
باب توما.. الحي الذي يروي دمشق بأزقتها وفسيفساء الأجراس والحكايات
هنا، عند الضفة الشمالية الشرقية من سور دمشق الأثري، يقف باب توما كجندي حارس على بوابة الذاكرة، حجارة البوابة ملساء لكنها مثقلة بما حملت، وأسوارها تئنُّ بما شهدت، وأزقتها تُنصت بعدُ إلى وقع أقدام لم يعد لها أصحاب، حوله تدور الأزمنة كما تدور عقارب الساعة في كاتدرائية قديمة، تختلط أصوات باعة الأسواق بتراتيل الكنائس وأذان الفجر، وتذوب رائحة الخبز الحارّ في عبق بخور القناديل، ليصنع المكان سيمفونية لا يجيد عزفها إلا الدمشقيون.
في باب توما تختزل دمشق نفسها؛ مدينة المائة باب، كل باب منها مفتاح إلى حكاية، وكل حكاية منها مرآة لإنسان؛ وهذا الحيّ الدمشقي ليس حيًّا كسواه، بل صفحة من سفر مفتوح، تعبره شخوص من شتى الملل والنحل، وتنقش فيه الأمم طبعاتها قبل أن تندثر وتبقى دمشق.
باب توما، في وعي أهل المدينة وزوارها، ليس حيًّا فقط بل رمز؛ رمز للتنوع والقداسة والصبر، شهادة حية على أن الحضارات قد تتناوب، لكن الأمكنة الحقيقية تعرف كيف تصون روحها رغم الدمار والخذلان؛ ففي كل ركن من أركانه قصة لا يحفظها التاريخ الرسمي، وإنما تحفظها ذاكرة الناس، وهم يمرون تحت قوسه الروماني العتيق، فيدركون أن أبواب دمشق ليست مداخل فحسب، بل مخارج من النسيان أيضًا.
ومن هنا، يصبح باب توما حيًّا ذا وجهين؛ وجه يطل على الماضي بكل جلاله وغموضه، ووجه يطل على الحاضر بكل ما فيه من حياة ومعاناة وأمل؛ فإذا وقفت عند عتبته، شعرت أنك تقف عند عتبة أسطورة؛ فلا أنت داخل ولا أنت خارج، بل أنت بين بين؛ في فسحة مشحونة بالحنين، كأنك تستمع لدمشق نفسها تروي لك عن نفسها، لا بلسان المؤرخين، بل بصوت حجارتها، بزخارف شبابيكها، وبدموع من مضوا وابتسامات من بقوا.
هكذا يُعلمنا باب توما درس المكان؛ أن الأحياء ليست طرقًا ومباني، بل أرواح تنبض في الحجارة، وتختبئ بين الشقوق، وتستيقظ في قلوب العابرين، وأن دمشق، كل دمشق، ليست مدينة في الجغرافيا فقط، بل مدينة تسكن الوجدان، كلما ضاق بك الزمان وجدت فيها بابًا يفضي إلى المعنى.
من القداسة إلى التضحية.. ومن التضحية إلى الذاكرة
ليس كل باب في دمشق يُنسب إلى قديس، وليس كل حي في الدنيا يشبه في روحه باب توما؛ فهذا الحي الدمشقي العتيق، الذي يطلّ من قلب سور المدينة إلى العالم، يحمل اسمه عن القديس توما الرسول، أحد التلاميذ الاثني عشر الذين حملوا رسالة المسيح إلى أقاصي الأرض. وفي التقاليد المسيحية يُعرف توما بأنه "توما الشكاك"، إذ اشتهر بامتحانه لجراح المسيح ليؤمن بالقيامة، لكنه أيضًا يوصف بأنه "توما الشجاع"، إذ لم يتردد في أن يحمل صليبه ويطوف البلدان داعيًا إلى الإيمان حتى ضحى بحياته.
ويُروى في الوجدان الدمشقي أن القديس توما مر بهذه الأرض، وربما بشّر على تخومها، فبقي اسمه ماثلًا في ذاكرة المكان منذ أن غيّرت المسيحية وجه دمشق في القرن الرابع الميلادي، حين تحولت من معقل وثني إلى مركز إشعاع مسيحي شرقي، وصارت شوارعها تعجّ بالأديرة والكنائس وعيون الماء المباركة.
في العصر الروماني، كانت البوابة تحمل اسمًا وثنيًّا كما هي عادة المدن الوثنية، إذ كانت الأبواب تُزين بأسماء آلهة الحرب والخصوبة والنصر، لكن مع تحول الشام إلى المسيحية أعيدت تسميتها تكريمًا للقديس توما، لتغدو رمزًا لذاكرة دينية عميقة الجذور، وباب توما إذن لم يكن مجرد مدخل إلى المدينة، بل صار معبرًا إلى معنى أسمى، معبرًا إلى الإيمان الجديد الذي كان يغمر الشام برائحة البخور وصلوات الصبح.
في كل حجر من أحجاره، وفي كل قوس من أقواسه، تعيش ذكرى القديسين والقداسات التي أُقيمت في جواره، وصدى الترانيم التي انطلقت من كنائس الحي في أعياد الميلاد والقيامة، ولهذا بقي باب توما معقلًا للمسيحيين عبر العصور، ولم يخفت فيه الجرس حتى في أحلك ليالي القسوة أو أفظع تقلبات السياسة.
وعلى مرّ القرون، أصبح الاسم أكثر من ذكرى لقديس؛ صار شهادة على تعاقب حضارات ومعتقدات، وعلى تعايش طويل بين أبناء الدين الواحد وأبناء الديانات الأخرى؛ فما من حي آخر يختزل التعددية الدمشقية كما يختزلها باب توما، هنا تُدرك أن دمشق لم تكن يومًا مدينة لطيف واحد أو ملة واحدة، بل مدينة للجميع.
اسم "باب توما" في ذاته يحمل دلالة فلسفية أيضًا، كأن المكان ينطق بأن القداسة لا تعني الانفصال عن الدنيا، بل الحضور فيها بكل ما في الحضور من ألم وأمل، من شهادة على الحق، ومن صبر على المكاره، لهذا بقي الاسم حيًّا رغم كل ما طرأ على الحي من تحولات، كأنه يذكّر كل عابر أن الأسماء التي تُختار بعناية لا تموت، وأن الأماكن التي تحمل أسماء من ضحوا تبقى دائمًا شاهدة على تاريخ أكبر من أن يُمحى.
باب توما بهذا المعنى ليس مجرد جغرافيا تحمل اسمًا، بل هو ذاكرة تمشي على الأرض؛ ذاكرة قداسة أولى، وتضحية لاحقة، وصبر متجدد في كل جيل. فهنا تتقاطع النصوص السماوية مع الحكايات الشعبية، ويتحول الاسم إلى دعاء يتردد على لسان المؤمنين؛ أن يبقى المكان كما كان دائمًا، بابًا مشرعًا للحياة، وحصنًا يحرس الذاكرة.
النشأة والتاريخ.. حجر على حجر وسردية على سردية
يقف باب توما اليوم شاهدًا حجريًّا على ما يزيد على ألفي عام من الصراعات والتجدد، كأنه فصل دائم في ملحمة دمشقية لا تنتهي؛ إذ تعود جذور الباب إلى العهد الروماني، حين شُيّد سور دمشق الأثري، مع أروقته وأبراجه وأبوابه السبعة الشهيرة، التي كانت بمنزلة نقاط حراسة وطقوس عبور بين قلب المدينة وطرق العالم، وقد حمل الباب يومها اسمًا يونانيًّا وثنيًّا، كما كانت عادة الرومان في تسمية بوابات المدن بأسماء آلهتهم، فكان باب توما الشرقي منفذًا للقوافل التي تأتي من البادية وبلاد الرافدين نحو الأسواق الرومانية الغنية، ودرعًا أمام غارات القبائل.
ومع دخول المسيحية وانتشارها في الشام، وتحديدًا في القرن الرابع الميلادي مع الإمبراطور قسطنطين، تحولت دمشق إلى مركز مسيحي مزدهر، وأعيدت تسمية البوابة تكريمًا للقديس توما الرسول، لتصبح رمزًا لقداسة المكان وموقعه في قلوب المؤمنين، ولتصير البوابة أيضًا ممرًّا للآلاف من الحجاج المسيحيين الذين يعبرون دمشق في طريقهم إلى القدس.
في العصر البيزنطي، احتفظ الباب بأهميته التجارية والعسكرية، فقد كان معبرًا رئيسيًّا للقوافل التجارية القادمة من الشرق حاملة التوابل والحرير والحبوب، وظل في الوقت ذاته بوابة للحي المسيحي المزدهر على أطراف المدينة، تتفرع منه الأزقة إلى كنائس وأديرة كانت أشبه بجزر هادئة في بحر من الحراك السياسي.
ومع دخول العرب المسلمين دمشق عام 14هـ/635م، شهد باب توما فصولًا دامية من القتال؛ فقد كانت هذه الجهة إحدى نقاط الاشتباك بين جيوش المسلمين والبيزنطيين، وبعد فتح دمشق أبقى الخلفاء الراشدون على الحي المسيحي وما فيه من كنائس من دون أي مساس بها، وصار باب توما مدخلًا للحي المسيحي الذي كان أهل الذمة يقيمون فيه بسلام تحت رعاية الدولة الإسلامية.
وفي العصر الأموي والعباسي، ظل الباب محتفظًا بمكانته بوابة إلى الأحياء المسيحية، ومعبرًا للقوافل التجارية، لكن مع انهيار الدولة العباسية وصعود الممالك الصغيرة، أصبح الباب مسرحًا لصراعات مستمرة، وتحول أحيانًا إلى ثغرة تتسلل منها جيوش الغزاة.
فالعصور الوسطى حملت لباب توما مشاهد من الرعب والتحدي؛ فقد شهد اجتياح التتار الذين دمروا المدينة ومزقوا أبوابها، ثم أعاد المماليك ترميمه مع بقية سور دمشق في القرن الثالث عشر الميلادي، فبُنِيت له أقواس حجرية جديدة وزُوِّد بأبراج دفاعية لتأمين المدينة من أي هجوم.
وفي العصر العثماني، استعاد الحي وبابه بريقهما القديم، فازدادت حركة التجارة وازدهرت صناعات دمشق التقليدية في أزقة الحي، وكانت قوافل الحجاج تمر عبر باب توما إلى طريق الحج الشامي، وصار الحي مقصدًا للبعثات الدبلوماسية الأوروبية والمستشرقين، بعض هؤلاء كتب عن جمال الحي وكنائسه وياسمينه وهدوئه البديع.
ومع دخول الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين، كان باب توما شاهدًا على مواجهة بين المقاومين السوريين وجنود الانتداب، وامتلأت جدرانه بصرخات الغضب وحجارة المتاريس.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظل حي باب توما محتفظًا بروحه الدمشقية رغم زحف الحداثة، كأن الباب يقاوم التحولات العمرانية العشوائية، متمسكًا بذاكرته، ومع اشتداد أحداث الثورة السورية أصبح الحي ملاذًا لآلاف النازحين والمشردين، وأعيد رسم ملامح سكانه، لكنه ظل رغم كل شيء محتفظًا بأناقته الكلاسيكية وهدوئه الغامض.
هكذا ظل باب توما، على امتداد قرون؛ مسرحًا لصراع الأمم على قلب دمشق، وحاضنًا لحكايات ناسها، وجسرًا بين أزمنة وحضارات، وكل حجر فيه وُضع على حجر قبله، وكل نقش كتب على نقش أقدم، حتى صار الباب نصًّا متراكبًا، يقرؤه العابرون بقلوبهم لا بعيونهم فحسب.
معالم الحي.. فسيفساء من قداسة وأناقة وهوية
يستيقظ حي باب توما كل صباح على وقع أجراس وأذان، على نسمات ياسمين تتسرب من خلف شبابيك خشبية مزخرفة، على عبق قهوة مسكوبة في بهو بيت دمشقي يطل على باحة مرصوفة بالرخام تتوسطها نافورة متعبة، فليس من حي في دمشق يجسد روح المدينة كما يفعل باب توما؛ فهنا تختلط القداسة بالبساطة، والفخامة بالعراقة، ويشعر الزائر أنه انتقل إلى زمن آخر، محفوظ في حجر وأصوات وظلال.
حي باب توما تحفة عمرانية بامتياز، ينتمي إلى المدرسة الدمشقية العريقة في البناء؛ بيوت حجرية عالية الأسوار، خلفها أفنية خضراء مزينة بأشجار النارنج والليمون، ونوافير ماء تزغرد في صمت شاعري، وأبواب خشبية ضخمة مزخرفة بنقوش تقليدية تروي فن الصناع، وشرفاته المعشبة تغازل الشمس، بينما تتدلى منها ورود الجوري والياسمين، فتمنح الحي رائحةً لا يشبهها شيء.
في قلب الحي يقف باب توما التاريخي، بوابته الحجرية العتيقة التي أعيد ترميمها في العصور المملوكية والعثمانية، لكنها ما زالت تحتفظ بملامحها الرومانية الأولى؛ قوس عال وأبراج جانبية ونقوش باهتة تذكّر بالمحاربين القدامى الذين مروا من تحته ذات حرب أو سلام.
ومن معالمه الخالدة كنيسة حنانيا، أقدم كنيسة في دمشق وربما في العالم، تحفة غارقة في البساطة والتاريخ، محفورة في ذاكرة المسيحيين والمسلمين على السواء، كونها شاهدة على قصة بولس الرسول وتحوّله إلى الإيمان، ويدخل الزائر إليها عبر بوابة متواضعة ليجد نفسه في فضاء روحي غامر، حيث يمتزج الدعاء بالدهشة.
أما كنيسة القديس بولس فهي نص آخر من نصوص الحي، ترتبط بأسطورة فرار بولس من دمشق محمولًا في سلة على أسوار المدينة، في واحدة من أشهر لحظات تاريخ المسيحية، والكنيسة صغيرة لكنها مكتظة بالرمزية والرهبة، كأنها سطر هامشي في إنجيل ضخم لا يتوقف عن الكتابة.
ولحي باب توما أسواقه التقليدية التي تصدح بالذاكرة؛ أقمشة دمشقية مزركشة بألوان الندى والنار، مشغولات يدوية من النحاس والصدف والموزاييك، تحف أثرية وحكايات بائعيها الذين يقصّون على الزوار قصصًا عن الأجداد والأسواق والأسعار أيام زمان، فهنا لا تشتري بضاعة فحسب، بل تشتري حكاية صغيرة ملفوفة بورق الحنين.
في الأزقة تصطف البيوت الدمشقية العريقة جنبًا إلى جنب؛ أبوابها خشبية عظيمة عليها مسامير برونزية وأقفال تحمل أسماء الصنّاع، وتدخل أحدها فتجد الفناء الداخلي غارقًا في الظلال والماء، وتسمع صوت الطيور يغرد من بين الأغصان، وتشعر أن الحجر هنا ليس جمادًا، بل ذاكرة حية تتنفس.
ولا يخلو الحي من المساجد الصغيرة والزوايا الروحية، تذكير بأن التعددية الدينية في دمشق ليست ترفًا بل قدر؛ إذ يلتقي المصلون والمصليات والمبتهلون عند زوايا الشوارع، وكل منهم يعرف أن الآخر شقيقه في حب المكان.
إن معالم باب توما ليست مجرد طوب وحجارة؛ هي نصوص مكتوبة بلغة الفن والقداسة والعراقة، وهي إذ تبدو ساكنة اليوم، فإنها ما زالت تحفظ في باطنها أصوات الأطفال الذين لعبوا في أزقتها، وضحكات العرسان الذين عبروا أبوابها، وصلوات العابرين الذين أوقدوا شموعًا في كنائسها، أو أسندوا ظهورهم إلى جدرانها الحجرية يستمعون لأصوات البلابل فجرا.
هنا، كل معلم هو شاهد وشهيد؛ شاهد على الجمال الذي كان، وشهيد للحرب التي مرت، وصامد لكل ما هو آت. فباب توما ليس مجرد حي دمشقي، إنه متحف مفتوح للروح.
الواقع الراهن والمعاناة
في هذه الأزقة التي طالما تنفست التاريخ، وأيقظت الحنين في قلوب العابرين، يعيش باب توما منذ أربعة عشر عاما على حافة الجرح؛ فالحي الذي كان يومًا مسرحًا للتعايش وموئلًا للجمال، صار في حاضرنا معلقًا بين نبض لا يريد أن يخبو وانكسار يوشك أن يغلبه؛ فالحرب التي عصفت بدمشق لم تترك حجارة باب توما بمنأى عن لهيبها، بل حفرت في جدرانه ندوبًا، وفي قلوب أهله قلقًا ثقيلًا لم يعتادوه.
غادر كثير من سكانه الأصليين بيوتهم، دفعهم خوف أمني أو ضيق اقتصادي أو جرح روحي، فأقفلت أبواب كانت يومًا عامرة بالحياة، وبقي الحي يتنفس ببطء، يشكو صمت أزقته وغياب وجوهه المألوفة، والبنية التحتية تركها الإهمال للظلام والرطوبة، فتشققت الحجارة، وخنقت المياه الآسنة بعض الأزقة، وتحولت نوافير الباحات إلى أوعية للغبار.
ومع موجة العولمة الجديدة، تسرب إلى الحي شكل من "التحولات التجارية" التي مسخت بعض معالمه الأصيلة؛ من مقاه تجارية مبتذلة تتزاحم على الأرصفة، إلى مطاعم تبيع الوهم السياحي بثمن الذكرى، ومحالّ تعرض بضائع لا تمتّ لروح دمشق ولا لذاكرة المكان بصلة، كأن الواجهة التاريخية للحي غدت غلافًا لتسويق الاستهلاك، بدل أن تبقى كتابًا مفتوحًا لقراءة الجمال.
تراجع روح باب توما القديمة أمام ضغط السياحة الاستهلاكية وضجيج الحياة الحديثة جعل أهله يتساءلون بخوف دفين: كيف نحفظ هويتنا؟ كيف نصون ما تبقى من الروح، فلا تتحول بيوتنا وكنائسنا وأسواقنا إلى ديكور؟ وفي عيون الدمشقيين هنا، ترى مزيجًا عجيبًا؛ حنينًا يطفو على ألم، وتعلقًا بالأرض يجاوره خوف من أن تضيع الهوية في زحام الغربة.
ومعاناة الحي لم تعد مادية فقط، فقد امتدت لتصبح تحديًا ثقافيًّا وروحيًّا وحضاريًّا، فهنا تدور أسئلة وجودية عميقة مثل: كيف يصون باب توما هويته الأصيلة في وجه العولمة التجارية التي تُفرغ المكان من معناه؟ وكيف تبقى الذاكرة الجماعية نابضة في حي يخشى أن يتحول إلى واجهة سياحية باردة بلا روح؟ وكيف تبقى فسيفساء التعايش الدمشقي صامدة أمام الانقسامات الاجتماعية والتغيرات السياسية؟ وكيف نعيد إعمار ما تهدم من بيوت وأزقة من دون أن نفقد أصالتها ودون أن نستبدل بالذاكرة الإسمنت؟
باب توما اليوم يقف كما وقف دائمًا؛ على تخوم التحدي، بين أن يكون ذاكرة حية تحفظ الشام في ذاكرتها الجماعية، أو أن ينزلق إلى أن يكون أثرًا بعد عين، يُلتقط في صور الزائرين ثم يُنسى.
إنه امتحان عسير لذلك المكان الذي علمنا أن الحجارة يمكن أن تكون روحًا، وأن الأزقة يمكن أن تكون صلاة، وأن الحي يمكن أن يكون قصيدة لا تموت.
حي باب توما يقول: إن المدن الحقيقية لا تُختزل في أسوارها العالية ولا في أسواقها الصاخبة، بل في تفاصيلها الصامتة؛ في الأزقة التي شهدت أولى خطوات الطفولة، وفي المقاعد الحجرية التي تحمل أسرار العشاق، وفي الساحات الصغيرة التي عرفت أفراح الأعراس ومواكب الجنازات معًا؛ فالمدن الحقيقية تسكن أرواح ناسها كما يسكنون هم جدرانها، وتعيش في ظلال نوافذها كما تعيش في قصور حكامها.
باب توما بكل ما يحمله من ندوب يثبت أن ذاكرة المكان وحدها من تحفظ الكيان، لا الحروب تمحوه، ولا الغربة تنزعه من وجدان ناسه، ولا التجارة تطمس معناه، فهو ذاكرة المدينة، وحارسها الأمين، ومعلمها الأول أن الحجر إن فارقته الروح صار قبرًا، وإن سكنته الحكايات صار قصيدة.
يظل باب توما معلقًا بين صمته وصخبه، بين ماضيه وحاضره، بين جرحه وأمله، كأنه قلب دمشق ذاتها؛ حجارة على حجارة، وذكرى فوق ذكرى، ونبض يصرّ على أن يبقى.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
تهافت الغزيين على التكايا الخيرية في ظل تفاقم المجاعة
يعتمد سكان قطاع غزة على التكايا الخيرية التي تقدم القليل من الطعام، بعد أن توقف معظمها في ظل الحصار الإسرائيلي المطبق وانتهاج إسرائيل سياسة التجويع سلاحا في خضم حربها على القطاع. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
بين نهاية العباسي وأواخر العثماني.. دهاليز تظهر أثناء حفر شارع الرشيد وسط بغداد
بغداد – كشفت الحفريات في شارع الرشيد التراثي وسط بغداد عن أقبية وسراديب قديمة تحت الأرض، تعود مجموعة منها إلى أواخر العصر العباسي وأخرى إلى العهد العثماني، وذلك أثناء عملية إعادة تأهيل الشارع لاستعادة رونقه التراثي. وقد اكتشفت هذه الأقبية عند مدخل الشارع، خاصة قرب ساحة الميدان ومباني السراي القديم والمباني والمقاهي القديمة. وبيّن الباحثون أن تلك الأقبية هي امتداد بين العصر العباسي والعهد العثماني، اندثرت مع مرور الزمن لكنها ظهرت خلال الحفريات وعمليات ترميم وتأهيل الشارع المستمرة حتى الآن. ويمتد شارع الرشيد، وهو أقدم شوارع بغداد، من منطقة الميدان قرب باب المعظم وحتى منطقة الباب الشرقي، مرورا بشارع المتنبي العريق وبساحة الرصافي والسوق العربي وساحة حافظ القاضي وحتى مبنى نقابة الفنانين التراثي. ويعتبر من أهم معالم المدينة بسبب تاريخه السياسي والروحي والثقافي. وكان يعرف خلال العهد العثماني باسم شارع (خليل باشا جاده سي)، نسبة إلى خليل باشا، حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني، الذي قام بتوسيع وشق الطريق وجعله شارعا باسمه عام 1916، وذلك لأسباب حربية ولتسهيل حركة وحدات الجيش العثماني وعرباته وآلياته وأرزاق الجنود. وخلال عمليات الحفر ظهرت تلك الأقبية للعيان، حتى ظن الأهالي أنها مدن كاملة تحت الأرض، لكن تبين فيما بعد أنها أقبية وسراديب عميقة بنيت منذ مئات السنين، لكنها اندثرت بفعل عوامل البيئة، وكانت تستخدم لأغراض شتى آنذاك. بيوت قبل شق الشارع وفي هذا الصدد، يؤكد مدير صيانة الآثار في وزارة الثقافة العراقية، محمد البياتي، للجزيرة نت أن غالب أحياء بغداد القديمة تقع فوق أحياء أقدم منها، خاصة أن تلك المنطقة، وهي شارع الرشيد، تعرضت إلى عمليات هدم للبيوت قبل شق الشارع مطلع القرن الـ20. إعلان لذلك، هناك بقايا لدهاليز تحت الأرض تعود إلى البيوت القديمة، مبينا أن هناك تراثا مشابها تحت المطعم التركي في منطقة الباب الشرقي (باب كلواذا سابقا)، نهاية شارع الرشيد وسط العاصمة. عمر وتاريخ الأقبية ويبين الخبير في الشأن التراثي، ياسر العبيدي، أن تلك الأقبية التي ظهرت تحت شارع الرشيد أثناء عمليات الحفر والتأهيل بينت وجود أكثر من سرداب، حيث يقدر العمر التاريخي لهذه الأقبية بما بين العصر العباسي المتأخر والعهد العثماني. وقد شيدت البيوت هناك بعد عودة الحكم العباسي من سامراء إلى بغداد، مبينا أن بغداد المدورة تقع في جانب الكرخ، ولم تسكن الرصافة إلا في عهد الخليفة المهدي بن الخليفة أبو جعفر المنصور، حيث اتخذ جانب الرصافة مقرا للجند. ويقول العبيدي للجزيرة نت إن تلك المنطقة المحصورة بين باب المعظم والباب الشرقي كانت مناطق سكنية، ومرت في تلك الحقب من التاريخ بعهد السلاجقة والبويهين، وشيدت فيها عدة أسوار وأبواب، منها باب المراتب وباب الآغا وباب بدر، وكانت تلك الأبواب موجودة قبل شق شارع الرشيد. لكن آخر والي عثماني، وهو خليل باشا، أمر بشق الشارع في 23 يوليو/تموز 1916 لأغراض عسكرية، خاصة أن مقر الدولة العثمانية كان قريبا من الشارع. ويوضح العبيدي أن الوالي العثماني أزال قسما من البيوت القريبة من مقر الحكومة لشق الشارع، ودفع تعويضات مالية لأصحاب تلك المنازل، خاصة أن هناك بيوتا تعود إلى نهاية الدولة العباسية وحتى الدولة العثمانية المتأخرة. فوائد السراديب وعن أسباب إنشاء تلك السراديب في ذلك الحين، يبين العبيدي أن الأجواء العراقية كانت حارة جدا صيفا، لذلك كان الأهالي يتخذون السراديب للنوم فيها كونها تكون باردة، إذ لم تكن في ذلك الحين وسائل تبريد أو تكييف، ولا حتى مراوح أو كهرباء. وكانت هناك فتحات تسمى (باكير)، وهي عبارة عن فتحات واسعة من الأسفل وضيقة من الأعلى عند سطح الدار، لدخول الهواء البارد إلى السراديب. كما كانت تستخدم هذه السراديب لتخزين المونة للحفاظ عليها من التلف أو التعفن، مشيرا إلى وجود سراديب سرية للاختباء فيها من مطاردات السلطة أو المشاكل الاجتماعية. بغداد القديمة وعن وجود مدن قديمة وسط بغداد اندثرت بفعل عوامل البيئة والزمن، يؤكد الباحث في شؤون التراث البغدادي، ستار الجودة، أن جميع المصادر التاريخية تشير إلى أن بغداد العباسية، وخاصة في جانب الرصافة منها والمنطقة المحصورة بين شارع النهر وحتى باب المعظم، هي بغداد القديمة، وتحتها سراديب. أما المنطقة التي ظهرت فيها تلك السراديب حاليا تحت شارع الرشيد، فهي متنفس للسراديب، بشهادة أهل المنطقة الذين عاصر أجدادهم تلك الحقب. ويقول الجودة للجزيرة نت إن تلك المنطقة كانت فيما سبق تضم بيوتا قبل إنشاء الشارع أو شقه، وتعود إلى بناء أو تشييد منطقة الرصافة من بغداد التي شيدها الخليفة المهدي العباسي. جدير بالذكر أن مديرية بلدية مدينة الكاظمية شمالي بغداد، وخلال تأهيلها شوارع منطقة الكاظمية في جانب الكرخ عام 2023، كشفت عددا كبيرا من السراديب الممتدة على طول شارع الإمامين الجوادين وحتى ساحة نصب الشاعر عبد المحسن الكاظمي، الأمر الذي يؤكد شيوع السراديب في مناطق بغداد القديمة. بغداد تنقسم إلى شطرين: الكرخ والرصافة، ويشقها نهر دجلة.


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
صور صادمة من سماء غزة
أظهرت صور جوية حديثة دمارا واسعا عمّ مناطق متفرقة من قطاع غزة ، بعد أشهر من القصف المكثف. وتُظهر المشاهد التي التُقطت من طائرات تحلق على ارتفاعات متوسطة حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، واختفاء الأحياء السكنية، وتحولها إلى أنقاض ممتدة من دون فواصل واضحة بين الأبنية والطرقات. وتوثّق الصور تحول مناطق سكنية كبيرة إلى أراض مدمرة بالكامل، خاصة في شمال القطاع ووسطه، حيث لم تعد المباني قائمة، وتراكمت الكتل الخرسانية والركام فوق الشوارع الرئيسية والفرعية، بينما بدت بعض المناطق كأنها أُزيلت من الخريطة بشكل كامل. وأظهرت لقطات جوية مقابر جديدة حفرت وسط الأحياء وبين الخيام، بعضها داخل مناطق الدمار، وأخرى على أطراف الطرق، في مؤشر على ارتفاع عدد الضحايا وصعوبة الوصول إلى مقابر رسمية. وبدت بعض القبور محفورة يدويّا، في حين انتشرت شواهد بسيطة على أطرافها، وسط بيئة يغلب عليها الغبار والركام. وتُظهر الصور أيضا الدمار في مناطق كانت مأهولة بالسكان، وسط غياب شبه تام للخدمات الأساسية. وبدا واضحا أن كثيرا من الخيام أُقيمت على أنقاض منازل، أو في مساحات مدمرة بالكامل، من دون بنى تحتية، أو مصادر للمياه والكهرباء. وتقدّر جهات هندسية حجم الركام الناتج عن القصف بأكثر من 45 مليون طن، وهو ما يتطلب سنوات من العمل لإزالته إن توفرت المعدات والمواد اللازمة، في ظل الحصار المستمر وصعوبة دخول الآليات الثقيلة إلى داخل القطاع. ويُشير تحليل الصور إلى تضرر ما يزيد على 70% من المباني في القطاع، سواء بشكل جزئي أو كلي، بينما وثّقت لقطات جوية أخرى مناطق لم تعد تظهر فيها ملامح الحياة، مع غياب تام للحركة، باستثناء بعض الأفراد الذين ظهروا وهم يبحثون بين الأنقاض أو يتجمعون حول مساعدات ألقتها الطائرات. وتُظهر بعض المقاطع إلقاء مساعدات غذائية من الجو، تسقط فوق مناطق مكشوفة قرب الساحل، حيث حاول سكان الوصول إليها رغم محدوديتها وصعوبة تأمينها. وتفيد تقديرات بأن كميات المساعدات التي دخلت إلى غزة عبر الإنزال الجوي لا تغطي سوى احتياجات أيام معدودة، في ظل أزمة إنسانية غير مسبوقة. وتأتي هذه الصور في وقت ما تزال فيه فرق الإنقاذ عاجزة عن الوصول إلى مئات المواقع التي يُعتقد أن تحت أنقاضها ضحايا لم ينتشلوا. وتشير بيانات محلية إلى أن عدد القتلى تجاوز 60 ألفا، بينهم آلاف الأطفال والنساء، في حين بقيت آلاف العائلات بلا مأوى. ويمنع استمرار العمليات العسكرية والقيود المفروضة على الحركة في القطاع وصول وسائل الإعلام والمراقبين الدوليين إلى مواقع الاستهداف، مما يجعل الصور الجوية إحدى الوسائل النادرة لرصد حجم الكارثة على الأرض. إعلان وتحذر منظمات دولية من أن استمرار تعذّر الوصول إلى المناطق المنكوبة، وتأخر رفع الأنقاض، يهدد بحدوث أزمات صحية وبيئية، في وقت يفتقر فيه القطاع إلى مقومات الإغاثة السريعة، ويعيش معظم سكانه تحت خط الفقر وانعدام الأمن الغذائي.