير معروفين، وأشرك عمالا حقيقيين في أدوار ثانوية، وفي سبيل إثراء العمل فنيا نقل الأجواء الصناعية البائسة بأحد المصانع القديمة، المنتجة لمسبوكات شتى بآلات عتيقة للغاية، لا يظنها المرء قادرة على العمل، ناهيك عن إنتاج أي شيء.
تدور الأحداث حول الأخوين حسام (الممثل أدهم شكري) وأخيه الصبي مارو (الممثل زياد إسلام)، وهما يعيشان في مجتمع مهمش بالإسكندرية، وقد عُرض عليهما العمل في مصنع محلي، بعد وفاة والدهما في حادث بنفس المصنع، وذلك نوع من التعويض، بدلا من رفع دعوى قضائية والمطالبة بحقوقهم.
وبينما يتوليان عملهما الجديد، تتكشف الخيوط تدريجيا، فنرى أن حسام خضع للأمر نظرا لسجله الإجرامي وعدم إنهاء تعليمه، فصارت فرصة مناسبة لبداية حياة جديدة ونظيفة، بعيدا عن حياته السابقة الموصومة بكل الموبقات.
لكن مع الوقت تبدأ المعوقات تظهر، ويحاول حسام وأخوه التغلب عليها، وتسيير أمور حياتهما البائسة، وتكون الأقدار بالمرصاد، وتأبى الحياة الابتسام لهما، ولوالدتهما المريضة، القلقة بخصوص حياة ولديها ومستقبلهما.
ليس الموضوع جديدا تماما، حتى ضمن سياق السينما العربية والمصرية، لكن المخرج حاول ببعض التفاصيل والفنيات والتناول الواقعي والاستناد لأحداث حقيقية، أن يقدم الجديد برؤية خاصة جدا.
لكن هذه الرؤية -مع صدق التجربة وجديتها ومحاولة الابتعاد عن التسطيح والتجارية- قد تملكته وفرضت نفسها، وجعلته يغفل عن أن تقديمها يتطلب الالتفات لكثير من التفاصيل الصغيرة والدقيقة، التي تسهم بلا شك في الوصول للرؤية الفنية المرادة.
كان من الضروري مثلا الاشتغال أكثر على خيوط السيناريو، وكثير من الجمل الحوارية والمفردات، والسرد الواقعي للأحداث وتفاصيلها، وضبط الإيقاع إجمالا، ليتلاءم الواقع المراد إقناعنا به. وأهم من ذلك ضرورة استيعاب أن الأداء الاحترافي المتقن والمقنع من بدهيات السينما، حتى وإن استُعين بممثلين غير محترفين.
'يلا باركور'.. فيلم قادم من غزة الواقعة تحت الحرب
يعد قسم 'البانوراما' أقدم أقسام المهرجان بعد 'المسابقة الرئيسية'، وينعقد منذ 55 عاما، وهو الأكبر من حيث عدد الأفلام، وقد شارك فيه 39 فيلما هذا العام من شتى الأنواع، وتمنح جوائزه بناء على تصويت حر من الجمهور على الأفلام المعروضة.
عرض وثائقي 'يلا باركور' للفلسطينية عَريب زعيتر في قسم 'البانوراما'، وقد مُنح 'الجائزة الثانية' لأفضل فيلم وثائقي معروض في هذا القسم.
في 'يلا باركور' ترصد المخرجة مجتمع شباب الباركور، الممارسين لهذه الرياضة الجريئة والخطيرة جدا في غزة.
وهو يذكرنا بقوة -نظرا لتقاطع الخيوط وتشابهها- بالفيلم الفلسطيني 'نادي غزة لركوب الأمواج' (2016)، وتدور أحداثه حول حركة سرية لمجموعة متنامية، تمارس رياضة ركوب الأمواج في ميناء لم يعد تستخدمه السفن على شاطئ غزة، والمشاكل والصعوبات المفروضة على هذه الرياضة، ومنع الاحتلال دخول هذه الألواح إلى غزة، ومعاناة بطل الفيلم في استخراج تأشيرة أمريكية والخروج من غزة.
يتكرر الأمر في رياضة أخرى تتسم بالخطورة والمغامرة بالنفس، فنرى ذلك مع بطل فيلم 'يلا باركور' الشاب أحمد مطر، وهو ممارس لهذه الرياضة، يصور فيديوهات لنفسه وأصحابه من الممارسين للباركور، منذ أن كان عمره 12 سنة في عام 2011.
كما نشاهد معاناته في استخراج التأشيرة الأوروبية 5 سنوات، حتى استطاع بهذه الرياضة نيل دعوة وتأشيرة، ثم الإقامة والجنسية السويدية، بعد 7 سنوات من المعاناة.
من هنا، وعلى حد قول بطل الفيلم، تصير هذه الرياضة جواز سفره للخروج من سجن غزة، وذلك قبل أن تندلع الأحداث وتدمر المدينة، بعد آخر زيارة له عام 2023.
تبني عريب زعيتر فيلمها استنادا إلى كم هائل من الفيديوهات الشخصية، التي صورها أحمد مطر على مدى سنوات، في شتى أماكن غزة، بداية من الأطلال والخرائب في المطار والأسوار والمرتفعات والبنايات، وحتى أسوار المقابر، وغيرها من الأماكن المرتفعة التي تتيح لهم القفز من فوقها، أو الوقوف على حوافها رأسا على عقب.
رياضة تعكس طاقة وجسارة لا تعرف الحدود
تدل لقطات كثيرة على خطورة بالغة، لدرجة التهور والتضحية بالنفس، مما يؤدي إلى الإصابة بمنتهى البساطة، وهو ما يحدث للشاب محمد الزقوت، فقد سقط من الطابق الرابع بعدما أخفق في الوصول للطابق الخامس من إحدى البنايات، وقد أدى ذلك لكسور وإصابات فادحة بجسده، وتدهور حالته والاضطرار لنقله لاحقا لإسرائيل للعلاج.
لكن من ناحية أخرى، ينم هذا عن طاقة رهيبة لدى هؤلاء الشباب، وجسارة لا تعرف الحدود، وحب مجنون لرياضة خطرة يحبونها، وليست مجرد ممارسة مجانية بدافع الملل أو الطيش أو الاستعراض.
من ناحية أخرى، تبني عريب زعيتر فيلمها على اللقاءات والمكالمات الهاتفية، عبر شتى وسائل التواصل مع أحمد، وكثيرا ما تظهر أثناء هذه اللقاءات، وفي أنحاء شقتها في أمريكا، حيث تعيش وتعمل على تنفيذ الفيلم والتواصل مع أحمد عبر الإنترنت.
لا تكتفي المخرجة بهذا الأمر، بل تُدخل في الفيلم خيطا سرديا يخصها شخصيا ويخص عائلتها، وتحديدا والدتها التي نشاهد كثيرا من صورها الفوتوغرافية، ونعرف علاقتها بغزة وعمّان وكثيرا من الذكريات. وأحيانا تتكرر مناجاة المخرجة المباشرة لوالدتها.
ومع الجهد المونتاجي والتنفيذي والتوجيهي المبذول على مدى سنوات، فإن خلط المخرجة للذاتي الخاص والتأملي، وذكرياتها وعائلتها، يبدو مقحما جدا على السياق العام للفيلم، وأبطاله الحقيقيين، فأصبحنا نعرف المخرجة وخلفياتها أكثر من أبطال الفيلم وعوالمهم وأحلامهم وطموحاتهم ومصائرهم.
'الخرطوم'.. خمس قصص من السودان
عرض الفيلم الوثائقي 'الخرطوم' في قسم 'البانوراما'، وهو من إخراج خمسة مخرجين؛ هم: أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي، وتيمية أحمد، وفيليب كوكس.
يتناول الفيلم قصصا لم ترو من قبل، عن 5 شخصيات من الخرطوم، تكشف لنا بتجسيد وسرد مشاهد القتل والتدمير والنزوح عن أهوال الحرب. ويتجاوز الفيلم التوثيق المعتاد ليكون شهادة حية، وعلامة تدين وتلفت الانتباه إلى إحدى أفدح الأزمات الإنسانية في عالمنا المعاصر.
نتعرف في الفيلم على الصبيين 'لوكين' و'ويلسون' (11-12 سنة)، وهما يمضيان يومهما في جمع الزجاجات، حالمين بتحقيق أمنيتهما الكبرى في الحياة؛ شراء قميصين جميلين.
أما خادمة الله (27 سنة)، فهي شابة من جبال النوبة لديها طفلة تعولها، وتعمل في بيع الشاي في سوق الخرطوم.
في المقابل، لدينا مجدي (45 سنة)، وهو موظف حكومي لم يتوقف عن أداء عمله، حتى عندما اندلعت الحرب في أبريل/ نيسان 2023.
وآخرهم الشاب جواد، وكان يشارك في المظاهرات، وينقل الجرحى والمصابين بدراجته الهوائية، وقد فر إلى مصر، ونزح الباقون إلى نيروبي في كينيا.
يوثق الفيلم المؤثر والصادق الحياة النابضة التي لهذه الشخصيات، ولأن أحداث العنف اندلعت أثناء عملية التصوير، فقد تغير مجرى الأمور الإنتاجية تماما، واضطر فريق الإخراج لتغيير وجهة الفيلم وأسلوبه وتنفيذه.
ومع أن فريق الفيلم استعان ببعض مقاطع المظاهرات والاشتباكات، وضمّنها في سياق الفيلم، فقد لجأ إلى الاستعاضة عن التصوير الحقيقي بتمثيل الأحداث أمام الكاميرا داخل أحد الأستوديوهات، وذلك لملء الفراغات التي أحدثتها الحرب والنزوح واستحالة التصوير.
كما اضطر لاستخدام الغرافيك وغيرها من تقنيات الحاسوب والتلوين، لتنفيذ بعض اللقطات والخلفيات الخاصة بالمشاهد والأحداث.
'آخر يوم'.. قصة عابرة للحدود العربية
شارك وثائقي 'آخر زيارة' في قسم 'امتداد المنتدى'، وهو من سيناريو المصري محمود إبراهيم وإخراجه وإنتاجه وتصويره. ببساطة، وخلال 5 دقائق فحسب، استطاع المخرج تقديم رؤيته، بلا افتعال ولا حذلقة.
تدور أحداث الفيلم في عام 2023، ويصور انتقال الأخوين زياد ومودي من منزل عائلتهما المقرر هدمه، واليوم آخر يوم لهما فيه، فيفكان الأثاث وينقلانه.
في الوقت نفسه، نسمع بعمليات هدم أخرى جرت أو ستجرى لبنايات عدة، وأن تعويضات سوف تصرف لعائلات يقدر عددها بالآلاف، وهنا تبرز أهمية شريط الصوت المفسر للفيلم، وقد أفلح المخرج في توظيفه بذكاء شديد.
وانطلاقا من الإحالة إلى الواقع الداخلي المصري، وأيضا الشخصي أو الذاتي، يحيل المخرج إلى ما هو عربي وفلسطيني بالتحديد، فنسمع ونرى -في ذات السياق- محاولات إخلاء منازل وهدمها في حي الشيخ جراح الشهير، في البلدة القديمة بالقدس الشرقية.
'البساتين'.. قصة مأساوية لحي دمشقي
ضمن برامج العروض في قسم 'امتداد المنتدى'، عُرض فيلم 'البساتين' للمخرج الفرنسي 'أنطوان شابون'، وخلال 23 دقيقة، تناول المخرج قصة حي 'بساتين الرازي' في العاصمة دمشق، عبر شباب سوريين لا نرى وجوههم على امتداد الفيلم، بل نسمع أصواتهم فقط.
يبين الفيلم مدى الدمار الذي أصاب المنطقة، وكانت غنية بأنواع البساتين، وذلك بعد اندلاع الثورة وتجريف قوات النظام للمنطقة، لمنع اختباء الثوار بين كرماتها وبساتينها. والآن، ثمة خطة تهدف لاتخاذ المنطقة حيا راقيا مليئا بناطحات السحاب والأسواق والمطاعم، وأحدث المحلات العصرية والشركات العالمية.
وبالجمع بين رصد هدم الماضي وتدميره وطمسه على أرض الواقع، وبين مقتضيات واقع يفرض إعادة بناء وإحلال، وبين محاولة محو الذاكرة والتعتيم على كل ما مضى، يحاول الفيلم التذكير بتضحيات من ماتوا، وأن رائحة الدماء الذكية سوف تظل ساكنة للمكان، مهما ارتفعت البنايات أو انقضى الوقت.
'سيرة أهل الضي'.. رحلة حنجرة نوبية إلى القاهرة
في قسم 'جيل 14 بلس'، شارك الروائي الطويل 'ضي.. سيرة أهل الضي' للمصري كريم الشناوى، وهو عن قصة المراهق النوبي 'ألبينو' (14 عاما)، وهو ذو حنجرة ذهبية، يطمح لتحقيق أمنيته وحلمه بالغناء في العاصمة.
يتلقى 'ألبينو' دعوة مفاجئة من برنامج 'ذا فويس' للمشاركة فيه أمام نجوم الغناء الكبار، فتقرر أمه وأخته ومعلمة الموسيقى في مدرسته السفر إلى القاهرة لإجراء الاختبارات، لكن الرحلة التي كان يفترض أن تكون سهلة ومفرحة تنقلب إلى مأساة كاملة، بعدما تصادفهم عثرات غير منتظرة، يفلحون في التغلب عليها في النهاية، لكنهم لا يصلون في موعد البرنامج.
ينتمي الفيلم لنوعية أفلام الطريق، وهي قليلة في السينما العربية والمصرية، ويجمع بين الدراما الواقعية والاجتماعي ولمسة كوميدية. ومع أن الأداء جيد، تصاحبه طرافة كثير من حوارات الفيلم ومقاربتها للواقع، فإن المبالغة والزج بأحداث ومواقف غير واقعية أو مفتعلة أو مقحمة أفسد كثيرا من الفيلم، فقد كان يمكن أن يخرج بصورة أفضل كثيرا، بناء على مقوماته الكثيرة الجيدة.
لا يمكن وصف الفيلم بأنه تجاري، ومع ذلك فهو مناسب لجميع الأذواق والأعمار ومستويات التلقي، ولا يبعث على الملل.
'تحتها تجري الأنهار'.. قصة بائسة من جنوب العراق
شارك في قسم 'جيل 14 بلس'، فيلم روائي قصير، ذكي جدا ومؤثر وصادق، بعنوان 'تحتها تجري الأنهار'، وهو للعراقيين علي يحيى وإبراهيم حليم. وقد حصل على 'تنويه خاص' من لجنة تحكيم القسم.
فعلى مدى 16 دقيقة، تأخذنا حبكة الفيلم إلى عالم ومجتمع بائسين، يلوح فقدان المنزل في الأفق مثل ظل مؤلم على بطل القصة، ويظهر لنا خوف الخسارة والشعور بالركود بلا كلمات.
تدور الأحداث حول الشاب إبراهيم حليم الذي يعيش مع جاموسته في الأهوار جنوبي العراق، وتتوالى الأحداث المنذرة بما هو مشؤوم.
'رؤوس محترقة'.. حكاية مفجعة من تونس
عرض في قسم 'جيل 14 بلس' فيلم 'رؤوس محترقة'، وهو من إخراج التونسية البلجيكية ماية عجمية زلامة، وحصل على 'تنويه خاص' من لجنة التحكيم.
الفيلم محبوك فنيا ومؤثر عاطفيا، وهو العمل أول روائي طويل لمخرجته، ويقدم لمحة نادرة عن عالم من التضامن والحب، من خلال عيون صبية صغيرة متعلقة بأخيها الذي تحبه، لكنها تفاجأ بموت أخيها الأكبر الحبيب يونس.
بكثير من الصدق، تنسج المخرجة تفاصيل حبكة ذات حدث واحد، تتمحور حوله كل التفاصيل، أحداث يغلب عليها الحزن البالغ، دون الوقوع في الميلودراما أو اللعب على المشاعر وابتزازها، للتدليل على كيف يمكن أن تكون الخسارة مفاجئة ومؤلمة ومزلزلة لكيان المرء.
عمل جاد وجريء بعض الشيء، يذكرنا بقوة الوحدة في الأوقات الصعبة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

«الغريب» جاهزة للمنافسة
«الغريب» جاهزة للمنافسة

جريدة الوطن

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الوطن

«الغريب» جاهزة للمنافسة

تستعد شركة إشهار للإنتاج الفني لعرض مسرحية «الغريب» بمهرجان الدوحة المسرحي في نسخته السابعة والثلاثين والتي ستنطلق غداً، وتدور أحداث المسرحية في قرية غامضة يسودها جو من التوتر والغموض، حيث يعود رجل غريب إلى الفريج بعد غياب طويل، وتتقاطع حياته مع شخصيات تحمل ماضيا معقّدا، منها الساحرة، الشبح، والأم الحزينة، وشاب يعيش صراعًا داخليًّا. المسرحية مبنية على حوارات عميقة ومشحونة، وصراعات خفية بين الهوية، والماضي، والقدر. تسلط المسرحية الضوء على أثر الماضي على الحاضر، وعلى كيف يمكن للهوية، والحقيقة المدفونة، والانتقام أن تُمزق الإنسان أو تحرّره. كما تناقش فكرة الغريب: هل هو حقاً من خارج الفريج، أم هو انعكاس لكل شخص فينا عندما يضيع أو يُقصى؟، مسرحية «الغريب» هي رحلة في النفس البشرية، تطرح تساؤلات عن العدل، والانتقام، والمسامحة، وتكشف كيف أن الأقدار قد تعود على هيئة وجوه مألوفة، لكن بقلوب متحولة.

من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة
من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة

الجزيرة

time١٥-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة

تشهد السينما العالمية في عام 2025، وما بعده موجة متجددة من أفلام السيرة الذاتية، حيث تستعد الشاشة الكبيرة لاستقبال أعمال تسلط الضوء على حياة شخصيات بارزة في مجال الموسيقى والسياسة والتكنولوجيا. يأتي هذا التوجه استكمالاً للنجاحات التي حققتها أفلام مثل "الملحمة البوهيمية" (Bohemian Rhapsody)، و"روكيتمان" (Rocketman)، و"إلفيس" (Elvis)، والتي أثبتت أن أفلام السيرة الذاتية قادرة على جذب الجماهير وتحقيق أرباح كبيرة، خاصة عندما تتناول شخصيات ذات جماهيرية واسعة. إليكم نظرة موسعة على أبرز أفلام السيرة الذاتية المرتقبة: 1- "القمر الأزرق" (Blue Moon) يقدم المخرج ريتشارد لينكلاتر في هذا الفيلم سيرة الشاعر الغنائي الأميركي لورينز هارت، المعروف بتعاونه مع ريتشارد رودجرز في تأليف أغانٍ ومسرحيات شهيرة مثل "ماي فني فالانتاين" (My Funny Valentine) و"ذا لايدي إز آ ترامب" (The Lady Is a Tramp). تدور أحداث "القمر الأزرق" في ليلة واحدة من عام 1943، حيث يستعرض صراعات هارت مع الإدمان والصحة النفسية تزامنا مع عرض مسرحية "أوكلاهوما!" (Oklahoma!) التي كتبها رودجرز مع شريك جديد. يلعب إيثان هوك دور هارت، ويشاركه البطولة مارغريت كوالي وبوبي كانافال وأندرو سكوت، الذي حاز على جائزة "الدب الفضي" لأفضل أداء مساعد في مهرجان برلين السينمائي الدولي. يذكر أن لورينز هارت (1895 – 1943) كان شاعرًا غنائيًا أميركيًا بارزًا، اشتهر بتعاونه مع الملحن ريتشارد رودجرز في تأليف أغاني مسرحيات برودواي. من أشهر أعماله "بلو مون" و"ماي فني فالانتاين" و"ذا لايدي إز آ ترامب". عُرف هارت بقدرته على دمج الشعر الراقي مع الأغنية الشعبية، مما أضفى طابعًا مميزًا على موسيقى المسرح الأميركي. 2- "مايكل" (Michael) هذا الفيلم، من إخراج أنطوان فوكوا وكتابة جون لوغان، يروي قصة حياة ملك البوب مايكل جاكسون ، من بداياته مع فرقة "جاكسون 5" حتى نجاحاته الفردية. يقوم جيفري جاكسون، ابن شقيق مايكل، بتجسيد الدور الرئيسي. يضم طاقم التمثيل أيضاً كولمان دومينغو ونيا لونغ ومايلز تيلر. مايكل جاكسون (1958 – 2009)، الملقب بـ"ملك البوب"، كان مغنيًا وراقصًا أميركيًا، أصبح أحد أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين. ولا يزال ألبومه "ثريلر" (Thriller) الأكثر مبيعًا في التاريخ، وقد ساهم في كسر الحواجز العرقية في صناعة الموسيقى. كان من المقرر عرض الفيلم في أكتوبر/تشرين الأول 2025، لكن تقارير حديثة تشير إلى احتمال تأجيله إلى عام 2026 وتقسيمه إلى جزئين. 3- مجهول تماماً (A Complete Unknown) يُجسد تيموثي شالاميه في هذا الفيلم دور المغني الأسطوري بوب ديلان ، مستعرضاً بداياته في نيويورك في ستينيات القرن الماضي وعلاقاته مع شخصيات مثل وودي غاثري وجوان بايز. ويُعتبر بوب ديلان المولود سنة 1941، من أعظم كتاب الأغاني في التاريخ، إذ أثر تأثيرا كبيرا في الموسيقى الشعبية والثقافة الأميركية، خاصة خلال الستينيات، بأغانيه التي تناولت قضايا اجتماعية وسياسية. وحاز على جائزة نوبل في الأدب عام 2016 تقديرًا لإسهاماته الشعرية في الأغنية الأميركية. الفيلم من إخراج جيمس مانغولد، ويشارك في بطولته إدوارد نورتون وإيل فانينغ. نال الفيلم إشادة واسعة، إذ وصفه النقاد بأنه تصوير رائع لبدايات ديلان، مع أداء مميز من شالاميه الذي أدى 40 أغنية بنفسه. 4- ليندا رونستادت تستعد الفنانة الأميركية سيلينا غوميز لتجسيد شخصية المغنية ليندا رونستادت في فيلم من إخراج ديفيد أو راسل، مستنداً إلى مذكرات رونستادت "أحلام بسيطة" (Simple Dreams). يُنتج الفيلم جيمس كيتش، الذي سبق وأن قدم فيلماً وثائقياً عن رونستادت عام 2019. وأدت رونستادت المولودة سنة 1946، أغانيَ في أنماط موسيقية متنوعة مثل الروك، والكانتري، والأوبرا. وحازت على 11 جائزة غرامي، وشاركت في تعزيز موسيقى الكانتري روك. توقفت عن الغناء في عام 2013 بسبب إصابتها بمرض باركنسون. 5- "مَن هذه الفتاة!" (Who's That Girl) بعد عدة تأجيلات، عاد العمل على فيلم السيرة الذاتية لمادونا، وتُشارك في كتابته إيرين كريسيدا ويلسون. من المتوقع أن تجسد جوليا غارنر دور مادونا، بعد اختيارها من بين عدة مرشحات. يحمل الفيلم عنوان "من هذه الفتاة!"، وهو اسم إحدى أشهر أغاني مادونا. ومادونا المولودة سنة 1958، هي مغنية وممثلة أميركية، تُعرف بلقب "ملكة البوب". اشتهرت بأغانيها الجريئة وأسلوبها المبتكر في الأداء، مما جعلها رمزًا ثقافيًا في الثمانينيات والتسعينيات. باعت أكثر من 400 مليون تسجيل، مما يجعلها الفنانة النسائية الأكثر مبيعًا في التاريخ. 6- فريد أستير يُخطط المخرج بول كينغ، المعروف بإخراجه أفلام "بادينغتون" (Paddington)، لإخراج فيلم عن حياة الراقص والممثل فريد أستير، من بطولة توم هولاند. يُركز الفيلم على علاقة أستير بشقيقته وشريكته في الرقص، أديل، التي كانت جزءاً أساسياً من مسيرته الفنية. وكان أستير (1899-1987) راقصًا وممثلًا ومغنيًا أميركيًا، ويُعتبر أحد أعظم راقصي الموسيقى الشعبية في التاريخ. اشتهر بشراكته مع جينجر روجرز في سلسلة من الأفلام الموسيقية الناجحة، وبتقنياته الراقصة المبتكرة التي أثرت في صناعة السينما. 7- "ألينا من كوبا" (Alina of Cuba) يروي هذا الفيلم قصة ألينا فرنانديز، ابنة فيدل كاسترو، التي أصبحت من أبرز المعارضين لنظام والدها. تلعب آنا فيلافاني دور ألينا، بينما يجسد جيمس فرانكو شخصية كاسترو. الفيلم من إخراج ميغيل باردم، وكتابة نيلو كروز وخوسيه ريفيرا. إعلان وقد أصبحت فرنانديز المولودة سنة 1956، من أبرز المنتقدين لنظام والدها. غادرت كوبا في عام 1993، ومنذ ذلك الحين تعيش في المنفى، حيث تعمل ناشطة وكاتبة، وتشارك تجاربها الشخصية عن الحياة تحت الحكم الكوبي. 8- إيلون ماسك تتعاون شركة "إيه 24" مع المخرج دارين أرونوفسكي لإنتاج فيلم عن حياة رجل الأعمال إيلون ماسك ، مستنداً إلى السيرة الذاتية التي كتبها والتر إيزاكسون. ولا تزال تفاصيل الفيلم في مراحلها الأولى، ولم يُعلن بعد عن طاقم التمثيل أو موعد الإصدار. وذاع صيت ماسك المولود في 1971 بعد تأسيسه شركات تكنولوجية رائدة، مثل "تيسلا" و"سبيس إكس"، واشتهر برؤيته المستقبلية في مجالات الطاقة المتجددة واستكشاف الفضاء. وفي العام 2022، استحوذ على منصة التواصل الاجتماعي "تويتر"، وسماها "إكس"، مع طموحات تحويلها إلى تطبيق شامل.

'هذا الفيلم مُهدى لأرواحهم'.. حوار مع عريب زعيتر مخرجة 'يلا باركور' القادم من غزة
'هذا الفيلم مُهدى لأرواحهم'.. حوار مع عريب زعيتر مخرجة 'يلا باركور' القادم من غزة

الجزيرة

time١٢-٠٣-٢٠٢٥

  • الجزيرة

'هذا الفيلم مُهدى لأرواحهم'.. حوار مع عريب زعيتر مخرجة 'يلا باركور' القادم من غزة

على هامش فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ75، كان لنا حوار مع المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر وأحمد مطر، بطل فيلمها الوثائقي 'يلا باركور'، الذي شارك في قسم 'بانوراما' بالمهرجان، وحصد المركز الثاني في تصويت الجمهور على أفضل فيلم وثائقي في المسابقة. تدور أحداث الفيلم عن شباب فريق الباركور داخل غزة، عن محاولاتهم للشعور بالحرية، وعن صعوبة التنقل، والهوية، والحرب، والحياة الطبيعية التي لم تكن طبيعية يوما ما لأهل غزة. أهلا بك في الجزيرة الوثائقية، أيتها المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر، كيف تصفين فيلم 'ؤ' للمشاهدين؟ شكرا على استضافتكم. السمة الكبرى في الفيلم هي الانتماء، ويحكي أيضا عن البعد، ويتناول أيضا موضوع الهوية؛ ماذا يعني أن أكون ذات هوية فلسطينية ولم أعش في هذا البلد؟ فأحيانا كنت أشعر أنني دخيلة، حتى تعرفت على أحمد من غزة، وصرنا نتعرف معا على الهوية والانتماء، ومعنى كلمة 'فلسطينية'. في هذا الفيلم عدة طبقات، ولكن تطغى عليه لعبة الباركور وممارستها في غزة، وما جذبني في البداية للحوار مع الشباب الذين يمارسون اللعبة في غزة هو الباركور نفسه وموقعه في غزة. فغزة مكان محاط بالحواجز، ومكان معدوم من الحرية، لكن الباركور يتخطى الحواجز، ويسمونه بالإنجليزية 'الجري الحر'، فهي رياضة الحرية. كلها طبقات داخل الفيلم وأريد أن أرى الانطباع الذي ستتركه على من يشاهده، وهل ستلمس إحدى الطبقات المشاهد أكثر من الأخرى. متى بدأت تصوير الفيلم، وكيف أثرت الحرب على المنتج النهائي الذي شاهدناه؟ تواصلي مع الشباب في غزة كان خلال حرب طويلة دارت رحاها في غزة، وقد تعرفت على الشباب بعد رؤية فيديو منهم يمارسون الباركور أمام انفجار داخل غزة. ثم بدأنا التصوير بعد ذلك في 2015، ثم لما خرج أحمد من غزة إلى السويد، أصبحت لدي قصة أستطيع تتبعها، ومع الوقت تغيرت حياته في السويد، وأصبح الحوار أكثر طبيعية بلا افتعال، وعندما جاءت 2023 عاد إلى غزة لزيارة أهله، وظننا أنها ستكون نهاية سعيدة، لزيارة أهله بعد غياب 7 سنوات. بعدها صارت الأحداث (طوفان الأقصى)، وشعرنا أننا سنكون بلا مشاعر، وسنفقد التواصل الحقيقي مع غزة، إذا لم نتناول الأحداث الحالية، فأخذ الفيلم منحى آخر. فما يحدث في غزة الآن لا نستطيع الابتعاد عنه، وكان أكثر ما أتخيله -طوال الأحداث في غزة- هو صورة أمي التي توفيت منذ زمن، لكني أتذكر أنها كانت تتأثر بحدوث أي شيء في فلسطين، وصرت أراها طوال الوقت، ففكرت أن يصبح الفيلم كأنه رسالة إليها. ننتقل للشاب الفلسطيني أحمد مطر، في الفيلم تحدثت عن رؤيتك لبحر غزة أول مرة وأنت ابن 9 سنوات؟ أتذكر أنني لم أرَ البحر طفلا قبل بلوغ 9 سنوات، فقد كان الاحتلال مسيطرا على المناطق المطلة على البحر، وكانت حكرا على المستوطنين، وفي نفس التوقيت كان المعبر مفتوحا، وكان لعائلتنا فرح في مصر، فعبرنا المعبر وسافرنا إلى مصر، فرأيت النيل أول مرة، وكانت أول مرة أرى فيها شريانا مائيا كبيرا، ألا وهو النيل المصري، كنت سعيدا بهذا. ولما عدت إلى غزة ورحل الاحتلال كنا في عام 2005، أتذكر الفرحة لدى الجميع، كل الناس، كل خان يونس -منطقتي- ذهبت إلى البحر، وحينها رأيت الفرحة في عيون الناس، أتذكر كل شيء في هذا اليوم، وأتذكر يوم اصطحبني والدي أنا وإخواني لزيارة البحر، يومٌ لا أنساه، يومها شعرنا أننا أحرار، حين رأينا بحر غزة. وأنت يا عريب، نشاهد في الفيلم اشتياقك لفلسطين، وحكايات أمك عن المدن الفلسطينية وارتباطك بها، وعلى الجانب الآخر يجد بعض شباب الباركور ملاذا آمنا في أوروبا، كيف ترين هذا التباين؟ السؤال صعب وتصعب إجابته. وقد حاولت أن أجيبه في الفيلم بالتعبير عن هذا التباين، فقد أكد لي أحمد موضوع الهوية، وأخبرني بأنني فلسطينية، وبدأنا نعمل معا على التصوير والأرشيف، وأصبح يعرض لي غزة من مكانه. في نفس الوقت، كان يريد أن يخرج من هناك، وهذه اللحظات جعلتني أشعر بغصة.. كنت أتساءل لماذا يريد أن يخرج من هذا المكان الذي أريد بشدة أن أصل إليه؟ فهمنا في الفيلم الأسباب التي دفعته للخروج، فقد كان دائما يحكي أنه إن استطاع الخروج والعودة فلن يبقى بالخارج، لكنه عاجز عن الخروج من غزة والعودة إليها، فالحركة محدودة للغاية، والخيارات لديك أن تظل مسجونا كما أنت، أو أن تحاول الخروج لإيصال صوتك، وهذا ما فعلت أنا وأحمد في نفس الوقت. وهناك عامل آخر هو 'الإثارة'، فقد كان يريد أن يرى العالم الخارجي، ويريد أن يتعلم ويعرض مواهبه للعالم، وربما لم يكن يعرف معنى أن يكون بعيدا عاجزا عن الرجوع، فهذا هو التوتر، حين يكون الشباب متحمسين للخروج ورؤية العالم، ومع مرور الزمن، يطغى الحنين على الحماس الذي كان بالبداية. وأنت يا أحمد، كيف ترى العالم الآن وأنت تعيش في السويد، وكيف تشعر حين ترى أهلك في غزة؟ أرى الناس في السويد أحرارا، يستطيعون السفر أينما يريدون، يستطيعون رؤية أهلهم في الوقت الذي يريدونه، يمكنهم مثلا الانتقال من السويد إلى أمريكا، ويمكنهم الدراسة زمنا هناك، ثم العودة لزيارة أهلهم، إنهم أناس أحرار. أما أنا فقد عشت في غزة، وكنت أريد أن أعود إليها بعد ذهابي للسويد، لكن الأمر كان صعبا للغاية، فلقد خفت من العودة إلى غزة واحتجازي فيها مرة أخرى. فلقد حاولت أكثر من 5 سنوات أن أسافر، قضيتها في التقديم على التأشيرة، واستقبلت دعوات من الخارج، لكن التأشيرات كانت تُرفض، والمعابر مغلقة، كنت لهذا مترددا أن أعود لغزة لرؤية أهلي، كنت أريد العودة لرؤيتهم لكني كنت خائفا، واستغرقت 7 سنوات لكي أعود لرؤية أهلي، لكني تجرأت. لقد كنت أيضا خائفا من الاحتجاز في هذا المكان مرة أخرى، لكن أهلي هناك وأريد العودة لهم، وكان الخيار الوحيد هو الانتقال من هذا المكان، لبناء مستقبل في بلد آخر، يمكنني الانتقال فيه، وأحاول إيصال صوتي للعالم. وأنت يا عريب، هناك الآن دعوات لمنح الفلسطينيين مكانا آخر للحياة فيه، دعوات تأتي حتى من الرئاسة الأمريكية، وأنت على الجانب الآخر تشتاقين لهذا المكان الذي ضربته إبادة وحروب عدة خلال سنوات قليلة، ومات فيه آلاف من البشر، وهُجر ملايين، كيف ترين هذا المشهد مع اشتياقك الذي رأيناه داخل الفيلم؟ أشعر أنني لا ينبغي أن أجيب سؤالا يخص أهل غزة الذين يعيشون فيها، لكن أحمد هو جزء مصغر، كأننا نصنع لقطة مقربة لقصة شخص طموح، يفتش عن فرصة للخروج من غزة. قد يكون هذا حال شباب كثيرين في غزة، لا أحد يستطيع أن يلوم إنسانا في دمار كامل على أنه يريد الخروج. لكن الموضوع ليس هنا، الموضوع أن هذا الإنسان إذا خرج ستبقى عالقة في ذهنه أسئلة الهوية؛ من أين أتى، وما أصوله، وأين تربى؟ هذا مكانه حتى لو خرج، حتى لو أراد الخروج ليرتاح قليلا من الدمار الذي عاش فيه زمنا ما، صعب أن يخرج ويُستولى على مكانه، لأنه أراد أن يخرج من الدمار الذي يحيط به. فرؤيتي للموضوع من بعيد هي أنه إذا كان الهدف هو إخلاء غزة والاستيلاء عليها، فهذه جريمة قطعا. لكن إذا خرج أحمد والشباب بحثا عن فرص بالخارج، فهذا حقهم، لأن حال غزة حاليا لا يصلح للحياة. تحضرين الآن في برلين بفيلمك الوثائقي المشارك في قسم بانوراما. وفي العام الماضي كان فيلم فلسطيني آخر في نفس المسابقة، وهو فيلم 'لا أرض أخرى' الذي وصل لترشيحات الأوسكار، وفاز بأفضل وثائقي في أوروبا وفي المهرجان، واحتُفي به احتفاء كبيرا، وحاول المهرجان أن يحميه لأنه هوجم بشدة في ألمانيا، كيف كانت مشاعرك حين اختير الفيلم في مهرجان برلين، وهل تخشين رد فعل هجوميا أو سلبيا داخل ألمانيا، الدولة التي تدعم الاحتلال بشدة؟ كانت مشاعري مختلطة، كنت أتساءل: هل من الصحيح أن أشارك مع أن الفلسطينيين تُساء معاملتهم في هذا المكان، أم من الصائب أن نصنع ضغطا ثقافيا وننسحب؟ شاركت أيضا تخوفاتي مع الفريق، ممن ظهروا في الفيلم، وهي قصتهم أكثر مما هي قصتي، وقد شارك أحمد في هذه النقاشات، فاخترنا أن هذه المنصة التي مُنحنا هي منصة مهمة في نهاية الموضوع، هل ننسحب من هذه المنطقة ونتركها لقصص الطرف الآخر؟ من الخطأ أن نسحب الفيلم، ونضيع فرصة حكي قصتنا لأكبر شريحة ممكنة من الناس، ففي النهاية مهرجان برلين معروف بكثافة حضوره، وبأنه من أكبر المهرجانات في العالم، فقررنا المشاركة في المهرجان وعدم الانسحاب منه. أما عن التخوف من ردة الفعل، فقد صنعنا الفيلم، وردة الفعل إذا صارت فمن الواجب مواجهتها، وأجد أن برلين عموما ليست المكان الوحيد المسيء للفلسطينيين، فهناك دول أخرى كثيرة تسيء بنفس الشكل، ومن الممكن أن يكون أكثر. نحن في ظرف لا نُحسد عليه، وقصصنا صعب خروجها بسبب الهجوم علينا، لكن بنفس الوقت من المستحيل أن نتوقف عن سرد قصصنا. نعم هذا مقصود تماما، تحدثنا عن قرارنا بأن تدخل أحداث غزة داخل الفيلم، كان ذلك بسبب الفقدان الذي نعيشه، حينما كنا نعمل على الفيلم كنا نسمع أن بيوت بعض الشباب قد هُدمت، بيوت لطاقم التصوير تهدم، وأرواح تهدر، فكان متعمدا تماما أن يكون هذا الفيلم مهدى لأرواحهم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store