
ناربون: من هنا دخل العرب فرنسا ومن هنا خرجوا
من أكثر الفتوحات الإسلامية نسيانًا فتحُ ناربون، الذي كان آخر الفتوحات في الجناح الغربي للدولة الإسلامية. فماذا تعرفون عن هذه المدينة؟ وكيف بدأت حكاية المسلمين معها؟ وكيف انتهت؟
أُرْبونة -كما سماها العرب، وهي باللاتينية ناربون (Narbonne)- مدينة تقع على الساحل الفرنسي الجنوبي، كانت في العصور القديمة أحد الموانئ التجارية الهامة بين موانئ أوروبا المتوسطية، وكانت أول مستعمرة لروما في غالة (فرنسا)، وأحد مراكزها التجارية الشهيرة منذ 121ق.م، ثم كانت في القرن الأول الميلادي أعظم مدائن غالة، وأهم الثغور التي تصدِّر منها غلاتها إلى إيطاليا وإسبانيا، وكانت تنافس مرسيليا في أهميتها التجارية.
وصفها سيدونيوس أبلينارس، في القرن الخامس، فذكر أن "فيها أسوارًا، وطرقًا للتنزه، وحاناتٍ، وعقودًا وأروقةً ذات عمد، وسوقًا عامة، وملهى، وهياكل، وحمامات، وأسواقًا للبيع والشراء، ومراعيَ، وبحيرات، وقنطرة، وبحرًا".
في سنة 439م احتلها القوط وضموها لدولتهم، التي شملت في بدايتها جنوبي فرنسا ومعظم إسبانيا. وفي511م جعلوها حاضرتهم، بعد أن هزمهم كلوفيس، ملك الفرنج، وأحرق عاصمتهم تولوز.
وفي سنة 532م نقل القوط عاصمتهم إلى طليطلة، وسط إسبانيا، لكن ناربون ظلت تابعة لهم. وطبقًا للتقسيم الإداري الروماني والقوطي، كانت ناربون تابعة لإسبانيا.
إعلان
وعندما فتح المسلمون الأندلس سنة 92هـ، كانت ناربون لا تزال عاصمة لسبتمانيا، وكانت أغنى المدن بجنوبي فرنسا وأمنعها، وكانت القاعدة المتقدمة لسبتمانيا، فكان المسلمون إذا عبروا جبال البرتات، نحو الشمال، تكون ناربون أول ما يستقبلهم.
تحرك السمح لمواصلة الفتوحات، فافتتح جميع قواعد سبتمانيا، وعلى رأسها مدينة قرقشونة المنيعة، وغدت هذه المنطقة كلها تابعة لقاعدة ناربون الإسلامية
الفتح الإسلامي لناربون
خضعت ناربون للإسلام بعد فتح الأندلس مباشرة، لكن أهلها نزعوا يد الطاعة سنة 97هـ بعد مقتل عبدالعزيز بن موسى، الوالي الأول للأندلس، فأعاد المسلمون فتحها في رمضان سنة 102هـ على يد السمح بن مالك الخولاني، أمير الأندلس.
وبعد فتحها عمل السمح على تحصينها، وشحنها بالمؤن، وجعلها قاعدة عسكرية للمسلمين بالأندلس، خلف جبال البرتات، لمواصلة فتوحاتهم في أوروبا، وذلك لحصانتها وأهمية موقعها بالقرب من ساحل الأندلس الشرقي، وبالتالي سهولة وصول الإمدادات إليها من جهة البحر، ولأنها كانت ملائمة لسكنى العرب، لأن مناخها كان شبيهًا بمناخ المدن الشامية، كما قام السمح بتوزيع الأراضي المحيطة بناربون، بين المسلمين والسكان المحليين، وترك للنصارى حرية الاحتكام إلى شرائعهم وقوانينهم.
وبعد ذلك، تحرك السمح لمواصلة الفتوحات، فافتتح جميع قواعد سبتمانيا، وعلى رأسها مدينة قرقشونة المنيعة، وغدت هذه المنطقة كلها تابعة لقاعدة ناربون الإسلامية، التي كانت ولاية ثغرية تابعة للأندلس وراء جبال البرتات، وعرفت في المصادر الأندلسية، باسم: "ولاية أربونة"، "ثغر أربونة"، "ولاية الثغر"، "رباط الثغر"، وكان حاكمها يتبع والي الأندلس مباشرة، وسكنتها جماعات عربية من بجيلة وغافق ولخم. ومن هذه القاعدة حكم المسلمون نواحي واسعة من جنوبي فرنسا وحوض الرون.
قاعدة ناربون بين المد والجزر
وبالرغم من مقتل السمح في معركة تولوز، جنوبي غربي فرنسا، في يوم عرفة سنة 102هـ، فإن المسلمين احتفظوا بقاعدة ناربون، لتشهد بعدها المد الإسلامي القوي خلال ولاية عنبسة الكلبي للأندلس، وفتحه جنوبي شرقي فرنسا وتوغله إلى سانس، على مسافة 30 ميلًا من باريس، قبل استشهاده في شعبان (107هـ). كما شهدت أقصى امتداد لها في ولاية الغافقي، الذي افتتح النصف الجنوبي من فرنسا كله، قبل استشهاده في معركة بلاط الشهداء في رمضان (114هـ).
ورغم ذلك، فقد ظل الوجود الإسلامي في ناربون قائمًا، واستمر لمدة ثلاثين عامًا بعدها، رغم الهجمة العنيفة عليها سنة 120هـ من قبل شارل مارتل، رئيس بلاط مملكة الفرنجة.
وخلال هذه الفترة كانت ولاية عقبة بن الحجاج على الأندلس، فاتخذ ناربون مقرًا له، وأسكن بها جماعة جديدة من المسلمين، وحاول إقامة الرباطات لحمايتها على نهر الرون، ولكن ثورة البربر بالمغرب أجبرته على العودة إلى قرطبة، قبل استكمال مشروعه.
استغل شارل هذه الفرصة وزحف على ناربون للمرة الثانية سنة 122هــ، ونجح في خضد شوكة المسلمين في جنوبي فرنسا، عدا ناربون؛ فقد استعصت عليه، وأحبطت حاميتها المسلمة كل محاولاته لاقتحامها، وأجبرته على الانسحاب والعودة خائبًا إلى الشمال، وقد مات شارل سنة 123هـ، وناربون ثغرة في إمبراطوريته الواسعة.
سقوط قاعدة ناربون
وبعد وفاة شارل، استمرت هذه القاعدة الإسلامية الصغيرة والمنعزلة تناطح إمبراطوريته القوية، لمدة 18عامًا، وذلك في عهد ابنه ببين القصير، أول الملوك الكارولنجيين، ولم تسقط بيده إلا بعد أن عصفت الفتن بالمسلمين في الأندلس، وتورط عبدالرحمن بن علقمة -حاكم ناربون- في تلك الفتن، التي أحرقت المسلمين وناربون والأندلس، في الثلث الأخير من عصر الولاة (123-138هـ).
وسقطت ناربون سنة 142هـ، نتيجة لخطة ماكرة دبرت بليل بين ببين ملك الفرنج، وبين أهلها القوط، فقد انقضت جماعات من هؤلاء الأهالي على حراس بواباتها المسلمين وذبحوهم، وفتحوها للفرنجة، فدخل هؤلاء وأحرقوا مسجد ناربون الجامع، وقتلوا وأسروا بقية الحامية، بعد سنوات من الدفاع المستميت.
وكان سقوط قاعدة ناربون إيذانًا بانهيار سيادة الإسلام في فرنسا، بل وفي شمال الأندلس ذاتها، ولم تفلح كل غزوات الأمراء الأمويين والحاجب المنصور، بعد ذلك، في إعادة بسط سيادة الإسلام على تلك المناطق كما كان الحال قبل سقوط ناربون، وكل ما فعلته تلك الحملات هو إعاقة تقدم النصارى نجو الجنوب، إلى حين.
ومن هنا، ندرك أن قاعدة ناربون كانت للأندلس كالدرع الحصين، فلما زالت، صارت الأندلس مهددة من الداخل من قبل نصارى الشمال، ومن الخارج من قبل الفرنجة، وصارت تُقضم من أطرافها.
يرى بعض المستشرقين أن القدرة العسكرية والبشرية للمسلمين على تحويل غزواتهم لفرنسا إلى فتوحات مستقرة كانت غير كافية؛ وأن الطول الخطر لخطوط مواصلاتهم البرية، ما بين قواعدهم بالأندلس والمغرب وبين فرنسا، حال دون وضع خطة متكاملة للفتوح
أسباب سقوط قاعدة ناربون
أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط قاعدة ناربون هي: الفتن التي اضطرمت بين المسلمين في المغرب والأندلس – كفتنة العرب والبربر، وفتنة الشاميين والبلديين، وفتنة اليمانية والقحطانية- وبالتالي انقطاع المدد تمامًا عن حامية ناربون، وبُعد ناربون عن مركز الدولة الأموية بدمشق، بل حتى عن المغرب والأندلس، وقلة أعداد المسلمين في فرنسا بل في الأندلس ذاتها، والكمائن التي كانت تنصبها لهم قبائل البشكنس الشرسة، أثناء عبورهم بأثقالهم لممرات جبال البرتات الخطرة والضيقة.
ويرى بعض المؤرخين أن عدم استقرار المسلمين في جنوبي فرنسا يرجع إلى أنهم كانوا يتوغلون في قلب أوروبا الغربية، حيث الشعوب الجرمانية البدائية، التي كانت متراصة ويلي بعضها بعضًا، وأن الفرنجة -حكّام فرنسا- كانوا يمرون بفترة نهوض تولاه آل "شارل مارتل" (الكارولنجيون)، وكان لا بد من حملات ضخمة لافتتاح هذه النواحي، ولكن ظروف المسلمين في الأندلس لم تكن تسمح لهم بذلك.
ويرى بعض المستشرقين أن القدرة العسكرية والبشرية للمسلمين على تحويل غزواتهم لفرنسا إلى فتوحات مستقرة كانت غير كافية؛ وأن الطول الخطر لخطوط مواصلاتهم البرية، ما بين قواعدهم بالأندلس والمغرب وبين فرنسا، حال دون وضع خطة متكاملة للفتوح، فتُرك هذا التوسع -بالتالي- لمبادرات الجماعات الصغيرة، التي كانت تنقصها التعزيزات للاحتفاظ بالأراضي المفتوحة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 13 دقائق
- الجزيرة
إدارة ترامب تحجب مجددا تمويلا عن هارفارد بسبب دعم فلسطين
أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حجبا جديدا قدره نحو 60 مليون دولار من التمويل الفيدرالي ل جامعة هارفارد بسبب ما اعتبرته تقاعسا منها عن اتخاذ إجراءات كافية ضد المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين. وفي منشور على منصة إكس، اليوم الثلاثاء، أفادت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية بأنها ستحجب تمويلا فدراليا كان مخصصا لجامعة هارفارد بقيمة نحو 60 مليون دولار "لحماية الحقوق المدنية في التعليم العالي". وزعمت الوزارة أن جامعة هارفارد التي برزت بين الجامعات التي شهدت مظاهرات داعمة لفلسطين "فشلت في التعامل مع المواقف المعادية للسامية والتمييز القائم على أساس العرق". وجمدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو أنهت منحا وعقودا فدرالية للجامعة بقيمة تقرب من 3 مليارات دولار خلال الأسابيع الأخيرة. وتستخدم الإدارة الأميركية التخفيضات المالية والتحقيقات في الجامعات للضغط على إداراتها لمنع المظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين. وسبق لإدارة ترامب أن هددت بتجميد التمويل الفدرالي لعدد من الجامعات، بينها هارفارد، مستندة في ذلك إلى احتجاجات طلابية متضامنة مع فلسطين داخل الحرم الجامعي. ومطلع مايو/ أيار الجاري، أعلنت وزارة التعليم الأميركية أنها لن تمنح جامعة هارفارد أي تمويل فدرالي جديد إلى حين تلبية الأخيرة مطالب البيت الأبيض، في إشارة إلى منع المظاهرات الداعمة لفلسطين. وفي وقت سابق، أعلن البيت الأبيض فتح تحقيق للتأكد من أن المنح التي تتجاوز قيمتها 8.7 مليارات دولار التي تتلقاها جامعة هارفارد من مؤسسات مختلفة تُستخدم بما يتوافق مع قوانين الحقوق المدنية. وفي مواجهة هذا التهديد الفدرالي، قالت جامعة هارفارد إنها "لا تستطيع تحمل التكلفة الكاملة" للمنح المجمدة، وإنها تعمل مع الباحثين لمساعدتهم في العثور على تمويل بديل. كما قامت بمقاضاة إدارة ترامب بسبب قرارها بقطع المنح. وفي أبريل/ نيسان 2024، اندلعت احتجاجات داعمة لفلسطين بدأت بجامعة كولومبيا الأميركية وتمددت إلى أكثر من 50 جامعة في البلاد، واحتجزت الشرطة أكثر من 3 آلاف شخص، معظمهم من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.


يورو نيوز
منذ 13 دقائق
- يورو نيوز
وزير الدفاع الإسرائيلي: الشاباك أحبط محاولة إيرانية لاستهدافي
الصحفيون يعملون على تحرير هذه القصة، سيتم التحديث بأسرع وقت بالمزيد من المعلومات فور ورودها


العرب القطرية
منذ 15 دقائق
- العرب القطرية
محافظ مصرف قطر المركزي يؤكد لـ قنا: منتدى قطر الاقتصادي منصة محورية لرسم الاستراتيجيات والرؤى المستقبلية
قنا أشاد سعادة الشيخ بندر بن محمد بن سعود آل ثاني، محافظ مصرف قطر المركزي رئيس مجلس إدارة جهاز قطر للاستثمار، بأهمية منتدى قطر الاقتصادي، باعتباره منصة محورية تجمع صناع القرار والخبراء لتبادل الرؤى حول التحديات الاقتصادية ورسم الاستراتيجيات، التي من شأنها أن تساهم في تحقيق الاستقرار المالي والنمو المستدام. وأوضح سعادته في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/ أن المنتدى يشكل فرصة مهمة لتسليط الضوء على المشاريع الرائدة التي أعلن عنها مصرف قطر المركزي في مجالات الابتكار المالي والحوكمة الرقمية، ضمن جهوده المستمرة لتعزيز تنافسية دولة قطر إقليميا وعالميا كمركز مالي رقمي، إضافة إلى المساهمة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والنوعية نحو القطاع المصرفي وقطاع التكنولوجيا المالية. وأكد على أن المنتدى يعكس المكانة الاستراتيجية والموثوقية التي تحظى بها دولة قطر على الصعيد العالمي، نظرا لما تتمتع به الدولة من مقومات مميزة، في ظل مواصلة العمل على تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030، وتنفيذ أهداف استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة 2024 - 2030. وأضاف سعادة محافظ مصرف قطر المركزي في تصريحه لـ/قنا/، أن مصرف قطر المركزي استطاع خلال الدورات الأربع السابقة للمنتدى أن يقدم رؤية واضحة وشاملة عن الاقتصاد القطري، لاسيما فيما يتعلق بالسياسات النقدية وقدرة المصرف المركزي على إدارة تلك السياسات، حيث نجح في السيطرة على التضخم، لتكون قطر من بين الدول الأقل في نسبة التضخم، مع تحقيق نمو اقتصادي إيجابي، إضافة إلى التقدم الملموس في مجالات التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي، مما حظي بالإشادة من قبل المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي. وأشار سعادته إلى أن المنتدى يشكل فرصة للتشاور مع كبار المسؤولين حول القضايا المالية والتوجهات الاقتصادية، واستكشاف سبل التعاون لمواجهة التحديات التي تواجه الأسواق العالمية.