حين تصبح العدالة إرثاً منسياً
في العقود الثلاثة الأخيرة، شهد العالم انزياحاً عميقاً في بنية منظومته القيمية والمعرفية، حتى بدت مفاهيم كالعدالة والتحرر والكرامة وكأنها تنتمي إلى عصر مضى، أو إلى قاموس رومانسي تجاوزه الزمن.
وفي خضم هذه التحولات، تبرز القضية الفلسطينية كحالة استثنائية، لا فقط بصفتها صراعاً سياسياً أو إقليمياً، بل كمرآة تعكس التناقض الأخلاقي العميق الذي يعيشه النظام العالمي المعاصر.
لقد أدّى انهيار الثنائية القطبية عقب نهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينات إلى إعلان ما وُصف بـ»نهاية التاريخ»، كما كتب فوكوياما، لصالح انتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية. غير أن ما تلا هذا الانتصار لم يكن نظاماً عالمياً أخلاقياً أو متّزناً، بل انفجار في العولمة الاقتصادية والرقمية والثقافية، وتحلّل تدريجي للمعايير الجماعية لمصلحة الفردانية، النفعية، واختفاء الفوارق بين الحقيقة والتأويل.
في هذا السياق، أعادت المجتمعات الغربية - خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول – ترتيب أولوياتها القيمية؛ فصارت «الأمننة» تطغى على الحقوق، و»الحرب على الإرهاب» تبرر تجاهل القوانين الدولية، و»الواقعية السياسية» تعلو على المبدأ. أما الجنوب العالمي، فوجد نفسه أمام خيارين: إما التكيف مع هذه المنظومة الجديدة رغم تفككها الداخلي، أو الدخول في نفق التهميش، العقوبات، والعزلة.
وفي هذا المشهد العالمي الرمادي، تبقى فلسطين مشتعلة، كجمر تحت رماد الصفقات والتسويات. فمنذ اتفاق أوسلو (1993)، لم تُترجم وعود «السلام مقابل الأرض» إلى سيادة أو حقوق، بل إلى واقع استيطاني أكثر وحشية، وتفكك مجتمعي واقتصادي تُغذّيه البيروقراطيات الدولية المانحة، وتستثمره قوى الاحتلال لصالح إدارة الصراع بدل حله.
أما على المستوى الأخلاقي، فقد أصبحت فلسطين اختباراً عالمياً للسقوط القيمي. فالدول التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان تساند اليوم احتلالاً عسكرياً مباشراً، يتوسّع ويتوحش بلا رادع. الإعلام العالمي، الذي كان يوماً ما ينقل المأساة الفلسطينية، صار ينتج سرديات مضادة، تُجرّم الضحية وتُخلي سبيل الجلاد. وحتى الجامعات الغربية، التي كانت تُخرّج نخباً مناصرة للعدالة، باتت تُهدد طلبتها بالفصل إن هم عبّروا عن تضامنهم مع غزة أو رفضهم للإبادة.
وربما كانت الحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023 اللحظة الأكثر فجاجة في فضح هذا الانهيار القيمي. فخلال أكثر من 200 يوم، وثّقت منظمات دولية ووكالات الأمم المتحدة جرائم ممنهجة: قتل للمدنيين، تدمير للبنية التحتية، استخدام للتجويع كأداة حرب، وتهجير قسري جماعي. ومع ذلك، لم تتحرك آليات المحاسبة الدولية، وظلت المحكمة الجنائية الدولية تحت ضغط السياسيين، فيما استخدمت بعض الدول الكبرى «الفيتو الأخلاقي» لمنع وقف إطلاق النار.
فما الذي يعنيه كل هذا للفلسطيني اليوم؟ تعني العودة إلى البديهيات الأولى: أن الكرامة ليست ترفاً، وأن مقاومة الظلم حق طبيعي، وأن العدالة لا تُقاس بمصالح السوق، بل بوزن الضمير الإنساني. وهنا، يتقاطع الفلسطيني مع حركات التحرر عبر التاريخ، من فيتنام إلى جنوب أفريقيا، في الإيمان بأن الاستعمار لا يسقط فقط بالقوة، بل بالصمود الثقافي، والنفَس الطويل، والتشبث بالقيم في وجه عالم ينكرها.
لكن فلسطين ليست فقط ضحية هذا الانهيار العالمي، بل قد تكون – فرصة لإعادة بناء الخطاب القيمي. فالحالة الفلسطينية تُحفّز المثقفين، الأكاديميين، ونخب الجنوب العالمي على استعادة الأسئلة التأسيسية: ما العدالة؟ ما دور الدولة؟ من يملك سردية «الخير» في عصر ما بعد الحقيقة؟ وهل يمكن إعادة تشكيل منظومة دولية جديدة تُعيد الاعتبار للمجتمعات، لا فقط للأنظمة والأسواق؟
إن النخبة الفكرية، خصوصاً في العالم العربي، معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بتجديد خطابها تجاه فلسطين، لا بوصفها رمزاً للعروبة فقط، بل كبوصلة أخلاقية في عصر اللايقين. ليس المطلوب تكرار الشعارات القديمة، بل إنتاج معرفة جديدة تُفكك البنية الاستعمارية الحديثة، وتُحرّك ضمير العالم بلغة يفهمها الجيل الجديد من الكتّاب والقراء والفاعلين السياسيين.
فلسطين ليست فقط قضية «مظلومية»، بل قضية «معرفة». من خلالها نعرف كيف تغيّر العالم، ومن خلالها يمكن أن نعيد رسم طريق آخر، طريق لا يُقدّس الهيمنة، ولا يُجرّم الأمل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 2 ساعات
- معا الاخبارية
البرلمان العربي يطالب بموقف دولي موحد لوقف الحرب على غزة
مراكش - معا- دعا البرلمان العربي، دول البحر المتوسط باتخاذ موقف موحد بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف حرب الإبادة للشعب الفلسطيني وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة في ظل ما يتعرض له شعبنا من عدوان متواصل من قتل وتشريد وتهجير إضافة إلى استخدام سلاح التجويع ومنع دخول المساعدات الغذائية في ظل صمت دولي مخز. ودعا نائب رئيس البرلمان العربي أحمد الجبوري في كلمته خلال الدورة الثالثة للمنتدى الاقتصادي البرلماني لبرلمان البحر الأبيض المتوسط التي تستضيفها مدينة مراكش المغربية، إلى العمل على بلورة خارطة طريق تشريعية مشتركة تخدم أهداف التكامل الاقتصادي الإقليمي بين المنطقتين وتعزيز قنوات التواصل بين القطاع الخاص في الجانبين، من خلال تنظيم المنتديات والملتقيات الاقتصادية المشتركة التي تجمع المستثمرين ورجال الأعمال من دول الخليج والمتوسط، إضافة إلى تفعيل أدوات الدبلوماسية البرلمانية عبر تبادل الزيارات والخبرات، وبناء جسور الثقة والتفاهم بين برلمانات الجانبين. وأكد الجبوري، التزام البرلمان العربي الكامل بدعم جميع المبادرات والجهود الإقليمية الرامية إلى تعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي بين دول الخليج العربي ودول حوض المتوسط، مشددا على أهمية مواصلة التنسيق والعمل المشترك مع البرلمانات الشقيقة والصديقة لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.


معا الاخبارية
منذ 2 ساعات
- معا الاخبارية
الأمم المتحدة: مؤتمر حل الدولتين فرصة حاسمة لرسم مسار لا رجعة فيه نحو السلام
نيويورك- معا- عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الليلة الماضية، في مقرها بمدينة نيويورك، الاجتماع التحضيري الأول للمؤتمر الدولي رفيع المستوى لتنفيذ حل الدولتين، برئاسة مشتركة من المملكة العربية السعودية وفرنسا، تمهيدا للمؤتمر المقرر عقده في الفترة من 17 إلى 20 حزيران المقبل. وشارك في الاجتماع ممثلون عن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث تم التأكيد على أهمية المؤتمر في توليد الزخم اللازم والإرادة الدولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة. وأكد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فيلمون يانغ أن المؤتمر الدولي رفيع المستوى المعني بالتسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، والمقرر عقده في نيويورك في حزيران/يونيو يمثل "فرصة حاسمة يجب أن نغتنمها لرسم مسار لا رجعة فيه نحو تطبيق حل الدولتين"، مؤكدا ضرورة نجاحه. وشدد يانغ على الأهمية القصوى لهذا المؤتمر، مشيدا بجهود المملكة العربية السعودية وفرنسا بوصفهما رئيسين مشاركين للمؤتمر الدولي المقرر عقده في الفترة من 17- 20 حزيران/يونيو المقبل. وأضاف يانغ: "لا يمكن حل هذا الصراع من خلال الحرب الدائمة، ولا من خلال الاحتلال أو الضم اللانهائي، سينتهي هذا الصراع فقط عندما يتمكن الإسرائيليون والفلسطينيون من العيش جنبا إلى جنب في دولتيهما المستقلتين وذات السيادة، في سلام وأمن وكرامة". وذكّر المسؤول الأممي بمرور سبعة عقود منذ أن دعت الجمعية العامة لأول مرة إلى حل الدولتين. ومنذ ذلك الحين، أعادت الجمعية تأكيد دعمها الثابت لهذه الرؤية من خلال العديد من القرارات. وقال: "تقع على عاتقنا الآن مسؤولية جماعية للعمل بحزم وتنفيذ هذه القرارات بالفعل، إنها مسؤوليتنا الآن لدعم القانون الدولي، واحترام مبادئ مـيثاق الأمم المتحدة. يجب علينا استعادة الثقة في الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، وفي التزاماتنا تجاه شعبي فلسطين وإسرائيل". المملكة العربية السعودية من جانبها، شددت المملكة العربية السعودية على الحاجة الملحة لعمل حاسم ولا رجعة فيه لإنهاء الصراع وتحقيق حل الدولتين. وأكدت رئيسة الفريق التفاوضي للمملكة العربية السعودية في وزارة الخارجية المستشارة منال بنت حسن رضوان، ضرورة أن يسفر المؤتمر عن نتائج ملموسة بدلا من مجرد الإيماءات الرمزية. وقالت: "يبدأ السلام الإقليمي بالاعتراف بدولة فلسطين — ليس كبادرة رمزية، بل كضرورة استراتيجية". وأضافت المسؤولة السعودية أن المؤتمر القادم يجب أن يكون "بداية النهاية للصراع، الأمر لا يتعلق بالكلمات، بل بالفعل، يتعلق بضمان ترجمة مبادئنا الجماعية إلى حقائق دائمة". كما سلطت الضوء على الدور التاريخي للمملكة في تعزيز السلام، بدءا من مبادرة السلام العربية وصولا إلى إطلاق "التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين". وحثت جميع المشاركين على تقديم التزامات عملية وقابلة للقياس، ترتكز على مبادئ الإلحاح والجوهر والشمولية والاستقلالية، وأن تكون متجذرة في حقوق وتطلعات كلا الشعبين للعيش بسلام وأمان. واختتمت حديثها بالقول: "لنكن واضحين: الحرب لن تجلب السلام أبدا فقط خطة عمل لا رجعة فيها، محددة زمنيا، متجذرة في القانون الدولي وتهدف إلى تطبيق حل الدولتين هي التي يمكن أن تحقق ذلك". فرنسا أكد مستشارة الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا آن كلير ليجاندر، التزام فرنسا القوي، إلى جانب المملكة العربية السعودية، بدفع حل الدولتين بوصفه المسار الوحيد القابل للتطبيق للسلام. وشددت على الحاجة الملحة لحشد دولي قبل مؤتمر يونيو، والذي يهدف إلى تطوير خارطة طريق ملموسة لتطبيق حل الدولتين. وركزت ليجاندر على ثلاث رسائل رئيسية؛ الأولى العمل الفوري لإنهاء الحرب في غزة، وضمان الإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن، وتسهيل الوصول الإنساني الكامل، وثانيا الضرورة الملحة لوضع الحل السياسي في المقدمة، مشيرة إلى أن التوسع الاستيطاني، وعنف المستوطنين، والجهود الرامية إلى إضعاف السلطة الفلسطينية تقوّض حل الدولتين، ثالثا، وصفت المؤتمر بأنه نقطة تحول محتملة، مؤكدة على الحاجة إلى ترجمة الالتزامات إلى عمل. فلسطين وأكد مساعد وزير الخارجية السفير عمر عوض الله، في كلمة دولة فلسطين، أهمية المؤتمر الدولي في توليد الزخم اللازم، والإرادة الدولية من أجل إنهاء المجاعة والإبادة والعدوان، وإفشال مخططات التهجير والضم. وقال إن هذا المؤتمر سيشكل مقاربات جديدة وعملية، ومنعطف تاريخي نحو إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحمايته، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى الالتزامات الدولية، واتخاذ الدول خطوات فعلية لتغيير الواقع. وشدد السفير عوض الله على أن المؤتمر ينعقد في وقت يتعرض فيه الشعب الفلسطيني إلى الابادة، والتهجير، واستخدام التجويع كسلاح حرب، مشيرا إلى أن ردود الفعل الدولية لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب في ردع جرائم إسرائيل، وتنفيذ قواعد القانون الدولي.


معا الاخبارية
منذ 2 ساعات
- معا الاخبارية
الشبكة تستنكر جريمة السطو على شاحنات تحمل غذاء الاطفال والعائلات الجوعى بغزة
غزة- معا- استنكرت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية بشدة قيام مجموعة من قطاع الطرق بسرقة شاحنات تحمل الدقيق لأهلنا في قطاع غزة. واشارت الشبكة في بيان لها إلى قيام مجموعة من قطاع الطرق المسلحين، تحت حماية الاحتلال الاسرائيلي، بالسطو على قافلة تضم سبع عشرة شاحنة تابعة لبرنامج الغذاء العالمي على طريق صلاح الدين، وسرقة قوت وطعام الأطفال والعائلات، التي تعاني من قسوة الجوع، علماً ان تلك الشاحنات كان من المفترض أن ترسل الى المخابز في محافظتي غزة والشمال. كما استكرت الشبكة قصف الاحتلال الإسرائيلي مجموعة من فرق تأمين المساعدات، من عائلات وسط قطاع غزة، مما ادى استشهاد واصابة عدد منهم، وهذا يؤكد أن الاحتلال يوفر غطاءً لجرائم السطو والسرقة. واشارت الشبكة الى ان ما دخل قطاع غزة من شاحنات للمساعدات الإنسانية خلال الايام الأربع الماضية، لا تتجاوز 119 شاحنة ضمن اصناف محددة وهي في إطار تضليل وتحايل الاحتلال على الضغوط الدولية المطالبة برفع الحصار. وطالبت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية كافة قطاعات شعبنا الفلسطيني ونحص بالذكر العائلات والعشائر، والتصدي لهذه الظاهرة الخارجة عن العادات وتقاليد شعبنا. كما طالبت الشبكة المجتمع الدولي بالضغط الجدي والحقيقي، على الاحتلال لفتح المعابر أمام دخول المساعدات، وتأمين وصولها إلى مستحقيها. واكدت الشبكة أيضاً على ضرورة استمرار عمل منظومة العمل الإنساني من خلال الأمم المتحدة، والمنظمات الأهلية الفلسطينية والدولية، والتي عملت منذ بدء العدوان من أجل الاستجابة الإنسانية، لاحتياجات شعبنا الناتجه عن العدوان والحصار الإسرائيلي، مشددة على رفضها الشديد لاستبدال الاحتلال هذه المنظومة بشركات أمنية، بهدف فرض النزوح القسري لأهلنا في مدينة غزة وشمال القطاع تجاه الجنوب من خلال معابر وحواجز أمنية.