
سيرة سينمائية للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا
في الرابع من يونيو (حزيران )من عام 1994، وبعد ما يقارب 12 ساعة من انتهاء تصوير فيلم "ساعي بريد نيرودا" توفي الممثل ماسيمو ترويزي، بعد أن زرع جزيرة "إيسلا نيغرا" طولاً وعرضاً على دراجته وهو يوصل بريد الشاعر بابلو نيرودا، مجسداً شخصية ساعي البريد ماريو خيمينث في دور لن ينسى، ومات ولم يتجاوز الـ41 سنة. كل من شاهد الفيلم أو سيشاهده سيعرف كم بذل من قلبه فيه حتى خلص إلى أداء استثنائي كهذا!. لقد أتعب قلبه المتعب أصلاً، هو الذي كان بحاجة ماسة إلى جراحة، إلا أنه أجّلها لحين فروغه من الفيلم.
من الفيلم الشهير "ساعي بريد نيرودا" (ملف الفيلم)
أجدني أبدأ مع ترويزي، كمفتتح لدخول عوالم الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا سينمائياً الذي توفي الثلاثاء الماضي على شيء من مزج الواقعي بالروائي بالسينمائي، في محاكاة ربما لمقدمة سكارميتا لرواية "ساعي بريد نيرودا"، وهو يربطها بواقعه ومسيرته الأدبية، مستعيداً الفترة التي كان فيها محرراً ثقافياً في صحيفة من الدرجة الخامسة، يحلم وهو يعمل في مكاتبها الرطبة بأن يصبح كاتباً، ويؤلف روايات لا يلبث أن يتخلى عنها في منتصف الطريق. حينها كلّفه مديره مهمة تتطلب منه "مداهمة السلام الساحلي للشاعر بابلو نيرودا" في جزيرة "إيسلا نيغرا"، وإجراء لقاء معه يتناول فيه "الجغرافيا الغرامية للشاعر"، والحصول منه، كطموح شخصي، على تقديم لمخطوط رواية يعمل عليها، لكن نيرودا شتت شمل تلك الجغرافيا الغرامية بالقول إن "حبه الكبير الوحيد هو زوجته الحالية ماتيلدي أوروتيا"، وأجاب طلبه بكتابة المقدمة "بسخرية تستحقها فعلاً وقاحتي في الطلب منه كتابة مقدمة لكتاب لا يزال غير موجود وهو يدفعني نحو الباب"، قائلاً "سأكتب لك المقدمة بكل سرور ولكن عندما تنتهي من تأليف الكتاب". كتب سكارميتا روايته "ساعي بريد نيرودا" بعد 14 عاماً على ذلك اللقاء، من دون أن تمت بصلة للرواية التي طلب من نيرودا تقديمها، لكن ثمة تشابهاً بينه وبين ماريو خيمينث، أو من أهداهم الرواية، أي منتحلي أشعار نيرودا البائسين!.
عليّ القول قبل المضي في استعراض الأفلام الثلاثة التي اقتبست من "ساعي بريد نيرودا" إن آخر فيلم منها الذي أنتجته "نتفليكس"، وجاء بعنوان "صبر متأجج" Ardiente Paciencia (2022) لا يستحق العناء، فهو مجرد فيلم تلفزيوني سطحي، أكتفي باختزال تقديمه بعبارة من قبيل "نيرودا يجمع رأسين بالحلال" أو أي شيء يحيل إلى الابتذال.
غواية سينمائية
الرواية بالعربية (نيل وفرات)
تحتكم "ساعي بريد نيرودا" على غواية سينمائية بلا أدنى شك، والقصة قائمة على ثلاثة أقانيم هي الشعر والحب والعدالة، وهي قادرة تماماً أن تكون كوميدية وتراجيدية، رومانسية وسياسية، خيالية وواقعية، في آن معاً، كما أنها مختبر عظيم لشعر بابلو نيرودا وهو يوضع في كل تلك السياقات، فساعي البريد لا يريد فقط أن يتعلم كتابة الشعر ويكسب قلب بياتريس، بل هو منحاز لكل ما يمثله نيرودا من قيم ومطامح وتطلعات سياسية بوصف ماريو بروليتاري، فقير ومضطهد ومهمّش، بالتالي يؤمن بنضالات الحزب الشيوعي التشيلي وسلفادور الليندي، وليقدم سكارميتا كل ذلك من دون أي نتوءات أو شعارات أو انحرافات أو إملاءات من خارج الحبكة، بل في سياق قصة حب ماريو لبياتريس أولاً وأخيراً، مضافة إليه علاقة الأول بنيرودا، بالتالي الشعر وهو يظهر في الفيلم متجسداً، بينما تجد الاستعارات مرادفاتها في المكان والحياة، وتمسي عاملاً درامياً في تطور الشخصيات ومصائرها.
سكارميتا مخرجاً
مع رواية "ساعي بريد نيرودا" التي صدرت طبعتها الأولى بعنوان "صبر متأجج" Ardiente Paciencia، اقترف سكارميتا فعلاً شديد الجرأة سينمائياً، ألا وهو أن يخرج فيلماً معتمداً على رواية من تأليفه، فيا لها من شجاعة!. فكما هو متعارف عليه، أو مختبر ممن هو روائي ومهووس بالسينما، فإن إقدام روائي على كتابة سيناريو مستمد من رواية من تأليفه أمر شديد التعقيد والصعوبة، وغالباً ما يتجنبه الروائي، فكيف بروائي يخرج فيلماً مأخوذاً عن روايته!.
رواية أخرى بالعربية (نيل وفرات)
فيلم سكارميتا يعود بنا لعام 1985، ويصلح أن يكون مختبراً لما أوردته عن المصاعب التي تواجه الروائي في نقل روايته إلى الشاشة الكبيرة، ولعل أول ما سيطالعنا في الفيلم أن سكارميتا يَفترض معرفة المشاهد للشخصية كما يعرفها هو، فهو لا يؤسس لشخصية ماريو، ولا لملابسات وجود بابلو نيرودا في جزيرة "إيسلا نيغرا"، بل يضعنا ومن اللقطة الأولى حيال ماريو ممتطياً دارجته في طريقه إلى مسكن نيرودا، ويمضي قدماً بنسج العلاقة بينهما، أي ساعي البريد أو الصياد السابق الذي تخلى عن الصيد ليعمل موصلاً لبريد الشاعر الكبير، وليتواصل سرد الفيلم في تنقلات سريعة في أحداث الرواية، حب ماريو لبياتريس من النظرة الأولى، ترشح نيرودا للرئاسة، ونحو ذلك مما يدفع إلى الشعور بأننا حيال اختزال سينمائي أكثر من كونها معالجة سينمائية للرواية، لكن هذا يتغير على نحو لافت مع زواج ماريو من بياتريس، فيمسي إيقاع الفيلم متناغماً، وزمن اللقطات مضبوطاً، وكذلك تنويعاتها، وصولاً إلى أداء الممثلين، سواء أوسكار كاسترو مقدّماً شخصية ماريو أو روبرتو بارادا مجسداً نيرودا، وخروجهما عن الرتابة التي تهيمن على أدائهما في نصف الفيلم الأول، كما لو أن ابتعادهما من بعضهما وتواصلهما عن بعد، حررا الفيلم من الحوار، ووضعانا حيال جمالية بصرية مع تغير حياة ماريو مع ما سيشهده من ولادة ابنه بابلو، والانعطافات السياسية التي ستشهدها تشيلي مع مقتل سلفادور الليندي.
ساعي البريد الإيطالي
مع فيلم "ساعي البريد" Il Postino ستخلَّد رواية سكارميتا سينمائياً (فاز بأوسكار أفضل ممثل في دور رئيس لماسيمو ترويزي وقد منحت له على رغم وفاته وأفضل موسيقى مع ترشيحه لأوسكارات أفضل فيلم وإخراج وسيناريو مقتبس)، وتتحول إلى تحفة سينمائية، على يد المخرج الإنجليزي مايكل رادفورد الذي عُرف حينها بفيلمه "1984" عن رواية أورويل الشهيرة. سيأخذ رادفورد رواية سكارميتا إلى إيطاليا، إلى جزر صقلية ونابولي، وبفعله ذلك سيضع الفيلم في سياق السينما الإيطالية، وهذا هو بحق فضاء الرواية الحيوي، وهكذا سيكون ماريو أشبه بأنطونيو في فيلم فيتوري دي سيكا "سارق الدراجة" (1948)، لا بل إنني حين شاهدت أداء ترويزي أحسست أنه مثل لامبرتو ماجوراني في فيلم دي سيكا يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، كما كان متبعاً في كاستينغ الواقعية الإيطالية الجديدة، ولتشكّل الدراجة عنصراً درامياً في كلا الفيلمين، وليظهر إلى جانب ترويزي الممثل الفرنسي العظيم فيليب نواريه، من جسّد شخصية ألفريدو في "سينما باراديسو" (1988)، ولعل الرسالة الصوتية التي يرسلها ماريو إلى نيرودا وهو يسجل له أصوات الجزيرة من أمواج البحر وشبكات الصيادين، نجد لها شبيهاً في فيلم جوزيبه تورناتوري، أي كل اللقطات التي كان يحذفها قسيس القرية من الأفلام، فإذا بألفريدو محتفظ بها جميعاً كهدية يتركها لسلفادوري بعد وفاته.
مسرحية وروايتان
بعد التجربة الإخراجية اليتيمة لسكارميتا، فإنه على ما يبدو اكتفى بها، حتى إنه لم يكتب للسينما مباشرة، بما في ذلك فيلم بابلو لارين "لا" No (2012)، المقتبس من مسرحية له لم تنشر ولم تقدم على الخشبة، وعالجها الكاتب بيدرو بيران، لنكون حيال فيلم سياسي متصل بتاريخ تشيلي الحديث، والاستفتاء الذي دعا إليه بينوشيه بعد 15 عاماً من حكمه، مقدماً حكاية مخرج الإعلانات رينيه (غايل غارثيا برنال) الذي ينتقل من إعلانات مشروب غازي اسمه "فري" (حر) بوصفه مثالاً على الحرية والشجاعة، إلى إدارته وإخراجه حملة حاسمة تقول "لا" لبينوشيه، مستخدماً فيها كل مهاراته الإعلانية والترويجية، الأميل إلى الترفيه والكوميديا في ترجيح قول "لا" على "نعم"، مبتعداً من المباشرة وتصوير فظائع بينوشه، متخذاً أسلوباً مغايراً تماماً، عن الأساليب التقليدية للمعارضين والاشتراكيين.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست أهمية هذا الفيلم ماثلة في توثيقه فقط للحظة التاريخية التي ستفضي بالنهاية إلى إجبار الجيش لبينوشيه على التنحي، بل في كونه فيلماً غنائياً راقصاً توثيقياً تاريخياً في آن معاً، إضافة إلى تجاور المعارضة مع الموالاة، والقدرة على الاختلاف والتوافق في الوقت نفسه، فنحن نشاهد رينيه يواصل العمل مع مديره في الحملات الإعلانية التجارية، بينما يدير الأخير حملة "نعم" لبينوشيه.
أما فيلم "رقصة النصر" El Baile de la Victoria (2009)، إخراج فرناندو تروبا، والمقتبس من رواية بالعنوان نفسه لسكارميتا، فيضيء على تشيلي ما بعد بينوشيه، فانعدام الفرص والعفو عن اللصوص، من خلال ثلاث شخصيات رئيسة، مجرمان أطلق سراحهما من السجن، وعلاقتهما مع راقصة خرساء تحيل إلى من أخمدت أصواتهم في حقبة بينوشيه، والعفو عن اللصين مساحة للإقدام على سرقة كبرى!.
وآخر الأفلام التي اقتبست من نوفيلا لسكارميتا "أب سينمائي"، أخرجه البرازيلي سيلتون ميلون وجاء الفيلم بعنوان "فيلم حياتي" O Filme da Minha Vida (2015)، ولعل من قرأ النوفيلا وشاهد الفيلم، ستستوقفه المعالجة السينمائية المدهشة التي قام بها ميلون، واتخاذه من علاقة الأب والابن محوراً أساسياً في تكوين الأحداث والسرد، وكيف صنع سلسلة أحداث من عبارات وتوصيفات على اتصال بالأب ترد هنا وهناك في النوفيلا، فالأب فيها مستعاد وقد هجر زوجته وابنه وتركهما في قرية صغيرة نائية في تشيلي وعاد إلى بلده فرنسا، فإذا بابنه الوحيد يصادفه في قرية أخرى يعمل عارض أفلام في صالة سينما، ويعطيه تذكرتين لحضور فيلم جون وين ودين مارتن "ريو برافو"، ونحو ذلك من أحداث عابرة يجري تطويرها على نحو لافت في ذلك الفيلم الجميل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- سعورس
الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ
إن من يتأمل الروايات العالمية سيجد في عنوانات بعضها مزيداً من التفاصيل الحِرَفية، سواء أكانت تلك التفاصيل صريحة مباشرة، أم ضمنية غير مباشرة، فمن ذلك مثلاً: رواية (الفلّاحون)، و(الصيّادون) للروسي (أنطون بافلوفيتش تشيخوف 1904م)، ومثلها رواية (صانع الألماس) للإنجليزي (هربرت جورج ويلز 1946م)، كما دّلت روايات أخرى على بعض المعاني الحِرفية، كرواية (مانديل بائع الكتب القديمة) للنمساوي (ستيفان تزفايج 1942م)، ورواية (السيمفونية الرعوية)، أو (سيمفونية الحقول) للفرنسي (أندريه جيد 1951م)، ورواية (ساعي بريد نيرودا) للتشيلي (أنطونيو سكارميتا 2024م). كما تناولت بعض الروايات العالمية في موضوعاتها الرئيسة عملاً حرفيًّا مؤسساً، بمعنى أنها قد تشكّل جزءاً من الأحداث، أو الشخصيات الفاعلة التي قد تؤثر في صنع الرواية، وقد رأينا نماذج كثيرة من ذلك، هي في أصلها ذات عمل حِرفي، كما في حرفة الصيد التي لوحظت في رواية (الشيخ والبحر) للأمريكي (أرنست ميلر همنغواي 1961م)، حيث نهضت أحداثها مع (سانتياغو) الصياد العجوز الذي لا يزال متمتعًا بحيويته ونشاطه. وكما في حرفة الرعي عند البرازيلي (باولو كويلو) في روايته (الخيميائي) التي تحدثت عن الراعي الإسباني الشاب (سنتياغو) في رحلته نحو تحقيق حلمه. وإذا بحثنا في الروايات العربية فإننا لا نعدم وجود نماذج مشابهة في أثرها الحِرَفي، ويمكن رصد ذلك مثلاً في الروايات التي توظف الحرفة توظيفًا متنوعاً، كأن تشير إلى حدث حِرفي من قبيل: (كوية على العلباة) لإبراهيم الخضير، أو تشير إلى شخصية ذات عمل حِرفي كما في رواية (بائع الخردة) للمؤلف نفسه، أو تشير إلى الحدث والشخصية معاً، كما في رواية (قهقهة الجزّار) لكرم ملحم كرم، ورواية (عندما يحلم الراعي) لمنصور آل سيف، ونجيبة سيد علي، أو تشير إلى مكان ذي طابع حِرفي، كما في روايتي (حارة البحارة)، و(قصة حي المنجارة) لعبدالكريم الخطيب. كما قد نلمس الأثر الحِرَفي في الروايات العربية بشكل ضمني، بمعنى أن يُفهم بشكل غير مباشر، كحرفة الزراعة والري التي نجدها في رواية (وانتهى موسم الحصاد) لأحمد الحربي، ورواية (أثمر زرعي شوكاً) لمحمد الغامدي، ورواية (الحصاد) لسليمان الحماد، ومثل ذلك حرفة الصيد في رواية (قنص) لعواض العصيمي. ويمكن أن نجد في متن الروايات العالمية، والعربية كثيراً من المظاهر والدلالات الحِرَفية، وهي مظاهر ودلالات قد تكون متحكّمةً في نسيج الرواية، ومؤثرة في نسقها، ومتفاعلة مع مكوناتها وعناصرها، وعندئذ يصبح الطابع الحِرَفي أكثر إبداعاً وجمالاً.


Independent عربية
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
دانتي روزيتي: عندما يُعيد الفن قراءة "الكوميديا الإلهية"
من المؤكد أن ذلك السيد الإنجليزي، من أصل إيطالي، والمدعو غابريال روزيتي، لم يكن يعرف حين أنجبت له زوجته ابناً ذكراً في عام 1828، أي في زمن كان هو مهووساً فيه بقراءة الترجمة الإنجليزية للكتاب النهضوي الإيطالي الأجمل والأكبر "الكوميديا الإلهية"، والحال أن ذلك الهوس لم يكن حاسماً بالنسبة إليه هو شخصياً، فحسب، بل كذلك بالنسبة إلى وليده. فهو لفرط حماسه لما كان يقرأ لم يتردد عن إطلاق اسم الكاتب الإيطالي دانتي على الطفل مرتبطاً باسمه العلم هو نفسه. ومن هنا، بفضل تلك المبادرة، تحدد مستقبل الولد ليصبح عندما نضج، ليس فقط فناناً نهضوياً، بل أكثر من ذلك، نهضوياً مهووساً بدوره باسمه، الذي سبقه إلى دنيانا بأكثر من ستة قرون: دانتي أليغييري نفسه مؤلف تلك "الكوميديا" المؤسسة. وأكثر من ذلك: بات مهووساً بالنهضة الإيطالية إلى درجة أنه كان، خلال النصف الأول من القرن الـ19، المؤسس الحقيقي لتيار في الرسم يحمل اسماً بادي الصراحة والدلالة "تيار ما قبل الرافائيلية" العامل على العودة بالفن إلى ما كان عليه قبل رافائيل ورفاقه من كبار رسامي النهضة الإيطالية. والحقيقة أننا لن نهتم هنا كثيراً بهذا التيار الذي سبق أن تحدثنا عنه مراراً في هذه الزاوية، بل بالفنان نفسه وكيف صنع له أبوه القارئ الشغوف والمتأدب اللطيف، شغفه المستقبلي وخياراته الفنية من خلال مجرد تسميته. فالفتى إنما نشأ وهو مولع، بدوره بدانتي مطارداً حياة هذا الأخير ومساره، وكل صفحة بل سطر مما خطه في كتابه الأكبر، ولكن أيضاً في كتبه الأخرى ومن ضمنها بالطبع "الحياة الجديدة"، الذي يعد الثاني في الأهمية بعد "الكوميديا الإلهية". وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك الشغف على فنون دانتي روزيتي حين تجاوز سن المراهقة وبدأ يخوض الرسم حتى من قبل تأسيسه ورفاقه ذلك التيار الذي نال، باكراً، رضا الناقد والمؤرخ والفنان الإنجليزي الكبير جون راسكن. دانتي غابريال روزيتي (1828 – 1882) (ويكيميديا) عمل استغرق حياة بأسرها طبعاً لا نريد أن نزعم هنا أن روزيتي صرف كل سنوات حياته واهتماماته الفنية في سبيل سلفه الكبير. فهو رسم عشرات المواضيع الأخرى بالطبع، ومعظمها كان بعيداً غاية البعد من دانتي وفكره وحكاياته. غير أن ما رسمه استلهاماً من دانتي الكبير يظل لافتاً وذا دلالة. ومعظمه يبدو مجرد تصوير لحكايات أو فقرات من كتابات دانتي، من "الكوميديا" أو من غيرها. غير أن اللافت في ذلك كله أن الرسام استغرق زمناً طويلاً جداً في انكبابه على المواضيع المستقاة من الكاتب النهضوي بعدما كان قد بدأ اهتمامه بها وهو، بالكاد، بلغ الـ25 من عمره، وبات معروفاً في الحياة الثقافية اللندنية. فهو كان في تلك السن المبكرة حين حقق واحداً من رسومه الدانتية الكبيرة الأولى، وهي اللوحة المائية المعروفة بعنوان واضح هو "الذكرى الأولى لموت بياتريس". وبياتريس ما هي بالطبع سوى الحبيبة التي يسعى دانتي للعثور عليها في الفردوس في الجزء المخصص لهذا الأخير من أجزاء "الكوميديا" إذ يرافقه الشاعر فيرجيل. وتقول لنا حكاية الرسام إنه بعد وفاة زوجته الأولى إليزابيث سيدال في عام 1862 وجد نفسه مهووساً بحكاية بياتريس حبيبة سلفه دانتي الراحلة، بدورها، في عز صباها. ولعل اللافت هنا هو أن روزيتي إنما رسم بياتريس استناداً إلى فصل من كتاب دانتي "الحياة الجديدة" الذي كان هو نفسه، على أي حال، مترجمه من الإيطالية إلى الإنجليزية منذ عام 1849. وكما أشرنا على أي حال، لن تكون تلك اللوحة آخر ما استقاه روزيتي من دانتي ولا آخر لوحة عن بياتريس نفسها. بل نراه وقد حقق لوحات عديدة جعل مكانة الصدارة فيها لنساء عثر عليهن وعلى حكاياتهن في ثنايا الأدب الدانتيسكي. ومن ذلك على سبيل المثال لوحته الزيتية "بياتا بياتريكس" (أكثر من 66 سنتيمتراً عرضاً و86 سنتيمتراً ارتفاعاً) المأخوذة، بدورها، عما كتبه أليغييري عن حياة فاتنته في "الحياة الجديدة"، وهي لوحة ظل الفنان يشتغل عليها طوال ستة أعوام من دون أن يشعر أنها اكتملت أبداً، بل لربما لم يرد لها أبداً أن تكتمل ليظل معايشاً لها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) من "الكوميديا" مباشرة وفي النهاية يمكن الحديث عن كثير من تأثيرات دانتي الكبير على دانتي روزيتي الصغير، إلى درجة تستثير التمعن الحقيقي في تلك "الشراكة الإبداعية عبر الأزمان والمسافات". غير أن ما يهمنا هنا حقاً هو لوحة أكبر حجماً وأكبر شهرة وأنضج فناً، بدأ روزيتي الاشتغال عليها في عام 1868، ورحل عن عالمنا في نهاية الأمر من دون أن يشعر بأنها قد اكتملت. واللافت أن هذه اللوحة، بالذات، لا علاقة لها ببياتريس، وإن كانت على علاقة مباشرة بالنشيد الخامس من أناشيد الجزء المعنون "المطهر" في "الكوميديا الإلهية" نفسها. اللوحة التي نتحدث عنها هنا هي "لا بيا دي تولومي" التي يحكي فيها دانتي أليغييري حكاية مأسوية عن امرأة التقاها خلال تجواله في المطهر بصحبة رفيقه فيرجيل. واللوحة التي عرضت بصيغتها الأولى في لندن، مرتين، بشكلين مختلفين بعض الشيء، عامي 1856 و1857 كما تقول لنا سيرة روزيتي، لا يخفي الرسام مصدر موضوعها، إذ نراه يدون على إطارها تلك الأبيات الشعرية التي ترجمها هو نفسه عن النشيد الخامس في "المطهر" "تذكرني دائماً فأنا بيا التي صنعتني سيينا وحطمتني ماريمي...". وما يرويه صاحب "المطهر" في الأبيات التالية، إنما هو حكاية "لا بيا" تلك المرأة من مدينة سيينا التي سجنها زوجها نيلو ديلا بييترا في قلعة ماريمي المشيدة في منطقة محاطة بالمستنقعات على الساحل التوسكاني. وفي الحكاية أن المرأة البائسة أمضت أعوام سجنها وهي محاطة بطيور جارحة تعد في أساطير المنطقة رمزاً للوفاء الزوجي، وتشد أصابعها على محبس زواجها. وهذا هو، على أي حال، المشهد الذي يصوره روزيتي في هذه اللوحة التي ينظر كثر إليها بوصفها من أهم لوحاته وأكثرها تجديداً في الخطوط والألوان والتعبير. والتعبير الذي يحمله وجه لا بيا في اللوحة، البالغ ارتفاعها نحو 105 سنتيمترات، وعرضها أكثر من 120 سنتيمتراً، والمعلقة الآن في متحف "سبنسر" الفني التابع لجامعة "كانساس" الأميركية، هو السمة الأساسية فيها إذ إنه حزن يصل إلى أقصى الحدود مصحوباً بيأس مطلق. مأساة مزدوجة إن التاريخ يقول لنا إن الحظ السيئ لم يكتف بأن يطاول لا بيا في ذلك المصير البائس الذي عاشته، بل واصل الإيقاع بها حتى ماتت وهي في عز صباها بوباء الملاريا الذي أصيبت به في تلك البقعة الرهيبة من الجغرافيا الإيطالية. غير أن أهمية هذه اللوحة في حياة روزيتي ومساره المهني بشكل عام، لا تتوقف هنا، فالحال أن ثمة هنا في الأمر، جانباً آخر من الحكاية يتعلق بالموديل الحقيقي الذي استخدمه روزيتي في التعبير عن حال لا بيا ومصيرها، فهي ليست، في حقيقة الأمر، سوى حبيبته، خلال مرحلة لاحقة من حياته، جان موريس زوجة المفكر الاشتراكي ويليام موريس التي كانت، قد اعتادت منذ إقامتها وزوجها في لندن، حيث قدم ويليام دعماً كبيراً لتيار الما قبل رافائيليين، وسمح لروزيتي بأن يستخدمها موديلاً في عدد كبير من لوحاته غير متنبه إلى ولع الرسام صديقه بها، إلى درجة أنه أوصى المصور جون روبرت بارسونز أن يلتقط لها دزينة ونصف الدزينة من الصور الفوتوغرافية! والمهم هنا أن غرام روزيتي بجان قد تفاقم إلى درجة أنه، وفي هذه اللوحة تحديداً، عبر عن الحكاية مداورة وهو ما فعله في لوحات عديدة أخرى استخدم فيها جان موديلاً لنساء أغرم هو بهن وعبر عن ذلك من خلال سجونهن المتنوعة، في لوحاته في الأقل. ويقيناً أن هذا كله يجعل هنا من لوحة "لا بيا" لوحة مستوحاة من دانتي و"مطهره" ولكن كذلك، لوحة تعبر عما يعتمل في ذات غابريال روزيتي، دانتي الأكثر حداثة و... شغفاً بالتالي. ومن هنا لا يتردد جون راسكن في اعتبار هذه اللوحة واحدة من أكثر لوحات روزيتي ذاتية وابتعاداً، في الروحية في الأقل، عما كان التيار الذي أسسه روزيتي ودعمه راسكن نفسه، يتطلع إليه.


الرياضية
٠٣-٠٤-٢٠٢٥
- الرياضية
بعد دايم السيف.. مَن أشهر الشعراء الذين كتبوا بأسماء مستعارة؟
يذهب كثيرٌ من الشعراء إلى اختيار أسماءٍ مستعارةٍ، تكون بديلًا لظهورهم بأسمائهم الحقيقية، ولكلٍّ منهم سببه في ذلك. ولا تقتصر هذه الظاهرة الشعرية على العرب فقط، إذ إن هناك شعراءَ عالميين أيضًا فعلوا هذا الشيء، منهم الشاعر التشيلي ريكاردو اليسير نيفتالي، المصنَّف ضمن أفضل الشعراء في القرن الـ 20، حيث حصد جوائزَ تقديريةً عدة، أبرزها جائزة نوبل في الآداب عام 1971، فقد اضطر إلى الهروب من اسمه بسبب ضغوطٍ عائليةٍ وسياسيةٍ، وأصدر عشرات الدواوين مختارًا اسم «بابلو نيرودا». ولو سألت: مَن هو الشاعر همام بن غالب؟ قد لا تجد إجابةً عن سؤالك، إذ لا يعرف الكثيرون مَن هو مع أنه من أشهر شعراء العرب حيث اختار لنفسه اسم الفرزدق، فأصبح الاسم المستعار مثل نجمةٍ ساطعةٍ في السماء! والحال ذاته ينطبق على الشاعر أحمد بن الحسين بن الحسن، فلا يعرف هذا الاسم إلا القليلون! لكنْ إن ذكرت المتنبي، فستسمع الإجابة من كل حدبٍ وصوبٍ بمعرفته. وفي السعودية، هناك كثيرٌ من الشعراء الكبار الذين كتبوا باسمٍ مستعارٍ في فترةٍ زمنيةٍ سابقةٍ، وعُرِفَت هويَّتهم في الأعوام الأخيرة، في مقدمتهم الأمير خالد الفيصل الذي كتب لأعوامٍ طويلةٍ باسم «دايم السيف»، ويُحتفى به الليلة في محافظة جدة، وكذلك الأمير نواف بن فيصل الذي اختار اسم «أسير الشوق»، والأمير عبد العزيز بن مساعد الذي عُرِفَ بـ «السامر». واتفق الشاعران الراحلان طلال الرشيد وطلال الرشيد في الاسم والشعر، لكنهما اختلفا في الاسم المستعار بين «الملتاع» و «العطيب». في حين فضل عديدٌ من الشعراء عدم الظهور باسمهم الحقيقي للعامة، منهم تركي وواحد، ومنصور الشادي.