
في جدل المعونة الأميركية
فيصل محمد صالح
منذ أن نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب تهديده المسبق للوكالة الأميركية للتنمية الدولية «المعونة الأميركية» فأصدر في أيامه الأولى في المكتب البيضاوي قراراً بتجميد عملها لثلاثة أشهر، والجدل لم يتوقف حول أسباب القرار وانعكاساته على سياسة أميركا في العالم. ويشتد الجدل بعد قراره بإبعاد الموظفين الكبار، وتعيين وزير الخارجية مديراً مكلفاً لها، والأخبار تتزايد عن أن قراراً سيصدر بتصفيتها.
نشأت الوكالة الأميركية للتعاون الدولي في سبتمبر (أيلول) 1961 بقرار من الرئيس الأميركي جون كيندي. وكانت لقرار إنشاء الوكالة علاقة مباشرة بأجواء الحرب الباردة، حيث انتقل الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لمرحلة استخدام القوة الناعمة بدلاً من المواجهة المسلحة. كانت الصين والاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الشرقي تقدم مساعدات متنوعة لدول العالم الثالث، وكان لا بد للولايات المتحدة أن تستخدم المدخل ذاته لتحقق به منافع عدة، تقدم مساعدات إغاثية وتنموية وفنية للدول المحتاجة، وتقاوم المد السوفياتي، وتضمن لنفسها نفوذاً كبيراً وسط دول العالم.
ولفترة طويلة كانت الوكالة الأميركية هي رأس حربة النفوذ الأميركي في العالم كله، حيث انتشرت مكاتبها في نحو 100 دولة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، ودول أوروبا الشرقية، ووصلت ميزانيتها لنحو 50 مليار دولار في العام مما جعلها أكبر مؤسسات العون في العالم. وتمثل ميزانيتها نصف ميزانية المساعدات الخارجية الأميركية لدول العالم. وتتنوع برامج الوكالة بين المساعدات الغذائية الطارئة إلى مكافحة الفقر، وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والدعم الصحي وبرامج التطعيم، والمساعدات الفنية لبرامج البيئة، ودعم منظمات الأمم المتحدة. ما هي أسباب إغلاق الوكالة…؟
هناك بالتأكيد أسباب معلنة وأخرى غير معلنة. السبب الأساسي الذي قدمه الرئيس دونالد ترمب كان أن هناك أموالاً كثيرة يتم هدرها عبر الوكالة في المساعدات الخارجية، بينما هناك احتياج لهذه الأموال لصرفها في البرامج الداخلية، وهذا بالتأكيد جزء من برنامجه الداعي لتقليل مساهمات أميركا المالية في القضايا العالمية، بما في ذلك في المؤسسات التي تجمعه مع حلفائه، مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو». كما حملت تصريحاته وتصريحات إيلون ماسك الذي عينه وزيراً للكفاءة الحكومية اتهامات للوكالة بأنها تقع تحت قبضة يسار متطرف، وأن من يديرونها «حفنة أشرار» وإن كان المأخذ الأساسي للجمهوريين المتطرفين أن الوكالة تعمل على نشر الأجندة الليبرالية في العالم، وأن هذا ليس من أولويات واشنطن. كما ظل الصراع يدور لسنين طويلة بين الديمقراطيين والجمهوريين حول وضع الوكالة، حيث يريد الديمقراطيون أن يعطوها قدراً من الاستقلالية، بينما يرغب الجمهوريون في إخضاعها بشكل مباشر للإدارة الحكومية، بخاصة وزارة الخارجية.
تأثير تجميد عمل الوكالة، وربما تمهيداً لتصفيتها أو إغلاقها، امتد مباشرة لمنظمات الأمم المتحدة المختلفة، مثل بعثات حفظ السلام، وبرامج دعم اللاجئين والنازحين، وبرامج التحصين ومكافحة الأمراض، ودعم برامج الدمقرطة وحقوق الإنسان، هذا إلى جانب الوقف الفوري والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة دعم اللاجئين والنازحين الفلسطينيين «أونروا».
ومن المتوقع أيضاً الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ووقف دعم برامج البيئة والمناخ ومكافحة الفقر. كما سيتأثر برنامج الغذاء العالمي، «اليونيسيف»، والمفوضية السامية للاجئين. التقارير الموثقة تقول إن أكثر الدول المتضررة هي دول أفريقيا جنوب الصحراء، التي كانت قد استقبلت في العام الماضي 6.3 مليار دولار لمكافحة الفقر، بما في ذلك عيادات توفير الأدوية المجانية لمرضى الإيدز.
وفي أميركا اللاتينية تعتبر دول المكسيك، كولومبيا، كوستاريكا، غواتيمالا أكبر المتضررين، بخاصة برامج توطين المهاجرين. بعض المؤيدين لقرار ترمب لم ينطلقوا من منطلقاته ذاتها، بل فعلوا ذلك لأنهم يظنون أن القرار يضعف الناشطين السياسيين والمدنيين، وبالتالي يحقق فرصة للتيارات الأخرى والنظم الديكتاتورية لتتحرك بشكل أكبر، بينما هلل البعض للقرار باعتباره سيوقف التدخل الأميركي «الإمبريالي» في الشؤون الداخلية للدول. لكن المؤكد أن أكثر المتضررين هم الفقراء واللاجئون والنازحون وضحايا المجاعات وفشل الحكومات الفاسدة في العالم الثالث.
كل الاحتمالات الآن واردة، منها تقليل ميزانية المعونة الأميركية وترشيد برامجها ووقفها عن بعض الدول، مع إخضاعها لسلطة وزارة الخارجية، وهذا أخف الأضرار، بينما هناك احتمال تصفيتها بالكامل وحصر برامج المساعدات الخارجية في يد وزارة الخارجية، وهنا ستحدث أضرار كبيرة لم يتم حسابها حتى الآن.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


التغيير
منذ ساعة واحدة
- التغيير
«مخيم زمزم»: شهادات مروعة عن انتهاكات واسعة ضد المدنيين واستخدامه كمنصة عسكرية
منتدى الإعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة أفادت مصادر عسكرية وسكان محليون، بأن قوات الدعم السريع حوّلت مخيم زمزم الواقع قرب الفاشر، إلى ثكنة عسكرية ومنصة مدفعية تُستخدم لقصف عاصمة ولاية شمال دارفور. وكانت قوات الدعم السريع هاجمت في العاشر من أبريل المُنصرم مخيم زمزم، حيث سيطرت عليه بعد ثلاثة أيام من الاشتباكات مع القوة المشتركة ومجموعات من المستنفرين، لتبدأ بعدها في شن حملة ترويع أدت إلى مقتل مئات المدنيين وفرار 406 آلاف شخص من منازلهم، طبقاً للأمم المُتحدة. وقالت المصادر والشهود لـ 'سودان تربيون'، إن 'الدعم السريع حوّل مخيم زمزم إلى ثكنة عسكرية تعج بالجنود والآليات الحربية، بما في ذلك مدرعات إماراتية'. وأشاروا إلى أن القوات نصبت مدفعين من طراز هاوتزر استخدمتهما في قصف الفاشر التي تقع على بعد 12 كيلومترًا من المخيم. وتقول الأمم المتحدة إن 180 ألف نازح لا يزالون عالقين في مخيم زمزم، فيما لا تزال تداعيات هجوم الدعم السريع تلاحق الفارين من الهجمات، والذين نزح معظمهم إلى طويلة، بينما توزع البقية بين الفاشر ومناطق في وسط دارفور ومدينة الطينة في تشاد. وتُعد صبورة أبكر نموذجًا مروعًا للكلفة الإنسانية لهجمات الدعم السريع التي قادها نائب قائد القوات، عبد الرحيم دقلو، بنفسه، وفقًا لمقاطع فيديو تحققت منها 'سودان تربيون' أظهرت تواجد دقلو في محيط المخيم. وتستذكر صبورة، وهي أم لأربعة أطفال كانت تقيم في مخيم زمزم وتمكّنت بعد رحلة مسير شاقة امتدت لأكثر من عشرة أيام من الوصول إلى منطقة 'الطينة' في دولة تشاد، تفاصيل الهجوم على المخيم. وقالت لـ 'سودان تربيون': 'إن قوات الدعم السريع هاجمونا في ساعات الصباح الأولى من يوم العاشر من أبريل الماضي، أطلقوا القذائف شديدة الانفجار التي أحرقت المنازل وبعض الأطفال داخل هذه الأكواخ المبنية من القش'. وأضافت: 'في اليوم الثاني للهجوم، بدأ عناصر قوات الدعم السريع الذين تمكنوا من الوصول إلى عمق المعسكر في اقتحام المنازل، وإطلاق الرصاص العشوائي على الرجال والنساء والأطفال… كان الجنود، يرددون عبارات مسيئة لسكان المعسكر'. وظل عناصر الدعم السريع يرددون مصطلحات عنصرية حاطة بالكرامة الإنسانية ضد خصومهم من الحركات المسلحة، دون أن يسلم أفراد الجيش منها. تمضي صبورة في حديثها: 'في اليوم الثالث للهجوم، وبعد أن فقدنا الغذاء بشكل كامل وانعدمت مياه الشرب واستبد الجوع والعطش بالأطفال، قررنا أن نغادر المعسكر نحو طويلة، في رحلة مسير شاقة سيرًا على الأقدام. قطعنا أكثر من 60 كيلومترًا في ظل العطش والجوع، حيث كان الأطفال يصرخون'. وأفادت بأن رحلة النزوح من زمزم نحو طويلة محفوفة بالمخاطر بسبب الانتشار الكثيف لقوات الدعم السريع ومليشيات القبائل العربية الذين يتواجدون على طول الطريق ويقومون بقتل كل من يصادفهم وينهبون الفارين. انتهاكات في الطريق وعلى طول الطريق الرابط بين مخيّم زمزم ومدينة طويلة التي فرّ إليها آلاف النازحين، يشكو الفارون من انتهاكات واسعة تعرضوا لها من قبل قوات الدعم السريع، شملت القتل والنهب والاغتصاب. ويقول مصطفى النور، الذي نزح مع الآلاف ووصل إلى الحدود التشادية، لـ 'سودان تريبيون': 'شاهدنا بأعيننا اغتصاب الفتيات، وحتى النساء كبيرات السن لم يسلمن من ذلك… كما أن الرجال الذين تجاوزوا السبعين عامًا يتعرضون للجلد المبرح بالسياط، بينما الشباب حتى سن الخمسين عامًا يُقتلون مباشرة بدعوى أنهم تابعون للقوة المشتركة والجيش ويودون الخروج من جحيم الفاشر'. وأضاف: 'أحصيت ما لا يقل عن 30 جثة، أغلبهم قُتل بالرصاص وبعضهم مات عطشًا وجوعًا على طول الطريق ما بين زمزم وطويلة، دون أن يتمكن ذووهم من دفنهم لأن جنود الدعم السريع يمنعون ذلك'. تدمير مراكز الخدمات ولقيت الأعمال العسكرية التي قادتها قوات الدعم السريع إدانات واسعة من قبل المجتمع الإقليمي والدولي وبعض المنظمات الأممية التي نددت بالواقعة وطالبت قوات الدعم السريع بالكف عن مُلاحقة المدنيين. ويعكس الهجوم الذي قادته قوات الدعم السريع على أحد أكبر مخيمات النزوح في إقليم دارفور مدى وحشية هذه القوات وتورطها في ارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين، مستخدمةً أسلحة ثقيلة بما في ذلك الطيران المسيّر، الذي أحال أجساد النازحين الجوعى إلى أشلاء، وفقًا لما يقوله الناشط الحقوقي هاشم محمد علي في حديثه لـ 'سودان تربيون'. واستهدفت قوات الدعم السريع، منذ اليوم الأول لهجومها على مخيّم زمزم، المواقع التي تقدم الخدمات للنازحين، بما في ذلك محطات المياه والمستشفيات والمراكز الطبية المملوكة للمنظمات الإنسانية والقطاع الخاص. وكشف المُتحدث باسم مخيّم زمزم، محمد خميس دودة، في حديثه لـ 'سودان تربيون' عن تدمير قوات الدعم نحو 6 مستشفيات كبيرة تقدم خدماتها لأكثر من مليون نازح، بما في ذلك سكان مدينة الفاشر. وأشار إلى أن أربعة من المستشفيات المدمرة تتبع لمنظمة الإغاثة الدولية التي تعرض مستشفاها الرئيسي لهجوم في اليوم الأول لاجتياح المعسكر وقُتل 9 من كوادر المنظمة، بمن فيهم مدير المنظمة في مخيم زمزم وبعض الأطباء. وذكر أن قوات الدعم السريع دمرت كذلك اثنين من المستشفيات الكبيرة التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية التي تقدم خدمات الصحة الإنجابية ومعالجة أمراض سوء التغذية للأطفال والنساء الحوامل وكبار السن. وكشف دودة عن تعرض مقر منظمة التضامن الدولي، وهي منظمة فرنسية تنشط في تأسيس مصادر مياه الشرب النقية، للتدمير. وأفاد بأن قوات الدعم السريع قصدت تدمير كل المرافق الخدمية والقضاء على أي أمل للعودة الطوعية للنازحين. عالقون في زمزم ورغم استحالة العيش داخل مخيّم زمزم بعد الدمار الكبير الذي طال المستشفيات ومصادر المياه وحرق ونهب الأسواق، يقول خميس دودة إن أعدادًا كبيرة من النازحين ما زالوا موجودين داخل المخيّم، احتجزتهم قوات الدعم السريع كدروع بشرية ومنعتهم من مغادرة المخيّم. وأشار إلى أن ما تبقى من النازحين هناك يتعرضون لانتهاكات يومية تشمل القتل والاعتقال والمطالبة بفديات مالية، كما تحدث عن تعرض عشرات النسوة للعنف الجنسي، كاشفًا عن وجود أعداد كبيرة من الجثامين ما تزال موجودة في العراء وداخل المنازل المحترقة لم تتم مواراتها الثرى حتى الآن، وطالب بإقرار هدنة تمكن النازحين من العودة ودفن الجثامين الملقاة في الطرقات وفي الميادين العامة. ينشر منتدى الإعلام السوداني والمنظمات الأعضاء فيه، هذا التقرير من أعداد 'سودان تربيون' بهدف عكس معاناة المدنيين في معسكر زمزم بولاية شمال دارفور.


التغيير
منذ 14 ساعات
- التغيير
أهداف واشنطن من اتهام الجيش باستخدام الكيماوي
منذ أن أصدرت إدارة جو بايدن عقوباتها على البرهان والجيش في أيامها الأخيرة ظلت الولايات المتحدة صامتة تجاه الوضع في السودان. ومع استعادة ترمب السلطة توقع السودانيون أن يكون له وجهة نظره في الحرب، خصوصا أنه كان يعول على السودان كحليف، وداعم للاتفاقات الإبراهيمية. لم يكن تجاهل ترمب السودان متعلقاً بانشغاله بموضوع أوكرانيا، وغزة، فقط كأولويتين مهمتين. فالإدارة الأميركية بطبيعتها تتقسم بمهامها، وحين ترى أهمية وضع الموضوع في صدارة جدولها فعلت عبر الخارجية، أو البيت الأبيض، أو ممثلها في الأمم المتحدة. وفي زيارة ترمب الأخيرة توقع السودانيون أن يتناول الرئيس الأميركي موضوع الحرب في السودان بالتصريح ما دام قد فصل بينه وبين خطوط النار الملتهبة مجرد بحر. ولكن انشغاله بالمكاسب المالية، وموضوع سوريا كان من الأهمية بمكان. هناك مراقبون يرون أن الولايات المتحدة دائماً ما توكل الملفات الإقليمية الساخنة لحلفائها لتتابعهم من على البعد. وهذا يعني مثلاً أنها تتشاور مع حلفائها بين الفينة والأخرى إلى أن تتدخل في الوقت المناسب إذا رأت مصلحتها لدعم توجهاتهم في ما خص الشأن السوداني، أو أي شأن آخر. الأحاديث المسربة عن سعي إقليمي دولي لحل الحرب تفاوضياً محكومة بالتحقق على أرض الواقع عاجلاً أم آجلا . وإلى ذلك الحين تظل المعلومات شحيحة فيما يكثر لدى المتحدثين التحليل الموضوعي، والرغائبي. وفي هذا المناخ تخرج الولايات المتحدة فجأة لتثير موضوع استخدام الجيش السلاح الكيماوي في توقيت ربما يتزامن مع مساعي الحل المزعومة هذي حتى يتسنى الضغط على البرهان من خانة هذا الاتهام الغليظ الذي نوهت واشنطن أنه سيرفق بعقوبات، وفقا لتحليلات رائجة. عموماً هكذا هي السياسة الاميركية. إذ تأتي دائماً باللفة كما نقول في دارجيتنا حتى إذا اكتملت الخطة ظهرت للعلن بمواقف ضاغطة لا فكاك منها. الرفض المستمر للجيش في التفاوض – وكان آخره في جنيف حين دعت له إدارة بايدن – ربما يصطدم بتلك المساعي للحل التفاوضي. ولكن قد لاحظنا أن مصر والسعودية، وهما أكبر داعمين للجيش، وحليفان موثوقان لواشنطن أبدتا حرصا على التسوية التفاوضية. وجاءت تصريحات البلدين على أعلى مستوى ممثلة في ولي العهد محمد بن سلمان، والرئيس عبد الفتاح السيسي. وحتى الإمارات المتهمة بدعم الدعم السريع – وهي أهم حليف لترمب – صرحت هي الأخرى بضرورة جلوس الطرفين لإنهاء الأزمة. إذن فالأطراف الإقليمية المتورطة في الحرب قد حددت مواقفها التي ربما لن تخالفها واشنطن في خلاصاتها. إذا تصورنا أن الترغيب والترهيب الإقليمي والدولي لحمل الجيش للجلوس مع الدعم السريع قد بدأ، ويسير نحو المزيد من التحقق العياني البياني في شكل تصريحات ومواقف قادمة، فإن أمام البرهان القليل من الوقت، والمناورة، لحزم أمره مقابل تأثير واشنطن. فاستخدام الولايات المتحدة لقناعتها التامة، والموثقة، بأن الجيش استخدم السلاح الكيماوي له آثار سلبية خطيرة على مستقبل حركته كقائد للجيش قارياً، وإقليمياً، ودولياً. أضافة إلى ذلك فإن هذا الاتهام الغليظ سيضع حلفاء واشنطن المؤيدين للجيش في موقف حرج، هذا إذا افترضنا أنها لم تستشرهم قبل سعيها لإيقاع العقوبات على سلطة بورتسودان. الاتهام الأميركي الجديد، والتلويح بعقوبات تجاه سلطة بورتسودان، هو من نوع سياسة العصا التي تعقب سياسة الجزرة. واعتقد أنها أكبر رد فعل لرفض مفاوضات جنيف التي حاولت بها الولايات المتحدة تأكيد تأثيرها الدبلوماسي، ولكن البرهان تحدى الأميركان، وأصر على مواصلة الحرب. لا شك أن واشنطن تدرك أن وراء الجيش تكمن عصبة أيديولوجية داعمة له، وأن العديد من خصوم حلفائها في المنطقة ينشطون بهدف تحقيق أهداف في مرمى الولايات المتحدة. ولذلك يأتي الاتهام الاميركي كرد فعل لتحجيم دور إيران، وروسيا، والصين، وتركيا، ضف إلى ذلك أن واشنطن ترى أن داعمي البرهان المؤدلجين يناوءون خطها الذي أعلنته بقوة لدعم التوجهات الديمقراطية لثورة ديسمبر التي سن لها الكونغرس قانوناً خاصاً بالتحول الديمقراطي. ولا ننسى أن الولايات المتحدة ساهمت بشكل كبير في الأمم المتحدة بدعم حكومة عبدالله حمدوك فيما عيّنت أكثر من مبعوث للسودان، ورفعت تمثيلها الدبلوماسي إلى مستوى السفير. الخبر السعيد للبرهان هو أن سياسة الولايات المتحدة تتيح دائماً مجالاً للعودة إلى قلائد إحسانها من بعد الوقوع في سلاسل امتحانها. ذلك في حال ضغطها الشديد على المسؤولين في بلدانهم، وآخر تجليات هذه السياسة ما بدا في موقفها من الرئيس السوري الذي تحول من مجرم مطلوب للعدالة الأميريكية إلى أحد الحلفاء المحتملين لواشنطن. والسؤال المهم المتروك لإجابة القاريء هو هل يقع البرهان في حبائل الجزرة والعصا الذي سيقدمها له ترمب أم أنه يفضل السير مع قادة الحركة الإسلامية الرافضين للتفاوض، وبالتالي يفقد دعم الحليف الأكبر لداعميه في الحرب؟


التغيير
منذ يوم واحد
- التغيير
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار. اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب. تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب. من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب. اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة. في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه.. تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول 'كونتينرات المخدرات' التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ. معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد. الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع. تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم. ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية. يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة. إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك. وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها. العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية. أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع. في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب. وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار. جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة. المصادر 1. Global Witness (2019). 'The Ones Left Behind: Sudan's Secret Gold Empire.' 2. International Crisis Group (2022). 'The Militarization of Sudan's Economy.' 3. Human Rights Watch (2020). 'Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.' 4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council. 5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan's illicit trade and media operations. 6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime. 7. Sudan Tribune (2020). 'Forex crisis and informal currency trading in Sudan.'