
الحديدة.. مدينة تذكُر أنها كانت شيئاً ما
ولدت الحديدة لا كمدينة، بل كخطأ طباعي في رواية تاريخية مشوشة. لم يُتح لها أن تهرم كما تفعل المدن العادية، بل ألقيت عليها الشيخوخة دفعة واحدة.
وُلدت مرفأً، لكنها لم تغادر المهد يوماً. بقيت هناك، تتأمل السفن تمر، كما يتأمل العاطل عن العمل اعلانات التوظيف.
من أيام المخا العثمانية حتى بهرجات التحديث الوهمية، تسير الحديدة بقدم واحدة، وتُزلق الأخرى في وحل الجغرافيا. أعطوها لقب العاصمة العثمانية (1849 – 1873)، فاحتفلت ثم تخلّت عنه سريعاً، كفتاة أُلبست فستان زفاف مُستعار، ثم عادت إلى المطبخ قبل نهاية العُرس.
ولأن قناة السويس غيّرت قواعد اللعب، تحوّلت الحديدة إلى ممر دولي للغزاة الجدد. لم تأتِ الإمبراطوريات لتبني فيها شيئاً، بل جاءت لتجرب عليها هواياتها العسكرية.
ومن سوء طالعها أنها وقفت على البحر، لا على نبع نفط. ولهذا لم تأتِ القوى الدولية لتصنع فيها مدينة، بل لتقصف ما تبقّى منها. العثمانيون، البرتغاليون، الإسبان، الطائرات الإيطالية، والبريطانية، والحريق العظيم 1961. الى عاصفة الحزم، وعمليات حارس الازدهار والذراع الممدودة.
هذه المدينة جُرّبت بكل طرق الإهانة الدولية تقريباً، إلا الزلزال، وربما هو في الطريق، لكن يبدو أن الطبيعة في طريقها لتجريب آخر أوراقها.
هنا "حارة السور" الإسم وحده كافٍ لتذكيرك أنك في مدينة تعرف أنها كانت عظيمة، ولكنها تنسى التفاصيل عمداً. الحارة التي كانت يوماً محاطة بسور له أربعة أبواب – باب مشرف، باب النخيل، باب اليمن، باب الستر – تحوّلت إلى متاهة لا سور لها.
بول إميل بوتا ذلك العالِم الفرنسي ذو المزاج اللاتيني، كتب ببهجة عام 1836: "شوارع الحديدة أنظف من شوارع القاهرة"، وأشاد بعمارتها التي كانت تلمع تحت الشمس، وكأن البحر ذاته كان ينحني احتراماً. كان ذلك قبل اختراع البلاستيك، وقبل أن تصبح الأكياس السوداء وسائد نوم لكائنات بلا مأوى.
المباني التي لا تزال صامدة، من الطوب الأحمر المحروق، تقف كحُفَرٍ معمارية في جسد الزمن، تذكّرنا أننا ذات مرة عرفنا معنى المشربيات، والسقوف المنقوشة التي تتدلّى منها بقايا أناقة سابقة، قبل أن يُغشى البصر بالإسمنت والقمامة.
هذه المدينة لا تُهدم فقط، بل تُستبدل بنُسخ رديئة عنها، في كل زاوية، تتناسخ في صور أكثر قبحاً، كأنها تُمارس نوعاً من إعادة التدوير المَرَضي للخيبة.
في الرصيف البحري، حيث كانت السفن تفرغ شحناتها على ظهور الرجال لا الرافعات، تبدو الحديدة تمثيلًا حيّاً لعصرٍ تجاوزها بنيةً ومعنى.
جاء المخرج السوفياتي فلاديمير شنايدروف عام 1929، التقط صوراً، صنع فيلماً، وكتب كتاباً، ثم عاد إلى بلاده تاركاً خلفه مدينةً لم تَعِ بعد أنها بدأت الغرق. أما نحن، فأصدرنا فيلماً واحداً: فيلم طويل، ممل، بلا نهاية... اسمه "النسيان".
قلعة المدينة، التي بُنيت حامية، تحوّلت إلى سجن. تماماً كما تحوّلت الثورات إلى جنازات، والوعود إلى نشرات، والسياسة إلى دعابة حزينة. القلعة لا تحمي أحداً، بل تُذكّرك أن السجن في اليمن غالباً ما يكون أعلى نقطة في المدينة.
أما الشيخ صديق "الشاذلي"، الذي قيل إنه "حامي الحديدة"، فقد دُفن خارجها. من باب الحذر ربما، أو لأنه أدرك أن من يحمي هذه المدينة سينتهي حتماً مدفوناً بعيداً عنها.
الحديدة مدينة أُشبعت بالقصف، هي الميناء الذي صار إشاعة. ذاكرة نصفها محو، ونصفها الآخر صدى لما كان. وعلى الرصيف، يجلس البحر، يتأمل المدينة... ويتساءل إن كانت لا تزال تعرف الفرق بين الزرقة والندم.
إنها مدينة تكتب التاريخ بالماضي التام، وتعيش الحاضر بالمجهول المستمر. كأنها تتقن فنون الانقراض البطيء، وتُجيد استقبال الزوار بالمقابر المفتوحة، والخرائط المطوية، والبحر الذي لا يعود.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 2 ساعات
- اليمن الآن
20 شاحنة إغاثية سعودية تصل السويداء السورية
وصلت قافلة إغاثة سعودية جديدة إلى محافظة السويداء في سورية، تتألف من 20 شاحنة محملة بالاحتياجات الإنسانية الأساسية. يأتي هذا الدعم بتنسيق مشترك بين مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية ووزارة الطوارئ وإدارة الكوارث السورية. ويعتبر هذا الدعم امتدادًا لجهود المملكة العربية السعودية المستمرة في تقديم العون والمساعدة للدول الشقيقة والصديقة في أوقات الأزمات والمحن، والتأكيد على دورها الإنساني والإغاثي الفاعل. اخبار متعلقة


اليمن الآن
منذ 2 ساعات
- اليمن الآن
مواقف مؤثرة للمواطنين مع اصحاب الباصات في صنعاء
كريتر سكاي/خاص: يومًا بعد يوم، تتكرر مشاهد من الإنسانية والتراحم على متن باصات النقل العام في صنعاء. ففي ظل الظروف الصعبة، يتحول بعض سائقي الباصات إلى جابري خواطر يمدون يد العون لكل محتاج. لا يزال في قلوب الكثيرين متسعًا للعطف، وهذا ما يظهر في تلك الحوارات اليومية التي تُسمع على أبواب الباصات: * "عتوصلني يا عم بخمسين ريال؟" فيجيبه السائق بصوت رحب: "إطلع". * "مابش معي زلط عتوصلني وشاجلس واقف إذا إمتلى الباص؟" يأتيه الرد مطمئنًا: "إطلع". * "عتوصلني أنا وصاحبتي بـ 100؟" فيدعوهما السائق بلطف: "إطلعين". هذه المواقف الإنسانية، وإن بدت بسيطة، تترك أثرًا عميقًا في نفوس الركاب. هي ليست مجرد خدمة نقل، بل هي رسالة دعم وتضامن. رسالة شكر وتقدير من كل الركاب إلى هؤلاء السائقين المتعاونين، الذين قد لا يسمعون كلمات الشكر بأذانهم، لكنها تتجلى في عيون الركاب وعلامات الارتياح على وجوههم. فالله يبارك لهم في رزقهم.


26 سبتمبر نيت
منذ 2 ساعات
- 26 سبتمبر نيت
ترتيبات لتنفيذ مشروع الإنذار المبكر من الصواعق في حجة
ناقش اجتماع في صنعاء اليوم، ضم محافظ حجة هلال الصوفي ورئيس مصلحة الدفاع المدني اللواء إبراهيم المؤيد، آلية تنفيذ مشروع الإنذار المبكر والحماية من الصواعق في المحافظة. واستعرض الاجتماع الذي حضره مسؤول قطاع التخطيط ورئيس غرفة عمليات الطوارئ بالمحافظة الدكتور عبدالرحمن الملحاني ورئيس جمعية الهلال الأحمر اليمني الدكتور أحمد نصار، دراسة مرفوعة من الفريق الفني لتنفيذ مشروعي 'نظام الإنذار المبكر والرصد المطري' و'حماية التجمعات السكانية من الصواعق الرعدية'. كما استعرض الاجتماع الذي شارك فيه مدير عام المشاريع في المصلحة المهندس محمد النجري، ومسؤولا تقنية المعلومات بالمصلحة المهندس محمد الكبسي ونظام الإنذار المبكر المهندس ناظم العبسي وفرق العمل المكلف بإجراء المسح الميداني الشامل لمديريات المحافظة، خطة تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع الذي ستموله جمعية الهلال الأحمر اليمني. وأكد المجتمعون، أهمية تلك المشاريع في تعزيز قدرات المواجهة المبكرة للكوارث الطبيعية، والحفاظ على الأرواح والممتلكات، لافتين إلى ضرورة تعزيز التنسيق بين السلطة المحلية والمصلحة لتنفيذ المشروع.