
بنما: صراع العمالقة على ممر استراتيجي
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب
بقلم إيمان درنيقة الكمالي
أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة
في عالمٍ تتشابك فيه خيوط القوة والنفوذ، وتتصارع فيه السياسات على مسرح الجغرافيا، تترسخ مقولة ألفريد ماهان حول حتمية السيطرة على البحار كمفتاح للهيمنة الاستراتيجية والاقتصادية. فكيف تتجلى هذه النظرية في واقع قناة بنما، هذا الشريان الحيوي للتجارة العالمية؟ وما هو الدور الذي تلعبه القناة، منذ نشأتها وتوسعها، في تحديد موازين القوى والنفوذ الاستراتيجي في ظل التنافس الجيوسياسي المعاصر؟ ولماذا تعتبر هذه البنية التحتية بالغة الأهمية للاقتصاد العالمي، وما الذي يجعلها ذات قيمة استراتيجية قصوى للولايات المتحدة في خضم صراع النفوذ المتصاعد مع الصين؟
بداية الاهتمام الاستراتيجي: من الحلم الإسباني إلى الهيمنة الأميركية
لأن السيطرة على البحار لطالما كانت مفتاح السيادة البحرية والهيمنة العالمية، بزغت فكرة قناة بنما كمشروع طموح تجسد الإدراك المبكر للأهمية الاستراتيجية الاستثنائية لموقع برزخ بنما. فمنذ القرن السادس عشر، أدركت قوى عديدة، بدءًا بالإسبان، القيمة الجيوسياسية لهذا الممر المائي المحتمل. وفي القرن التاسع عشر، سعى الفرنسي فرديناند دي ليسابس، بطل قناة السويس، لشق هذا الشريان الحيوي، لكن جهوده باءت بالفشل بعد تسع سنوات من التحديات الطبيعية القاسية. وفي مطلع القرن العشرين، حسمت الولايات المتحدة هذا الطموح لصالحها، فاستغلت الوضع السياسي في كولومبيا لدعم استقلال بنما، وحصلت بموجب معاهدة هاي-بونو فاريلا عام 1903 على الحق الحصري في بناء وتشغيل القناة. ومنذ افتتاحها عام 1914، ظلت القناة ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة حتى معاهدات عام 1977، حين وقع الرئيس الأميركي جيمي كارتر معاهدات توريخوس-كارتر، ليتم بموجبها التنازل عن القناة وتسليمها إلى بنما بحلول عام 1999. إلا أن هذه السيادة البنمية لم تدم طويلًا دون تحديات، فمع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، عادت قضية السيطرة على القناة إلى الواجهة، حيث استنكر بشدة تخلي الولايات المتحدة عن هذه البنية التحتية الحيوية، مؤكدًا على ضرورة استعادتها لما تمثله من أهمية قصوى لقوة واشنطن التجارية والعسكرية، خاصة في ظل تنامي النفوذ الصيني في المنطقة.
موقع استراتيجي فريد ونظام تشغيل عبقري
إن الموقع الجغرافي لبنما يمثل نقطة ارتكاز استراتيجية فريدة من نوعها، حيث يحتضن ممرًا مائيًا حيويًا يربط بين محيطين عظيمين، بامتداد 82 كيلومترًا. هذه الميزة الجغرافية الاستثنائية قدمت للعالم شريانًا حيويًا اختصر بشكل كبير الرحلات البحرية الطويلة والخطيرة حول كاب هورن، والتي كانت تستغرق أسابيع وتكلف الكثير من الأرواح. فبفضل هذا الموقع، تقلصت مدة الرحلة بين موانئ حيوية مثل نيويورك وسان فرانسيسكو من 27 يومًا إلى 11 يومًا فقط، مما أحدث ثورة في حركة التجارة العالمية وخفض تكاليف الشحن بشكل ملحوظ. وتتعاظم أهمية هذا الموقع الاستراتيجي الفريد باقترانه بنظام تشغيل هندسي عبقري، وهو نظام "الأهوسة". هذا النظام الفريد من الأقفال المائية يتغلب ببراعة على فارق الارتفاع الكبير بين المحيطين الأطلسي والهادئ، والذي يبلغ نحو 26 مترًا. وتعتمد عملية عبور السفن على رفعها تدريجيًا باستخدام قوة المياه المتدفقة من بحيرة جاتون الاصطناعية عبر ثلاثة أقفال متتالية، ثم خفضها بنفس الآلية للوصول إلى الجانب الآخر. وتُسحب السفن داخل هذه الأقفال بواسطة قطارات جر كهربائية لضمان عبور آمن ومنظم، وتستهلك كل سفينة نحو 200 مليون لتر من المياه العذبة المخزنة في بحيرتي جاتون ومادن لتشغيل هذا النظام المبتكر. هذا التضافر الفريد بين الموقع الاستراتيجي والنظام الهندسي المتقن هو ما جعل قناة بنما شريانًا حيويًا لا غنى عنه لحركة التجارة العالمية.
قناة بنما ودورها الحيوي في التجارة العالمية
تُعد قناة بنما شريانًا حيويًا للتجارة العالمية، حيث تستأثر بنحو 5% من حجمها سنويًا، وتنقل بضائع بقيمة تقدر بنحو 270 مليار دولار عبر 82 كيلومترًا تربط بين المحيطين. تساهم القناة بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي لبنما بإيرادات بلغت 4.3 مليارات دولار عام 2022. وتختصر القناة مسافات بحرية كبيرة، موفرة 16 يومًا في الرحلة بين نيويورك وسان فرانسيسكو. يعبر القناة سنويًا حوالي 13 ألف سفينة تحمل 235 مليون طن من البضائع، وتخدم 160 دولة و1700 ميناء. وتعد الولايات المتحدة المستخدم الرئيسي للقناة، حيث يمر عبرها أكثر من 70% من بضائعها. وقد عززت توسعة القناة عام 2016 من قدرتها الاستيعابية، مما زاد من حجم التجارة المنقولة عبرها.
توسعة القناة وأهميتها المتزايدة في ظل التوترات الجيوسياسية
شهدت أهمية قناة بنما تصاعدًا ملحوظًا، خاصة بعد مشروع التوسعة الطموح الذي اكتمل في عام 2016. هذه التوسعة النوعية، التي بلغت تكلفتها 5.25 مليار دولار، حولت القناة إلى ممر أكثر جاذبية وقدرة على استيعاب حجم أكبر من حركة التجارة العالمية. فبعد أن كانت القناة تستقبل سفنًا بعرض لا يتجاوز 32.3 مترًا وحمولة 5000 حاوية، أصبحت الآن قادرة على استقبال سفن "نيو باناماكس" العملاقة التي يصل عرضها إلى نحو 49 مترًا وحمولتها إلى 15 ألف حاوية. هذه الزيادة الهائلة في القدرة الاستيعابية عززت من دور القناة في نقل كميات أكبر من البضائع، مما ساهم في خفض تكاليف الشحن ودفع عجلة التجارة العالمية.
وفي خضم التوترات الجيوسياسية الراهنة، برزت أهمية قناة بنما بشكل مضاعف، خاصة مع الاضطرابات التي تشهدها حركة الملاحة في البحر الأحمر نتيجة لأعمال الحوثيين. ففي الوقت الذي تجد فيه العديد من شركات الشحن نفسها مضطرة لسلوك طريق رأس الرجاء الصالح الأطول والأكثر تكلفة لتجنب المخاطر في البحر الأحمر، تقدم قناة بنما بديلاً استراتيجيًا أكثر أمانًا وفعالية لنقل البضائع بين آسيا والأميركيتين. هذه الظروف الاستثنائية تعزز من قيمة القناة ودورها الحيوي في تأمين سلاسل الإمداد العالمية، وتجعل من السيطرة والنفوذ فيها هدفًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في خضم التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ العالمي.
قناة بنما: بؤرة جديدة للتنافس الأميركي الصيني
اليوم، تشكل قناة بنما بؤرة جديدة للتنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ العالمي. فبعد عقود من الهيمنة الأميركية، يشهد هذا الممر المائي الاستراتيجي تغلغلًا صينيًا متزايدًا يثير قلق واشنطن. ويتجلى هذا التنافس في عدة مظاهر، بدءًا من سيطرة شركات صينية على مينائي بالبوا وكريستوبال الرئيسيين على طرفي القناة، مرورًا بانضمام بنما إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تدفع بتدفق الاستثمارات الصينية في البنية التحتية الحيوية حول القناة. ويُضاف إلى ذلك فوز شركات صينية بعقود بنى تحتية استراتيجية، مثل عقد بناء الجسر الرابع فوق القناة، والذي جاء عقب قرار بنما بتحويل دعمها الدبلوماسي من تايوان إلى الصين. هذه التطورات عززت من النفوذ الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي للصين في منطقة تعتبر تقليديًا "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة، مما دفع واشنطن للتوجس من تحول القناة إلى مركز نفوذ صيني يهدد مصالحها وأمنها القومي. وفي المقابل، يعكس استحواذ شركة "بلاك روك" الأميركية على حصص في موانئ رئيسية كانت تحت إدارة صينية، محاولة أميركية لتعزيز نفوذها الاستراتيجي ومواجهة المد الصيني في هذا الممر المائي الحيوي بالغ الأهمية.
الخلاصة: مستقبل القناة وديناميكيات القوة العالمية
ختامًا، تتجلى قناة بنما كشريان حيوي يتجاوز قيمته الاقتصادية ليختزل في موقعه الاستراتيجي الفريد ديناميكيات القوة العالمية المتغيرة. فمستقبل هذا الممر المائي، والذي يقع اليوم على مفترق طرق حاسم في صراع النفوذ المتصاعد بين الأقطاب الصاعدة والتقليدية، يؤكد صحة نظرية ماهان حول أهمية السيطرة على الممرات المائية الحيوية، وسيظل مرآة دقيقة تعكس ديناميكيات العلاقات الدولية وتشكل ملامح مستقبل الاقتصاد العالمي، حيث تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للقوى الكبرى لتحدد مسارات النفوذ في النظام العالمي القادم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ 7 ساعات
- الديار
بساط يجول ووزيرة البيئة في مرفأ بيروت لمعاينة الإهراءات
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب - جال وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط ووزيرة البية الدكتورة تمارا الزين، في حضور المدير العام للجنة الموقتة لإدارة وإستثمار مرفأ بيروت عمر عيتاني، الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية بالتكليف الدكتور شادي عبداالله، مدير الاهراءات أسعد حداد، مدير عام الحبوب والشمندر السكري عصام ابو جوده، في مرفأ بيروت، في إطار استراتيجية الوزارة لإعادة التأهيل والمعالجة المستدامة للملفات المرتبطة بالمرفأ، بهدف معاينة وضع الإهراءات بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020 والاطلاع على ملف بقايا الحبوب الذي اصبح يشكّل خطراً بيئياً والإجراءات الرقابية التي تتخذها الوزارة في هذا الإطار وتقييم الوضع الإنشائي للمباني المتبقية من الإهراءات للبحث في الخطوات المستقبلية ضمن خطة الوزارة لمعالجة هذا الملف على المدى الطويل. وقال البساط في خلال جولته للاعلاميين: نقوم بهذه الجولة اليوم مع فريق كبير جدا، من وزارة البيئة ومديرية استثمار المرفأ ولجنة البحوث العلمية ومديرية الحبوب والشمندر السكري والاهراء. هذا الفريق الكبير مهم لأن الموضوع شائك ومعقد ومترابط ويستلزم تنسيقا مع كل الأفرقاء المعنيين من الوزارات ومؤسسات أخرى خارج الحكومة. لذلك علينا أن نفكر اليوم بهذا الملف على أربع مستويات: المستوى الاول، وهو المستوى الآني السريع الذي يجب أن نعمل عليه وهو الموضوع البيئي. الحبوب الموجودة داخل وخارج الاهراء، تتسبب بنوع من الخطر البيئي نتيجة التخمير حيث تخرج الروائح الكريهة، وتزيد من خطر الحرائق ما قد يضر بهيكلية ما تبقى من بناء الاهراءات، من هنا أهمية مركز البحوث العلمية والعمل والدراسات التي يقوم به. نتطلع إلى نتائج الدراسات الجارية حاليا في الأسابيع القادمة. - المستوى الثاني وهو موضوع مبنى الاهراءات الذي يحتاج الى حل نهائي بعد خمس سنوات. علينا التفكير بالموضوع بشكل علمي. - المستوى الثالث هو، طبعا، أهالي ضحايا المرفأ. نحن سنتخذ قرارا يضع وضع ومصلحة أهالي ضحايا انفجار المرفأ ويأخذ في الاعتبار رأيهم، وهذه نقاشات يقوم بها وزير الثقافة. لكن لدينا واجب علينا ان نقوم به لضمانة سلام الإهراءات لتفادي كارثة أخرى. - المستوى الرابع هو إستراتيجية الحل الطويل المدى في هذا الملف. أهمية إعادة بناء الاهراءات متعلقة بالأمن الغذائي اللبناني، خصوصا وأننا في لبنان نعاني من نقص في التخزين. نحن نعيش في منطقة تمر دائما بأزمات، وهنا أهمية أن يكون لدينا تخزين جيد للحبوب وللقمح، حتى لا نضطر إلى شراء القمح بطريقة مستعجلة وغير مدروسة. وختم: أما سؤال أين سيتم بناء الإهراءات الجديدة؟ فالجواب أنني أعتقد أنها لن تكون فقط في بيروت، بل أيضا في مناطق أخرى. نُعِدّ دراسات لتقييم الحجم وكميات التخزين المطلوبة للإهراءات الجديدة إضافة الى الكلفة ومصادر التمويل.

الديار
منذ 7 ساعات
- الديار
نشاط وزير العمل
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب - استقبل وزير العمل محمد حيدر في مكتبه ، وفداً من "جمعية كاريتاس لبنان" الذي أطلعه على نشاط الجمعية وسبل التنسيق مع الوزارة في قضايا ذات اهتمام مشترك. كما استقبل سفير هانغاريا في لبنان فيرانك كاسيلاج في زيارة تعارف، تم خلالها البحث في العلاقات الثنائية بين البلدين. بعد ذلك التقى وفداً من المجلس التنسيقي لمتقاعدي القطاع العام، وجرى عرض مطالب المتقاعدين وسبل تحسين ظروفهم في ظل الأزمة التي يعيشها لبنان.


الديار
منذ 7 ساعات
- الديار
برّي استقبل وزير الاقتصاد ورئيس مجلس إدارة 'طيران الشرق الأوسط'
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب استقبل رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة وزير الاقتصاد والتجارة عامر البساط حيث جرى البحث في آخر المستجدات السياسية وتطورات الأوضاع العامة لا سيما الاقتصادية منها. كما تابع بري أوضاع شركة طيران الشرق الاوسط (الميدل ايست) خلال استقباله المدير العام رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت.