logo
والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..

والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..

التغيير١١-٠٣-٢٠٢٥

محمد لطيف
كنت أسأل نفسي دوما إن لم يقرر هو إصطحابي في ذلك العام المبكر من سني حياتي من تلك القرية الواقعة على بعد نحو عشرة كيلومترات الى الشمال الشرقي من مدينة دنقلا على حواف حوض السليم ومن أسرة متواضعة الحال .. الى مدينة عطبرة حيث البيت الكبير والحياة العريضة والآمال الكبيرة ايضا .. كيف كان يكون حالي اليوم ..؟ الشاهد أنني وبفضل والدي الذي لم يلدني الشيخ محمد سعيد محمود عليه رحمة من الله ورضوانه ..وجدت نفسي في البيت الكبير حيث الجد والحبوبة والخالات والأخوال حتى قبل أن ابلغ سن التعليم .. فقضيت شهورا قاربت العام مدللا مرفها حتى حسبت أن الحياة إن هي إلا لعب ولهو !!
ثم حدث الإنقلاب الهائل وتغير كل شيء .. فما أن بدأت اليوم الأول من سلمي التعليمي في مدرسة خليوة الأولية حيث البيت الكبير .. حتى ظننت أن شروط أن تعيش في هذه الدنيا هي الصلاة والمذاكرة ..كان الأمر بالنسبة لوالدي الذي لم يلدني مقدسا لا يقبل المساومة ولا يحتمل التأجيل ..والمصيبة أنني كنت كسولا في الإثنين ..مما جعلني في موضع المراقبة الدئمة والملاحقة المستمرة من جانبه ..وكنت أظن .. وكم من ظنون هي آثام .. أنه يرهقني بما يفعل .. حتى إذا بلغت أشدي واصبحت في موقع المربي من أبنائي .. أدركت أنني كم ارهقت الرجل بل كم عذبته جراء كسلي وغبائي ذاك .. غفر الله لي و أجزل له العطاء.
كان بر والدي الذي لم يلدني بوالديه عجيبا موحيا مثيرا مما تسير به الركبان .. فطوال حياتي في البيت الكبير لآ اذكر أنه ذهب الى فراشه ليلة واحدة قبل أن يمر على فراش والدته .. جدتنا الراحلة مريم فضل حربة عليها الرحمة .. مطمئنا عليها .. ولا اذكر أنه خرج الى صلاة الصبح قبل أن يمر عليها وهي في مصلاتها تستعد للصلاة .. بل لا اذكر قط أنه عاد يوما من خارج البيت إلا وبدأ تحيته بها .. أما بره بوالده .. جدنا الراحل سعيد محمود عليه الرحمة .. الذي كان أحد كبار خلفاء الختمية ..مما حتم أن يكون البيت الكبير محل إنعقاد الليلية الختمية الشهيرة كل أحد وخميس ..وفي كل ذلك كان والدي الذي لم يلدني ..وهو الإسلامي الملتزم تنظيميا وسياسيا .. هو القائم على ترتيبات تلك الجلسات .. وبينما كنا نحن الصغار نؤدي ادوارنا مجبرين ممتعضين .. كان هو يتابع كل صغيرة وكبيرة بمنتهى الحماس والحفاوة بدءا من التنظيم والتمويل والترحيب .. وحتى المشاركة في قراءة المولد والحرص على قراءة بعض المدائح التى كان يحبها جدي عليه الرحمة ..ولم يكن يفعل كل ذلك إلا برا بوالده كما قال لي لاحقا .. !
وعلى ذكر إلتزامه التظيمي أذكر أمرين .. الأول أنني لم اسمعه يوما محتدا في نقاش أو منخرطا في جدال أو مسيئا لأحد أو رافعا صوته بـ (تكبيرة الجهاد) ضد آخر.. والذين عاصروه حتى في مواقع الخلاف يشهدون له بذلك ..ولعل تجربته في قيادة نقابة عمال السكة الحديد قد أثبتت تجرده ومهنيته و حياده تجاه الجميع .. قال لي مرة ( لكل حزبه والنقابة للجميع ) إندهشت حقيقة لإستخدامه العبارة وقلت له مداعبا .. يا حاج والله إنت ما بتشبه الجماعة ديل .. رد ضاحكا ( بطل لولوة يا هم بيشبهوني كويسين زيي أو أنا بشبهم كعب زيهم ابقى على واحد ) ولأنه لم يكن بوسعي أن اظلم نفسي واقول إنهم (كويسين) أو اظلمه وأقول إنه (كعب) انسحبت بهدوء.!!
أما المسألة الأهم علئ ذكر إسلاميته هذه فهي ورغم أنني عشت في كنفه بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة من إنفاق و تربية ورعاية وتوجيه وإشراف .. إلا أنني لا اذكر مرة واحدة طلب مني فيها بأي شكل من اشكال الإلتزام بما يؤمن به .. حتى عندما بدأت خوض غمار السياسة .. بوعي مستقل من وجهة نظري .. يساري من وجهة نظره .. لم يزد على أن يقول لي .. بس ما تخلي الصلاة .. له الرحمة والمغفرة .
ولكنه كان يعرف كيف يدير حواراته بما يقنع و يفحم و يضحك ايضا ..نزلنا ضيوفا عليه ذات عام رفقة بعض أصدقائي وقد تزامنت زيارتنا تلك مع احداث رابعة العدوية وكنا سعداء بـ ( بل وجغم) الإسلاميين ..(اليست هذه لغتهم ؟!) وكان هو غاضبا جدا بالطبع يصب جامه على مصر .. فقال له أحد الأصدقاء ياحاج مصر دي مذكورة في القرءان !! فضحكنا و نحن نستبطن أننا قد رددنا عليه بلغته ..ولم ندرك أن صديقنا الذي صفقنا له قد مد له حبلا ليشنقنا به .. إذ جاء رده سريعا ومباغتا على حكاية ذكر مصر في القرءان إذ قال ( أيه يعني هو إنت قايل اي حاجة مذكورة في القرءان كويسة ؟ ما هو قوم لوط مذكورين في القرءان !!) .. فغرقنا في موجة من الضحك لا لطرافة الرد فحسب .. بل لأننا لم نكن نملك ما نرد به عليه ..!
وأخيرا .. إن كانت لهذه الحرب من حسنة واحدة لي ولأسرتي فهي أنها قد منحتنا فرصة أن نقضي معه ثلاثة اشهر متواصلة .. قلت له أنا طلعت منك واحد ورجعت ليك بخمسة ..كان رده (والله أنا مبسوط من الحرب الرجعتكم لي ).. ثم استدرك ضاحكا ( بس اوعى تمشي تكتب محمد سعيد داير الحرب اصلكم بتلفحوا الكلام )..
وأشهد الله وأشهدكم أنني طوال وجودي معه لم اسمعه يوما داعما للحرب أو مؤيدا لها أو مبررا لها ..وكيف يكون كذلك وهو الذي لم يكن يوما متشددا أو عنيفا أو مؤجج فتنة أو مشعل نار ..؟ بل كان هو ما يقابل كل ذلك محضر خير وداعية سلام و منشد وفاق .. رحم الله خالي الشيخ محمد سعيد محمود والدي الذي لم يلدني ورحم الله والداي إذ منحاني فرصة الإنتقال الى كنفه لأكون ما أنا عليه .. فإن أسأت فلي وإن أحسنت فله الأجر .

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..
والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..

التغيير

time١١-٠٣-٢٠٢٥

  • التغيير

والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..

محمد لطيف كنت أسأل نفسي دوما إن لم يقرر هو إصطحابي في ذلك العام المبكر من سني حياتي من تلك القرية الواقعة على بعد نحو عشرة كيلومترات الى الشمال الشرقي من مدينة دنقلا على حواف حوض السليم ومن أسرة متواضعة الحال .. الى مدينة عطبرة حيث البيت الكبير والحياة العريضة والآمال الكبيرة ايضا .. كيف كان يكون حالي اليوم ..؟ الشاهد أنني وبفضل والدي الذي لم يلدني الشيخ محمد سعيد محمود عليه رحمة من الله ورضوانه ..وجدت نفسي في البيت الكبير حيث الجد والحبوبة والخالات والأخوال حتى قبل أن ابلغ سن التعليم .. فقضيت شهورا قاربت العام مدللا مرفها حتى حسبت أن الحياة إن هي إلا لعب ولهو !! ثم حدث الإنقلاب الهائل وتغير كل شيء .. فما أن بدأت اليوم الأول من سلمي التعليمي في مدرسة خليوة الأولية حيث البيت الكبير .. حتى ظننت أن شروط أن تعيش في هذه الدنيا هي الصلاة والمذاكرة ..كان الأمر بالنسبة لوالدي الذي لم يلدني مقدسا لا يقبل المساومة ولا يحتمل التأجيل ..والمصيبة أنني كنت كسولا في الإثنين ..مما جعلني في موضع المراقبة الدئمة والملاحقة المستمرة من جانبه ..وكنت أظن .. وكم من ظنون هي آثام .. أنه يرهقني بما يفعل .. حتى إذا بلغت أشدي واصبحت في موقع المربي من أبنائي .. أدركت أنني كم ارهقت الرجل بل كم عذبته جراء كسلي وغبائي ذاك .. غفر الله لي و أجزل له العطاء. كان بر والدي الذي لم يلدني بوالديه عجيبا موحيا مثيرا مما تسير به الركبان .. فطوال حياتي في البيت الكبير لآ اذكر أنه ذهب الى فراشه ليلة واحدة قبل أن يمر على فراش والدته .. جدتنا الراحلة مريم فضل حربة عليها الرحمة .. مطمئنا عليها .. ولا اذكر أنه خرج الى صلاة الصبح قبل أن يمر عليها وهي في مصلاتها تستعد للصلاة .. بل لا اذكر قط أنه عاد يوما من خارج البيت إلا وبدأ تحيته بها .. أما بره بوالده .. جدنا الراحل سعيد محمود عليه الرحمة .. الذي كان أحد كبار خلفاء الختمية ..مما حتم أن يكون البيت الكبير محل إنعقاد الليلية الختمية الشهيرة كل أحد وخميس ..وفي كل ذلك كان والدي الذي لم يلدني ..وهو الإسلامي الملتزم تنظيميا وسياسيا .. هو القائم على ترتيبات تلك الجلسات .. وبينما كنا نحن الصغار نؤدي ادوارنا مجبرين ممتعضين .. كان هو يتابع كل صغيرة وكبيرة بمنتهى الحماس والحفاوة بدءا من التنظيم والتمويل والترحيب .. وحتى المشاركة في قراءة المولد والحرص على قراءة بعض المدائح التى كان يحبها جدي عليه الرحمة ..ولم يكن يفعل كل ذلك إلا برا بوالده كما قال لي لاحقا .. ! وعلى ذكر إلتزامه التظيمي أذكر أمرين .. الأول أنني لم اسمعه يوما محتدا في نقاش أو منخرطا في جدال أو مسيئا لأحد أو رافعا صوته بـ (تكبيرة الجهاد) ضد آخر.. والذين عاصروه حتى في مواقع الخلاف يشهدون له بذلك ..ولعل تجربته في قيادة نقابة عمال السكة الحديد قد أثبتت تجرده ومهنيته و حياده تجاه الجميع .. قال لي مرة ( لكل حزبه والنقابة للجميع ) إندهشت حقيقة لإستخدامه العبارة وقلت له مداعبا .. يا حاج والله إنت ما بتشبه الجماعة ديل .. رد ضاحكا ( بطل لولوة يا هم بيشبهوني كويسين زيي أو أنا بشبهم كعب زيهم ابقى على واحد ) ولأنه لم يكن بوسعي أن اظلم نفسي واقول إنهم (كويسين) أو اظلمه وأقول إنه (كعب) انسحبت بهدوء.!! أما المسألة الأهم علئ ذكر إسلاميته هذه فهي ورغم أنني عشت في كنفه بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة من إنفاق و تربية ورعاية وتوجيه وإشراف .. إلا أنني لا اذكر مرة واحدة طلب مني فيها بأي شكل من اشكال الإلتزام بما يؤمن به .. حتى عندما بدأت خوض غمار السياسة .. بوعي مستقل من وجهة نظري .. يساري من وجهة نظره .. لم يزد على أن يقول لي .. بس ما تخلي الصلاة .. له الرحمة والمغفرة . ولكنه كان يعرف كيف يدير حواراته بما يقنع و يفحم و يضحك ايضا ..نزلنا ضيوفا عليه ذات عام رفقة بعض أصدقائي وقد تزامنت زيارتنا تلك مع احداث رابعة العدوية وكنا سعداء بـ ( بل وجغم) الإسلاميين ..(اليست هذه لغتهم ؟!) وكان هو غاضبا جدا بالطبع يصب جامه على مصر .. فقال له أحد الأصدقاء ياحاج مصر دي مذكورة في القرءان !! فضحكنا و نحن نستبطن أننا قد رددنا عليه بلغته ..ولم ندرك أن صديقنا الذي صفقنا له قد مد له حبلا ليشنقنا به .. إذ جاء رده سريعا ومباغتا على حكاية ذكر مصر في القرءان إذ قال ( أيه يعني هو إنت قايل اي حاجة مذكورة في القرءان كويسة ؟ ما هو قوم لوط مذكورين في القرءان !!) .. فغرقنا في موجة من الضحك لا لطرافة الرد فحسب .. بل لأننا لم نكن نملك ما نرد به عليه ..! وأخيرا .. إن كانت لهذه الحرب من حسنة واحدة لي ولأسرتي فهي أنها قد منحتنا فرصة أن نقضي معه ثلاثة اشهر متواصلة .. قلت له أنا طلعت منك واحد ورجعت ليك بخمسة ..كان رده (والله أنا مبسوط من الحرب الرجعتكم لي ).. ثم استدرك ضاحكا ( بس اوعى تمشي تكتب محمد سعيد داير الحرب اصلكم بتلفحوا الكلام ).. وأشهد الله وأشهدكم أنني طوال وجودي معه لم اسمعه يوما داعما للحرب أو مؤيدا لها أو مبررا لها ..وكيف يكون كذلك وهو الذي لم يكن يوما متشددا أو عنيفا أو مؤجج فتنة أو مشعل نار ..؟ بل كان هو ما يقابل كل ذلك محضر خير وداعية سلام و منشد وفاق .. رحم الله خالي الشيخ محمد سعيد محمود والدي الذي لم يلدني ورحم الله والداي إذ منحاني فرصة الإنتقال الى كنفه لأكون ما أنا عليه .. فإن أسأت فلي وإن أحسنت فله الأجر .

الصوم مروض الجسد والروح
الصوم مروض الجسد والروح

التغيير

time٠١-٠٣-٢٠٢٥

  • التغيير

الصوم مروض الجسد والروح

نصر الدين مفرح الفرح والسرور في رمضان علامة إيمان، ودليل امتثال للطاعة، والصوم يروض النفس والغرائز، ويكبح جماح الملذات ويهذبها، فهو معلم النفس الصبر والإرادة فعن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: (الصيام نصف الصبر) [رواه السيوطي في الجامع الكبير]. الصوم أفضل ما يغذي الروح والجسد معاً، وأعظم عبادة تجسد مراقبة العبد لربه، فهو منحة الله لمن يستحقها، ومغفرة الذنوب ومكفرها قال عليه الصلاة والسلام: [ الصلوات الخمس والجمعة الي الجمعة ورمضان الي رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ] رواه مسلم. يجيء رمضان هذا العام، ولا تزال بلادنا ترزح في أتون الحرب التي أثبتت لمشعليها وخائضيها أنها مفسدة للعباد والبلاد، ومهلكة للحرث والنسل. رسالتي لمشعليها وقادتها وجنودها: بحق حرمة وفضل هذا الشهر المبارك، أوقفوا هذا الصراع العنيف المؤلم الذي أزهق الأرواح. وبحرمة وعظمة هذا الشهر اجبروا خواطر نداء العلماء والحكماء والأصدقاء واستغاثة النساء والأطفال والشيوخ بوقف إطلاق النار، دعوا هذه النداءات والاستغاثات تصل إلى قلوبكم علها تجد في أنفسكم الرحمة والإنسانية والضمير. #رمضان_غذاءالروح_مراجع النفس #رمضان فرصة_لتكفير الذنوب #السودانيون_يستحقون السلام # نصرالدين_مفرح

ما جنى على العربية إلا أهلها
ما جنى على العربية إلا أهلها

التغيير

time١٩-٠١-٢٠٢٥

  • التغيير

ما جنى على العربية إلا أهلها

أم خالد: جدة يطيب لي أن أتقدم بهذه الوريقة، مساهمة مني بالاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي يصادف الثامن عشر من ديسمبر. اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم لقوله تعالى (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه لا من خلفه….) سورة فصلت، الآية 42. (إنه من رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) الشعراء، الآية 192- 195, ويطيب لي أن أفخر وأعتز وأنا أتحدث في هذه الوريقة عن اللغة العربية، والتي أسميتها (ما جنى على العربية إلا أهلها). فما أحلى وأحب إلى القلب المؤمن أن يفهم هذا المعنى، معنى القرآن الكريم ومقولة الثعالبي وهي (أحب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن أحب رسوله العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية) (اللهم حبب إلينا حبك وحب نبيك، لذلك وجب علينا أن نعنى عناية فائقة بها، ويتطلب ذلك معالجة النقص في مرجعيتها العلمية). وقد أكد الدكتور الباحث الأكاديمي عبد القادر الفارسي في شؤون اللسانيات، الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية للغة العربية والآداب في تصريح له في صحيفة عكاظ أن نواقص اللغة العربية يعود إلى قصور متكلميها ومستخدميها معلناً أن تأهيلها تأهيلاً قوي يتطلب تأسيس معلميها تأسيساً صحيحاً وقوياً، حتى ينهض ويتقدم متكلموها بثقة راسخة، وذلك يتطلب جهداً كبيراً في إعداد مناهجها الإعداد الصحيح، وقد كانت مناهجها تجرب في معاهد إعداد المعلمين كمعهد التربية ببخت الرضا بالسودان، كما كانت المناهج تدرس في شكل معاينات ينتقد فيها مدرس المقرر نقداً موضوعياَ، ويخضع المقرر إلى التنقيح ليدرس بعد إجازته في المدارس التابعة لمعهد التربية ببخت الرضا. وكنا من المحظوظين، من الذين درسوا المقررات الدراسية (خاصة اللغة العربية) في مرحلة التنقيح، قبل إجازة المقرر، وكان ذلك بحق خطوات ثابتة في إعداد المعلم، مما جعلها لغة عالمية لكثير من الشعوب، مما أكسبها مكانة سامية، مهما تعددت الحضارات، والتطور، والتقدم، والتكنلوجيا. إن اللغة العربية هي أم اللغات بلا منازع بتفوقها على اللغات الأخرى لتميزها بالبيان والبلاغة، وقد ذكر سلطان بن مناع العمري إن اللغة العربية تحتل مكانة سامية في حياة الشعوب والمجتمعات فهي وسيلة للتواصل. كما ذكر الدكتور سلمان العائدي في محاضرة في نادي أبها الأدبي بجنوب المملكة العربية السعودية عن التحديات التي تواجه اللغة العربية من داخل الوطن العربي، حيث أصبح مفهوم اللغة عند كثير من الناس وظيفة للعيش. وهكذا بالطبع جور على اللغة العربية واختزالها، وقال إن اللغة العربية هي الثقافة، بل هي الوعاء الحامل للثقافة، وذلك لأن الأمم التي تحترم لغتها، وتحافظ عليها وتحميها من اللغات الأخرى، بأن تكون لها السيطرة في المنابر والمنتديات، وقال إن الذين خذلوا العربية هم حملتها وكما ذكر المنصف المرزوقي (ما جنى على العربية إلا أهلها)، مما حدا بي أن أسمي هذا البحث بهذا الاسم (ما جنى على العربية إلا أهلها)، وإن اللغة العربية لشعب كأنه لا يستحقها، وإن كثيراَ من الشعوب لا تتنازل عن لغتها بهذا الكرم الحاتمي، إلا نحن ومصداقاً لقول المنصف، فإن كثيراً من الشعوب الذين يتحدثون العربية يدخلون بعض الكلمات من لغات أخرى، كأنما العربية خلت من المعاني والمترادفات، وذكر الدكتور الصديق عمر الصديق في ندوة بقاعة الشارقة بالخرطوم (إن المتحدث باللغة العربية في المنابر والمؤتمرات لا يحتاج إلى وسيط، فهي لغة كل مكان وزمان ليس بها لغة قديمة أو وسط أو حديثة). وذكر العلامة البرفسور عبد الله الطيب أن اللغة الإنجليزية التي كتب لها الذيوع والانتشار، لا تستطيع أن تقرأ شعراً إنجليزيا من القرون السابقة في هذا العصر، إلا المختصين في هذا الشعر، بينما تستطيع أن تقرأ شعراً لامرئ القيس الذي عاش قبل الإسلام بسهولة ويسر، لذا لا يُخشى على اللغة العربية من الانتشار، وقال إن الاتحاد الأوروبي الذي لم يتخذ لغة واحدة، بل لكلِ لغته وبينهما الترجمة. وإذا أردنا أن نذكر بعظمة اللغة العربية، نرفع شأنها وننفض الغبار عنها، ونعني بها ونحافظ عليها وأن يرتفع شأن مدرسيها ومتحدثيها في المنابر وإعداد معلميها ومقرراتها. ومن العوائق التي تواجه اللغة العربية كثيرة منها – كما ذكرنا- غياب الرؤية والاستراتيجية للنهوض باللغة العربية للانشغال بالجزئيات وكذلك تيار العولمة التي لم تشكل اللغة العربية إلا جزءاً يسيراً، وكذلك من المؤسف عدم اهتمام أقسام اللغة العربية بالجامعات بها وعدم النهوض بها وتدريسها، ولا يعتني بأدب الأطفال وإثراء المكتبات التي تعتني بأدب الأطفال، وهنا أذكر مبادرات بن مكتوم في أدب الأطفال وتحفيزهم على القراءة، وقد أنشأ مسابقات كثيرة وحبب الأطفال في القراءة والتحصيل، وشهدنا كثيراً من أطفالنا الذين شاركوا في المسابقات، يتحدثون العربية بطلاقة، وبدأوا في الكتابة بالعربية – حسب سنهم ومستواهم التعليمي- وذلك مما حبب إليهم اللغة العربية حيث رسخت في أذهانهم. واستوقفني مقال للكاتبة السعودية إيمان الوزير، وهي تربوية تقول (دعونا نقرأ، وقد آلمني ضعف اللغة العربية وانقلاب الحروف عند كثير من التلاميذ، فيجب العناية بمكتبة الأطفال، وقد أشرف الدمع على مستقبل العربية التي أهملناها، حيث أصبح الطفل يعرف (أبل) ولا يعرف تفاحة، لأن الطفل أصبح حبيس الإصدارات والمدارس الأجنبية التي أسهمت في ضمور اللغة العربية واضمحلالها، وهذا صوت يصيح هماً وخوفا وهلعاً على ناشئتنا يختزل الكثير من رصيدها. ويظهر ذلك في شخبطة التلاميذ على الجدران، حيث تمسخ هذه الشخبطة الحروف العربية. نحن في السودان، لدينا حصة الخط العربي حوالي ساعة يتدرب فيها التلاميذ على كتابة الأحرف بالطريقة الصحيحة وكذلك حصة المكتبة، حيث يقرأ التلاميذ كتباً ثقافية وأدبية ودينية ويلخصونها، أتذكر ابن بنتي أحمد حيث يسمونه (حمودي اسم الدلع)، كان متعلقاً بي كثيراً، وكان يحب أن أقرأ له، فأقوم بحكاية أنسجها من الخيال كالأحاجي، مما جعله وهو في سن الرابعة عشر أن يؤلف كتاباً أسماه (حكايات لا أنساها)، ومما يشجع على القراءة خاصة العربية والمبادرات التي ترصد لها الجوائز للنشء، ويتبارون فيها كما أسلفنا (مبادرة راشد بن مكتوم)، والتي تعد الأكبر من نوعها في المنطقة العربية، وقد انطلق التحدي في عام 2015م، وتقام سنوياً كالبداية بقراءة 50 كتاباَ، وقد شارك كثيرٌ من أطفال عالمنا العربي، وقد كان نصيب أطفال السودان كبيراَ من حصد الجوائز. وبالطبع هذا يعد حافزاَ وتشجيعاً على حب اللغة العربية. ولا يفوتني أن أذكر اثنينية عبد المقصود خوجة التي تقام كل يوم اثنين بداره بجدة – السعودية إزكاءَ لحب القراءة والاطلاع. ومن حبي وامتناني للغة العربية، فقد طبعت رسالة الدكتوراه لزوجي المرحوم الدكتور أحمد التجاني عمر، حيث كانت بحق رسالة اعتز بها وافتخر بها، والتي نالها من جامعة الأزهر، وقال المناقشون اليوم لم تناقش رسالة، بل نحتفل بمولد عالم. وكانت بحق جديرة بذلك، وكانت تحت عنوان (التصوير الفني في الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى الخامس الهجري)، وكانت قيمة وعشت معه أيامها حيث أجلس إليه لمساعدته بالكتابة، وأن يملي علي لأكتب، وهي عزيزة علي لعزة صاحبها، فطبعتها وتوزيعها على كثير من أصحابه وكذلك وزعت على بعض المكتبات الجامعية بالسودان (صدقة جارية). وقد أردت أن استعرض بعض الأخطاء الشائعة في اللغة العربية، مما كتبه جهابذة وأساطين العربية وعرابيها ما آل إليه حال أم اللغات كما أسلفنا، فهي لغة القرآن الكريم الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) سورة فصلت، الآية 42. من الأخطاء الشائعة عند قارئي نشرات الأخبار في وسائل الإعلام أو من يعتلون المنابر، تلك الأخطاء الفظيعة التي تصيب السامع بالاشمئزاز، أو قل الغثيان، لا أدري هل هو جهل أم استهتار باللغة العربية؟؟ منها. 1- (وسًط) والتي يقرأونها وسْط: ألم يقرأوا الآية الكريمة (كذلك جعلناكم أمة وَسَطَاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً..) سورة البقرة، الآية 143.2. كلمة حاجة، والتي ينطقها السواد الأعظم في السودان (حوجة)، والصحيح (حاجة)، كما ورد في سورة يوسف، الآية 68, (وما يغني عنهم من الله شيئاً إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها). 3- كذلك كلمة مسّودة والتي سّودوا عيشتها وتنطق مْسودة. 4-إن وهذه تلك التي لم نسمع في حياتنا من ينطقها صحيحة بعد القول وكثيرون ينطقونها بفتح الهمزة. 5- كلمة هوية بضم الهاء والتي أتت من كلمة (هو) والتي ينطقونها بفتح الهاء. 6- كلمة كمية التي تسود في السودان، حيث يقول القائل (كمية من الناس)، وهذا خطأ فادح، إذ كان من الصحيح استخدام (عدد من الناس، فيقال عندنا كمية من السكر، أو في مستودعي كمية من الحديد. 7- كلمة مرحلة وينطقها الكثير من الناس بكسر الحاء، فالصحيح نطقها بفتح الحاء. 8- العدة والعتاد، يقولون أعددنا العدة بكسر العين، فالصحيح أعددنا العدة بضم العين للقيام برحلة، أما العدة بكسر العين فللعدد. 9 استخدام الكاف للتشبيه، ويقول بعض الناس (نحن كأطباء) أو (نحن كسودانيين، لماذا التشبيه وأما كان ينبغي أن نقول (نحن سودانيين) ونعرفها بالألف واللام أو نحن الأطباء و(نحن مواطنون). 10- كلمة فيضان التي تنطق بالفتح وجمعها فيضانات بالسكون. 11- القُوى بضم القاف وليس القِوى بكسرها. (علمه شديد القُوى) سورة النجم، الآية رقم 5.12 في العدد يقال (الجهات الأربعة) يجب أن نقول (الجهات الأربع؛ لأن العدد يخالف المعدود في تمييز العدد من 3-9, (فخذ أربعة من الطير، فصرهن إليك) سورة البقرة، الآية 260. فحب اللغة العربية يجري في دماء كل أسرتي ولله الحمد، بالرغم من التخصصات المختلفة، وأحببت الكتابة والقراءة منذ أن كنت طالبة، في المدرسة وكلية المعلمات، حيث كنا نشارك في الجمعيات الأدبية، التي نتحدث بها باللغة العربية الفصحى، مما هيأتني للكتابة منذ ذاك الزمان، فألفت كتابي الأول بعنوان. التغذية، وكانت الطبعة الأولى ثلاث آلاف نسخة، طٌبع بالأردن ووزع بالمملكة العربية السعودية وغيرها من البلدان العربية وغير العربية مثل المملكة المتحدة، أما الطبعة الثانية، فكانت أربعة آلاف نسخة، وٌزعت بدولة قطر وغيرها من الدول والطبعة الثالثة فقد كانت، فقد كانت ألف نسخة طبعت في السودان، كما دُرس بكليات التربية بالمملكة العربية السعودية، وكذلك ألفت ديوان شعر بعنوان (أصداء)، الذي كانت قصائده باللغة الدارجة السودانية، إلا أن تعلقي باللغة العربية الفصحى جعلني، أحشر كثيراً من الكلمات الفصيحة. إن اللغة العربية أينما حلت لها طعم خاص، حتى ولو أدخلت على اللهجة الدارجة، مما يجعلها حلوة كالوجبة التي أضيفت إليها البهارات الهندية. فاللغة العربية كريمة ككرم أهلها، لم تنس الناطقين بغيرها، وقد أولت أولئك العناية، بأن أنشئت معاهد لتعليمهم، حيث أصبحت لغة عالمية تمثل ثقافة عربية وإسلامية وهي حية معاصرة تخدم شريحة كبيرة من المجتمعات الإنسانية، حيث أتاحت الفرصة للناطقين بغيرها تعلمها كتابة وتحدثاً بطلاقة، فكلما سمعت شخصاً أشقر عيونه خضر يتكلم في منبرها أعجبت به، وأحسست وأيقنت أن العربية لا يخشى عليها مهما توافرت الحضارات والتكنلوجيا. أرجو من الإخوة السودانيين أن يبعدونا عن (حوجة) و (كمية من الناس).

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store