
نحو هندسة الوجود البشري
عائشة بلحاج
صحافية وشاعرة مغربية.
يولد الإنسان إنساناً، ثمّ يصبح ما ينشأ عليه، أو ما يختاره، أو ما يُفرَض عليه فيقبله: خروفاً في قطيع كبير، أو ثعلباً يلتهم دجاجات غيره، أو بغلاً يكدح طوال يومه من أجل لقمة، أو ذئباً يغدر بليلى، أو حماراً يحمل أسفار الآخرين. يولد الإنسان كريماً، ثمّ يختار أن يصبح رهينةً أشياء وأناس وأمور أخرى، إمّا لقمة العيش، أو الرغبات، بغضّ النظر عن نوعيتها. وقد يحدث ويصبح أفضل ممّا خُلق عليه، فيتمسّك بكرامته رغم كلّ شيء، فيطير مع الطير الطائر إلى النهاية.
في المدرسة، وما بعدها، يُلحّ المعلّمون، وأساليب التعليم التي لا تنتهي، على كلمة 'البناء'، بناء الإنسان، بناء المستقبل، بناء الأمل… لكن كيف يبني الناس ما لم يُهندَس؟ كم من البناء البشري عندنا هُندِس؟ الجواب مُحرِج، لأن معظمنا يدخل خانة البناء العشوائي. حتى أن أحدنا لا يمكن أن ينفي كلياً تهمة أنه جاء بالغلط، لأن أمّه نسيت الحبّة، أو لأن أباه تجاوز قواعد معينة في منع الحمل، فحملته أمه مرغمةً إلى عالم فائض بمن فيه. لعلّ القدامى أبرياء من شبهة المجيء بالغلط (غلط تقني لا وجودي)، إذ جاؤوا بالجملة لا بالتقسيط ولا بالتردّد. لكن ابتداءً من جيل الثمانينيّات عرفت الأُسر في هذه الجهة من العالم تنظيمَ النسل، وهو تنظيمٌ خاضع للاجتهاد، ومعرّض للأخطاء التي تؤدّي دوماً إلى الإنجاب عندنا.
ولعلّ إحداها كانت محاولةً خاطئةً في الهندسة، لأنّ الأبوين ظلّا ينتظران المولود الذكر، فجاءت بنات كثيرات بدل الولد، ليكون خطأ هندسياً في محاولة تحديد ما لا يُحدَّد إلا في عالم الأماني، وهذا قبل أن تصبح هندسة جنس المولود ممكنةً، كما هي الآن. حينها كانت الهندسة البيولوجية تُبنى بالدعاء، ولا يُبنى غيرها به، فكلّ شيء بشكل ما معروف مكانه وشكله، كأنّ الناس يأتون لملء فراغات تركها السّابقون منهم.
بينما تتجاوز هندسة الإنسان الحقيقية الانتظار الجماعي، وتعني طبيعته وهُويَّته، لا جنسه وجماله وتناسق ملامحه، وخلوّه من الأمراض. فهي مجرّد تفاصيل ما كان يمكن أن نقول عنه بسببها سوى أنه ينتمي إلى النوع البشري، لكنّها لا تحدّد الإنسان في ذاته. الإنسان بإنسانيته، لا بملامحه وقدميه الاثنتين، أو عقله حتى. فكم من عقل قاد صاحبه إلى خارج خانة الإنسانية، العقل لا يُعوّل عليه، بل القلب هو المؤشّر الحقيقي. فقد يفكّر المرء عميقاً، ثمّ يقرّر ما يراه مناسباً ومنطقياً، لكنّه مع ذلك سيكون لاإنسانياً. لكنّ العبقري المجنون نيتشه يرى أن قمّة الإنسانية في التفكير، أي أن العقل هو مصدر إنسانية الإنسان، وكتب 'إنسان مفرط في إنسانيته'، للاحتفاء بالتفكير. لذا يسعى إلى تشغيل دائم للعقل للإبقاء على الإنسانية قيد العمل. رغم احتفائه بالعقل، فإنه رأى أن الإنسان 'يكون على أعلى قدر من الأخلاق في حالة انفعاله'. ويقول في سياق تحديد ماهية الإنسان، إن 'الفلاسفة يعانون من خطأ مشترك هو أن الإنسان يتراءى لهم في هيئة حقيقة خالدة. شيئاً ثابتاً ومقياساً موثوقاً لكلّ الأشياء. لكن رؤيتهم هذه ليست سوى شهادة عن إنسان زمني محدود، في شكل قارٍّ يظنون أنه الإنسان'، بكلّ تجلّياته.
في الهندسة الإنسانية، هناك محاولات حقيقية لبناء الإنسان، فيما لا تزال دول منشغلة في البناء البيولوجي، بالعودة إلى التشجيع على الإنجاب لتعويض النقص الديموغرافي مثل الصين، وأخرى مازالت توزّع حبوب منع الحمل بالمجّان، ولا تزال الأسر فيها تتضاعف رغم ذلك. لكن هل يبني هؤلاء من جديد، أم يعيدون إنتاج الإنسان المُعيب نفسه؟
في فيلم 'ذي بروتاليست'، يهاجر لازلو توث، وهو مهندس معماري يهودي مجري، إلى الولايات المتحدة بعد أن نجا من المحرقة. ويُكلََّف بتصميم مركز مجتمعي لإسكان شريحة العمال. في النهاية نعلم المصدر الذي ألهم توث تصميمه للمركز، ولماذا كان مصرّاً على تنفيذه وفقاً لتعليماته، فالتصميم كان على غرار معسكر الاعتقال بوتشنفالد، التابع للنظام النازي، حيث سجن توث في أثناء الحرب العالمية الثانية. نتيجة انعدام الهندسة هي تكرار البناء الخاطئ بأشكال أخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


روسيا اليوم
منذ 17 دقائق
- روسيا اليوم
هدف الموسم!.. شحاتة يسجل هدفا مذهلا للزمالك في افتتاحية الدوري المصري (فيديو)
وانتظر الزمالك حتى الدقيقة 84 ليفتتح التسجيل عبر ناصر ماهر، حيث تسلم تمريرة متقنة من الوافد الجديد الفلسطيني آدم كايد وسدد بقوة في الشباك. وفي الدقيقة الثامنة من الوقت بدل الضائع للشوط الثاني، سجل محمد شحاتة الهدف الثاني للزمالك بطريقة رائعة، ليؤمن لفريقه الحصول على النقاط الثلاث. هدف الموسم⚽️.. من نص الملعب محمد شحاتة يضيف الهدف الثاني للزمالك في مرمى سيراميكا كليوباترا 🏹 وجاء هدف شحاتة إثر تسديدة مذهلة من منتصف الملعب، استغل فيها تقدم حارس مرمى سيراميكا كليوباترا عن مرماه، لتستقر الكرة في الشباك بشكل رائع. المعلم محمد شحاتة 🤯الزمالك وبداية للدوري ولا أروع وهدف معلمين من نص الملعب ⚪️🏹 ورشح مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي هدف شحاتة للمنافسة بقوة على لقب هدف الموسم بالدوري المصري، نظرا لجمالية الهدف وروعة التنفيذ. وحصل الزمالك على أول ثلاث نقاط في مشواره بالموسم الجديد محققا أول فوز تحت قيادة مديره الفني الجديد البلجيكي يانيك فيريرا، الذي قاد الفريق في أول مباراة رسمية منذ توليه المهمة بعد رحيل المدرب المؤقت أيمن الرمادي. المصدر: RT خيم التعادل السلبي على مواجهة وادي دجلة وضيفه بيراميدز يوم الجمعة، في المباراة الأولى بالموسم الجديد من بطولة الدوري المصري لكرة القدم.


الرأي
منذ 17 دقائق
- الرأي
ترامب: سأعقد لقاءً مع بوتين الجمعة في ألاسكا
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن لقاءعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيكون في ألاسكا يوم الجمعة يوم 15 أغسطس. وكان ترامب، قال في وقت سابق إنه سيلتقي نظيره الروسي فلاديمير بوتين «قريبا جدا»


العين الإخبارية
منذ 17 دقائق
- العين الإخبارية
مسجد-كاتدرائية قرطبة.. السيطرة على حريق أشعلته «مكنسة»
تم تحديثه السبت 2025/8/9 02:01 ص بتوقيت أبوظبي أفاد رجال إطفاء أن الحريق الذي اندلع الجمعة في مسجد-كاتدرائية قرطبة الشهير في جنوب إسبانيا، وهو معلم مدرج في قائمة التراث العالمي لليونسكو وزاره أكثر من مليوني شخص في العام 2024، بات «تحت السيطرة». وأكد رجال الإطفاء لوكالة فرانس برس أن «الحريق تحت السيطرة في هذه المرحلة، لكن لم يتم إخماده بعد»، عقب اندلاعه قرابة الساعة التاسعة مساء (السابعة ت غ). وأورد منشور على الحساب الرسمي لمسجد-كاتدرائية قرطبة أن «حريقا اندلع هذا المساء في كنيسة تابعة لمسجد-كاتدرائية قرطبة في منطقة المنصور. وتم تفعيل البروتوكول المنصوص عليه في خطة الحماية الذاتية على الفور». وأظهرت مقاطع فيديو تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي ألسنة لهب برتقالية ودخانا يتصاعد من أسوار المعلم. ووفقا لصحيفة "آ بي ثي" فإن سبب الحريق آلة تستخدم لكنس الأرض اشتعلت نحو الساعة 21,00 بالتوقيت المحلي (19,00 ت غ). وحاولت «فرانس برس» مرارا الاتصال ببلدية قرطبة والشرطة مساء الجمعة لكن دون جدوى. يعتبر مسجد-كاتدرائية قرطبة جوهرة معمارية شيدت على يد أمراء وخلفاء أمويين بين القرنين الثامن والعاشر. بدأت أعمال البناء في القرن الثامن تحت إمارة عبد الرحمن الأول على موقع كنيسة، ثم تم التوسيع على مراحل مدى أربعة قرون. بعدما استردت الممالك المسيحية شبه الجزيرة الأيبيرية من المسلمين في العام 1236، كُرّس الموقع كاتدرائية وأضيفت إليه عناصر معمارية كاثوليكية. US