
الجامعة في مرآة التصنيف: نزاهة ضائعة أم قيمة مضافة؟
رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/إربد
هل كل صدمة تستوجب إنكارها؟ أم هل صراحة تُعد اتهامًا؟
أحيانًا تكون الجرأة في كشف العِلل هي أول أبواب العلاج، ولعلّ ما طُرح مؤخرًا حول واقع الجامعات الأردنية وعلاقتها بالتصنيفات العالمية، شكّل مادة للتأمل العميق أكثر من كونه مادة للجدل.
إنه حديثٌ عن خللٍ بنيوي صامت، يعبّر عن نفسه حينًا في مؤشرات التصنيف، وأحيانًا في تراجع الثقة بالمنظومة الأكاديمية، لكنه في جوهره أعمق من ذلك بكثير: إنه سؤالٌ فلسفي عن القيمة الحقيقية للمعرفة، وأخلاق إنتاجها، وحدود تحول الجامعة من مؤسسة تفكير إلى مؤسسة تزيين رقمي.
منذ عقود تحوّلت التصنيفات الأكاديمية إلى معيار عالمي لتقدير الجامعات، لكنها لم تُصمم لتكون غاية في ذاتها، بل وسيلة لتشخيص الأداء، غير أن هذا المعيار فقد حياديته حين دخل سوق التنافس المؤسسي، فبات يُستثمر دعائيًا، وتحوّلت الجامعات من مؤسسات لإنتاج الفكر إلى مصانع للأوراق والمنشورات.
وهنا ينشأ التوتر الأخلاقي وتبدأ التساؤلات التي تفضي إلى التشخيص الصحيح: هل نُنتج من أجل التصنيف، أم نُصنّف لأننا ننتج؟ وهل تبرر الحاجة إلى الظهور تراجعات في الجوهر؟ وهل تُقاس جودة الجامعة بعدد الأبحاث، أم بتأثيرها الحقيقي في المجتمع والإنسان والاقتصاد والهوية؟
ومن جهة أخرى، لا يمكن إغفال ما يعانيه الباحث الأكاديمي، فالموازنات المتواضعة والدعم الضئيل وغياب بيئة البحث التخصصي، كلها عوامل تضعه في دائرة ضغوط خانقة، وتدفع ببعضهم إلى اختصارات غير نزيهة في سبيل النشر، أو إلى اللجوء لمجلات ذات تصنيف ظاهري، دون تحكيم حقيقي.
وأما الإشكالية الأخرى فتكمن مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، إذ أصبح المشهد أكثر التباسًا: فبين من يستخدم هذه الأدوات دعمًا لمنهجه، ومن يستخدمها لصياغة بحث دون جهد، تنهار الحدود بين العلم الزائف والعلم الأصيل، وتنهار معها فكرة الإبداع بوصفه ثمرة تجربة ومكابدة لا مجرد توليد تلقائي للنصوص.
ولعلّ من أبرز المفارقات في المشهد الأكاديمي الأردني، ما يُعرف بـسنة التفرغ العلمي، التي شُرّعت في الأصل كي ينعزل الباحث مؤقتًا مع مشروعه، فينضج فكرًا ويُنتج علمًا، لكنها في بعض الحالات تحوّلت إلى بوابة عمل إضافي في جامعات أخرى، وهذا بحد ذاته إفراغ للمعنى من التسمية، وإفراغ لسنة كاملة من مضمونها البحثي، وتُحول التفرغ إلى فرصة لجني المال لا إلى مخاض علمي.
هذه التحولات كلها لا تُدين فردًا أو مؤسسة، بقدر ما تكشف عن فلسفة ضائعة في تعريف الجامعة، وفي تحديد علاقتها بالمجتمع والباحث والاقتصاد والهوية الوطنية.
إن ما ينبغي أن نستعيده قبل التصنيف وأدواته، هو معيار النزاهة العلمية بوصفه أصل كل شرعية أكاديمية، فجامعة بلا نزاهة مهما بلغت من شهرة رقمية لا تصنع أجيالًا حرة، ولا تطرح أسئلة شجاعة، ولا تنهض بأمة.
والنهوض بهذا المعيار يبدأ من إعادة صياغة فلسفة الحوافز، بحيث يُكافأ الإبداع لا الكمّ، ولا بد من وضع مدونات سلوك علمي تجرّم التلاعب وتُعلي من الصدق المعرفي، ثم لا بد من مراجعة شروط سنة التفرغ العلمي وربطها بمخرجات فعلية، بالإضافة إلى إدماج أخلاقيات البحث ومهارات التفكير النقدي ضمن مناهج إعداد أعضاء هيئة التدريس، وهذه المعايير يجب أن تحول إلى سياسات أكاديمية تتبناها وزارة التعليم العالي لتحسين جودة البحث العلمي.
ووسط هذه الجدليات المتشابكة حول النزاهة والتصنيفات وسنة التفرغ العلمي وأخلاقيات البحث، يظل الطالب هو المركز الغائب أو المُغَيَّب في كثير من هذه السياسات، فالجامعة في جوهرها ليست معمل أوراق بحثية ولا منصة تسويق رقمي، إنما هي الفضاء الذي يشكل وعي الطالب ويصقل شخصيته، وينمي قدراته الفكرية والإنسانية، فحين تُختزل مهمة الجامعات في اللحاق بأرقام التصنيف دون أن يُقاس أثر التعليم في الطالب، تتحول المعرفة إلى سلعة جوفاء، ويُدفع الطالب من حيث لا يدري ثمنًا باهظًا في ضياع المعنى وتشوّه الغاية، ومن هنا فإن أية مراجعة فلسفية أو بنيوية للتعليم العالي لا بد أن تضع الطالب في صميم رؤيتها كمستفيد من الجامعة وشريك أصيل في صناعة المعرفة وإنتاجها، وقبل ذلك في مساءلتها.
ولعل أبرز ما يميز التجارب التعليمية الرائدة في دول مثل فنلندا وسنغافورة هو مركزية الطالب في الرؤية الأكاديمية، حيث لا تُقاس جودة الجامعة بعدد الأوراق المنشورة فقط، بل بتأثيرها المباشر في تكوين شخصية الطالب وقدرته على التفكير النقدي والابتكار، وأما في تركيا فقد شهد التعليم العالي خلال العقدين الأخيرين تحوّلاً نوعيًا عبر توجيه البحث العلمي نحو خدمة المجتمع، وتعزيز بيئة التعلم القائمة على الكفاءة لا على الكم، إن هذه النماذج تؤكد أن الرهان على الطالب لا على التصنيف هو ما يصنع النهضة الحقيقية، وأن جودة التعليم تُقاس بعمق الإنسان لا بسطح الأرقام.
ومما لا شك فيه أن الجامعة تمثل بيت الفكر ومنبت السؤال وحارس المعنى في أي مجتمع حيّ، لكنها حين تُقايض نزاهتها العلمية بمنطق التصنيفات، وتستبدل صدق المعرفة برنين الأرقام، تُصاب الأمة في جوهر ضميرها التربوي والثقافي، إن ما نسمعه اليوم من نقد مهما بدا قاسيًا يجب أن يُقرأ كجرس إنذار لا كوصمة، وكفرصة للعودة إلى سؤالنا الأول: هل نُصنّف لأننا نُنتج؟ أم نُنتج فقط لنُصنّف؟ ففي الإجابة الصادقة عن هذا السؤال، يكمن الفرق بين جامعة تُعدّ رافعة نهضة، وأخرى تكتفي بدور الواجهة، فلتكن المراجعة التي نبدأها اليوم مراجعة في القيمة قبل الكم، في النزاهة قبل الشهرة، وفي الإنسان قبل المؤشر، فهذا وحده ما يصنع المعنى، ويمنح الجامعة شرعيتها أمام التاريخ والضمير، لأن الجامعة التي تحفظ صدقها، تحفظ صدق المجتمع كله.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا
منذ ساعة واحدة
- رؤيا
العقبة تضع خارطة طريق جديدة للرحلات البحرية: "سلامة الزوار وحماية المرجان أولاً"
وضعت الجهات المعنية في مدينة العقبة إطاراً جديداً لتنظيم الرحلات والأنشطة البحرية، يهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين تنشيط السياحة وضمان أعلى معايير السلامة العامة، مع التشديد على حماية النظام البيئي البحري الفريد الذي تشتهر به المدينة، وعلى رأسه الشعاب المرجانية. جاء ذلك خلال اجتماع تنسيقي موسع عُقد في سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، برعاية مفوض شؤون البيئة والسلامة العامة، الدكتور نضال العوران، وبمشاركة واسعة من الأطراف الرئيسية في القطاع البحري. وبحث الاجتماع، الذي ضم ممثلين عن جمعيات الصيد البحري، والقوة البحرية الملكية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، سبل تعزيز الإجراءات الأمنية وإرشادات السلامة التي يجب على منظمي الرحلات البحرية والزوار اتباعها. كما تم التركيز بشكل كبير على الجانب البيئي، وتقديم إرشادات حول أهمية الحفاظ على النظم البيئية البحرية، وتجنب الممارسات التي قد تلحق الضرر بالشعاب المرجانية، والتأكيد على الامتناع التام عن إلقاء أي نوع من النفايات في البحر. من الاجتماعات إلى التطبيق العملي وتجسيداً لهذه التوصيات على أرض الواقع، نظمت "جمعية ثغر الأردن لهواة الصيد البحري"، بالتعاون مع سلطة العقبة والقوة البحرية والزوارق الملكية، رحلة صيد بحرية نموذجية. وجمعت هذه الفعالية عدداً من هواة الصيد والزوار المهتمين بالأنشطة البحرية، بهدف تعريفهم بأساليب الصيد التقليدي المستدام وإتاحة الفرصة لهم للتعرف على حياة الصيادين اليومية. وتم خلال الرحلة توزيع نشرات توعوية على جميع المشاركين، لضمان التزامهم بالممارسات المسؤولة التي تعزز من سلامة البيئة البحرية وتزيد من وعيهم بأهمية الحفاظ عليها. وتأتي هذه الجهود المتكاملة في إطار السعي لتنشيط السياحة الداخلية في العقبة، وتسليط الضوء على تراثها البحري الغني، مع ضمان استدامة كنوزها الطبيعية للأجيال القادمة.


هلا اخبار
منذ ساعة واحدة
- هلا اخبار
اجتماع في العقبة يناقش إجراءات السلامة خلال الرحلات البحرية
هلا أخبار – ناقش اجتماع في سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة إجراءات السلامة العامة والتعليمات الأمنية الواجب اتباعها خلال الرحلات البحرية، برعاية مفوض شؤون البيئة والسلامة العامة في السلطة، الدكتور نضال العوران. وبحث الاجتماع، الذي شارك فيه ممثلون عن جمعيات الصيد البحري، والقوة البحرية الملكية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقديم إرشادات بيئية حول أهمية الحفاظ على النظم البيئية البحرية، وتجنب الإضرار بالشعاب المرجانية، والامتناع عن إلقاء النفايات في البحر. وفي السياق، نظمت جمعية ثغر الأردن لهواة الصيد البحري، بالتعاون مع سلطة العقبة الخاصة، والقوة البحرية، والزوارق الملكية، رحلة صيد بحرية جمعت عددا من هواة الصيد البحري وزوار المدينة المهتمين بهذه الأنشطة البحرية. وجاءت هذه الفعالية في إطار الجهود المبذولة لتنشيط السياحة الداخلية، وتعزيز الوعي البيئي بمهنة الصيد التقليدي المستدام، وتسليط الضوء على التراث البحري، وإتاحة الفرصة للمشاركين للتعرف على حياة الصيادين اليومية وممارساتهم التقليدية في البحر. وجرى توزيع نشرات توعوية على المشاركين لضمان الالتزام بممارسات مسؤولة تعزز من سلامة البيئة البحرية وتزيد وعي المشاركين بأهميتها.

سرايا الإخبارية
منذ ساعة واحدة
- سرايا الإخبارية
نعي الحاج حاتم حمدي اشمر النتشة (أبو همام)
سرايا - نحن أبناء المرحوم عباس اشمر النتشة نتقدم بخالص العزاء والمواساة إلى أنفسنا وإلى أبناء عمنا آل حمدي اشمر النتشة بوفاة ابن عمنا ونسيبنا المغفور له بإذن الله:الحاج حاتم حمدي اشمر النتشة (أبو همام) الذي وافته المنية إثر جلطة قلبية حادةوسيُصلى عليه ويدفن اليوم الأربعاء الموافق 10/7/2025 بعد صلاة المغرب في مدينة الكرك. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.