
ميرنا مشنتف وصغار التوحُّد... ما يُهمَل يستحقّ فرصة أخرى
جمعت ميرنا مشنتف مع صغار التوحّد ما يُرمَى لمَنْحه فرصة جديدة (الشرق الأوسط)
في معرض استضافته منطقة الجمّيزة البيروتية، اصطفَّت أعمال فنّية صاغها ما هو مَنسيٌّ في الطبيعة: قِطَعٌ تحوَّلت من حالة إلى أخرى بأيدي 4 صغار مُصابين بالتوحُّد، استقبلتهم الفنانة في مُحترفها؛ وهناك، أطلقوا من دواخلهم ألواناً كانت تبحث عن مَخْرج. هو تعاون جمع بين ميرنا مشنتف، ومبادرة «كرياتيف كول»، و«بنك بيمو»، لإعادة تشكيل بقايا جِرار الغاز الفارغة التي انتهت وظيفتها، وتحويلها إلى أعمال فنّية تمتلئ بالحياة.
A post shared by Revive Art Hub (@bymirnamchantaf)
الصغار الـ4؛ آدم خطيب، وجواد مطر، وشربل خوري، وليون كارابوياجيان، حوَّلوا، تحت إشراف الفنانة واستضافتها طوال شهر، الصدأ الذي كان يلفّ جرّة الغاز، ولونها الباهت، وصورتها بكونها مادة انتهى زمنها، إلى شيء يستحقّ التأمل والاحتفاظ به. فبلمسة من اللون والخيال، حصلت هذه الأجسام المعدنية على حياة أخرى، لتنتقل من الهامش إلى المركز، من اللاجدوى إلى المعنى، ومن اللاعودة إلى البداية الثانية.
تُحوّل ميرنا مشنتف النفايات إلى أدوات تعبير (الشرق الأوسط)
ميرنا مشنتف لا ترى في النفايات نهاية، فهي «كنزٌ» ينتظر مَن يعي قيمته. تقول: «نحن والطبيعة والمحيط جسدٌ واحد. وجودنا موصول. أزرع في الأطفال حسَّ المسؤولية ليُتابعوا الطريق بأنفسهم. بالنسبة إليّ، لا إنجاز بلا قولٍ عميق. بدأنا من الصفر، جلبنا الجِرار القديمة، نظفّناها معاً، أزلنا صدأها، وطليناها بالأمل. حوَّلنا الحديد إلى رسم. هذه ليست نفايات، إنها نفاياتنا».
قِطَعٌ تحوَّلت من حالة إلى حالة بأيدي 4 صغار مُصابين بالتوحُّد (الشرق الأوسط)
وتُضيف أنَّ الرسالة كانت إنسانية أيضاً. فاختيار جِرار «مشوَّهة» هو دعوة لرؤية ما وراء الشكل، وتخطّي النظرة السريعة والأحكام الجاهزة. من خلال الرسم فوق أجسام غير «مثالية»، يفهم الأطفال أنَّ الجمال لا يُختزل بالمظهر، وأنَّ حقيقة الإنسان لا تصوغها القوالب الجاهزة؛ فهي تتجلّى فيما يُبديه من رحمة وعدالة وانفتاح على الآخر. أرادت القول إنَّ الكمال ليس شرط الجمال، والنقصان يمكن أن يكون نافذتنا إلى المعنى.
تتحدَّث عن «ذاكرة النفايات». فالأشياء التي نرميها كانت يوماً جزءاً من حياة شخص ما. صُمِّمت بيدٍ، وسكنت بيتاً، وانتقلت إلى آخرين. «الناس يرمون أشياءهم من دون وعي. لكن حين نمنحها فرصة ثانية، قد تُفاجئنا تماماً كما يفعل البشر. نُخطئ، نُخذَل، نُترَك... ثم تأتي فرصة أخرى تُغيّر كل شيء».
أعادت ميرنا مشنتف تشكيل بقايا جِرار الغاز الفارغة التي انتهت وظيفتها (الشرق الأوسط)
هكذا تعاملت مع المواد المُعاد تدويرها: هي احتمالات لم تكتمل وليست عبئاً. وهذه كانت المرّة الأولى التي تتعاون فيها مع صغار من طيف التوحّد، وقد استعدَّت لذلك بكلّ تفاصيله: بحثت، قرأت، وحرصت على أن يشعر كلّ صبي بالأمان والانتماء في محترفها الذي تحوّل إلى بيت لهم على مدى شهر كامل، يزورونه مرّتين أسبوعياً كأنهم يعودون إلى مكان يعرفونه ويحتضنهم.
تُفضّل مشنتف تجنُّب استعمال مصطلح «توحّد» لوصف الصغار الأربعة، وتقول بلغة أخرى: «طريقتهم في التفكير مختلفة، ومستواهم أعلى في الحسّ والشعور. نحن عالقون في أبعادنا الأرضية المحدودة، أما هم فأرواحهم ترفعهم إلى أعلى».
أطلق صغار التوحّد من دواخلهم ألواناً كانت تبحث عن مَخْرج (الشرق الأوسط)
عُرضت هذه الأعمال ضمن مهرجان «أيام بيروت الفنية»، ولاقت صدىً طيّباً لدى الزوّار. فميرنا مشنتف تحمل في داخلها هَمّ إنقاذ الحضارة من التآكل. منذ أن تفتَّح شغفها بالرسم، قرَّرت أن تمنحه بُعداً بيئياً، وأن تربطه بالقصص التي تُهمَل، لكنها تستحق محاولة أخرى.
A post shared by Banque BEMO (@banquebemolb)
تستعيد مشروعها السابق «نبض»، حيث تبنَّت براميل النفايات في بيروت، لتُذكّر الناس بأنّ النفايات، مهما كانت قاسية الرائحة أو الشكل، هي ثروة. «البرميل يستحقّ الشكر»، تقول. «فهو يحتفظ بنفاياتنا. علينا أن نُقدّر ذلك». سمَّت المشروع «نبض»؛ لأننا نتعامل مع المكبّات كأنها كيانات ميتة، لا نراها ولا نشعر بها، لكنها في الحقيقة تنبُض وتدعونا إلى التصرُّف بمسؤولية.
«بوغارنيا» تنمو فقط في منطقة الجزع كأنها رحم أنثى تحمل الحياة (ميرنا مشنتف)
وفي مشاريع أخرى، زرعت شجرة باسم «بوغارنيا»، تنمو فقط في منطقة الجزع، كأنها رحم أنثى تحمل الحياة. تقول إنّ التعامل الحسن مع النفايات قد يُثمر ولادة جديدة، تماماً كما تفعل الأنثى حين تحتضن جنينها.
أما مشروع «أوشون»، المُستوحى من إلهة المياه في الميثولوجيا الأفريقية، فكان عن خزّانات المياه على أسطح بيروت. أطلقت الاسم على أحد الخزّانات، وتخيّلته بلا عيون، كما تخيّلت بيروت امرأة. من هنا، جعلت «أوشون» تطلّ برمزها على المدينة من الأعالي، تُوزّع الماء بعدالة على الجميع. أرادت أن تقول إنَّ الماء حقٌّ مقدّس، ومَن يملكه يجب أن يوزّعه، لا أن يُحوّله إلى سلاح. فأنْ نَهِبَ الحياة أهمّ بكثير من انتزاعها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


مجلة سيدتي
منذ 6 ساعات
- مجلة سيدتي
كيف وصفت كارمن لبس رحيل حب عمرها زياد الرحباني؟
بعبارات مؤثرة تعبر عن وجع الفراق، نعت الفنانة كارمن لبس الفنان زياد الرحباني الذي رحل عن عالمنا أمس في 26 يوليو الجاري عن عمر يناهز الـ 69 عامًا، وهي الحبيبة التي لطالما صرحت بأنه كان حبها الوحيد في حياتها. فثمة علاقة عاطفية ربطت بين كارمن لبس و زياد الرحباني على مدى 15 عامًا تقريبًا بعد انفصاله عن زوجته دلال كرم. كذلك نشرت كارمن لبس رسالة حزينة وجهتها لحبيبها الراحل زياد الرحباني تعده من خلالها أنها باقية على عهد حبها له إلى الأبد. كارمن لبس: ليش هيك حاسة كل شي راح نشرت الفنانة كارمن لبس أمس عبر حسابها على إنستغرام صورة سوداء معلنة الحداد على رحيل حب عمرها الفنان زياد الرحباني وأرفقت الصورة بتعليق حزين. ووضعت رمز القلب المكسور للدلالة علىم وجعها بأنه ترك فراغًا كبيرًا في حياتها وعلى نطاق الوطن ككل لأن حضوره كان عظيمًا ويملأ الدنيا تأثيرًا قائلة: " ليش هيك حاسة كل شي راح، حاسة فضي لبنان". View this post on Instagram A post shared by Carmen Lebbos (@carmen_lebbos) كارمن لبس: الوجع بقلبي أكبر من إني اقدر اوصفو وفي اليوم التالي عادت كارمن لبس فنشرت رسالة مؤثرة وجهتها للفنان الراحل زياد الرحباني وكانت تتحدث إليه بحرقة واصفة حالها بعد رحيله بأنها صعبة وبأنها لم تعتقد يومًا أنها ستتلقى التعازي به وأخبرته أنها ستبقى تشتاق إليه باستمرار وتحبه دومًا. وجاء في رسالتها هذه " فكرت بكل شي إلا إنو الناس يعزوني فيك. الوجع بقلبي أكبر من إني اقدر اوصفو، أنا مش شاطرة بالتعبير، انت أشطر مني بكتير تعبّر عني... لو كان في بُعد، بس كنت موجود، وهلق بطلت. صعبة كتير زياد ما تكون موجود. رح ابقى اشتقتلك عطول لو انت مش هون. وحبك بلا ولا شي". View this post on Instagram A post shared by Carmen Lebbos (@carmen_lebbos) زياد الرحباني كان بحاجة لزراعة الكبد وكان زياد الرحباني يعدّ ظاهرة استثنائية ونادرة في الفن وظاهرة فريدة في التجربة الرحبانية من خلال الفن المتفرد الذي قدمه بأعماله الغنائية والموسيقية والمسرحية طيلة مشواره الفني العظيم. وكانت والدته السيدة فيروز تصفه بالعبقري. وقد شكلت وفاته صدمة لكل محبيه وجمهوره في العالم العربي الذي لم يكن على اطلاع مسبق بأنه يمرّ بمحنة صحية صعبة أدت لوفاته. وكانت ترددت أخبار متعلقة بالحالة الصحية للفنان زياد الرحباني قبل وفاته مفادها أن الأطباء أبلغوه بضرورة الخضوع لزراعة الكبد لمعاناته من مرض به. ولكنه وفق الأخبار المتداولة لم يكن متحمسًا حيث كان مترددًا بإجراء العملية. فتارة كان يعلن عن استعداده للخضوع لعملية لزراعة الكبد ثم ما يلبث أن يتراجع عن قراره بعد فترة لاعتبارات عدة قد يكون الخوف من أبرزها وأنها قد تعطله عن عمله لأنها تستلزم وقتًا طويلًا من التحضير قبل العملية وبعدها. وكانت أعلنت أسرة الفنان الراحل زياد الرحباني ، والصفحة الرسمية للفنان الراحل عبر موقع التواصل الاجتماعي الـفيسبوك عن موعد ومكان الدفن، حيث ستقام صلاة الجنازة عليه بعد ظهر غد الإثنين 28 يوليو في كنيسة "رقاد السيدة – المحيدثة" بكفيا، وستتقبل الأسرة التعازي من الساعة الحادية عشرة صباحاً أي قبل دفن الراحل وحتى الساعة السادسة مساءً في صالون الكنيسة. وتستكمل الأسرة مراسم العزاء لليوم الثاني، الثلاثاء 29 يوليو، في صالون كنيسة "رقاد السيدة – المحيدثة"، بكفيا، من الساعة الحادية عشرة صباحاً حتى السادسة مساءً. لمشاهدة أجمل صور المشاهير زوروا « إنستغرام سيدتي ». وللاطلاع على فيديوغراف المشاهير زوروا « تيك توك سيدتي ». ويمكنكم متابعة آخر أخبار النجوم عبر «تويتر» « سيدتي فن ».


الشرق السعودية
منذ 6 ساعات
- الشرق السعودية
عن زهرات المنفى وبريق الأمهات في مهرجان عمان السينمائي 2025
مع تجاوز منتصف العقد الأول من عمر مهرجان عمان الدولي (أول فيلم) المعني بالتجارب الأولى لصناع الأفلام، شهدت الدورة السادسة من المهرجان التي اختتمت مؤخراً، منافسة 7 أفلام وثائقية ضمن مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل، والتي تبارى فيها على جائزة السوسنة السوداء لأفضل فيلم 6 مخرجين في أعمالهم الأولى. من المغرب "أمك. أمي"، ولبنان "نحن في الداخل" و"فتنة الحاجبين"، والأردن "احكي لهم عنا" و"أم المدارس"، وسوريا "وقت مستقطع 22"، بالإضافة إلى مصر التي شاركت بفيلم المخرج بسام مرتضى "أبو زعبل 89"، وهو عمله الثاني، لكنه انضم إلى المسابقة في تنافس على جائزة أفضل مونتاج أول، والتي حصل عليها المونتير المصري أحمد أبو الفضل. من بين الأفلام السبعة المشاركة استطاع المغربي "أمك. أمي" للمخرجة سميرة الموزغيباتي، والأردني احكي لهم عنا لرند بيروتي، واللبناني نحن في الداخل لفرح القاسم أن يحصدوا جوائز المسابقة هذا العام (أفضل فيلم مناصفة بين المغربي واللبناني) وجائزتي لجنة التحكيم والجمهور للفيلم الأردني، بينما حصل "أبو زعبل 89" على جائزة اتحاد النقاد الدولي، وهي المرة الثانية التي يحصل عليها، بعد أن حصدها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عقب عرضه الأول في الشرق الأوسط. وكما هو ظاهر، فالحضور النسائي يرفرف على جوائز المسابقة هذا العام، أربع جوائز لثلاثة أفلام من أصل خمس جوائز يمنحها المهرجان سنوياً، مع الأخذ في الاعتبار أن جائزة السوسنة ذهبت مناصفة في هذه الدورة لفيلمين، وكلاهما من إخراج صانعات أفلام. الكاميرا وبريق الأمهات تبدو الأمهات عنصراً مشتركاً وحاضراً في تجليات متعددة ضمن الأفلام الفائزة بالمسابقة هذا العام، في الفيلم المغربي "أمك. أمي" يبدو العنوان صريحاً بلا مواربة أو حاجة للتأويل، هذا فيلم يتحدث عن العلاقة مع الجذور عبر شخصية الأم – أم المخرجة – التي بسبب مأساة عائلية تنفصل شعورياً ووجدانياً عن بناتها – أخوات المخرجة – وتقرر سميرة عبر وسيط الصورة أن تعيد إنتاج رحلة العائلة وصولاً إلى لحظة الأزمة ثم تفجرها بمواجهة الأم مع البنات، حيث توقفت الأخوات عن مناداة أمهن بلقبها المعتاد – الوالدة – وأصبحت فقط تخص سميرة – والدتك – ومن هنا يأتي العنوان على لسان سميرة (أمك. أمي) موجهة خطابها إلى أخواتها؛ أي أن أمهن واحدة! وفي المقابل، تلعب فرح القاسم في فيلمها "نحن في الداخل" دور الأم البديلة للأب الشاعر الطرابلسي العجوز بعد عودتها عبر سنوات الغياب والمنفى الاختياري، هكذا نراها وهي تحلق له رأسه وتعاونه في إدارة نشاط نادي الشعر الخاص به، تطمئنه أمومياً تجاهها، مما يجعله يستريح من قلقه الشعري الغريزي ويفتح لها خزائن ذاكرته ودفاتر أيامه حكياً وشعراً ونثراً أمام الكاميرا. أما رند بيروتي في فيلمها "احكي لهم عنا"، فأول ما تفعله مع مجموعة الفتيات التي قررت أن يكونن محط المعايشة والدراسة الوثائقية لحياتهن، من بين آلاف الفتيات الهاربات اللائي يعشن في المنفى الإجباري، بعد أن تركن بلادهن العربية الممزقة، نقول أول ما تفعله هو أن تتفق معهن على إعادة إنتاج مشاهد علاقتهن مع أمهاتهن، وكيف تنظر الأمهات من جيل ما قبل الهجرة واللجوء إلى واقع بناتهن، وسط خضم الغربة الجغرافية والاغتراب المكاني والنفسي عن الأصول والجذور الأولى، سواء كانت اجتماعية أو عاطفية أو حتى متخيلة. ولا ننسى، وسط قراءتنا للأفلام الثلاثة، أن نشير إلى البريق الساطع لحضور الأم في فيلم "أبو زعبل 89"، حيث تلعب أم المخرج بسام مرتضى دوراً محورياً هائل التأثير والأثر سواء على أسلوب حكي القصة أو إعادة بناء لحظات الماضي التي انطلق منها المخرج في محاكمته لأبيه – المناضل اليساري المحبوس في سجن أبو زعبل عام 89 إثر حركة عمالية غاضبة تجاه السلطة الرأسمالية الغاشمة – وكيف أن لحظة زيارة الأب مع الأم في ذلك العام البعيد شكّلت تحولًا يصعب احتواؤه على نفسية وعقل وشخصية المخرج نفسه، هذا التحول الذي ظلت الأم جزءاً لا يمكن طمسه أو المرور عليه، دون أن يكون لشهادتها وحكيها كل هذا الثقل الشعوري والدرامي في الفيلم. تلمع الأفلام الأربعة الفائزة ببريق الأمهات على اختلاف درجات الحضور والتوظيف والتأويل، والملاحظ في الأفلام الأربعة أن وسيلة الحصول على التواصل أو الاتصال المباشر أو غير المباشر أو استدعاء الماضي أو الولوج إلى أعمق الأقبية الداخلية في نفوس الشخصيات يأتي عبر الكاميرا أو صناعة الفيلم نفسه! وأن البريق الذي يشع من كيان الأم في كل تجلياته – حتى وهي غائبة أو ممثلة كما في الفيلم الأردني أو مجازية كما في الفيلم اللبناني الذي تقوم فيه المخرجة نفسها بدور الأم لأبيها – هذا البريق تلتقطه الكاميرا ضمن عملية المكاشفة عبر السينما، فالأفلام الأربعة تقريباً يستخدم صناعها السينما كأكثر من مجرد عملية إبداعية أو أداة تعبير أو توثيق، بل يتجاوز الأمر في أفلام مثل "أمك. أمي" و"أبو زعبل 89" ونحن في الداخل إلى مواجهة الذات ومحاولات الاستشفاء أو إصلاح ما أفسدته أزمنة سابقة متراكمة وثقيلة، أو تحقيق الأحلام المستحيلة واستشراف المستقبل كما في احكي لهم عنا. الأرشيف واللغة المحكية لا يمكن غض الطرف عن توظيف اللغة المحكية والأرشيف في الأفلام الفائزة بالمسابقة، وإن اختلفت أشكال الأرشيف واختلفت تجليات اللغة. في "أمك. أمي" ثمة اعتماد كبير على الأرشيف العائلي المصوّر لأسرة المخرجة، مادة هائلة يصعب تصور كيف استطاعت أن تسيطر عليها مونتاجياً وتعيد إنتاجها دون رطانة أو إسهاب أو وقوع في فخ النوستالجيا، عشرات الدقائق من حفلات أعياد الميلاد والزفاف والتجمعات العائلية التي شكّلت جزءاً مهماً من سؤال الماضي الذي يتم محاكمة الأم من خلاله! الفيلم بالأساس يبدأ بمشهد أرشيفي، وتختلط فيه الأزمنة بصورة تتلاشى معها الحدود ما بين السابق والحاضر، وهو تلاشٍ متعمد لعجن الزمن ككل في كتلة واحدة ثقيلة تُشعر المتفرج بحجم وطأة الأزمة التي تعيشها عائلة المخرجة والمحاولات المضنية عبر صناعة الفيلم في منح الأم فرصة للدفاع عن نفسها ومصالحة بناتها في الماضي قبل المستقبل. ولا يمكن أيضاً تجاهل عنصر لغة الحوار بين الشخصيات في الفيلم والتي تغلب عليها الفرنسية بشكل كبير نظراً لكون العائلة تعيش بين هويتين، المغربية – بحكم الأصول – والفرانكفونية – بحكم ميراث الاستعمار والجغرافيا والثقافة – اللغة هنا هي عنصر مهم من عناصر تشريح الأسرة المغربية الذي تجريه المخرجة، وليس المقصود بها أداة ولكن جزء، أي أنها مثل الأرشيف المصوّر، من الصعب أن تكتمل رؤية الفيلم دون النظر إلى اللغة الفرنسية على اعتبار أنها جزء من تكوين العائلة وأزمتها الثقافية والاجتماعية. وفي "احكي لهم عنا" تبدو اللغة ليس فقط جزءاً من حاضر الشخصيات – زهرات المنفى من الفتيات العربيات المراهقات اللائي يعشن مع أسرهن اللاجئة إلى ألمانيا – حيث يتوجب عليهن أن يدرسنها ليس فقط من أجل أن يدرسن بها، ولكن كجزء من برنامج اللجوء للانخراط في المجتمع من ناحية وكوسيلة دعم ومواجهة لكونهن غريبات على مجتمع يقبلهن على مضض. تتنوّع استخدامات اللغة في الفيلم ما بين العربية والألمانية، تعتمد المخرجة الشابة على نوع مختلف من الأرشيف، حيث لا تستعين بصور أو مواد مصورة للشخصيات – والتي غالباً لا يتوفر لديهن هذا النوع من الأرشيفات كونهن لاجئات جاءت أسرهن ربما بما عليهن من ملابس – حيث تصنع لهن المخرجة أولاً أرشيفاً من حاضرهن المعاش نراه في البداية كجزء من التعريف بهن شكلياً وعمرياً واجتماعياً على الأقل. ثم عبر إعادة تمثيل بعض المواقف التي سبق وأن حدثت لهن – مع أمهاتهن مثلاً أو مع فتيات ألمانيات ممن يتسمن بالعنصرية ضدهن – تتنوع اللغة هنا بين العربية والألمانية، صحيح أن العربية تغلب – بشكل متعمد كجزء أساسي في وصف هويتهن الأصلية وأرشيفهن النفسي والثقافي – إلا أن حضور الألمانية أيضاً يعزز من الحاضر الذي يعشنه، ويمتد عبر أسلوب وثائقية المعايشة – أي تتبعهن على مدار سنوات بالتعايش معهن ورصد تطورات حياتهن – إلى الوقوف على شكل مستقبلهن القريب وعن بوابات الحياة العملية والمهنية اللاتي شرعن في المرور عبرها. تبدو إعادة بناء المواقف تمثيلياً من قبل البنات لعبة أرشيف ذكية من المخرجة، وربما تفسر سر حصول الفيلم على جائزة الجمهور، حيث إن الفتيات يتسمن بقدر كبير من الحيوية والمواهب الدفينة والتصالح مع الحياة والقوة النفسية في مواجهة ماضٍ مؤلم وحاضر هش – يتحرك بين قوسي العنصرية والخوف من الترحيل كما نرى في مشاهد تعرض بعضهن للتنمر بسبب الحجاب واللغة العربية – وبالطبع مستقبل مجهول – بحكم كونهن لاجئات من أسر لاجئة. تستغل المخرجة لعبة ورش التدريب على الرسم أو الغناء أو التمثيل للقفز فوق الشكل التقليدي للأسئلة والبوح، حيث تعمل الورش على استخراج ما بداخلهن بصورة سلسة وغير تقليدية، بل تستثمر رند فكرة الورش من أجل تحقيق أحلام البنات – التي تبدو ظاهرياً مستحيلة – في مغامرة سينمائية تستحق الإشادة، كونها استغلت إمكانيات الفيلم في تجسيد الأحلام – والسينما بالمناسبة هي أقرب الفنون تعبيرية في القدرة على أن تجعل كل منها يرى أحلام الآخر – حيث تقوم المخرجة مع البنات بكتابة وتمثيل وتصوير – وتحقيق – حلم كل فتاة منهن أن تكون الإنسانة التي تريدها، سواء مهنياً أو اجتماعياً، حيث تحقق على سبيل المثال حلم واحدة منهن بأن تكون شرطية – في بلد بيروقراطي يشترط الجنسية للالتحاق بسلك الشرطة – وهكذا. ربما أيضاً كان أكثر ما أهل "احكي لهم عنا" لجائزة مهمة مثل جائزة الجمهور هو تجنب التعاطف المجاني مع واقع البنات، ولجوء المخرجة إلى تصويرهن في لحظات تحقق وقوة، مع الأخذ في الاعتبار رقة اللحظات اللائي يضعفن نسبيًا فيها، كي لا تُبتذل مثل هذه الأوقات لصالح ميلودراما يمكن أن تتبخر سريعاً، وهي حساسية سينمائية تُحسب لها في تجربتها الأولى الجذابة، بالإضافة إلى ذكائها في التعامل مع قضايا حساسة مثل العنصرية – والتي تأتي بشكل ديناميكي كجزء من سياقات المجتمع الألماني وليس بالتركيز عليها على اعتبار أنها جزء من أجندة مضمونة لدعم سمعة الأفلام التي تتحدث عن اللاجئين من أجل استدرار الدموع أو ابتزاز دول المهجر. يمكن اعتبار قائمة جوائز مسابقة الأفلام الطويلة بالمهرجان هذا العام مساحة مشبعة بالتكريم المستحق لمجموعة من الأعمال الأولى التي بلا شك سوف تظل عالقة في ذاكرة جمهور المهرجان، وعلامة مميزة لدورة منتصف العقد الأول من عمره الشاب. * ناقد فني


الشرق الأوسط
منذ 7 ساعات
- الشرق الأوسط
«كارمن» في «مهرجانات بعلبك الدولية» تغني الموّال
افتتاح بهيج وفاتن؛ لـ«مهرجانات بعلبك الدولية» هذا العام، بعرضين لأوبرا «كارمن» الشهيرة قُدّما يومي 25 و26 من الشهر الحالي، على درج «معبد باخوس» المهيب. الرؤية والإخراج للبناني جورج فيليب تقلا، العائد من مهجره البرازيلي الذي قضى فيه 50 عاماً، راغباً في أن يُقدم لبلاده أوبرا عالمية بنكهة شرقية، ولمسات لبنانية، وكان له ما أراد. اللوحات الراقصة بمشاركة برازيلية (مهرجانات بعلبك) وأبدع المايسترو توفيق معتوق بقيادة «أوركسترا الإذاعة الرومانية»، وفي إعادتنا إلى الأجواء التي رسمها جورج بيزيه بموسيقى أدخل عليها الإيقاعات الإسبانية والنفَس الغجري، ليعبّر عن التوتر النفسي لأبطال الحكاية، وصراعاتهم صعوداً وهبوطاً. إنتاج كبير ومتقن، أحياه غناءً أوبراليون موهوبون فرنسيون ولبنانيون، وشارك في العرض عشرات الفنانين، من رومانيا والبرازيل وفرنسا ولبنان، بينهم جوقة «الجامعة الأنطونية». عملٌ احتاج إعداداً طويلاً، في ظروف قاسية، حيث كان لا بد من اجتياز تحدي الحرب الأخيرة في المنطقة، وإقامة الحفل في مدينة بعلبك؛ واحدة من المناطق التي كانت الأكثر استهدافاً، خصوصاً القلعةَ التي دُمّرت في الحرب الإسرائيلية، ومباني تراثية وتاريخية حولها، وكانت هي نفسها عرضة للتصدع، فيما لا تزال منطقة البقاع تتعرض لاعتداءات. «كارمن» بلمسة شرقية (مهرجانات بعلبك) وأوبرا «كارمن» التي كتب موسيقاها جورج بيزيه، وعُرضت قبل وفاته بأشهر ولم يتسنَّ له أن يرى النجاح الكبير الذي حققته بعد ذلك، مستوحاة من قصة صغيرة للكاتب بروسبير ميريميه، صدرت عام 1845. لكن السحر ليس في القصة نفسها التي قد تُشبه أي حكاية أخرى، وإنما في بلاغة الموسيقى وقدرتها على التناغم مع الأحداث ومشاعر الشخصيات. وهو ما تمكن الفنانون في بعلبك من تقديمه بالرهافة والدقة التي تتطلبها أعمال على هذا القدر من الصعوبة. فالموسيقيون عادةً يصنفون «كارمن» من بين الأوبرات ذات التحديات العالية تقنياً في العزف والأداء. المزج الفني المتعدد النكهات في قصة «كارمن» ذات الأصول الغجرية، والحكاية التي تدور أحداثها في إشبيلية الإسبانية، انعكسا على روح العرض ولونه؛ سواء من ناحية الأزياء الأخاذة التي صممها اللبناني العالمي ربيع كيروز، قابلاً تحدي إلباس الفنانين أردية بلمسات شرقية، ومن ناحية الشغل على البصريات الذي نفّذه التشكيلي نبيل نحاس؛ وسحره على الخلفيات، خصوصاً التي جاءت مكمّلة للمدرجات الضخمة للمعبد التي تحتاج براعة كي لا يبدو المؤدون كأنهم يضيعون في متاهة. وعمل المخرج على إبقاء المشاهد محصورة في المساحة الأمامية، ووزّع فنانين بشكل ذكي في مشاهد أخرى على المساحات العلوية، دون أن يفقد السيطرة على حميمية الأجواء. ولم يتردَّد تقلا في إضافة موّال مفاجئ تصدح به كارمن على المسرح، وسط هذا العرض الكلاسيكي الغربي، دون أن يُشعرنا بأن ثمة دخيلاً غريباً خدش مسار الغناء. «كارمن» تراجيديا الموت على يد العاشق المصدوم (مهرجانات بعلبك) الحكاية عن كارمن الغجرية، بائعة التبغ التي تريد أن تُحب على هواها، وتختار من تريد، وتُعامَل على أنها مصدر للإزعاج. لكنها بحنكتها تستطيع أن تُغير قواعد اللعبة، راغبة في التمرد وعدم الخضوع لمن يسعى إلى التحكم في مصيرها... يقع الجندي «دون خوسيه» في حبها، يساعدها على الهرب من السجن، ويترك التزاماته لأجلها، لكن من جهتها، غرامها يذهب إلى «إسكاميلو» مصارع الثيران، وهو ما لا يحتمله «خوسيه» منها. وتنتهي الأوبرا بتراجيديا قتل «خوسيه» حبيبته «كارمن». لكن «كارمن» ليست مجرد امرأة تبحث عن حريتها بأي ثمن. فقد قُدّمت هذه الأوبرا، التي يبلغ عمرها 150 عاماً، بقراءات أعمق مما يطفو على سطحها. فقصة «كارمن»؛ المرأة الحرّة المرغوبة، الساعية إلى أن تكون بلا قيود، هي أيضاً حكاية أي أمة تريد حريتها واستقلالها؛ بالنسبة إلى مخرج العمل جورج تقلا. و«صوت (كارمن) يَصدح في (مهرجانات بعلبك)، ليصل إلى كل من يعاني بصمت، ويقاوم الخوف والجوع والظلم في مختلف أنحاء هذا الشرق، في رسالةٍ إنسانيّة واحدة»، وفق ما قالت رئيسة «المهرجانات»، نايلة دو فريج، في كلمتها الافتتاحية. ووسط حضور رسمي عريض وجمهور بلغ أكثر من 4 آلاف شخص شرحت: «نعم، نحنُ مُستمرّون، حتى حين تسقطُ الضرباتُ الإسرائيلية في محافظة بعلبك. رَدُّنا ليس بالصمت، بل بالإبداع. ردُّنا ليس بالخوف، بل بالموسيقى، بالإصرار على الحياة». بهاء الألوان والأزياء بتصميم العالمي ربيع كيروز (مهرجانات بعلبك) «كارمن (ماري غوتيرو)» تقول في نهاية العرض بصوت مؤثر: «أنا لن أخضع أبداً؛ وُلدت حرّة، وأموت حرة»، فيما يرفض «دون خوسيه (جولين بير)» الاستسلام أمام رغبتها بالتحرر منه قائلاً: «طلبتِ مني ألا أحبك بعد الآن، ومع ذلك... ما زلت أحبك!»، في حين يُجسد جيروم بوتوليه دور «إسكاميلو» بنظرته المتكبرة وذكوريته وشعوره بالزهو والانتصار. شارك في العرض فنانون لبنانيون موهوبون، بينهم: ميرا عقيقي، وغريس مدور، وسيزار ناعسة، وفادي جانبار. فيما جمع الكورال فنانين لبنانيين وفرنسيين. أما الراقصون والراقصات فهم لبنانيون وبرازيليون... خلطة فنية ساحرة، أعادت إلى بعلبك نبضها، وللحاضرين الأمل. الحفل الثاني المنتظر في بعلبك لهبة طوجي، التي تغني لليلتين في 8 و9 أغسطس (آب) المقبل.