
"كارمن" الجامحة الشريرة في ذكرى 150 عاماً على ولادتها
في مثل هذه الأيام من عام 1875 وبعد أسابيع قليلة من التقديم الأول لأوبرا "كارمن" على خشبة "أوبرا كوميك" الباريسية، كان ثمة رجل يرقد في سريره وقد ألمت به حال صحية فاقم منها الفشل الذريع الذي كان من نصيب تلك الأوبرا. كان الرجل جورج بيزيه ملحن "كارمن" نفسه، وهو الموسيقي الفرنسي الذي لم يكن يعرف في تلك الأيام الخاتمة لحياته، أنه لئن كان عالم الموسيقى وهواتها قد اعتاد أن يجابه فاغنر الألماني الكبير وصاحب أبرز أوبرات القرن الـ20، بالإيطالي جوزيبي فيردي المعتبر منافسه الرئيس على الصعيد العالمي، فإن فيلسوفاً كبيراً هو فردريك نيتشه، سيعتبره هو، أي بيزيه، الفنان الأوبرالي الذي يجب وضعه مقابل فاغنر لا الإيطالي صاحب "عايدة" و"ترافياتا" وغيرهما من روائع ذلك الزمن.
والحقيقة أن تدخل نيتشه في حسم الموضوع لن يكون سوى بعد أعوام عديدة من رحيل بيزيه، والذي ستحتفل فرنسا به بعد أشهر من الآن. فهو رحل في سبتمبر (أيلول) عام 1875، بعد فصلين من تقديم أوبراه الأخيرة، "كارمن"، في ربيع ذلك العام نفسه.
أما خلال الأشهر الفاصلة بين تقديم تلك الأوبرا ورحيل مبدعها جورج بيزيه، فإنه كان على هذا الأخير أن يتجرع كأس واحدة من أمر ضروب الفشل في حياته، بل كان عليه أيضاً أن يتصدى، موهناً، للكتابات التي انطلاقاً من زعيق الجمهور الغاضب صارخاً "يا للفضيحة!" يوم العرض الأول في الثالث من مارس (آذار) من ذلك العام، راحت تنصب غاضبة على أوبراه.
ومهما يكن من أمر لا بد أن نذكر أن "كارمن" عرفت كيف تستعيد جمهورها في عروض تالية في العام نفسه، لكن بيزيه كان حينها يصارع سكرات الموت فلم يتنبه لذلك.
أشهر أوبرا في التاريخ؟
بالطبع لن يتنبه إلى أن "كارمن" ستصبح خلال الأزمان التالية أشهر أوبرا في تاريخ هذا الفن، وليس طبعاً بفضل ما كتبه نيتشه من حولها معتبراً إياها "فعل مقاومة موسيقية وإنسانية تأتي من عوالم البحر الأبيض المتوسط مليئة بالحبور والفرح والشمس المشرقة لتجابه عوالم فاغنر الشمالية الباردة الكئيبة واللاإنسانية".
ولعل في إمكاننا هنا أن نقول إن نيتشه، حين أسبغ ذلك المجد الفلسفي على بيزيه وأوبراه، ربما لم يكن يصدر عن رأي فني تقني، وربما أنه لم يقل ذلك إلا نكاية بصديقه فاغنر الذي كان قد بات على خلاف معه فأراد أن "ينزل به إلى مستوى بيزيه" بدلاً من أن "يرفعه" بالمقارنة إلى مستوى فيردي، في تراتبية كان في شأنها أن تبدو منطقية، غير أن هذا لا يلغي كون الرأي الذي أبداه الفيلسوف الكبير سيبقى ماثلاً في الأذهان مما أضفى على "استعادة" تلك الأوبرا مكانتها، نكهة نخبوية تضافرت مع نكهتها الشعبية ودلالاتها المتوسطية والنسوية ما لم تتمتع به أي أوبرا أخرى في زمنها.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن كان جورج بيزيه قد مات من دون أن يدري شيئاً عن ذلك، فإن ذكراه انطبعت به ما أكد أية حال، مكانة كانت من نصيبه خلال الأعوام القصيرة التي عرفت نشاطه الإبداعي وقطعتها طبعاً تلك السكتة القلبية التي أنهت حياته وهو بالكاد تجاوز الـ37 من عمره.
وربما يجب علينا التوقف هنا عند مساره الإبداعي قبل أن نعود إلى "فضيحة كارمن" التي ختمت حياته. لكنها في المقابل عرفت كيف تطلق أسطورته متضافرة مع أسطورة تلك المرأة الرائعة التي وقف نصيراً لها بكل كيانه وفنه عبر اختياره نص مواطنه بروسبير ميريمه، ونعني هنا بالطبع "كارمن".
كل ذلك التأخير
في البداية قد يكون منطقياً أن ننطلق في حديثنا عن جورج بيزيه (1838 – 1875) مما قاله عنه عند رحيله زميله الكبير كاميل سان سانس، "قبل أن يكون أي شيء آخر، وخصوصاً قبل أن يكون موسيقياً، كان جورج بيزيه إنساناً ولا شك أن هذا قد أضر به قبل أي شيء آخر".
والحقيقة أن سان سانس نسي أن يوضح هنا أن بيزيه كان إنساناً بالمعنى "السيئ" للكلمة. وهذا ما أوضحته على أي حال نصوص كثيرة تناولت حياة بيزيه وشخصيته. ومن اللافت في معظم تلك النصوص تركيزها على شخصية ذلك المبدع بأكثر ربما مما ركزت على فنه. وهكذا أسهب معظمها في القول إنه إنما كان "بورجوازياً صغيراً من أهل الإمبراطورية الفرنسية الثانية" كسولاً يفضل التنفيذ على الابتكار ويتقن العزف على البيانو إلى درجة أثارت إعجاب فرانز ليست المطلق. غير أنه وإن كان قد بدأ التأليف باكراً، سيمفونية أولى بين اثنتين لحنهما أتمها وهو في الـ17 لكنها لم تكتشف إذ خبأها بعناية إلا عام 1930 بعد أكثر من نصف قرن من رحيله!، فإنه لم يحتفل أيما احتفال بمنجزاته ومن هنا كان التأخر في تعرف عالم الموسيقى إلى أعمال له مثل أنشودة "فاسكو دي غاما – السيمفونية" ومتابعته للمسرح المعروفة بـ"الآرليزية"، وخصوصاً أوبراه الكبرى "صيادو اللؤلؤ"، ناهيك بافتتاحية رائعة بعنوان "الوطن" بدأها ولم يستكمل حركاتها التالية أبداً.
في النهاية مات بيزيه عن تلك الأعمال إضافة لنحو 60 أغنية جلها مستقى من أوبراته نفسها، ولكن من دون أن يكتب أي "كونشرتو" ومن دون أن يدنو من "موسيقى الحجرة". كان من الجلي أن اهتمامه قد انصب على المسرح وعلى العروض المسرحية الغنائية.
فضيحة فن واقعي
أوصل جورج بيزيه إنتاجه في هذا المجال إلى "كارمن"، تلك الأوبرا التي لا يمكن أبداً أن نقول، كما يقول البعض متسرعاً، إنها تدين بشهرتها إلى نيتشه وتفضيله لها على كل أعمال فاغنر. فالحال أن "كارمن" وبعد فترة يسيرة من تقديمها الأول، عرفت في زمن شديد التقلب كيف تستعيد مكانتها، بعدما "قامت بمهمتها في إيصال بيزيه إلى موته حزيناً" كما قال واحد من النقاد الفرنسيين. ولعل اللافت أن تلك المهمة لم تتجاوز الأيام القليلة، عبر ذلك البعد الفضائحي الذي كان على أية حال من السمات المميزة للحياة الفنية، وغير الفنية، في فرنسا ذلك الحين. فيومها، ونعني يوم تقديم عرضها الأول في باريس، كان على النقاد أن يتنبهوا إلى أن بيزيه قد وصل في اشتغاله على هذه الأوبرا إلى ذروة لا تضاهى في الإنجاز الموسيقي والدرامي تحديداً.
ومع ذلك لم يخلُ الأمر ممن نعتوها بأنها فاغنرية المنحى. لكن ذلك لم يكن شيئاً أمام ما وصفها آخرون به من كونها "أوبرا لا أخلاقية" بالنسبة إلى موضوعها من ناحية المضمون ومن خلال عمال وعاملات التبغ الذين يقدمون حكايتهم على المسرح، إذ ظهروا وهم يدخنون السجائر فيما هم يرقصون ويغنون! بل إن الزاعقين "يا للفضيحة!"، تحدثوا أيضاً عن أنه لا يجوز في أي أوبرا من هذا النوع أن تموت شخصية الرئيسة في نهاية أحداثها... وكل هذا، كما سبق أن أشرنا في أول هذا الكلام، قد لعب دوراً رئيساً في الاستقبال السيئ الذي كان لـ"كارمن" مغطياً على تجديداتها الموسيقية بل حتى الإيقاعية التي سيكون نيتشه خير من تحدث عنها من منطلق يقرظ متوسطية تلك الأوبرا.
ومهما يكن من أمر، نعرف الآن أن "كارمن" ومن دون أن يتمتع جورح بيزيه بمعرفة ردود الفعل الأكثر صواباً عليها قبل موته، ستنال بسرعة نصيبها على يد جمهور أكثر إنصافاً، ونقاد ومؤرخين أكثر عدلاً يرون فيها إرهاصاً بولادة الأوبرا الأكثر حداثة، أي الأوبرا التي تدخل الواقع إلى هذا الفن، الواقع بكل قسوته وجماله وإنسانيته.
وربما تجاوباً مع ذلك السؤال الذي كثيراً ما كان قد طرح من حول: متى سيصل الواقع، وتحديداً كما عبر عنه في الأدب الفرنسي مبدعون من طينة بلزاك وفلوبير وزولا، ورسامون من طينة كوربيه وغيرهم، إلى فن الأوبرا؟ وبكلمات أخرى: متى تصل شمس البحر الأبيض المتوسط، ولو عبر المرشح الإسباني، الطاغي على "كارمن" على أية حال، إلى المسرح الأوبرالي؟
كان الجواب عملياً لدى بيزيه الذي لم يكن متنبهاً وهو على فراش الموت إلى كونه أوصل الموسيقى الأوبرالية إلى المستوى الكبير الذي بلغه الفن الروائي والرسم وحتى المسرح في فرنسا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق السعودية
٠١-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق السعودية
كارمن سليمان لـ"الشرق": "موازين" يُعيدني للغناء بعد استراحة أمومة طويلة
تستعد الفنانة المصرية كارمن سليمان لافتتاح الدورة العشرين من مهرجان موازين، عبر حفل غنائي يقام في 19 يونيو المقبل على المسرح الوطني بالعاصمة المغربية الرباط، لتعود بذلك إلى جمهورها بعد فترة توقف طويلة بسبب الأمومة. وأعربت كارمن لـ"الشرق" عن سعادتها الكبيرة بهذه المشاركة، ووصفت نفسها بأنها "محظوظة" كونها أول مطربة من جيلها تتواجد ضمن قائمة نجوم المهرجان، وقالت: "أعتبر مشاركتي تتويجاً لمجهود سنوات مضت، وثمارها تتجسد في افتتاحي لحفل بهذه الضخامة والمكانة". وأضافت: "العودة إلى الغناء من خلال مهرجان عريق مثل موازين تتطلب استعدادات مكثفة، خاصةً وأن الجمهور المغربي جمهور ذواق للفن ويعشق الموسيقى والطرب. لذلك ستكون اختياراتي الغنائية مختلفة تماماً، لتناسب طبيعة المهرجان وذوق الحضورط. توازن عن تجربتها كأم لثلاثة أطفال، تحدثت كارمن سليمان قائلة: "الأمومة شعور عظيم، ولم أكن أتخيل يوماً أن أصبح أماً لأكثر من طفل، لكنني أحمد الله على هذه النعمة، تربية طفلين توأم تختلف كلياً عن تربية طفل واحد، ورغم الإرهاق، إلا أن التجربة مليئة بالسعادة والبهجة". وأشارت إلى دعم زوجها، الملحن مصطفى جاد، الذي تفرغ خلال الفترة الماضية للعمل الإنتاجي في مجال الموسيقى، وحقق فيه نجاحات ملحوظة، مضيفة: "نستعد حالياً للتعاون معاً في ثلاث أغنيات جديدة، وهو يعود مجدداً للتركيز في مجال التلحين". ألبوم جديد وكشفت كارمن عن تحضيرها لألبوم غنائي جديد، يجمعها بعدد من أبرز الشعراء والملحنين، من بينهم عزيز الشافعي، مصطفى جاد، أدهم الجزار، وسارة فرج، مشيرة إلى أنها لم تستقر بعد على عنوان الألبوم. وأثنت بشكل خاص على تعاونها مع عزيز الشافعي، واصفة إياه بأنه "من أهم الشعراء والملحنين في تاريخنا الحديث"، معتبرة أن الجمع بين كتابة الشعر والتلحين 'موهبة نادرة، ونجح فيها بشكل مميز ومختلف'. وحول إمكانية خوضها تجربة التمثيل، أكدت كارمن أنها لا ترفض الفكرة، قائلة: "أطمح لتقديم أعمال فنية ذات قيمة، وأعلم أن التمثيل مجال صعب، لكنني منفتحة على التجربة شرط ألا تؤثر على مسيرتي الغنائية".


مجلة سيدتي
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- مجلة سيدتي
كارمن بصيبص تنضم لأبطال فيلم إن غاب القط
انضمت النجمة اللبنانية كارمن بصيبص إلى فريق عمل فيلم "إن غاب القط "، والذي يضم مجموعة مميزة من النجوم والمشاهير منهم آسر ياسين، أسماء جلال، محمد شاهين، علي صبحي، سماح أنور وآخرون، وهو من تأليف أيمن وتار وإخراج سارة نوح. استئناف تصوير فيلم "إن غاب القط" ويأتي انضمام كارمن بصيبص لأبطال فيلم "إن غاب القط" بالتزامن، مع إعلان المنتج هاني عبد الله، عن استئناف تصوير مشاهد الفيلم ،وذلك تمهيداً لطرحه في دور السينما خلال الفترة المقبلة، ونشر "عبد الله" صورة تجمعه بنجوم الفيلم والمشاركين به عبر صفحته على "فيسبوك"، معلقاً: "توكلنا على الله، استئناف تصوير فيلم( إن غاب القط) وربنا يكرمنا". فيلم "إن غاب القط" بدأ تصويره في أكتوبر من العام الماضي 2024، قبل توقفه بسبب انشغال الفنان آسر ياسين ، بتصوير مسلسل "قلبي ومفتاحه"، والفنانة أسماء جلال بتصوير "أشغال شقة جداً" وعرض العملين في موسم رمضان الماضي. يمكنكم قراءة ... كارمن بصيبص لـ"سيدتي": مسلسل "نظرة حب" مليء بالتشويق والغموض آخر المشاركات السينمائية لكارمن بصيبص وكانت آخر المشاركات السينمائية للنجمة كارمن بصيبص ، من خلال فيلم "العارف" الذي عرض عام، 2021 وظهرت خلال أحداثه بشخصية "مايا" والتي تعمل "هاكر" محترفة". وشارك في بطولة الفيلم أحمد عز، أحمد فهمي، مصطفى خاطر، ومحمود حميدة. تأليف محمد سيد بشير، وإخراج أحمد علاء الديب. ودارت أحداث الفيلم حول فكرة حرب العقول، من خلال قصة يونس الذي يعيش مع زوجته وطفلته الرضيعة في إحدى شقق وسط البلد، ويلجأ إلى سرقة أحد البنوك عن طريق الإنترنت، ويدخل في صراع مع إحدى العصابات الخطيرة. View this post on Instagram A post shared by Carmen Bsaibes كارمن بصيبص (@carmenbsaibes) لمشاهدة أجمل صور المشاهير زوروا « إنستغرام سيدتي » وللاطلاع على فيديوغراف المشاهير زوروا « تيك توك سيدتي » ويمكنكم متابعة آخر أخبار النجوم عبر «تويتر» « سيدتي فن »


Independent عربية
٠٦-٠٤-٢٠٢٥
- Independent عربية
"كارمن" الجامحة الشريرة في ذكرى 150 عاماً على ولادتها
في مثل هذه الأيام من عام 1875 وبعد أسابيع قليلة من التقديم الأول لأوبرا "كارمن" على خشبة "أوبرا كوميك" الباريسية، كان ثمة رجل يرقد في سريره وقد ألمت به حال صحية فاقم منها الفشل الذريع الذي كان من نصيب تلك الأوبرا. كان الرجل جورج بيزيه ملحن "كارمن" نفسه، وهو الموسيقي الفرنسي الذي لم يكن يعرف في تلك الأيام الخاتمة لحياته، أنه لئن كان عالم الموسيقى وهواتها قد اعتاد أن يجابه فاغنر الألماني الكبير وصاحب أبرز أوبرات القرن الـ20، بالإيطالي جوزيبي فيردي المعتبر منافسه الرئيس على الصعيد العالمي، فإن فيلسوفاً كبيراً هو فردريك نيتشه، سيعتبره هو، أي بيزيه، الفنان الأوبرالي الذي يجب وضعه مقابل فاغنر لا الإيطالي صاحب "عايدة" و"ترافياتا" وغيرهما من روائع ذلك الزمن. والحقيقة أن تدخل نيتشه في حسم الموضوع لن يكون سوى بعد أعوام عديدة من رحيل بيزيه، والذي ستحتفل فرنسا به بعد أشهر من الآن. فهو رحل في سبتمبر (أيلول) عام 1875، بعد فصلين من تقديم أوبراه الأخيرة، "كارمن"، في ربيع ذلك العام نفسه. أما خلال الأشهر الفاصلة بين تقديم تلك الأوبرا ورحيل مبدعها جورج بيزيه، فإنه كان على هذا الأخير أن يتجرع كأس واحدة من أمر ضروب الفشل في حياته، بل كان عليه أيضاً أن يتصدى، موهناً، للكتابات التي انطلاقاً من زعيق الجمهور الغاضب صارخاً "يا للفضيحة!" يوم العرض الأول في الثالث من مارس (آذار) من ذلك العام، راحت تنصب غاضبة على أوبراه. ومهما يكن من أمر لا بد أن نذكر أن "كارمن" عرفت كيف تستعيد جمهورها في عروض تالية في العام نفسه، لكن بيزيه كان حينها يصارع سكرات الموت فلم يتنبه لذلك. أشهر أوبرا في التاريخ؟ بالطبع لن يتنبه إلى أن "كارمن" ستصبح خلال الأزمان التالية أشهر أوبرا في تاريخ هذا الفن، وليس طبعاً بفضل ما كتبه نيتشه من حولها معتبراً إياها "فعل مقاومة موسيقية وإنسانية تأتي من عوالم البحر الأبيض المتوسط مليئة بالحبور والفرح والشمس المشرقة لتجابه عوالم فاغنر الشمالية الباردة الكئيبة واللاإنسانية". ولعل في إمكاننا هنا أن نقول إن نيتشه، حين أسبغ ذلك المجد الفلسفي على بيزيه وأوبراه، ربما لم يكن يصدر عن رأي فني تقني، وربما أنه لم يقل ذلك إلا نكاية بصديقه فاغنر الذي كان قد بات على خلاف معه فأراد أن "ينزل به إلى مستوى بيزيه" بدلاً من أن "يرفعه" بالمقارنة إلى مستوى فيردي، في تراتبية كان في شأنها أن تبدو منطقية، غير أن هذا لا يلغي كون الرأي الذي أبداه الفيلسوف الكبير سيبقى ماثلاً في الأذهان مما أضفى على "استعادة" تلك الأوبرا مكانتها، نكهة نخبوية تضافرت مع نكهتها الشعبية ودلالاتها المتوسطية والنسوية ما لم تتمتع به أي أوبرا أخرى في زمنها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولئن كان جورج بيزيه قد مات من دون أن يدري شيئاً عن ذلك، فإن ذكراه انطبعت به ما أكد أية حال، مكانة كانت من نصيبه خلال الأعوام القصيرة التي عرفت نشاطه الإبداعي وقطعتها طبعاً تلك السكتة القلبية التي أنهت حياته وهو بالكاد تجاوز الـ37 من عمره. وربما يجب علينا التوقف هنا عند مساره الإبداعي قبل أن نعود إلى "فضيحة كارمن" التي ختمت حياته. لكنها في المقابل عرفت كيف تطلق أسطورته متضافرة مع أسطورة تلك المرأة الرائعة التي وقف نصيراً لها بكل كيانه وفنه عبر اختياره نص مواطنه بروسبير ميريمه، ونعني هنا بالطبع "كارمن". كل ذلك التأخير في البداية قد يكون منطقياً أن ننطلق في حديثنا عن جورج بيزيه (1838 – 1875) مما قاله عنه عند رحيله زميله الكبير كاميل سان سانس، "قبل أن يكون أي شيء آخر، وخصوصاً قبل أن يكون موسيقياً، كان جورج بيزيه إنساناً ولا شك أن هذا قد أضر به قبل أي شيء آخر". والحقيقة أن سان سانس نسي أن يوضح هنا أن بيزيه كان إنساناً بالمعنى "السيئ" للكلمة. وهذا ما أوضحته على أي حال نصوص كثيرة تناولت حياة بيزيه وشخصيته. ومن اللافت في معظم تلك النصوص تركيزها على شخصية ذلك المبدع بأكثر ربما مما ركزت على فنه. وهكذا أسهب معظمها في القول إنه إنما كان "بورجوازياً صغيراً من أهل الإمبراطورية الفرنسية الثانية" كسولاً يفضل التنفيذ على الابتكار ويتقن العزف على البيانو إلى درجة أثارت إعجاب فرانز ليست المطلق. غير أنه وإن كان قد بدأ التأليف باكراً، سيمفونية أولى بين اثنتين لحنهما أتمها وهو في الـ17 لكنها لم تكتشف إذ خبأها بعناية إلا عام 1930 بعد أكثر من نصف قرن من رحيله!، فإنه لم يحتفل أيما احتفال بمنجزاته ومن هنا كان التأخر في تعرف عالم الموسيقى إلى أعمال له مثل أنشودة "فاسكو دي غاما – السيمفونية" ومتابعته للمسرح المعروفة بـ"الآرليزية"، وخصوصاً أوبراه الكبرى "صيادو اللؤلؤ"، ناهيك بافتتاحية رائعة بعنوان "الوطن" بدأها ولم يستكمل حركاتها التالية أبداً. في النهاية مات بيزيه عن تلك الأعمال إضافة لنحو 60 أغنية جلها مستقى من أوبراته نفسها، ولكن من دون أن يكتب أي "كونشرتو" ومن دون أن يدنو من "موسيقى الحجرة". كان من الجلي أن اهتمامه قد انصب على المسرح وعلى العروض المسرحية الغنائية. فضيحة فن واقعي أوصل جورج بيزيه إنتاجه في هذا المجال إلى "كارمن"، تلك الأوبرا التي لا يمكن أبداً أن نقول، كما يقول البعض متسرعاً، إنها تدين بشهرتها إلى نيتشه وتفضيله لها على كل أعمال فاغنر. فالحال أن "كارمن" وبعد فترة يسيرة من تقديمها الأول، عرفت في زمن شديد التقلب كيف تستعيد مكانتها، بعدما "قامت بمهمتها في إيصال بيزيه إلى موته حزيناً" كما قال واحد من النقاد الفرنسيين. ولعل اللافت أن تلك المهمة لم تتجاوز الأيام القليلة، عبر ذلك البعد الفضائحي الذي كان على أية حال من السمات المميزة للحياة الفنية، وغير الفنية، في فرنسا ذلك الحين. فيومها، ونعني يوم تقديم عرضها الأول في باريس، كان على النقاد أن يتنبهوا إلى أن بيزيه قد وصل في اشتغاله على هذه الأوبرا إلى ذروة لا تضاهى في الإنجاز الموسيقي والدرامي تحديداً. ومع ذلك لم يخلُ الأمر ممن نعتوها بأنها فاغنرية المنحى. لكن ذلك لم يكن شيئاً أمام ما وصفها آخرون به من كونها "أوبرا لا أخلاقية" بالنسبة إلى موضوعها من ناحية المضمون ومن خلال عمال وعاملات التبغ الذين يقدمون حكايتهم على المسرح، إذ ظهروا وهم يدخنون السجائر فيما هم يرقصون ويغنون! بل إن الزاعقين "يا للفضيحة!"، تحدثوا أيضاً عن أنه لا يجوز في أي أوبرا من هذا النوع أن تموت شخصية الرئيسة في نهاية أحداثها... وكل هذا، كما سبق أن أشرنا في أول هذا الكلام، قد لعب دوراً رئيساً في الاستقبال السيئ الذي كان لـ"كارمن" مغطياً على تجديداتها الموسيقية بل حتى الإيقاعية التي سيكون نيتشه خير من تحدث عنها من منطلق يقرظ متوسطية تلك الأوبرا. ومهما يكن من أمر، نعرف الآن أن "كارمن" ومن دون أن يتمتع جورح بيزيه بمعرفة ردود الفعل الأكثر صواباً عليها قبل موته، ستنال بسرعة نصيبها على يد جمهور أكثر إنصافاً، ونقاد ومؤرخين أكثر عدلاً يرون فيها إرهاصاً بولادة الأوبرا الأكثر حداثة، أي الأوبرا التي تدخل الواقع إلى هذا الفن، الواقع بكل قسوته وجماله وإنسانيته. وربما تجاوباً مع ذلك السؤال الذي كثيراً ما كان قد طرح من حول: متى سيصل الواقع، وتحديداً كما عبر عنه في الأدب الفرنسي مبدعون من طينة بلزاك وفلوبير وزولا، ورسامون من طينة كوربيه وغيرهم، إلى فن الأوبرا؟ وبكلمات أخرى: متى تصل شمس البحر الأبيض المتوسط، ولو عبر المرشح الإسباني، الطاغي على "كارمن" على أية حال، إلى المسرح الأوبرالي؟ كان الجواب عملياً لدى بيزيه الذي لم يكن متنبهاً وهو على فراش الموت إلى كونه أوصل الموسيقى الأوبرالية إلى المستوى الكبير الذي بلغه الفن الروائي والرسم وحتى المسرح في فرنسا.