
عليٌّ ضحية المحراب
علي بن أبي طالب (عليه السلام) رابع الخلفاء الراشدين كنيَ بألقاب عدة منها:
حيدرة، حيدر، أسد الله، المرتضى، عندما يذكر اسمه تتبعه عبارة كرّم الله وجهه أو عليه السلام.
ولد في مكة بجوف الكعبة المشرفة، أول من صدق رسول الله وأسلم، آخاه النبي الأكرم مع نفسه، وزوّجه ابنته فاطمة الزهراء، عليها السلام، شارك في كل غزوات النبي ما عدا غزوة تبوك لأنه استخلفه صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة المنورة في هذه الغزوة وكان موضع ثقة النبي الأكرم.
اشتهر الإمام علي (عليه السلام) بالفصاحة والحكمة، فينسب له الكثير من الأشعار والأقوال المأثورة، كما يُعدّ رمزاً للشجاعة والقوّة ويتّصف بالعدل والزُهد ويُعتبر من أكبر علماء عصره علماً وفقهاً.
قال النبي الأكرم له:
«أنت مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنّه لا نبي بعدي»
- عندما نادى فارس المشركين (عمرو بن عبد ود العامري) وكان يعد بألف فارس عند العرب، فنادى هل من مبارز؟ فقال النبي من له، قالها ثلاثاً؟ فلم يقم إلا علي بن أبي طالب.
وهنا حق القول:
(برز الإيمانُ كلّه إلى الشرك كلّهِ)
غزوة خيبر:
مرّت أيام و لم يتمكّن المسلمون أن يقتحموا الحصن المنيع، وكان مرحب سيد فرسان خيبر.
فقال النبي الأكرم: لأعطين الراية غداً رجلاً، كرّاراً غير فرّار، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه»
فقال (ص): ادعوا لي عليّاً.
فصاح الناس: إنه أرمد العينين لا يبصر موضع قدمه.
فقال:«ارسلوا إليه وادعوه! فأُتي به يُقاد. فوضع رأسه على فخذه، و مسح على عينيه، وبرأ من ساعته، وقال له: خذ الراية، ولا تلتفت حتى يفتح الله على يديك».
فبرز إليه علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
كليث غابات شديد القسورة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
فضرب مرحب وفلق رأسه وكان الفتح.
-قال الإمام علي (ع):
«والله ما نزلت آية إلا وقد علمتُ فيمَ نَزلت، وأين نَزلت، وعلى من نَزلت، إنّ ربّي وهبَ لي قلباً عقولاً، ولساناً صادقاً ناطقاً.
هكذا كان علي بن أبي طالب، بطلاً شجاعاً وعالماً زاهداً.
وهو القائل: معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني.
وقال رسول الله:
(أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلَيّ بَابهَا)
فزت ورب الكعبة:
- سار الإمام علي (ع) إلى مسجد الكوفة ليلة استشهاده ليصلي صلاة الفجر فيه وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا
كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا
في فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة، فجعت الأمة حين قام الشقي عبدالرحمن بن ملجم المرادي، أثناء أداء صلاة الفجر في مسجد الكوفة بشج رأس الإمام علي (ع) بعد رفع رأسه من السجود بسيف منقع بالسم، وبقي الإمام علي يعاني من الجرح 3 أيام حتى استشهاده يوم 23 من شهر رمضان.
قال الإمام عليّ (ع) كلمته المدوية بمجرد ما نزل السيف على رأسه:
فزت ورب الكعبة
حتى اللحظة الأخيرة من حياته لم يفارق الأخلاق والبعد الإنساني مع العدو الغادر.
يوصي ابنه الإمام الحسن عليه السلام:
{طيبوا له الطعام ولينوا له الكلام، ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً}
ويضيف: «نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلّا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تضربه ضربة واحدة، ولا تمثلن بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً».
وبذلك انتهت حياة واحد من خير خلق الله بعد عمر قضاه في الجهاد في سبيل الله والزهد وإقامة العدل وكان مثالاً للنبل والشجاعة والطهارة والعدل والخير، ورمزاً من رموز الكمال البشري على مرّ التاريخ.
فقد كانت شخصيته، شخصية متفردة بكل ما تعني الكلمة من معنى.
فرحمك الله يا أبا الحسن، ولدت في بيت الله واستشهدت في بيت الله فنلت شرف الدارين دار الدنيا ودار الآخرة، وبين البيت والبيت ذكرك ومصابك في بيوت الله.
الذكرى العاشرة:
ونستذكر هنا الجريمة الكبرى عندما تم تفجير بيت من بيوت الله، مسجد الإمام الصادق (ع)، فسالت الدماء البريئة في محراب الصلاة.
والشهداء لهم فضل علينا جميعاً لأنهم قدموا أغلى ما يملكون، و هذه الذكرى تمر علينا هذه الأيام... ذكرى استشهاد المصلين في جامع الإمام الصادق (ع) فلهم حق علينا بأن نذكرهم... استشهدوا في شهر رمضان، وفي يوم الجمعة، وأثناء أدائهم صلاة الجماعة، وفي حالة السجود.
نستنكر هذا الحدث الإجرامي الشنيع ويجب أن نفكر فيه ملياً، فكيف يُقبل (إنسان )! على التعدي و تفجير بيت من بيوت الله!
ويقتل المصلين المسلمين رجالاً وشباباً وأطفالاً تجمعوا في المسجد لأداء صلاة الجماعة والذين يشهدون أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ!
فمنهم من قضى حتفه ومنهم من ينتظر، فمنهم الشهيد الحي ما زال يعاني من جراء الإصابات والتي لاتزال هناك شظايا في أجسادهم لم يتمكن الأطباء من انتشالها لخطورتها على حياة المصابين، فهم لا يزالون يعانون من الآلام.
فالمجرم الإرهابي اعتدى على كل أسرة كويتية وانتفضت الكويت عن بكرة أبيها وتفردت بموقف تاريخي لرفضها هذا العمل الإجرامي.
وكان الموقف الحازم من سمو الأمير الراحل الشيخ / صباح الأحمد (طيب الله ثراه)، عندما هرع إلى موقع الحدث دون حراسة متأثراً بما شاهده وتساقطت الدموع من عينه قائلاً كلمته المشهورة:
(هذولا عيالي).
ثم كان ذاك التشييع المهيب لشهداء المحراب وامتلأت المقبرة بالمشيعين والذي لم نشاهد مثله من قبل.
وللمرة الأولى في الكويت يتم الاعتداء على بيت من بيوت الله، وكان الرد الحازم على الإرهابي اللعين بأن شهداء المحراب كانوا فقداء الوطن وأقيم لهم مجلس العزاء في المسجد الكبير، وأقيمت صلاة الوحدة بين الكويتيين بغض النظر عن المذهب.
قال تعالى:
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}
ونجد في زماننا هذا هؤلاء الصهاينة القتلة الفجرة يقتلون الأبرياء في فلسطين بدم بارد وفي شهر رمضان دون خوف من الدول الإسلامية أو المجتمع الدولي، يفعلون ما يريدون دون رادع، مستقوين بالموقف المساند لهم من الدول العظمى.
أشغلوا العالم الإسلامي بالاقتتال الداخلي بين الشعب الواحد فضعفت الأمة وقاموا بعمل كل الموبقات، لعنهم الله.
ونحن نتساءل هنا من:
يدعم الإرهابيين؟
يدربهم؟
يحميهم؟
يمدهم بالسلاح؟
من جاء بهم؟
فهل هم تحت رعاية دول كبرى؟
أليست الفتنة بين الطوائف الإسلامية مشروعاً صهيونياً؟ لعن الله من يحرك ويدير هذه الفتنة ؟
وكذلك الحال مع الإرهابيين الذين جاء بهم الصهاينة والاستخبارات الدولية، حيث يقومون بقتل الجميع، الأطفال النساء والمدنيين، والتمثيل بالشهداء وتعذيب المدنيين وترويع النساء والأطفال، يفعلون ذلك تشبهاً بأسيادهم الصهاينة ليشوّهوا صورة الإسلام.
فهؤلاء آفة سرطانية مقيتة تبث السموم وتدمر العلاقات الاجتماعية، وتجعلنا نتفرّق ونتمزّق ونتجابه ونقتل بعضنا البعض نفسياً ومعنوياً قبل استخدام السلاح.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين.
وأخذل الكفار واليهود والظالمين.
اللهم أرنا في اليهود وأحلافهم وأعوانهم نكالاً يارب العالمين.
اللهم احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمدلله رب العالمين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجريدة
منذ 16 ساعات
- الجريدة
شامبو القات في اليمن... هل يُصلح العطَّار ما أفسده السُّم؟!
لوحظ في الفترة الأخيرة انتشار مغاسل القات في اليمن بأشكالٍ ومسمياتٍ وعناوين براقة ولامعة، كيف لا؟! فلعلها آخر تقليعات القات وموضة العصـر الحالي، فعند مرورك بجانب أي سوق قاتٍ على امتداد خريطته، تجد بجانبه أو ضمن ملحقاته مغسلة خاصة بغسيل القات، وكانت وما زالت مُلحقات الأسواق تضم البقالة والمطعم والبوفيه ومحل بيع المشـروبات المصاحبة للقات كالشعير والزبيب... إلخ، وبانضمام المغسلة إلى قوام تلك الملحقات، يبدو أن اليمنيين لم يعد يخافون من القات لكونه مُخدّراً نباتياً في المقام الأول، ولا عن كمية السُّموم والمبيدات الكيميائية المحظورة عالمياً – وفق تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الفاو – والتي تُضاف إلى تُربته وأشجاره من أجل سرعة نموها وزيادة وتكثير إنتاجها، والأفظع من كل ذلك أنه لا مُبيد ممنوع في اليمن، فالكل شبه مسموح ومُرخَّص والباقي مُهرَّب ومنتهي الصلاحية، سواء أكانت صناعته شـرقيةً أم غربية، وما تتوارده ألسنة الناس بأن هناك سموماً إسرائيلية الصنع يتم استخدامها أيضاً في زراعة القات. ومن كل هذا الكوكتيل المُرعب تجد اليمنيون يُسارعون إلى غسل قاتهم في تلك المغاسل الجديدة، ذات الوظيفة الجديدة أيضاً، وبشامبو صنع خصوصاً من أجل هذه المهمة، وبالماء المفلتر، ولعل الأخيرة تعد آفة الأثافي، فاليمن يُعاني من استنزافٍ كبيرٍ لموارده المائية بصورةٍ كبيرة، حيث تشير التقارير الدولية إلى معدل الاستنزاف يُقدَّر بنحو (3 – 5%) سنوياً، بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2022م، وأن هذا الاستنزاف سيؤدي إلى انهيارٍ كاملٍ للمخزون الجوفي في بعض المناطق اليمنية بحلول 2030م وفقاً لتقرير منظمة الفاو في عام 2023م، وبالطبع فهذا الاستنزاف معظمه أو جُلَّه من أجل زراعة القات والذي يستهلك أكثر من (70%) من المخزون المائي في اليمن، مما جعله إحدى الدول الفقيرة والشحيحة مائياً. ولم يقف الأمر على زراعة القات ومخاطره على المجتمع إلا أنه في الوقت الحالي ظهرت كوارث كبيرة أخرى تتمثل في انتشار مادة الشَّبو والحشيش والمخدرات وغيرها، والتي عادةً ما تكون نتاج تضعضعٍ للقيم والأخلاق في المجتمع، وعدم قيام الدولة بواجباتها نحو حماية شعبها من تلك السموم التي تُهلك شبابنا، وتُهدر أموالنا، وتُضيِّع مستقبلنا، لنضحك على أنفسنا بأن شامبو وماء مُفلتر يُمكنهما أن يعملا حلاً لكل تلك الباقة من السموم والمبيدات التي ترافق القات زراعةً وتداولاً ومضغاً، ولكل تلك الجوقة من الهموم والأمراض التي تأتي كنتاج لكل تلك الآفات... لينطبق القول على هذا الواقع: هل يُصلح العطَّار ما أفسده السُّم؟! الله غالبٌ على أمره * صـحـافـــــي مـــن الـيـمـن E-mail: [email protected]


الأنباء
منذ 2 أيام
- الأنباء
البر بالوالدين.. بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم
وصية القرآن الكريم المتكررة بالوالدين دلالة على العناية الإلهية العظيمة بهما لما يبذلانه في سبيل تنشئة الأولاد من صبر وإنكار للذات وتقديم مصلحة أولادهما على مصلحتهما ينبغي للإنسان الاحتفاظ للوالدين بما يستحقان من التقدير.. وإن حاولا إبعاده عن حظيرة الإسلام فهو مأمور بأن يعاملهما بالحسنى وأن يخضع لهما فيما لا يخالف الدين مما يؤسف له أن نجد بعض ضعاف النفوس قد تركوا الانتماء إلى أهلهم من آباء وأمهات وأسر لكي يلتحقوا بآخرين من أجل مصالح مادية يجنونها بسبب ذلك العرب القدماء كانوا يسخرون من كل من يُدعى إلى أب غير أبيه ويحرصون على معرفة الأنساب حتى لا يجد أحد المدعين مجالاً إلى الدخول في قوم ليس منهم إن من أهم ما أمرنا به الله عز وجل فيما يتعلق بحياتنا العامة البر بالوالدين، وأداء حقهما علينا ـ بصفتنا أبناءهما ـ في كل الظروف والأوقات. ومن أظهر ما يمكن الاستدلال به من القرآن الكريم على ذلك هو قوله تعالى في الآية رقم 14 والآية رقم 15 من سورة لقمان، (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). تذكرنا هاتان الآيتان بما يبذله الوالدان في سبيل أبنائهما منذ بدء خلق الطفل في بطن أمه، حيث تحمله مجتازة مشقة كبيرة في الحمل والولادة والرضاعة والتربية، حيث يقوم الأب بدوره مساعدا لها في تحمل بعض ما مر بها من صعاب، فهو رب الأسرة المكلف برعايتها وتوفير كل ما تحتاج إليه من أمور، ولذا فقد جعل الله سبحانه وتعالى على الولد واجب الشكر لهما لما بذلاه من جهود في سبيل تنشئته منذ أن حملته أمه وأرضعته، ومنذ أن قام الأب بدوره في سبيل رعاية ابنه وتربيته وتلبية كل ما يحتاج إليه، ومن أجل ذلك فقد ألزم رب العالمين هذا الابن بالشكر للوالدين والإحسان إليهما، وهذا في حد ذاته أمر عظيم يدل على أهمية بر الوالدين، والأمر بالعناية بهما، كما قال عز وجل في الآية رقم 24 من سورة الإسراء: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا). ومما يدل على أهمية هذا الأمر الإلهي أنه منع إلحاق الأذى بالوالدين حتى وإن حاولا صد ابنهما عن الإيمان بالله وحده، ذلك أنه ينبغي على ولدهما أن يصاحبهما في الدنيا بالمعروف، دون أن يعرضهما للقسوة. وذلك لأنهما بذلا أشق جهد في تنشئته، ومن أجل هذا فإنه ينبغي أن يحتفظ لهما بما يستحقان من التقدير، وإن حاولا إبعاده عن حظيرة الإسلام، فهو مأمور بأن يعاملهما بالحسنى، وأن يخضع لهما فيما لا يخالف الدين، أما ما أراداه منه فهو متروك لإرادة الله سبحانه وتعالى الذي يقول: (واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). إذن فإن الأصل هو: بر الوالدين. ونهى الله عز وجل عن إيذائهما وأمر ببرهما، وهذا الأمر مطلوب حتى وإن حاولا صد ابنهما عن دينه، وهو من أهم الدلائل على الأهمية القصوى التي قدرها عز وجل للوالدين. ويكفي ذلك قوله الكريم: (وصاحبهما في الدنيا معروفا). وتؤكد هذه الآية الكريمة آية أخرى من سورة العنكبوت سبق ذكرها وهي رقم 8 ونصها: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). ثم تتكرر وصية القرآن الكريم بالوالدين، بما يظهر لنا الدلالة على العناية الإلهية العظيمة بهما، من أجل ما يبذلانه في سبيل تنشئة الأولاد، مع صبر وإنكار للذات، ومع تقديم مصلحة أولادهما على كل مصلحة تخصهما، وهما ـ إلى جانب ذلك ـ وسيلة جعلها الله من أهم وسائل امتداد الكون وعمارته. ومما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية رقم 23 من سورة الإسراء: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا). هذا، وتوصية القرآن الكريم بالوالدين تتكرر في عدة آيات أخرى غير تلك التي أشرنا إليها، وهذا أمر له دلالة على العناية الإلهية بهما لما بذلاه ويبذلانه في سبيل النشء، وما يتميز به الآباء والأمهات من إنكار للذات، وتقديم لمصلحة الأبناء على كل مصلحة تخصهما، وهما ـ أيضا ـ وسيلة جعلها الله سبحانه وتعالى من أهم وسائل استمرار الحياة في الكون. ٭ ٭ ٭هذه هي المكانة التي اختارها الله سبحانه وتعالى للوالدين، وبها حفظ الأسرة المسلمة من التفكك، ومن الزيغ والضلال، وضمنت البقاء على النقاء الذي يحفظ المجتمعات من التمزق، ويحافظ على روح المجتمع. وهذا كله ـ ولا شك ـ يكفل ارتباط الابن بأمه وأبيه، وبالتالي بأسرته الكاملة التي اكتسب منها خبراته في الحياة، وصفته بين الناس فهي عنوانه الذي يعرف به، وهي الصفة التي نهي عن أن يتجاوزها إلى صفة أخرى غيرها بالتصاقه بأسرة غير أسرته. ومما يؤسف له أن نجد بعض ضعاف النفوس قد تركوا الانتماء إلى أهلهم من آباء وأمهات وأسر، لكي يلتحقوا بآخرين من أجل مصالح مادية يجنونها بسبب ذلك. وهي مصالح دنيوية سرعان ما تتحطم أمام الشرع الذي يحرم مثلها، لأنه يدعو هؤلاء إلى الالتزام التام بالانتساب إلى الآباء الحقيقيين والأمهات اللاتي ولدنهن والاسرة التي بذلت لهم الحب والرعاية. ومما يدل على حرمة هذا الفعل بالإضافة إلى ما ورد في القرآن الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عد ذلك من أعظم الكذب. وهل هناك أعظم من أن ينكر المرء أباه ويلتصق بأب آخر غريب عنه من أجل مصالح ينالها. ومن المهم هنا أن نورد مثالا لتأكيد القرآن الكريم مكانة الوالدين، وما ينبغي لهما من التكريم، وهو ما جاء في الآية رقم 11 وما بعدها من سورة المعارج، التي تنص على قوله تعالى: (يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه). وقد جاءت هذه الآيات الكريمة بعد أن بدأ الله جل شأنه سورة المعارج بالإجابة عن سؤال سائل عن العذاب الواقع الذي ليس له من دافع، وهو عذاب الكفار في الآخرة، الذي وصفه، وبين ما يحدث منه. ثم ذكر حال المجرم، وقتذاك، حين يطلب الافتداء من ذلك العذاب المحدق به. على أن يكون هذا الافتداء ببنيه أو زوجته، أو أخيه، أو بعشيرته التي يأوي إليها، أو حتى كل من في الأرض. يريد بذلك النجاة من أهوال يوم القيامة التي يصفها الله عز وجل بعد ذلك ويبين شدتها. ومن الملاحظ أن المجرم ـ وهو في ذلك الموقف العصيب ـ قد أراد أن يفتدي من العذاب ببنيه، وبزوجته وأخيه، بل وقبيلته كلها، ومن في الأرض جميعا. ولكنه لم يذكر أبويه فهما عند الله سبحانه وتعالى أبعد من أن يكونا مجال افتداء أو مساوته. وهذا في حد ذاته دليل على مكانة الوالدين عند رب السموات والأرض. ومن آيات الله الكريمة ما نقرؤه في سورة النحل (الآية رقم 72) وهي قوله تعالى: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون). وتدل هذه الآية دلالة واضحة على سوء منقلب من يدعى إلى غير ابيه، فالله عز وجل يفصل لنا فيها ما يلي: ٭ أنه سبحانه وتعالى قد خلق من الجنس الإنساني أزواجا من رجال ونساء، وهذا هو ما يؤدي إلى التراحم، والتواد بين بني الإنسان من ذكر وأنثى. ٭ أنه عز وجل هو الذي جعل من الزوجين البنين والأحفاد من أجل استمرار بقاء بني آدم، وإحياء الأرض وعمارتها. ٭ وأنه رزق الخلق من الطيبات ما يمكنهم من العيش الكريم، وراحة البال، ويضمن تكاثرهم. ٭ ويأتي بعد ذلك التساؤل الإنكاري لما قابل به كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما معناه «أفبعد كل هذا الذي بيناه لكم، تؤمنون بالباطل، وتكفرون بنعمة الله عليكم، ويخرج بعضكم عن طاعة الله الذي خلقكم». وفي ما تقدم إشارة إلى خروج هؤلاء عن الطاعة ومخالفتهم لما خلقهم الله سبحانه وتعالى من أجله، ودلالة على ضرورة ارتباط البنين والحفدة بآبائهم وأمهاتهم. ٭ ٭ ٭أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون المجتمع المسلم مجتمعا نقيا لا تشوب أهله الشوائب، فجعل أساسه الزوج والزوجة، وفروعه أولادهما وبناتهما، وكان بدء هذا الصنع الإلهي منذ خلق سيدنا آدم عليه السلام، وأمنا حواء وما أنجباه من نسل. وعندما أوحى الخالق البصير إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكلفه بحمل رسالة الإسلام والدعوة إلى التوحيد، كان أمر المجتمع وبناؤه من أهم أركان هذه الدعوة، فقد نظم أمر الزواج، وحرص على صيانة المجتمع، وتآلفه، معتمدا على أسرة تسودها المودة والألفة وكان من أهم ما ميز هذا الاهتمام بالأسرة هو الحرص على نقائها، وعلى عدم اختلاط الأنساب، وبذلك تكون الأسرة المسلمة تقية فاضلة بعيدة عن الشبهات، وكان ذلك بأن نهى أي فرد من المسلمين عن أن يدعى بنسب إلى غير أبيه، ونهى الآباء عن ادعاء أبوة من ليسوا من أبنائهم، فهو يريد أن تكون العلاقات بين أفراد الأمة واضحة جلية لا تشوبها الشوائب، وألا يجد من له رغبة في الفساد فرصة لمداراة فساده عن هذا الطريق الممجوج، ٠واراد أن تكون الأسرة التي بدأت بآدم وحواء عليهما السلام هي النموذج النقي الذي يبقى على مر الزمان. وكل من يغير صلته بأمه وأبيه فهو يخل بالنظام الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للبشر. ولقد جاء في أول سورة النساء ما يبين كل ذلك الذي ذكرناه فهو يحذر عن كل تجاوز لما قدره الله عز وجل لخلقه، وذلك بقوله الكريم: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا). ولقد فسر علماء التفسير هذه الآية فقالوا إنها تذكر ما يلي: ٭ الدعوة إلى تقوى الله ومخافة عقابه عند مخالفة المرء للأمر الإلهي، وعند اقترافه الإثم بارتكاب ما نهى الله عنه. ٭ ان الله عز وجل خلق الخلق جميعا من نفس واحدة هي نفس آدم الذي وصف خلقه في آيات من الكتاب الكريم. ٭ ان الله القادر خلق حواء زوجة آدم منه، ثم بث منهما رجالا ونساء هم وهن كل من على الأرض اليوم. ٭ على الناس جميعا أن يتقوا الله ويخافوا عقابه، وقد فسر المفسرون قوله الكريم (الذي تساءلون به) بأنه إشارة إلى ما يردده الناس بينهم من قول بعضهم لبعض حين يطلب منه أمرا من الأمور أسألك بالله وبالرحم الذي بيننا. ٭ وأخيرا فإن الله رقيب علينا جميعا، يرى أفعالنا، ويسمع أقوالنا، ويغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ٭ ٭ ٭نعرف مما مر بنا مكانة الوالدين في الدين الإسلامي، ونتبين أهمية برهما، وسوء مآل من يخالف ذلك، فيقابلهما بما قدما له في حياته ومنذ نشأته بالعقوق وبنكران ما قدماه له. ونضيف إلى ذلك ـ في هذا الموضع ـ أمرا آخر ذا علاقة بما تقدم ذكره، وله في الوقت نفسه أهمية لا تنكر، وهذا هو ما تدل عليه الآية الكريمة رقم 4 من سورة الأحزاب حين بين الله عز وجل للمسلمين خطأ ما يقوم به البعض منهم، عندما يلحقون بأنسابهم من ليسوا منهم، فيدعى أحد الناس أنه والد هذا الدعي الذي لم يكن من أولاده، أو ينتسب الدعي إلى شخص يعلن ابوته له وهو لا يمت إليه بصلة نسب. ولقد نهى الله عن ذلك، وهذا النهي هو ما تدل عليه الآية الكريمة المشار إليها، وهي: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل). فهذا نهي جازم عن مثل هذا العمل، وهو النهي الذي أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الفرى (الكذب) أن يدعى المرء إلى غير أبيه». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر». وقال صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام». إذن، فإن من طاعة الوالدين ألا ينتسب أحد إلى غير والديه، وإن طاعتهما أمر عظيم، ومما يدل عليه من قول الرسول الكريم ـ أيضا ـ أن أحدهم سأله صلى الله عليه وسلم قائلا «من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله، قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. وفي الرابعة قال: ثم من؟ قال أبوك». ولهذه المكانة التي جعلها الله سبحانه وتعالى للوالدين، وعبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف، ينبغي على كل مسلم أن يبر بسببها والديه، وأن يعتز بهما، ولا يتجاهلهما، ولا يقطع صلته بهما مهما كانت الظروف. وأهم من كل ذلك أن لا يتركهما فينتسب إلى أحد غيرهما مهما كانت الفائدة الدنيوية التي تعود عليه من ذلك، فهي فائدة محرمة تعود عليه بغضب الله وعقابه، ولن تجدي المنافع الدنيوية التي قد يحصل عليها المرء المنتسب إلى غير أبيه شيئا في مقابل غضب الله وعقابه. ٭ ٭ ٭ولقد وردت آثار كثيرة من أقوال الحكماء والمجربين مما له صلة ببر الوالدين، والحث على رعايتهما، وإبداء محبتهما، وطاعتهما، ومما يدلنا على ذلك ما يلي: ٭ ما ورد عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، أنه قال ردا على من سأله عن بر الوالدين: «هو أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك به ما لم يكن معصية». ٭ وقيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: «إنك من أبر الناس بوالدتك، ولسنا نراك تأكل معها؟ فقال: أخاف أن أسبقها إلى شيء سبقت عينها إليه فأعقها بذلك». ٭ وقيل لأحدهم وقد مات ابن له: «كيف كان بر ولدك بك؟ فقال: ما ماشيته قط في النهار إلا مشى خلفي، ولا بالليل إلا مشى أمامي». كما وردت في مسألة ادعاء المرء إلى غير أبيه أقوال كثيرة منها ما جاء في كتاب الله عز وجل مما سبق لنا ذكره، ودلت عليه الآية الكريمة رقم 5 من سورة الأحزاب ونصها: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما). ووردت في هذا الشأن ـ أيضا ـ أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها قوله: «ملعون ملعون من انتسب إلى غير أبيه..»، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن شهادة الزنيم، وهو اللئيم الذي ينتسب إلى غير أهله. وكان العرب القدماء يسخرون من كل من يدعى إلى أب غير أبيه، ويحرصون على معرفة الأنساب حتى لا يجد أحد المدعين مجالا إلى الدخول في قوم ليس منهم. وقد لقي أحد الظرفاء شخصا فسأله قائلا: من أنت؟ قال: قرشي والحمد لله، ولم يعجب السائل هذا الرد، بل وجد فيه شبهة. فردّ عليه: الحمد لله في هذا الموضع ريبة، أي أنها موضع شك في النسب. إضافة إلى كل ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بصلة الأرحام ـ بشكل عام ـ ونهانا عن الانقطاع عن كل من يمت إلينا بصلة ومن دلائل ذلك قوله الكريم في الآية رقم 1 من سورة النساء: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا). وقد اهتم العرب الأوائل بأمر هذه الصلة حتى امتدت إلى تقوية الارتباط بالقبيلة التي ينتمي إليها الشخص، مع الفخر بأعمال رجالها والاعتزاز بهم، ولا شك في أن قوة صلة المرء بقبيلته عند العرب كانت دليلا على قوة ارتباط الأبناء بالآباء، ودليلا آخر على نقاء الأسر من الأدعياء الذين ينتسبون إلى غير آبائهم. وكان هذا الاهتمام بأمر النسب جاريا منذ ما قبل الإسلام، وقد استمر في العصر الإسلامي، وأكده الدين الحنيف، ودعا إليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. فقد جاء في ذلك حديث شريف جاء نصه كما يلي: «قال عبدالله بن أبي أوفى: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يجالسنا قاطع رحم. فقام شاب فأتى خالة له، وكان بينه وبينها شيء، فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفرت له، واستغفر لها، ثم رجع إلى النبي في مجلسه فأخبره. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الرحمة لا تنزل على قاطع رحم». فلننظر ـ بعد هذا ـ إلى الخطأ الجسيم الذي يرتكبه من ينفي نفسه عن الانتساب إلى أبيه. والذي يأبى أن يعتد بأسرته التي ولد فيها، ونشأ بينها، ثم يتركها، ويتنكر لها في سبيل الحصول على مصلحة دنيوية لا تدوم. ٭ ٭ ٭لا أقصد فيما قدمته هنا الاستعداء على المخالفين، فالجهات المختصة تؤدي واجبها في هذا الشأن على خير وجه، وهي بذلك تسعد أبناء الكويت بإعلامهم أولا بأول عن أمثال هؤلاء المخالفين لأمر الدين قبل مخالفتهم للقانون وعدوانهم على المصلحة العليا للوطن، ولكني أردت أن أنبه من تسول له نفسه اتباع هذا الطريق الوعر دينا ودنيا. فقد رأينا الدين وهو يشدد في النهي عنه، ورأينا السلطات المخلصة عندنا كيف تتلقف المخالفين.


الرأي
منذ 3 أيام
- الرأي
أويس القرني... النور الذي اختبأ في ظلّ العالم
أويس الرجل الذي لم يَر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رآه. في صحيفة من صحف الملأ الأعلى، كُتبَ اسمٌ لم يعرفه أحدٌ في الأسواق، ولا في مجالس القبائل ولا في دور الشورى ولا في بيت المال، «أويس بن عامر القرني». رجلٌ من اليمن، من قريةٍ تُشبه نقطة حبر ضائعة في هوامش الخريطة. لكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، الذي لم يلتقِ به، أخبر أصحابه ذات يوم: «يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره». ثم أضاف، كمن يسلّم سرًّاً للكون: «فمن لقيه منكم فليستغفر لكم». النبي صلى الله عليه وسلم، رأى ما لم يره الناس... رأى نوراً يَنبعث من صدع في صخرة مجهولة... رأى ظلاً بين الناس سيصبح شمساً في كتب التاريخ والأثر... عاش أويس كظلٍّ طويلٍ لا يلوي على شيء. أبناء عمه كانوا يمرون به كأنه حائطٌ من طين، والجيران ينسون اسمه إن سُئلوا. في «سير أعلام النبلاء» للذهبي، يروي الرواة: «كان رجلاً مُهمَلاً عند قومه، لا يُعرف فضله». لكن في عالم الأرواح، كان كالنجم الذي يُراقب الأرض من علوٍ لا تُدركه الأعين. كان يلبس الصوف الخشن، ويأكل الخبز اليابس، ويحمل أمه على ظهره في حجٍّ لا ينتهي... حجّ القلب. أمه العجوز، التي شكّلت عينيه الأولى، كانت عكازه الذي يتكئ عليه في صحراء الدنيا. ذات مرة، سمع نداءً داخلياً يطلب منه الخروج للجهاد، لكنه أدار وجهه نحو غرفة أمه المُظلمة، وقال: «الجهاد هنا... في انتظار آخر نفس لها»... خاض حروباً في صمت: حرب الجوع بإطعامها، وحرب الوحشة بجلوسه عند رأسها، وحرب الموت بِتَرَدُّدِ أنفاسه مع أنفاسها... وبقى أويس في اليمن رغم شوقه للقاء الرسول عليه الصلاة والسلام. بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، جاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يبحثان عن أويس بين الحجاج والقبائل التي وفدت بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يحملان في أعينهما صورة النبي صلى الله عليه وسلم، عن أويس. وجدا رجلاً هزيلاً، يكسو التراب جسده، كأنه غصنٌ يابس. لكن عندما سألاه: «أنت أويس القرني؟»... قال: نعم! ارتعشت الأرض تحت أقدامهما. هذا الرجل المُهمَل طلب منهما دَعوة واحدة: «لا تُعرِّفاني لأحد». ثم اختفى كقطرة ماءٍ في نهر الزمن. اليوم، لو مررت بقريةٍ في اليمن، أو في الكوفة قد تسمع حكاية عن رجل كان ينحت الصخر بصبره، ويُضيء الليل بدعواته. أويس القرني، الذي حوّل الإهمال إلى مجد، والنسيان إلى خلود. في كتب الصوفية، صار اسمه عنواناً لـ«الغريب المُلهَم» الذي لا يحتاج إلى شهود. أما أبناء عمه، فقد ماتوا... ماتت أسماؤهم معهم، بينما بقي أويس: «بقي حرفاً من نور في كتب الأثر، كُتبَ بمداد من ظلالٍ»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.