logo
الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ

الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ

سعورس٠٩-٠٥-٢٠٢٥

إن من يتأمل الروايات العالمية سيجد في عنوانات بعضها مزيداً من التفاصيل الحِرَفية، سواء أكانت تلك التفاصيل صريحة مباشرة، أم ضمنية غير مباشرة، فمن ذلك مثلاً: رواية (الفلّاحون)، و(الصيّادون) للروسي (أنطون بافلوفيتش تشيخوف 1904م)، ومثلها رواية (صانع الألماس) للإنجليزي (هربرت جورج ويلز 1946م)، كما دّلت روايات أخرى على بعض المعاني الحِرفية، كرواية (مانديل بائع الكتب القديمة) للنمساوي (ستيفان تزفايج 1942م)، ورواية (السيمفونية الرعوية)، أو (سيمفونية الحقول) للفرنسي (أندريه جيد 1951م)، ورواية (ساعي بريد نيرودا) للتشيلي (أنطونيو سكارميتا 2024م).
كما تناولت بعض الروايات العالمية في موضوعاتها الرئيسة عملاً حرفيًّا مؤسساً، بمعنى أنها قد تشكّل جزءاً من الأحداث، أو الشخصيات الفاعلة التي قد تؤثر في صنع الرواية، وقد رأينا نماذج كثيرة من ذلك، هي في أصلها ذات عمل حِرفي، كما في حرفة الصيد التي لوحظت في رواية (الشيخ والبحر) للأمريكي (أرنست ميلر همنغواي 1961م)، حيث نهضت أحداثها مع (سانتياغو) الصياد العجوز الذي لا يزال متمتعًا بحيويته ونشاطه. وكما في حرفة الرعي عند البرازيلي (باولو كويلو) في روايته (الخيميائي) التي تحدثت عن الراعي الإسباني الشاب (سنتياغو) في رحلته نحو تحقيق حلمه.
وإذا بحثنا في الروايات العربية فإننا لا نعدم وجود نماذج مشابهة في أثرها الحِرَفي، ويمكن رصد ذلك مثلاً في الروايات التي توظف الحرفة توظيفًا متنوعاً، كأن تشير إلى حدث حِرفي من قبيل: (كوية على العلباة) لإبراهيم الخضير، أو تشير إلى شخصية ذات عمل حِرفي كما في رواية (بائع الخردة) للمؤلف نفسه، أو تشير إلى الحدث والشخصية معاً، كما في رواية (قهقهة الجزّار) لكرم ملحم كرم، ورواية (عندما يحلم الراعي) لمنصور آل سيف، ونجيبة سيد علي، أو تشير إلى مكان ذي طابع حِرفي، كما في روايتي (حارة البحارة)، و(قصة حي المنجارة) لعبدالكريم الخطيب.
كما قد نلمس الأثر الحِرَفي في الروايات العربية بشكل ضمني، بمعنى أن يُفهم بشكل غير مباشر، كحرفة الزراعة والري التي نجدها في رواية (وانتهى موسم الحصاد) لأحمد الحربي، ورواية (أثمر زرعي شوكاً) لمحمد الغامدي، ورواية (الحصاد) لسليمان الحماد، ومثل ذلك حرفة الصيد في رواية (قنص) لعواض العصيمي.
ويمكن أن نجد في متن الروايات العالمية، والعربية كثيراً من المظاهر والدلالات الحِرَفية، وهي مظاهر ودلالات قد تكون متحكّمةً في نسيج الرواية، ومؤثرة في نسقها، ومتفاعلة مع مكوناتها وعناصرها، وعندئذ يصبح الطابع الحِرَفي أكثر إبداعاً وجمالاً.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ
الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ

سعورس

time٠٩-٠٥-٢٠٢٥

  • سعورس

الرِّوَايَةُ الحِرَفِيَّةُ

إن من يتأمل الروايات العالمية سيجد في عنوانات بعضها مزيداً من التفاصيل الحِرَفية، سواء أكانت تلك التفاصيل صريحة مباشرة، أم ضمنية غير مباشرة، فمن ذلك مثلاً: رواية (الفلّاحون)، و(الصيّادون) للروسي (أنطون بافلوفيتش تشيخوف 1904م)، ومثلها رواية (صانع الألماس) للإنجليزي (هربرت جورج ويلز 1946م)، كما دّلت روايات أخرى على بعض المعاني الحِرفية، كرواية (مانديل بائع الكتب القديمة) للنمساوي (ستيفان تزفايج 1942م)، ورواية (السيمفونية الرعوية)، أو (سيمفونية الحقول) للفرنسي (أندريه جيد 1951م)، ورواية (ساعي بريد نيرودا) للتشيلي (أنطونيو سكارميتا 2024م). كما تناولت بعض الروايات العالمية في موضوعاتها الرئيسة عملاً حرفيًّا مؤسساً، بمعنى أنها قد تشكّل جزءاً من الأحداث، أو الشخصيات الفاعلة التي قد تؤثر في صنع الرواية، وقد رأينا نماذج كثيرة من ذلك، هي في أصلها ذات عمل حِرفي، كما في حرفة الصيد التي لوحظت في رواية (الشيخ والبحر) للأمريكي (أرنست ميلر همنغواي 1961م)، حيث نهضت أحداثها مع (سانتياغو) الصياد العجوز الذي لا يزال متمتعًا بحيويته ونشاطه. وكما في حرفة الرعي عند البرازيلي (باولو كويلو) في روايته (الخيميائي) التي تحدثت عن الراعي الإسباني الشاب (سنتياغو) في رحلته نحو تحقيق حلمه. وإذا بحثنا في الروايات العربية فإننا لا نعدم وجود نماذج مشابهة في أثرها الحِرَفي، ويمكن رصد ذلك مثلاً في الروايات التي توظف الحرفة توظيفًا متنوعاً، كأن تشير إلى حدث حِرفي من قبيل: (كوية على العلباة) لإبراهيم الخضير، أو تشير إلى شخصية ذات عمل حِرفي كما في رواية (بائع الخردة) للمؤلف نفسه، أو تشير إلى الحدث والشخصية معاً، كما في رواية (قهقهة الجزّار) لكرم ملحم كرم، ورواية (عندما يحلم الراعي) لمنصور آل سيف، ونجيبة سيد علي، أو تشير إلى مكان ذي طابع حِرفي، كما في روايتي (حارة البحارة)، و(قصة حي المنجارة) لعبدالكريم الخطيب. كما قد نلمس الأثر الحِرَفي في الروايات العربية بشكل ضمني، بمعنى أن يُفهم بشكل غير مباشر، كحرفة الزراعة والري التي نجدها في رواية (وانتهى موسم الحصاد) لأحمد الحربي، ورواية (أثمر زرعي شوكاً) لمحمد الغامدي، ورواية (الحصاد) لسليمان الحماد، ومثل ذلك حرفة الصيد في رواية (قنص) لعواض العصيمي. ويمكن أن نجد في متن الروايات العالمية، والعربية كثيراً من المظاهر والدلالات الحِرَفية، وهي مظاهر ودلالات قد تكون متحكّمةً في نسيج الرواية، ومؤثرة في نسقها، ومتفاعلة مع مكوناتها وعناصرها، وعندئذ يصبح الطابع الحِرَفي أكثر إبداعاً وجمالاً.

وقفات عند مقولة بحيري: «الإسلام قطعة من اللؤلؤ في بحر من الطين»! (2)
وقفات عند مقولة بحيري: «الإسلام قطعة من اللؤلؤ في بحر من الطين»! (2)

المدينة

time٢٣-١٠-٢٠٢٤

  • المدينة

وقفات عند مقولة بحيري: «الإسلام قطعة من اللؤلؤ في بحر من الطين»! (2)

أواصلُ الردَّ علَى مقولةِ «إسلام بحيري» فِي برنامجِ «توتر عالي» بقناةِ المشهدِ أنَّ «الإسلامَ قطعةٌ مِن اللؤلؤِ فِي بحرٍ مِن الطِّينِ»، مِن خلالِ أقوالِ بعضِ المستشرقِينَ والمؤرِّخِينَ الغربيِّينَ عَن إنجازاتِ العربِ فِي الحضارةِ الإنسانيَّةِ وأثرهَا علَى الحضارةِ الغربيَّة. يقولُ فلوريان: «كانَ للعربِ عصرٌ مجيدٌ عرفُوا فيهِ انكبابَهُم علَى الدَّرسِ، وسعيهُم فِي ترقيةِ العلمِ والفنِّ، ولا نبالغُ إنْ قلنَا: إنَّ أوروبَا مدِينةٌ لهُم بخدمتِهِم العلميَّةِ، التِي تمثِّلُ العاملَ الأوَّلَ والأكبرَ فِي نهضةِ القرنَينِ الثَّالث عشر، والرَّابع عشر للميلادِ». ويقولُ المؤرِّخُ الإنجليزيُّ هربرت جورج ويلز: «عَن حضارةِ العربِ»، وكانتْ طريقُ العربيِّ أنْ ينشدَ الحقيقةَ بكلِّ استقامةٍ وبساطةٍ، وأنْ يجلوهَا بكلِّ وضوحٍ وتدقيقٍ، فهذهِ الخامةُ التِي جاءتنَا نحنُ -الأوروبيِّينَ- مِن اليونانِ، وهِي نُشدانُ النُّورِ، إنَّمَا جاءتنَا عَن طريقِ العربِ. وقالَ المستشرقُ الفرنسيُّ لويس سديو: «إنَّ إنتاجَ أفكارِ العربِ الغزيرةِ ومخترعاتِهم النفيسةِ تشهدُ أنَّهم أساتذةُ أهلِ أوروبَا فِي جميعِ الأشياءِ. وقالَ الدكتورُ سارطون من علماءِ أمريكَا: «إنَّ العربَ كانُوا أعظمَ معلِّمِينَ فِي العالمِ فِي القرونِ الثلاثةِ: العاشر، والحادِي عشر، والثَّانِي عشر الميلادي». أمَّا الطبيبُ والمؤرِّخُ الفرنسيُّ غوستاف لوبون، فيقولُ: «إنَّ دورَ العربِ لمْ يقتصرْ فقطْ علَى ترقيةِ العلومِ باكتشافاتِهِم، بلْ عملُوا علَى نشرِهَا بواسطةِ جامعاتِهِم ومؤلَّفاتِهِم، وأنَّ التأثيرَ الذِي أحدثُوه فِي أوروبَا مِن هذهِ الخاصيَّةِ الأخيرةِ قدْ كانَ عظيمًا جدًّا». ثمَّ يتحدَّث عن شغفِ العربِ بالعلمِ فيقولُ: «لقدْ بلغَ شغفُ العربِ بالتَّعليمِ مبلغًا عظيمًا، حتَّى أنَّ خلفاءَ بغدادَ كانُوا يستعملُونَ كلَّ الوسائلِ لجذبِ العلماءِ وأشهرِ الفنَّانِينَ فِي العالمِ إلى قصورِهِم، وأنَّ أحدَ هؤلاءِ الخلفاءِ بلغَ الأمرُ منهُ إلَى حدِّ إعلانِ الحربِ علَى قيصرِ القسطنطينيَّة، وذلكَ ليجبرَهُ علَى السَّماحِ لأحدِ الرِّياضيِّين المشهورِينَ بالمجيءِ إلى بغداد والتعليمِ فيهَا. ويعجبُ غوستاف لوبون بعدَ هذَا أيَّمَا إعجابٍ بذلكَ الشَّغفِ بالعلمِ الذِي افتتنَ بهِ العربُ، ويزدادُ إعجابُه أنْ رأَى هذَا الشغفَ منهُم منبعًا عَن الدِّينِ نفسِهِ، ولذلكَ قالَ: «إنَّ العلمَ الذِي استخفَّتْ بهِ جدًّا أديانٌ أُخْرَى قدْ رفعَ المسلمُونَ مِن شأنِهِ عاليًا». أمَّا عَن كتابِ الخوارزميِّ فِي علمِ الجبرِ فيقولُ فيهِ المؤرِّخُ السويسريُّ الأمريكيُّ فلوريان كاجوري: «إنَّ العقلَ ليُدهش عندمَا يرَى مَا عملهُ العربُ في الجبرِ».. وأمَّا الطبُّ فإنَّ كتابَ القانونِ لابن سينا كانَ حتَّى أواسطِ القرنِ السَّابع عشر المرجعَ الوحيدَ لمعاهدِ الطبِّ وجامعاتِ أوروبَا.. وفِي علمِ الكيمياءِ كانَ لهُم الكثيرُ مِن الإبداعِ أنْ تمَّ لهُم فيهِ مِن استحضارِ الكثيرِ مِن المركَّباتِ والحوامضِ التِي تقومُ عليهَا الصناعةُ الحديثةُ كالمركَّباتِ التِي تستعملُ حتَّى الآنَ فِي صنعِ الورقِ والحريرِ والمفرقعاتِ والأصبغةِ والسمادِ الصناعيِّ. وقد كان لسياسة التسامح الإسلامي أثرها العظيم في نفوس أهل الذمة؛ من اليهود والنصارى في الأندلس؛ حيث أقبل المستعربون الإسبان على تعلم اللغة العربية واستخدامها في حياتهم، بل فضلوها على اللاتينية، كما تتلمذ كثير من اليهود على أساتذتهم العرب.. وقد نشطت حركة الترجمة عن العربية نشاطا كبيرا، وخاصة في مدينة طليطلة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، في كل مناحي المعرفة. يقولُ المؤرِّخُ البلجيكيُّ جورج ألفرد ليون سارتون: «حَقَّقَ المسلمُونَ -عباقرةُ الشَّرقِ- أعظمَ المآثرِ فِي القرونِ الوسطَى، فكُتِبَتْ أعظمُ المؤلَّفاتِ قيمةً، وأكثرهَا أصالةً، وأغزرَهَا مادَّةً باللغةِ العربيَّةِ، وكانتْ مِن منتصفِ القرنِ الثَّامن حتَّى نهايةِ القرنِ الحادِي عشر لغةَ العلمِ الارتقائيَّةِ للجنسِ البشريِّ، حتَّى لقدْ كانَ ينبغِي لأيِّ كائنٍ إذَا أرادَ أنْ يُلِمَّ بثقافةِ عصرهِ وبأحدثِ صُوَرِهَا أنْ يَتَعَلَّم اللغةَ العربيَّةَ». وعَن مكانةِ قرطبة، يؤكِّدُ المفكرُ ليوبولد فايس: (يهوديٌّ نمساويٌّ وأسلمَ، وأصبحَ اسمهُ محمَّد أسد) أثرهَا فِي التَّدشينِ لعصرِ النهضةِ قائلًا: «لسنَا نبالغُ إذَا قلنَا: إنَّ العصرَ العلميَّ الحديثَ الذِي نعيشُ فيهِ لمْ يُدَشَّن فِي مدنِ أوروبَا، ولكنْ فِي المراكزِ الإسلاميَّةِ؛ فِي دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة». وحولَ الأندلسِ بصفةٍ عامَّةٍ كمَعْبَرٍ لاتِّصالِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ بالغربِ وانتقالهَا إليهِ، تقولُ زيغريد هونكة: «ولمْ تكنْ جبالُ البرانس لتمنعَ تلكَ الصِّلاتِ، ومِن هنَا وجدتِ الحضارةُ العربيَّةُ الأندلسيَّةُ طريقهَا إلى الغربِ».. وتضيفُ قائلةً: «وقدْ حملَ مشعلَ الحضارةِ العربيَّةِ عَبْرَ الأندلسِ ألوفٌ مِن الأَسرَى الأوروبيِّينَ، عادُوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرهَا مِن مراكزِ الثقافةِ الأندلسيَّةِ، كمَا مثَّل تجَّارُ ليون وجنوا والبندقية ونورمبرج دورَ الوسيطِ بينَ المدنِ الأوروبيَّةِ والمدنِ الأندلسيَّةِ، واحتكَّت ملايينُ الحجَّاجِ مِن المسيحيِّينَ الأوروبيِّينَ فِي طريقهِم إلى سنتياجو بالتُّجَّار العربِ والحجَّاجِ المسيحيِّينَ القادمِينَ مِن شمالِ الأندلسِ، كمَا أسهمَ سيلُ الفرسانِ، والتجَّار، ورجالِ الدِّين المتدفِّقِينَ سنويًّا من أوروبَا إلى إسبانيَا فِي نقلِ أُسسِ الحضارةِ الأندلسيَّةِ إلى بلادهِم، وحملَ اليهودُ من تُجَّار، وأطباءَ، ومتعلِّمِينَ العربَ إلَى بلدانِ الغربِ، كمَا اشتركُوا في أعمالِ الترجمةِ بمدينةِ طليطلة، ونقلُوا عن العربيَّةِ عددًا كبيرًا من القصصِ والأساطيرِ والملاحِ». هذَا قليلٌ من كثيرٍ مِن شهادةِ علماءِ الغربِ ومستشرقيهِ عَن معجزاتِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ وتفوقهَا علَى جميعِ الحضاراتِ. هذَا التراثُ الذِي وصفهُ بحيري بـ»بحرٍ مِن طينٍ»، الذِي يريدُ حرقَهُ ودفنَهُ!!.

سيرة سينمائية للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا
سيرة سينمائية للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا

Independent عربية

time٢٣-١٠-٢٠٢٤

  • Independent عربية

سيرة سينمائية للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا

في الرابع من يونيو (حزيران )من عام 1994، وبعد ما يقارب 12 ساعة من انتهاء تصوير فيلم "ساعي بريد نيرودا" توفي الممثل ماسيمو ترويزي، بعد أن زرع جزيرة "إيسلا نيغرا" طولاً وعرضاً على دراجته وهو يوصل بريد الشاعر بابلو نيرودا، مجسداً شخصية ساعي البريد ماريو خيمينث في دور لن ينسى، ومات ولم يتجاوز الـ41 سنة. كل من شاهد الفيلم أو سيشاهده سيعرف كم بذل من قلبه فيه حتى خلص إلى أداء استثنائي كهذا!. لقد أتعب قلبه المتعب أصلاً، هو الذي كان بحاجة ماسة إلى جراحة، إلا أنه أجّلها لحين فروغه من الفيلم. من الفيلم الشهير "ساعي بريد نيرودا" (ملف الفيلم) أجدني أبدأ مع ترويزي، كمفتتح لدخول عوالم الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا سينمائياً الذي توفي الثلاثاء الماضي على شيء من مزج الواقعي بالروائي بالسينمائي، في محاكاة ربما لمقدمة سكارميتا لرواية "ساعي بريد نيرودا"، وهو يربطها بواقعه ومسيرته الأدبية، مستعيداً الفترة التي كان فيها محرراً ثقافياً في صحيفة من الدرجة الخامسة، يحلم وهو يعمل في مكاتبها الرطبة بأن يصبح كاتباً، ويؤلف روايات لا يلبث أن يتخلى عنها في منتصف الطريق. حينها كلّفه مديره مهمة تتطلب منه "مداهمة السلام الساحلي للشاعر بابلو نيرودا" في جزيرة "إيسلا نيغرا"، وإجراء لقاء معه يتناول فيه "الجغرافيا الغرامية للشاعر"، والحصول منه، كطموح شخصي، على تقديم لمخطوط رواية يعمل عليها، لكن نيرودا شتت شمل تلك الجغرافيا الغرامية بالقول إن "حبه الكبير الوحيد هو زوجته الحالية ماتيلدي أوروتيا"، وأجاب طلبه بكتابة المقدمة "بسخرية تستحقها فعلاً وقاحتي في الطلب منه كتابة مقدمة لكتاب لا يزال غير موجود وهو يدفعني نحو الباب"، قائلاً "سأكتب لك المقدمة بكل سرور ولكن عندما تنتهي من تأليف الكتاب". كتب سكارميتا روايته "ساعي بريد نيرودا" بعد 14 عاماً على ذلك اللقاء، من دون أن تمت بصلة للرواية التي طلب من نيرودا تقديمها، لكن ثمة تشابهاً بينه وبين ماريو خيمينث، أو من أهداهم الرواية، أي منتحلي أشعار نيرودا البائسين!. عليّ القول قبل المضي في استعراض الأفلام الثلاثة التي اقتبست من "ساعي بريد نيرودا" إن آخر فيلم منها الذي أنتجته "نتفليكس"، وجاء بعنوان "صبر متأجج" Ardiente Paciencia (2022) لا يستحق العناء، فهو مجرد فيلم تلفزيوني سطحي، أكتفي باختزال تقديمه بعبارة من قبيل "نيرودا يجمع رأسين بالحلال" أو أي شيء يحيل إلى الابتذال. غواية سينمائية الرواية بالعربية (نيل وفرات) تحتكم "ساعي بريد نيرودا" على غواية سينمائية بلا أدنى شك، والقصة قائمة على ثلاثة أقانيم هي الشعر والحب والعدالة، وهي قادرة تماماً أن تكون كوميدية وتراجيدية، رومانسية وسياسية، خيالية وواقعية، في آن معاً، كما أنها مختبر عظيم لشعر بابلو نيرودا وهو يوضع في كل تلك السياقات، فساعي البريد لا يريد فقط أن يتعلم كتابة الشعر ويكسب قلب بياتريس، بل هو منحاز لكل ما يمثله نيرودا من قيم ومطامح وتطلعات سياسية بوصف ماريو بروليتاري، فقير ومضطهد ومهمّش، بالتالي يؤمن بنضالات الحزب الشيوعي التشيلي وسلفادور الليندي، وليقدم سكارميتا كل ذلك من دون أي نتوءات أو شعارات أو انحرافات أو إملاءات من خارج الحبكة، بل في سياق قصة حب ماريو لبياتريس أولاً وأخيراً، مضافة إليه علاقة الأول بنيرودا، بالتالي الشعر وهو يظهر في الفيلم متجسداً، بينما تجد الاستعارات مرادفاتها في المكان والحياة، وتمسي عاملاً درامياً في تطور الشخصيات ومصائرها. سكارميتا مخرجاً مع رواية "ساعي بريد نيرودا" التي صدرت طبعتها الأولى بعنوان "صبر متأجج" Ardiente Paciencia، اقترف سكارميتا فعلاً شديد الجرأة سينمائياً، ألا وهو أن يخرج فيلماً معتمداً على رواية من تأليفه، فيا لها من شجاعة!. فكما هو متعارف عليه، أو مختبر ممن هو روائي ومهووس بالسينما، فإن إقدام روائي على كتابة سيناريو مستمد من رواية من تأليفه أمر شديد التعقيد والصعوبة، وغالباً ما يتجنبه الروائي، فكيف بروائي يخرج فيلماً مأخوذاً عن روايته!. رواية أخرى بالعربية (نيل وفرات) فيلم سكارميتا يعود بنا لعام 1985، ويصلح أن يكون مختبراً لما أوردته عن المصاعب التي تواجه الروائي في نقل روايته إلى الشاشة الكبيرة، ولعل أول ما سيطالعنا في الفيلم أن سكارميتا يَفترض معرفة المشاهد للشخصية كما يعرفها هو، فهو لا يؤسس لشخصية ماريو، ولا لملابسات وجود بابلو نيرودا في جزيرة "إيسلا نيغرا"، بل يضعنا ومن اللقطة الأولى حيال ماريو ممتطياً دارجته في طريقه إلى مسكن نيرودا، ويمضي قدماً بنسج العلاقة بينهما، أي ساعي البريد أو الصياد السابق الذي تخلى عن الصيد ليعمل موصلاً لبريد الشاعر الكبير، وليتواصل سرد الفيلم في تنقلات سريعة في أحداث الرواية، حب ماريو لبياتريس من النظرة الأولى، ترشح نيرودا للرئاسة، ونحو ذلك مما يدفع إلى الشعور بأننا حيال اختزال سينمائي أكثر من كونها معالجة سينمائية للرواية، لكن هذا يتغير على نحو لافت مع زواج ماريو من بياتريس، فيمسي إيقاع الفيلم متناغماً، وزمن اللقطات مضبوطاً، وكذلك تنويعاتها، وصولاً إلى أداء الممثلين، سواء أوسكار كاسترو مقدّماً شخصية ماريو أو روبرتو بارادا مجسداً نيرودا، وخروجهما عن الرتابة التي تهيمن على أدائهما في نصف الفيلم الأول، كما لو أن ابتعادهما من بعضهما وتواصلهما عن بعد، حررا الفيلم من الحوار، ووضعانا حيال جمالية بصرية مع تغير حياة ماريو مع ما سيشهده من ولادة ابنه بابلو، والانعطافات السياسية التي ستشهدها تشيلي مع مقتل سلفادور الليندي. ساعي البريد الإيطالي مع فيلم "ساعي البريد" Il Postino ستخلَّد رواية سكارميتا سينمائياً (فاز بأوسكار أفضل ممثل في دور رئيس لماسيمو ترويزي وقد منحت له على رغم وفاته وأفضل موسيقى مع ترشيحه لأوسكارات أفضل فيلم وإخراج وسيناريو مقتبس)، وتتحول إلى تحفة سينمائية، على يد المخرج الإنجليزي مايكل رادفورد الذي عُرف حينها بفيلمه "1984" عن رواية أورويل الشهيرة. سيأخذ رادفورد رواية سكارميتا إلى إيطاليا، إلى جزر صقلية ونابولي، وبفعله ذلك سيضع الفيلم في سياق السينما الإيطالية، وهذا هو بحق فضاء الرواية الحيوي، وهكذا سيكون ماريو أشبه بأنطونيو في فيلم فيتوري دي سيكا "سارق الدراجة" (1948)، لا بل إنني حين شاهدت أداء ترويزي أحسست أنه مثل لامبرتو ماجوراني في فيلم دي سيكا يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، كما كان متبعاً في كاستينغ الواقعية الإيطالية الجديدة، ولتشكّل الدراجة عنصراً درامياً في كلا الفيلمين، وليظهر إلى جانب ترويزي الممثل الفرنسي العظيم فيليب نواريه، من جسّد شخصية ألفريدو في "سينما باراديسو" (1988)، ولعل الرسالة الصوتية التي يرسلها ماريو إلى نيرودا وهو يسجل له أصوات الجزيرة من أمواج البحر وشبكات الصيادين، نجد لها شبيهاً في فيلم جوزيبه تورناتوري، أي كل اللقطات التي كان يحذفها قسيس القرية من الأفلام، فإذا بألفريدو محتفظ بها جميعاً كهدية يتركها لسلفادوري بعد وفاته. مسرحية وروايتان بعد التجربة الإخراجية اليتيمة لسكارميتا، فإنه على ما يبدو اكتفى بها، حتى إنه لم يكتب للسينما مباشرة، بما في ذلك فيلم بابلو لارين "لا" No (2012)، المقتبس من مسرحية له لم تنشر ولم تقدم على الخشبة، وعالجها الكاتب بيدرو بيران، لنكون حيال فيلم سياسي متصل بتاريخ تشيلي الحديث، والاستفتاء الذي دعا إليه بينوشيه بعد 15 عاماً من حكمه، مقدماً حكاية مخرج الإعلانات رينيه (غايل غارثيا برنال) الذي ينتقل من إعلانات مشروب غازي اسمه "فري" (حر) بوصفه مثالاً على الحرية والشجاعة، إلى إدارته وإخراجه حملة حاسمة تقول "لا" لبينوشيه، مستخدماً فيها كل مهاراته الإعلانية والترويجية، الأميل إلى الترفيه والكوميديا في ترجيح قول "لا" على "نعم"، مبتعداً من المباشرة وتصوير فظائع بينوشه، متخذاً أسلوباً مغايراً تماماً، عن الأساليب التقليدية للمعارضين والاشتراكيين. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ليست أهمية هذا الفيلم ماثلة في توثيقه فقط للحظة التاريخية التي ستفضي بالنهاية إلى إجبار الجيش لبينوشيه على التنحي، بل في كونه فيلماً غنائياً راقصاً توثيقياً تاريخياً في آن معاً، إضافة إلى تجاور المعارضة مع الموالاة، والقدرة على الاختلاف والتوافق في الوقت نفسه، فنحن نشاهد رينيه يواصل العمل مع مديره في الحملات الإعلانية التجارية، بينما يدير الأخير حملة "نعم" لبينوشيه. أما فيلم "رقصة النصر" El Baile de la Victoria (2009)، إخراج فرناندو تروبا، والمقتبس من رواية بالعنوان نفسه لسكارميتا، فيضيء على تشيلي ما بعد بينوشيه، فانعدام الفرص والعفو عن اللصوص، من خلال ثلاث شخصيات رئيسة، مجرمان أطلق سراحهما من السجن، وعلاقتهما مع راقصة خرساء تحيل إلى من أخمدت أصواتهم في حقبة بينوشيه، والعفو عن اللصين مساحة للإقدام على سرقة كبرى!. وآخر الأفلام التي اقتبست من نوفيلا لسكارميتا "أب سينمائي"، أخرجه البرازيلي سيلتون ميلون وجاء الفيلم بعنوان "فيلم حياتي" O Filme da Minha Vida (2015)، ولعل من قرأ النوفيلا وشاهد الفيلم، ستستوقفه المعالجة السينمائية المدهشة التي قام بها ميلون، واتخاذه من علاقة الأب والابن محوراً أساسياً في تكوين الأحداث والسرد، وكيف صنع سلسلة أحداث من عبارات وتوصيفات على اتصال بالأب ترد هنا وهناك في النوفيلا، فالأب فيها مستعاد وقد هجر زوجته وابنه وتركهما في قرية صغيرة نائية في تشيلي وعاد إلى بلده فرنسا، فإذا بابنه الوحيد يصادفه في قرية أخرى يعمل عارض أفلام في صالة سينما، ويعطيه تذكرتين لحضور فيلم جون وين ودين مارتن "ريو برافو"، ونحو ذلك من أحداث عابرة يجري تطويرها على نحو لافت في ذلك الفيلم الجميل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store