logo
عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوية

عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوية

المدنمنذ 6 أيام

في 12 دقيقة فقط، ومن دون أن تنطق أي شخصية بكلمة، ينجح الفيلم القصير "بكرا منكفي"، المستند إلى شهادات واقعية، في تجسيد واحدة من أعمق المآسي التي طاولت السوريين خلال العقد الأخير: مأساة الاختفاء القسري.
وبأسلوب بصري مؤلم وصامت، ينقل الفيلم أثر الجريمة المستمرة، ليس فقط بحق من اختفوا، بل بحق عائلاتهم التي بقيت معلقة بين الأمل وانتظار الأجوبة حول مصيرهم، حاملة صدمة متوارثة لا يخففها مرور الزمن ولا يداويها اللجوء.
وحظي الفيلم، الذي أطلقه "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، باهتمام عالمي واسع، فنال أكثر من عشر جوائز، أبرزها في "مهرجان نيويورك لأفلام حقوق الإنسان"، و"جوائز الأفلام القصيرة المستقلة" في لوس أنجيلس، و"مهرجان مونتريال" المستقل، لكن قيمته تتجاوز الجوائز لأنه يشكل وثيقة بصرية عن الألم السوري المتجذر في الجغرافيا والوجدان، حيث يتحول الغياب إلى حياة يومية، والبحث إلى وظيفة وجدانية لا تنتهي.
ويروي الفيلم الذي بات متوافراً في "يوتيوب"، قصة أم سورية شابة تقيم في برلين مع طفليها بعدما اختفى زوجها في سجون النظام السوري المخلوع. وفيما تبدو حياتها في الظاهر مستقرة وآمنة، إذ تعيش في شقة صغيرة وتعمل وتوصل أطفالها إلى المدرسة وتؤدي مهامها اليومية ضمن روتين هادئ، يوجد خلف الاستقرار الخارجي، ذكريات تضطرب مع كل حركة، ويختلط الحاضر بمشاهد ماضية لا تكف عن التسلل إلى يومها.
تعيش السيدة في عالمين، الحاضر الذي يبدو مسطحاً، والماضي الذي لا يكف عن الظهور في كل مكان، بداية من خيام اللجوء في اليونان وقوارب الهروب في البحر وعبور الحدود ليلاً وليس انتهاء بجلسات التحقيق في مراكز الأمن في سوريا، والتعامل المهين الذي تتعرض له هناك. كلها صور تطفو بلا ترتيب، كأنها تراوما دائمة تعيشها في كل لحظة، لا يوقفها زمن ولا تخففها مسافة، كما لا تظهر كماضٍ منقطع، بل كواقع يتكرر في رأسها باستمرار، وكأن الزمن لم يتحرك للأمام منذ اختفاء زوجها.
التناوب المكثف بين الماضي والحاضر هو قلب الفيلم، ويجسد التروما النفسية التي تلاحق كثيراً من اللاجئين السوريين، حتى بعد وصولهم إلى "الأمان". فالأم أسيرة شعور دائم بعدم الأمان، ويظهر ارتباكها في الأماكن المغلقة وتوترها في الشارع وخوفها من المفاجآت، وكأن الخطر لم يغادر جسدها، حتى لو غادرت شخصياً المكان الذي تواجد فيه ذلك الخطر.
وأبرز ما يميز الفيلم هو اعتماده الكامل على السرد البصري من دون أي حوار أو تعليق صوتي، ويتيح ذلك لأي مشاهد في العالم، مهما كانت لغته أو خلفيته، أن يفهم القصة ويتفاعل معها، وتكمل الصور والموسيقى والإيقاع السردي وحدها المعنى وتؤدي الغرض العاطفي المطلوب.
ورغم أن السيدة تعيش في حاضرها حياة مستقرة، فإن صورة زوجها المعلقة على الحائط هي الدليل الحسي على النقص الوجودي الذي لا يمكن تجاهله، وتذكرها هذه الصورة يومياً بأن هناك سؤالاً بلا جواب، وأن العدالة مازالت معلقة. وخلال بحثها، تزور السيدة منظمة سورية تعنى بالمعتقلين والمفقودين. في تلك اللحظة، لا تصبح تلك الشخصية أماً تبحث عن زوج، بل إنسانة تُطالب بحقها في الحقيقة والعدالة. وحتى عندما لا تجد إجابة، تواصل، لا بدافع الأمل فقط، بل من منطلق الواجب الأخلاقي تجاه نفسها وأطفالها.
وتتجسد ذروة الفيلم في الجملة الختامية، حين يسألها ابنها الصغير: "ماما، لقيتي بابا؟" فتجيبه بصوت حنون مثقل بالثبات:"لا حبيبي، ما لقيتو بس بكرا منكفي". وهذه العبارة، التي اختيرت عنواناً للفيلم، تختصر معاناة السوريين الذين يعيشون بين الأمل والخذلان، وبين الغياب والحياة، وهي ليست فقط وعداً للطفل، بل موقفاً سياسياً وإنسانياً يقول: "السكوت لا يعني النسيان، والاستقرار لا يعني التسليم".
وبهذا المزج بين الإبداع الفني والمأساة الواقعية، يقدم "بكرا منكفي" واحدة من أصدق الروايات البصرية عن أثر الإخفاء القسري، لا كحادثة وقعت، بل كجرح مفتوح يلاحق الذاكرة، ويشكل يوميات بعض اللاجئين، مهما ابتعدوا في الجغرافيا.
ومنذ اندلاع النزاع في سوريا العام 2011، وثقت المنظمات الحقوقية بشكل مستمر أرقاماً مرعبة عن المختفين قسراً، تجاوز عددهم بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" 155 ألف شخص معظمهم على يد النظام السوري، ومازالت أغلب هذه الحالات من دون أي توضيح علماً أن الاختفاء القسري في سوريا ليس مجرد حالات فردية، بل سياسة منهجية مارستها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد السابق، لقمع أي شكل من أشكال المعارضة أو المطالبة بالحرية. وهذه الجريمة المستمرة لا تنتهي بتوقف التعذيب، بل تترك خلفها عائلات معلقة في الزمن، لا تعرف إن كانت تودع أم تنتظر.
وتأسس "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" العام 2001 ويتخذ من نيويورك مقراً له، ويعنى بدعم المجتمعات الخارجة من النزاعات لمواجهة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويعمل على ملفات الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي. وفي الحالة السورية، لعب المركز دوراً بارزاً في دعم ضحايا الاعتقال والإخفاء القسري، وفي تقديم دعم تقني ومؤسساتي للمنظمات المحلية التي توثق الانتهاكات وتطالب بتحقيق العدالة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوّية
عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوّية

المدن

timeمنذ 5 أيام

  • المدن

عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوّية

في خلال 12 دقيقة فقط، ومن دون أن تنطق أي شخصية بكلمة، ينجح الفيلم القصير "بكرا منكفي"، المستند إلى شهادات واقعية، في تجسيد واحدة من أعمق المآسي التي طاولت السوريين خلال العقد الأخير: مأساة الاختفاء القسري. وبأسلوب بصري مؤلم وصامت، ينقل الفيلم أثر الجريمة المستمرة، ليس فقط بحق من اختفوا، بل بحق عائلاتهم التي بقيت معلقة بين الأمل وانتظار الأجوبة حول مصيرهم، حاملة صدمة متوارثة لا يخففها مرور الزمن ولا يداويها اللجوء. وحظي الفيلم، الذي أطلقه "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، باهتمام عالمي واسع، فنال أكثر من عشر جوائز، أبرزها في "مهرجان نيويورك لأفلام حقوق الإنسان"، و"جوائز الأفلام القصيرة المستقلة" في لوس أنجيلس، و"مهرجان مونتريال" المستقل، لكن قيمته تتجاوز الجوائز لأنه يشكل وثيقة بصرية عن الألم السوري المتجذر في الجغرافيا والوجدان، حيث يتحول الغياب إلى حياة يومية، والبحث إلى وظيفة وجدانية لا تنتهي. ويروي الفيلم الذي بات متوافراً في "يوتيوب"، قصة أم سورية شابة تقيم في برلين مع طفليها بعدما اختفى زوجها في سجون النظام السوري المخلوع. وفيما تبدو حياتها في الظاهر مستقرة وآمنة، إذ تعيش في شقة صغيرة وتعمل وتوصل أطفالها إلى المدرسة وتؤدي مهامها اليومية ضمن روتين هادئ، يوجد خلف الاستقرار الخارجي، ذكريات تضطرب مع كل حركة، ويختلط الحاضر بمشاهد ماضية لا تكف عن التسلل إلى يومها. تعيش السيدة في عالمين، الحاضر الذي يبدو مسطحاً، والماضي الذي لا يكف عن الظهور في كل مكان، بداية من خيام اللجوء في اليونان وقوارب الهروب في البحر وعبور الحدود ليلاً وليس انتهاء بجلسات التحقيق في مراكز الأمن في سوريا، والتعامل المهين الذي تتعرض له هناك. كلها صور تطفو بلا ترتيب، كأنها تراوما دائمة تعيشها في كل لحظة، لا يوقفها زمن ولا تخففها مسافة، كما لا تظهر كماضٍ منقطع، بل كواقع يتكرر في رأسها باستمرار، وكأن الزمن لم يتحرك للأمام منذ اختفاء زوجها. التناوب المكثف بين الماضي والحاضر هو قلب الفيلم، ويجسد التروما النفسية التي تلاحق كثيراً من اللاجئين السوريين، حتى بعد وصولهم إلى "الأمان". فالأم أسيرة شعور دائم بعدم الأمان، ويظهر ارتباكها في الأماكن المغلقة وتوترها في الشارع وخوفها من المفاجآت، وكأن الخطر لم يغادر جسدها، حتى لو غادرت شخصياً المكان الذي تواجد فيه ذلك الخطر. وأبرز ما يميز الفيلم هو اعتماده الكامل على السرد البصري من دون أي حوار أو تعليق صوتي، ويتيح ذلك لأي مشاهد في العالم، مهما كانت لغته أو خلفيته، أن يفهم القصة ويتفاعل معها، وتكمل الصور والموسيقى والإيقاع السردي وحدها المعنى وتؤدي الغرض العاطفي المطلوب. ورغم أن السيدة تعيش في حاضرها حياة مستقرة، فإن صورة زوجها المعلقة على الحائط هي الدليل الحسي على النقص الوجودي الذي لا يمكن تجاهله، وتذكرها هذه الصورة يومياً بأن هناك سؤالاً بلا جواب، وأن العدالة مازالت معلقة. وخلال بحثها، تزور السيدة منظمة سورية تعنى بالمعتقلين والمفقودين. في تلك اللحظة، لا تصبح تلك الشخصية أماً تبحث عن زوج، بل إنسانة تُطالب بحقها في الحقيقة والعدالة. وحتى عندما لا تجد إجابة، تواصل، لا بدافع الأمل فقط، بل من منطلق الواجب الأخلاقي تجاه نفسها وأطفالها. وتتجسد ذروة الفيلم في الجملة الختامية، حين يسألها ابنها الصغير: "ماما، لقيتي بابا؟" فتجيبه بصوت حنون مثقل بالثبات:"لا حبيبي، ما لقيتو بس بكرا منكفي". وهذه العبارة، التي اختيرت عنواناً للفيلم، تختصر معاناة السوريين الذين يعيشون بين الأمل والخذلان، وبين الغياب والحياة، وهي ليست فقط وعداً للطفل، بل موقفاً سياسياً وإنسانياً يقول: "السكوت لا يعني النسيان، والاستقرار لا يعني التسليم". وبهذا المزج بين الإبداع الفني والمأساة الواقعية، يقدم "بكرا منكفي" واحدة من أصدق الروايات البصرية عن أثر الإخفاء القسري، لا كحادثة وقعت، بل كجرح مفتوح يلاحق الذاكرة، ويشكل يوميات بعض اللاجئين، مهما ابتعدوا في الجغرافيا. ومنذ اندلاع النزاع في سوريا العام 2011، وثقت المنظمات الحقوقية بشكل مستمر أرقاماً مرعبة عن المختفين قسراً، تجاوز عددهم بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" 155 ألف شخص معظمهم على يد النظام السوري، ومازالت أغلب هذه الحالات من دون أي توضيح علماً أن الاختفاء القسري في سوريا ليس مجرد حالات فردية، بل سياسة منهجية مارستها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد السابق، لقمع أي شكل من أشكال المعارضة أو المطالبة بالحرية. وهذه الجريمة المستمرة لا تنتهي بتوقف التعذيب، بل تترك خلفها عائلات معلقة في الزمن، لا تعرف إن كانت تودع أم تنتظر. وتأسس "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" العام 2001 ويتخذ من نيويورك مقراً له، ويعنى بدعم المجتمعات الخارجة من النزاعات لمواجهة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويعمل على ملفات الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي. وفي الحالة السورية، لعب المركز دوراً بارزاً في دعم ضحايا الاعتقال والإخفاء القسري، وفي تقديم دعم تقني ومؤسساتي للمنظمات المحلية التي توثق الانتهاكات وتطالب بتحقيق العدالة.

عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوية
عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوية

المدن

timeمنذ 6 أيام

  • المدن

عن الاختفاء القسري بسوريا..."بكرا منكفي": فيلم صامت وحرقة مدوية

في 12 دقيقة فقط، ومن دون أن تنطق أي شخصية بكلمة، ينجح الفيلم القصير "بكرا منكفي"، المستند إلى شهادات واقعية، في تجسيد واحدة من أعمق المآسي التي طاولت السوريين خلال العقد الأخير: مأساة الاختفاء القسري. وبأسلوب بصري مؤلم وصامت، ينقل الفيلم أثر الجريمة المستمرة، ليس فقط بحق من اختفوا، بل بحق عائلاتهم التي بقيت معلقة بين الأمل وانتظار الأجوبة حول مصيرهم، حاملة صدمة متوارثة لا يخففها مرور الزمن ولا يداويها اللجوء. وحظي الفيلم، الذي أطلقه "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، باهتمام عالمي واسع، فنال أكثر من عشر جوائز، أبرزها في "مهرجان نيويورك لأفلام حقوق الإنسان"، و"جوائز الأفلام القصيرة المستقلة" في لوس أنجيلس، و"مهرجان مونتريال" المستقل، لكن قيمته تتجاوز الجوائز لأنه يشكل وثيقة بصرية عن الألم السوري المتجذر في الجغرافيا والوجدان، حيث يتحول الغياب إلى حياة يومية، والبحث إلى وظيفة وجدانية لا تنتهي. ويروي الفيلم الذي بات متوافراً في "يوتيوب"، قصة أم سورية شابة تقيم في برلين مع طفليها بعدما اختفى زوجها في سجون النظام السوري المخلوع. وفيما تبدو حياتها في الظاهر مستقرة وآمنة، إذ تعيش في شقة صغيرة وتعمل وتوصل أطفالها إلى المدرسة وتؤدي مهامها اليومية ضمن روتين هادئ، يوجد خلف الاستقرار الخارجي، ذكريات تضطرب مع كل حركة، ويختلط الحاضر بمشاهد ماضية لا تكف عن التسلل إلى يومها. تعيش السيدة في عالمين، الحاضر الذي يبدو مسطحاً، والماضي الذي لا يكف عن الظهور في كل مكان، بداية من خيام اللجوء في اليونان وقوارب الهروب في البحر وعبور الحدود ليلاً وليس انتهاء بجلسات التحقيق في مراكز الأمن في سوريا، والتعامل المهين الذي تتعرض له هناك. كلها صور تطفو بلا ترتيب، كأنها تراوما دائمة تعيشها في كل لحظة، لا يوقفها زمن ولا تخففها مسافة، كما لا تظهر كماضٍ منقطع، بل كواقع يتكرر في رأسها باستمرار، وكأن الزمن لم يتحرك للأمام منذ اختفاء زوجها. التناوب المكثف بين الماضي والحاضر هو قلب الفيلم، ويجسد التروما النفسية التي تلاحق كثيراً من اللاجئين السوريين، حتى بعد وصولهم إلى "الأمان". فالأم أسيرة شعور دائم بعدم الأمان، ويظهر ارتباكها في الأماكن المغلقة وتوترها في الشارع وخوفها من المفاجآت، وكأن الخطر لم يغادر جسدها، حتى لو غادرت شخصياً المكان الذي تواجد فيه ذلك الخطر. وأبرز ما يميز الفيلم هو اعتماده الكامل على السرد البصري من دون أي حوار أو تعليق صوتي، ويتيح ذلك لأي مشاهد في العالم، مهما كانت لغته أو خلفيته، أن يفهم القصة ويتفاعل معها، وتكمل الصور والموسيقى والإيقاع السردي وحدها المعنى وتؤدي الغرض العاطفي المطلوب. ورغم أن السيدة تعيش في حاضرها حياة مستقرة، فإن صورة زوجها المعلقة على الحائط هي الدليل الحسي على النقص الوجودي الذي لا يمكن تجاهله، وتذكرها هذه الصورة يومياً بأن هناك سؤالاً بلا جواب، وأن العدالة مازالت معلقة. وخلال بحثها، تزور السيدة منظمة سورية تعنى بالمعتقلين والمفقودين. في تلك اللحظة، لا تصبح تلك الشخصية أماً تبحث عن زوج، بل إنسانة تُطالب بحقها في الحقيقة والعدالة. وحتى عندما لا تجد إجابة، تواصل، لا بدافع الأمل فقط، بل من منطلق الواجب الأخلاقي تجاه نفسها وأطفالها. وتتجسد ذروة الفيلم في الجملة الختامية، حين يسألها ابنها الصغير: "ماما، لقيتي بابا؟" فتجيبه بصوت حنون مثقل بالثبات:"لا حبيبي، ما لقيتو بس بكرا منكفي". وهذه العبارة، التي اختيرت عنواناً للفيلم، تختصر معاناة السوريين الذين يعيشون بين الأمل والخذلان، وبين الغياب والحياة، وهي ليست فقط وعداً للطفل، بل موقفاً سياسياً وإنسانياً يقول: "السكوت لا يعني النسيان، والاستقرار لا يعني التسليم". وبهذا المزج بين الإبداع الفني والمأساة الواقعية، يقدم "بكرا منكفي" واحدة من أصدق الروايات البصرية عن أثر الإخفاء القسري، لا كحادثة وقعت، بل كجرح مفتوح يلاحق الذاكرة، ويشكل يوميات بعض اللاجئين، مهما ابتعدوا في الجغرافيا. ومنذ اندلاع النزاع في سوريا العام 2011، وثقت المنظمات الحقوقية بشكل مستمر أرقاماً مرعبة عن المختفين قسراً، تجاوز عددهم بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" 155 ألف شخص معظمهم على يد النظام السوري، ومازالت أغلب هذه الحالات من دون أي توضيح علماً أن الاختفاء القسري في سوريا ليس مجرد حالات فردية، بل سياسة منهجية مارستها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد السابق، لقمع أي شكل من أشكال المعارضة أو المطالبة بالحرية. وهذه الجريمة المستمرة لا تنتهي بتوقف التعذيب، بل تترك خلفها عائلات معلقة في الزمن، لا تعرف إن كانت تودع أم تنتظر. وتأسس "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" العام 2001 ويتخذ من نيويورك مقراً له، ويعنى بدعم المجتمعات الخارجة من النزاعات لمواجهة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويعمل على ملفات الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي. وفي الحالة السورية، لعب المركز دوراً بارزاً في دعم ضحايا الاعتقال والإخفاء القسري، وفي تقديم دعم تقني ومؤسساتي للمنظمات المحلية التي توثق الانتهاكات وتطالب بتحقيق العدالة.

"أنا ما زلتُ هنا"...الوحوش تقيم بيننا
"أنا ما زلتُ هنا"...الوحوش تقيم بيننا

المدن

time٠٩-٠٤-٢٠٢٥

  • المدن

"أنا ما زلتُ هنا"...الوحوش تقيم بيننا

فاز الفيلم البرازيلي "أنا ما زلتُ هنا"، بجائزة أوسكار لأفضل فيلم دولي بفضل تناوله مصير عائلة مزقتها الديكتاتورية العسكرية في البرازيل. تذكيرٌ قوي بأن الوحوش المدافعة عن مذبحة غزة تُقيم بيننا. شاهدتُ "ما زلتُ هنا" للمرة الأولى في مهرجان نيويورك السينمائي، الخريف الماضي. هو الفيلم الجديد لوالتر ساليس، الفائز أخيراً بأوسكار أفضل فيلم دولي، والدائر حول اختفاء ناشط معارض أثناء الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل من 1964 إلى 1985. كنت أجلس بجوار امرأة برازيلية شابّة، وبينما كنّا نتجاذب أطراف الحديث سألتها عما قد تطرحه على المخرج إذا سنحت لها الفرصة. فأجابتني بأنها تودّ معرفة ما إذا كان يعتقد أن الفيلم قادر على نشر الوعي بما حدث خلال تلك الفترة وحثّ الناس على مواجهة إرثها. ولم يكن سؤالي مجرّداً؛ فقد كنت أنوي إجراء مقابلة مع ساليس في اليوم التالي، ووجّهت سؤال المرأة إلى ساليس على النحو اللائق، فأعرب عن أمله في أن يخدم الفيلم هذه الوظيفة في البرازيل ـ التي لم تستوعب حقيقة ماضيها قطّ، على النقيض مثلاً من جارتيها الأرجنتين وأوروغواي. تحقّقت آمال ساليس على نحوٍ واف. فقد شاهد أكثر من ثلاثة ملايين برازيلي فيلمه في دور العرض، وأثار الفيلم مناقشات مهمّة حول تاريخ الأمّة. مثل هذه المناقشة ضرورية خصوصاً الآن، حيث كانت هذه اللحظة الرهيبة على وشك التكرار مؤخراً: في يناير/كانون الثاني 2023، رفض أنصار الرئيس المنتهية ولايته خايير بولسونارو قبول خسارته أمام لولا دا سيلفا واقتحموا مجمّع العاصمة في برازيليا في محاولة لتنظيم انقلاب. نادراً ما يأتي فيلم سياسي في مثل هذه اللحظة المواتية وبمثل هذا التأثير المشهود. يروي الفيلم اختفاء عضو الكونغرس البرازيلي السابق روبنز بايفا، الذي ساعد معارضي الحكومة العسكرية حتى أخذه من منزله من قبل الجيش في العام 1971 ولم يُر مرة أخرى. أمضت زوجته يونيس سنوات في محاولة الوصول إلى حقيقة مصير زوجها، سعيٌ قادها إلى كلية الحقوق والتزامها طيلة حياتها كمحامية في مجال حقوق الإنسان. (نجمة الفيلم هي فرناندا توريس، التي تلعب دور يونيس، وتصوّرها كشخصية قوية لا تلين وبطلة هادئة، ملتزمة بكشف الحقيقة والحفاظ على تماسك أسرتها.) بعد عقود، تم التأكيد بأن بايفا تعرّض للتعذيب والقتل في اليوم التالي لاختطافه/اختفائه. كان ساليس، الذي فرّت عائلته من البرازيل لفترة من الوقت بعد الانقلاب، صديقاً لإحدى بنات بايفا؛ وبالتالي فالفيلم ليس مجرد عمل تكريمي وتذكير سياسي، بل أيضاً عودة إلى مراهقته وحساب لماضيه. إنه عملٌ مصنوع بشكلٍ جميل. النصف ساعة الأولى (بينما كانت الأسرة لا تزال معاً وتعيش الحياة على أكمل وجه)، مصوَّرة بكاميرا حيوية دائمة الحركة، على خلفية موسيقى البوب ​​البرازيلية في ذلك الوقت؛ بينما بعد اختفاء روبنز، اختفى أيضاً الضوء الساطع والموسيقى والحركة. تعمل جميع عناصر هذه التحفة الفنية على التعبير عن المأساة العميقة لما حدث لروبنز وعائلته والبرازيل. بعيداً من مشابهات الوحشية والصلف المعهودة في كل نظامٍ قمعي – كما نعرفها ونألفها في منطقتنا - ما يلفت الانتباه كثيراً في الفيلم هو العدد اللامتناهي لمسؤولي النظام المتعاونين الذين ارتكبوا انتهاكات ضد الرجال والنساء والأطفال بلا مبالاة وبضمير حيّ. كأنهم بمثابة تذكير بأن الكثير منهم ومَن على شاكلتهم يعيشون بيننا، أولئك الذين لم يفعلوا سوى القليل لإخفاء هويّتهم على مدى الأشهر الـ16 الأخرة منذ بدء المذبحة الإسرائيلية-الأميركية بحق الفلسطينيين. إنهم الساسة الذين يحرّفون اللغة والقانون الدولي عبر وصفهم العقاب الجماعي لشعب غزة من خلال القصف الشامل والتجويع - وهي جرائم ضد الإنسانية - بأنها "دفاع عن النفس". إنهم ضبّاط الشرطة الأوروبيون الذين يداهمون منازل الناس، ويحتجزون ويعتقلون الصحافيين المستقلين ونشطاء حقوق الإنسان، بما في ذلك اليهود، بسبب احتجاجهم على المذبحة في غزة. إنهم الصحافيون المؤسّسون الذين يتظاهرون بأن المذبحة التي لحقت بشعب غزة ليست سوى قصة إخبارية روتينية أخرى، أقل أهمية من وفاة ممثل مسنّ، أو نتيجة مباراة مهمة في لعبة جماهيرية. وأكثر من أي شيء آخر، هم جيش من الناس العاديين على وسائل التواصل الاجتماعي، يسخرون من عائلات وذوي أطفال فلسطينيين مزّقتهم قنابل قصف إسرائيلي زودتّها بها الولايات المتحدة؛ يردّدون مزاعم لا نهاية لها عن "غزة وود"، وكأن تدمير المنطقة الصغيرة، الممكن رؤيتها من الفضاء الخارجي، خيالٌ محض وأن الضحايا الوحيدين هم مقاتلو حماس؛ يدافعون عن اختطاف مئات الأطباء والممرضات من مستشفيات غزة ونقلهم إلى "معسكرات اعتقال" حيث يعدّ التعذيب والانتهاك الجنسي والاغتصاب إجراءً قانونياً مشروعاً؛ يبرّرون تدمير مستشفيات غزة وترك الأطفال الخدّج والنساء الحوامل والمرضى وكبار السنّ ليموتوا، على أساس مزاعم إسرائيلية لا أساس لها من الصحة تخدم فقط أكاذيبها بأن كل مستشفى "مركز قيادة وسيطرة" لحماس؛ يشجّعون محو الفيلم الوثائقي الوحيد عن غزة الذي يضفي طابعاً إنسانياً على أطفالها لأن والد الراوي البالغ من العمر 13 عاماً عالمٌ معيّن من قبل حكومة حماس للإشراف على ما كان قطاعها الزراعي قبل أن تدمّر إسرائيل كل نباتات القطاع. هؤلاء الناس يعيشون بيننا. ويزدادون ثقة يوما بعد يوم. وفي يوم من الأيام، إذا لم نقاومهم الآن، فسيضعون غطاءً على رؤوسنا ليأخذونا إلى مكان سرّي. سيجلسون أمامنا، ويطرحون علينا الأسئلة نفسها مراراً وتكراراً، ويجعلوننا نتصفّح ألبومات الصور للعثور على وجوهٍ نعرفها، وأشخاص يمكننا الإبلاغ عنهم. سيقودوننا إلى زنازين قذرة، حيث يوجد رفّ صلب للنوم، ولا بطانية لتدفئتنا، ولا فرصة للاستحمام، وحفرة في الأرض للمرحاض، ووجبة واحدة لتغذيتنا طوال اليوم. سيرافقوننا بصمتٍ عبر ممرّات مظلمة طويلة إلى غرفة حيث ينتظروننا. سيكون هناك كرسي في وسط غرفة فارغة. سيومئون لنا بالجلوس. وبعد ذلك سيبدأ الأمر.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store