logo
الأخبار: أمـــا آن…

الأخبار: أمـــا آن…

وزارة الإعلاممنذ 6 ساعات
كتبت صحيفة 'الأخبار': ليس للفقد تعريف. هو شعور يصعب تحويله إلى شيء مرئي، أو نص مقروء، أو حتى حكاية تُروى.
والفقد، في حالتي، صار عادة. ربما صار نمط حياة. نمط سببه المكان الذي اخترته لنفسي، بنفسي، مصيباً أو ضالاً لا فرق. فالمهم بالنسبة إلى الفقد، هو أين تكون، ومع من تكون.
أبناء جيلي، بدأ وعيهم على الحياة، وهم، يعثرون على زياد في كل تفاصيلهم اليومية.
إعجاب وانبهار، وشعور بأن هناك من يجيد النطق بما تفكر. كلها أمور تجعلك صاحب حق فيه. هو سلوك تمنح فيه لنفسك هامش التدخل في حياته. وهو تدخل بلا حدود، ليلامس حد التقمّص.
وهذا أيضاً أكثر ما كان يُتعب زياد، وأكثر ما كان يصيبه بداء الوحدة. كان يعتقد، أن الهروب، كما البقاء، منزوياً لوحده، يساعده على منع الآخرين من التشارك فيه.
ومثل كل البشر، كان زياد يحب الدلال، ويحب أن يلتفت إليه الناس. ويرتاح عندما يهتم به المقربون، ويكون ممتنّاً عندما يحسن الناس التعامل معه. وفي زياد طفل لم يرد أن يُفطم، وسبيله إلى النوم كان هاتف آخر الليل، عندما يسمع أمه تسأله عن يومه.
مشكلتي مع رحيل زياد، أنها لحظة كانت محجوزة منذ وقت. لم تعد المشكلة في لحظة إعلان النبأ، بل المشكلة في أن الخانة البيضاء على جدار الفقد لم يُكتب اسمه فيها بعد. وهو أصعب ما يمكن للمرء أن يفعله…
كان زياد يهرب إلى الصمت علاجاً للقرف والعجز والتعب. وكان الصمت عنده فرصة للنطق بالآلة العجيبة التي اسمها البيانو. لا شيء في الدنيا ينافس حضن الأم، إلا علاقة زياد بمفاتيح آلته السحرية. عندما يرتفع صوت الموسيقى، تعرف أنه لم يستسلم. لكن زياد، في رحلته الأخيرة، ابتعد عن صندوق العجائب الخاص به، فارتفع الغبار فوقه، إيذاناً بالرحيل.
زياد، واحد من الذين لم ينجح العالم كله في قمعه. كان حراً إلى درجة تجعل الآخرين يتعبون من حريته، ومن قدرته على إحداث الفوضى في المكان، وهو لم يتوقف يوماً عن قول كل يفكر فيه، أو كل ما يعتقد أن عليه قوله.
بالنسبة إليّ، جاء موت زياد في زمن الموت المفتوح. هو موت له معنى، ولا يشبه موت الميتين أصلاً. وهذا ما يجعل رحيله صاخباً.
مشكلتي في حالة زياد ليست في فكرة أن يغيب شخص بات له أثره في أشياء كثيرة، تخص فكرك وعملك وعائلتك وحياتك ولحظات عزلتك.
مشكلتي، في أنني لا أجيد فصل الأحداث عن بعضها، فكيف وأنا أعاني أصلاً من مرض التبلد. فلا أجيد البكاء، ولا رفع الصوت احتجاجاً أو غضباً. بل كل ما تعلمته هو اللجوء إلى الصمت، مثل مسكّن، بانتظار علاج يبدو بعيد المنال.
أتعبني الرحيل والفقد كثيراً. وتتعبني صور الكثيرين من الذين رحلوا في السنوات الأخيرة، وتنهكني لحظات تفقّد من رحلوا أخيراً. وأحفظ لزياد، كما لكل هؤلاء، أنهم لم يرحلوا من دون فعل الصواب. لكنني، مثل بقية البشر، كاره للفقد، ورافض لفكرة أن هناك صفحات ستطوى.
تعبت كثيراً من الفقد، ولا أجد مكاناً أحصي فيه وجع الفراق، وتعبي يزيد، لأن كل هؤلاء، ومنهم زياد، ما رحلوا من دون أثر.
لكنني، فهمت للمرة الأولى ما قاله الجواهري عن دنيا قاهرة، وقاسية:
لم يبقَ عندي ما يبتزّه الألم
حسبي من الموحشات الهم والهرم
وعندما تطغى على الحران جمرته
فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم!
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

زياد الرحباني كما رآه الجيل الجديد: هل فهمه من لم يعش زمنه؟
زياد الرحباني كما رآه الجيل الجديد: هل فهمه من لم يعش زمنه؟

ليبانون 24

timeمنذ 42 دقائق

  • ليبانون 24

زياد الرحباني كما رآه الجيل الجديد: هل فهمه من لم يعش زمنه؟

رحل زياد الرحباني ، وسقطت وراءه صفحة ممتلئة بالموسيقى والمسرح والسياسة والنقد المرّ. لكن بينما امتلأت الصحف ووسائل التواصل بالرثاء من جيلٍ عاشه وتأثر به، يبرز سؤال آخر لا يُطرح كثيرًا: كيف رآه من لم يعرفه حيًّا؟ هل فهمه من لم يعش زمنه؟ وهل تمكن من الدخول إلى عقول الجيل الجديد، وعرّفهم على عالمه الخاص؟ بالنسبة إلى جيلٍ وُلد بعد الحرب، وتعرّف إلى زياد عبر مقاطع مبتورة على " يوتيوب" أو عبر أقوال منسوبة له تُتداول على "إنستغرام"، لم يكن الرجل أكثر من ظلّ أسطوري بصوت أجشّ وكلمات لاذعة وصور أرشيفية بالأبيض والأسود. لا المسرحيات الكاملة متاحة بسهولة، ولا المقابلات الإذاعية الشهيرة متوفرة بأكملها، ولا حتى أرشيف إذاعة محفوظ كما يجب. وهكذا، يكتشف كثير من الشباب زياداً مجزوءاً: إما ملهمًا أو غامضًا، إما قريبًا أو طاردًا، وإما لا يكتشفون أي شيء حتى! خلال تواجدي في الفترة الجامعية، خلال إحدى الحصص الدراسية، كانت مجموعة من الطلاب تتابع مقاطع للراحل زياد الرحباني.. حاولوا مشاهدة مسرحية "فيلم أميركي طويل"، لكن بعضهم توقف بعد 20 دقيقة.. "كان النص ثقيلاً، والرموز قديمة، والمونولوجات طويلة جدًا. لم نعرف عمّن يتكلم أو يسخر، وكأننا دخلنا في حفلة مغلقة لجيل لا يعرفنا". تكررت الشكوى من آخرين: لغة زياد تحتاج إلى "قاموس"، والخيبات التي يتحدث عنها سياسية وفكرية لا تشبه الإحباطات التي يعانيها جيل اليوم، الغارق في الديليفري والتيك توك والعملات المشفّرة والهجرة الرقمية. في المقابل، هناك من يرى في زياد ملاذًا من ضجيج الحاضر. يحبون موسيقى زياد لأنه "ما كان عم يكتب أغاني... كان عم يحكي متلنا"، فبعض مقاطع الأغاني، خصوصًا تلك التي غنّاها بنفسه، تصف تمامًا المشاعر التائهة التي يشعر بها الشباب اليوم، "بس من دون ما يحكي عن السوشيال ميديا أو الذكاء الاصطناعي". ورغم الفارق الزمني ، تُحدث بعض مقاطع زياد صدى لدى هذا الجيل، خاصةً تلك التي تتناول الحب المنكسر، الغربة في الوطن، والتشكيك في كل شيء. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل أخفق المجتمع في إيصال زياد إلى الجيل الجديد؟ أم أن زياد نفسه لم يُرد أن يُفهَم؟ هل كان فعلاً فنان الناس، أم فنان النخبة المتعبة؟ ربما الرحيل يفتح نافذة للعودة إليه. فكما يحدث مع كثير من الكبار، لا يُفهمون إلا بعد أن يختفوا. ومع التطور الرقمي وإمكانية أرشفة أعماله وتقديمها بسياقات مفهومة حديثًا، قد يجد الجيل الجديد في زياد أكثر من صوته المتهكم وأغانيه الحزينة. قد لا يفهموه تمامًا، لكنهم قد يشعرون به... وهذا يكفي أحيانًا.

زياد الرّحباني
زياد الرّحباني

النهار

timeمنذ ساعة واحدة

  • النهار

زياد الرّحباني

في أحد الأيّام، خلال إحدى رحلاتي إلى لبنان في السّبعينيّات من القرن الماضي، تسنّى لي أن أستمعَ إلى أعمالِ زياد الرّحباني على الرّاديو. وبينما كنتُ في بيروت، أُجريَتْ لي مقابلةٌ مع أَحَدِ المراسلين، ولم أستطعِ الانتظارَ للتّعبيرِ عن رأيي، فقلتُ له: "زياد الرّحباني عبقريٌّ لبنانيٌّ أصيلٌ". كان زياد في ذلك الوقتِ مُجَرَّدَ مراهقٍ، بينما كنتُ في منتصفِ العشرينيّاتِ من عمري. وحين قرأَ زياد ذلك في الصّحافةِ، أصرَّ على دعوتي لتناولِ الغداءِ، فقبلتُ الدّعوةَ بكلِّ سرورٍ، وكان ذلكَ اللّقاءُ بدايةَ صداقتِنا. لم أنسَ أبدًا، قبلَ سنواتٍ من ذلكَ، أثناءَ زيارةٍ قمتُ بها لوالِدَيّ زياد في يومٍ من أيّامِ الصّيفِ في قريةِ المحيدثة قرب بكفيّا، كيف قالَ والدُهُ عاصي مازحًا: "تعا شوف هالدّيّوث شو كاتب: رقصة الحشّاشين". كانت تلكَ قطعةً موسيقيّةً على البيانو ممتعةً للغاية. وكان زياد آنذاك في التّاسعةِ من عمره عندما أَلَّفَها! لحسنِ حظّي، كان مقرُّ زياد الرّحباني في منطقةِ رأسِ بيروت الّتي أعرفُها جيدًا. في كلِّ رحلةٍ إلى لبنان، كان زياد يرحّبُ بزياراتي إلى شقّتِهِ وإلى الأستوديو الّذي سمّاه: "نوتا". كنتُ أحسدهُ على مهاراتِهِ الارتجاليّةِ في الجاز على البيانو وأُعجَبُ بمؤلّفاتِهِ الموسيقيّةِ البارعةِ. أحيانًا كان يعطيني أشرطةً لأعمالِهِ الحديثةِ. في إحدى المناسباتِ، كنتُ في أستوديو زياد أعزفُ على البيانو بشكلٍ عشوائيٍّ عندما دخلَ فجأةً عازفُ إيقاعِ جاز أميركيٌّ شابٌّ، وبدأ يرافقني على الطّبلِ. أمّا زياد، "ذلك الدّيوث"، فكان يسجّلُ عزْفَنا سرًّا. وحين عزَفْنا اللّحنَ الأخيرَ، صرخ بلهجتهِ العامّيّةِ المميّزةِ: "عْطُونا وِحْدِة تانَية"! لم تتركْ كلماتُهُ المحفّزةُ الّتي سُمِعَتْ على الشّريط لي خيارًا. فعزفتُ واحدةً أخرى مع عازفِ الطّبلِ المرْتَجِلِ بينما ﭐستمرَّ زياد في التّسجيلِ. تلك الأيّامُ كانت أيّامَ "الدّيناصورات" لأجهزةِ الكاسيت. وها أنذا أحتفِظُ بذلك الشّريطِ كبؤبؤِ العينِ... أثناءَ رحلةٍ أخرى إلى بيروت، عرضَ عليَّ زياد لحنًا تقليديًّا لباخ Bach كان قد أَلَّفَهُ. كتبَ نوتاتهِ وأعطاني إيّاه قائلًا: "خُذْ هذا اللّحنَ المُسمّى: «إلى باخ» وﭐنظُرْ ما يمكنُ أن تفعلَ بهِ". حالَتْ جولاتي الموسيقيّةُ دون بذلِ الجهدِ المطلوبِ. وحين تسنّى لي ذلكَ، تناولتُ اللّحنَ بشَغَفٍ، وكتبتُ تأليفًا موسيقيًّا للبيانو مع مقدّمةٍ تشبهُ الأرغنَّ، ثم سكبتُ قلبي في ﭐبتكارٍ موسيقيٍّ طويلٍ قبلَ أن أضيفَ لمسةَ جازٍ بأسلوبِ "بوغي ووجي" boogie woogie. وفي زيارةٍ لاحقةٍ إلى لبنان، قدّمتُ العملَ لأوّلِ مرّةٍ في الجامعة الأميركيّةِ في بيروت. ولكن للأسف، لم يكن زياد موجودًا في لبنان وتاليًا لم يسمعْهُ. فسّجلتُهُ في ما بعدٍ على قرصٍ مُدمَج، لكنّني فقدْتُ الاتّصالَ بذلكَ "الدّيّوث" الّذي يعيشُ حياةَ ﭐبنِ بطّوطة. وقد تشرّفتُ في أحَدِ الأيّامِ بمرافقةِ ريما الرّحباني أختِ زياد، إلى منزلِ والدتِها فيروز. فعزفْتُ لهما قطعتي الموسيقيّةَ على البيانو بعنوان: "إلى باخ وما بعده"، وبعنوان فرعيٍّ: "كورال وﭐبتكارٌ على لحنٍ لزياد الرّحباني". على الأقلّ سمعَتْ فيروز اللّحنَ. لكنّني لم أعرفْ ألبتَّةَ ما إذا كان زياد قد سمعَهُ، وهذا ما يؤلمني... السّيّدة فيروز العزيزة، بقلبٍ دامٍ، أرسل إليكم وإلى العائلة الكريمة أحرّ التّعازي والمواساة من شواطئ الولايات المتّحدة الأميركيّة البعيدة بمناسبة انتقال ابنكم زياد الّذي كان كنزًا للبنان وللعالم العربيّ. سأفتقده دائمًا. رحل زياد ولكنّه باقٍ بإرثه وعبقريّته...

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store