logo
الابن الشاطر تمرّد على «المدرسة الرحبانية» (الاخبار)

الابن الشاطر تمرّد على «المدرسة الرحبانية» (الاخبار)

OTVمنذ يوم واحد
كتبت صحيفة 'الاخبار': «زياد الرحباني يلتقي مع كل إنسان جاء إلى هذه الأرض»: ربما تلخص هذه الجملة التي قالها الشاعر الجنوبي جوزف حرب كل التجربة العبقرية والفذة لزياد الرحباني (1956-2025) الذي تشبه في مشتركها الإنساني ما وصف به أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» حال المغني ابن سريج الذي يقال إنه أول من أدخل آلة العود الخشبية إلى الحجاز، ليقول عنه إبراهيم الموصلي بعد قرن من الزمن: «كأنّه خُلق من كل قَلب فهو يغنّى له ما يشتهي».
هكذا جعلتنا ظاهرة الولد العبقري نقف أمام أفولها بالموت كأننا أمام خسارة شخصية، لأن زياد لم يسكننا بالموسيقى والفن فحسب، بل في لغة كاملة اخترعها ورشقهَا وصقلها كما تصقل السكين اللامعة ثم ألقاها فوق ألسنتنا لنشرّح بها الوطن والحرب والطائفية والحب. لغة تتردد ذهاباً وإياباً بين الفن والحياة بوجهها الصلف والهش والعاري والملتبس، تردّد الشعر بين الصوت والمعنى وفقاً لمقولة بول فاليري الشهيرة. فكيف خرجت تلك الظاهرة في الموسيقى والمسرح والإذاعة، التي اسمها زياد الرحباني وتشاكلت وانجدلت في حياتنا حتى خلنا أنها لا تنتهي انتهاء الحياة ذاتها، ليصفعنا الموت بنهايتها بما يترك تلك الغصّة في القلب والمرارة فوق اللسان؟
لا بد من العودة إلى البدايات لدراسة هذه الظاهرة التي لا تشبه إلا نفسها: المسار البيويولوجي الجيني أولاً، فهو ابن البيت الرحباني والنهضة الغنائية التي حققتها الأسرة الرحبانية التي مثلها الثلاثي فيروز وعاصي ومنصور على مدى ما يزيد على نصف قرن. نهضة لا بد من رؤيتها في سياق اجتماعي-سياسي هو تاريخ لبنان الحديث، أو تاريخ الدولة اللبنانية وما واكب ذلك من ديناميات في المجالات الثقافية.
في هذه اللحظة المثقلة بالحنين الشعري ولدَ ما تسمّيه الناقدة خالدة سعيد «يوتوبيا القرية اللبنانية» التي بنت العبقرية الموسيقية والشعرية والمسرحية لعاصي ومنصور الرحباني صورتَها المثالية، وتجلّت روحها في الصوت الملائكي لفيروز، البطلة التي تحمل قيم هذه القرية وتصون التجانس الجمعي للقرية المتخيلة بنقطة انطلاقها المرجعية المتمثلة في الثقافة الشعبية لجبل لبنان. ثم ما لبثت هذه الصورة المشهدية النمطية أن احتلّت معظم النتاج الرحباني حتى وفاة عاصي وذهاب فيروز ومنصور كلّ في اتجاه.
روح الفن السياسي التحريضي تجلّت في برنامج «العقل زينة» على أثير «صوت الشعب»
الورشة الفنية الباذخة هذه للأخوين الرحباني شكّلت «البيئة الحاضنة» التي تلمّس فيها الولد الموهوب أولى خطواته، وسط إحاطة خاصة من عاصي بعبقرية الولد في إتقانه المبكر للعزف على آلتين على طرفي نقيض: البزق التي تنضح بروح الشرق، والبيانو الذي ينطق بروح الغرب، وهو ما سيطبع نتاجه في ما بعد بتلك الجدلية عبر التعاطي مع الموسيقى العالمية تأليفاً وعزفاً وأداء من خلال مناخ الموسيقى الشرقية، والبحث كما يقول الباحث الموسيقي طلال وهبة عن «مناحٍ جديدة في تأليف الأغنية العربية والعلاقة بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وعلاقة الأغنية العربية المعاصرة بالتراث الشرقي، وتأثير التيارات الاجتماعية في ذلك وكيفية الربط بين التراث والواقع المعاش، وكيفية التوصل إلى أجوبة ميدانية لذلك».
المسيرة اللاحقة للولد العبقري ستجزم بأنه أجاب عن كل هذه الإشكاليات الثقافية العويصة، ولو لم تكن هذه الأسئلة الفنية المعقدة حاضرة بصيغتها المنهجية المنظمة في دماغ الولد الذي كتب ديواناً أسماه «صديقي الله» وهو في عمر الـ 13، وهي السنة ذاتها التي بدأ فيها دروسه النظرية في الموسيقى مع بوغوص جلاليان وظهرت عليه أولى أمارات النبوغ الموسيقي حين يظهر عازفاً بديلاً سنة 1971 في فرقة فيروز، وتلحينه أغنية «ضلّك حبيني يا لوزية» للفنانة هدى حداد.
يمكن اعتبار مسرحية «سهرية» التي كتبها ولحنها سنة 1973 بمنزلة البصمة الشخصية المستقلة لصاحبها، فالمسرحية التي وإن بدت من ناحية المكان (القرية اللبنانية بتراثها وفولكلورها) متأثرة ببداية الأخوين الرحباني الإذاعية والمسرحية، إلا أنها من الناحية الموسيقية كشفت عن خلطة مبتكرة من الفولكلور المشرقي والموسيقى الرحبانية والتأثر بفيلمون وهبي. طابع سيطغى على لحن زياد الأول لفيروز «سألوني الناس عنك يا حبيبي» في مسرحية «المحطة» في السنة ذاتها، ثم تطعيم اللحن بالطابع الغربي كما بدا ذلك واضحاً في «قديش كان في ناس» و«نطرونا كتير» و«حبّو بعضن»، لتظهر شخصيته الموسيقية في عمل ناضج ومكتمل في لحن «وحدن» الذي جمعه بصوت فيروز وكلمات طلال حيدر.
إلا أن أهمية «سهرية» تكمن في الجدلية المتفجرة في «يوتوبيا القرية اللبنانية» ذاتها التي التفت إليها الشاب العبقري الذي بدأ يتبحّر بقراءة فرويد ويونغ وأدلر طارحاً على نفسه السؤال الصعب: هل وجدَت تلك القرية الرحبانية الجميلة حقّاً؟ لذلك، راح يبحث عنها في نقيضها، في مدينة التمدين الفجّ والعشوائي مع استنفاد مفاعيل المرحلة الشهابية، على ما ذهب إليه الشاعر الجنوبي عصام العبدالله في التقاطة مدهشة: «ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع». المدينة المتشكلة رأسمالياً بطبقاتها المسحوقة والوسطى والعليا الممتلكة لرأس المال، وصراعاتها الطبقية والأهلية كانت تنذر بفتيل حرب قادمة بعد سنتين لا أكثر من «سهرية».
لم ينقلب زياد على الإرث الرحباني الغنائي بعد «سهرية»، بل كان ما فعله بمشروع أهله على ما يذهب إليه الناقد كريستوفر ستون بمنزلة تحويل المسرح من الملحمة إلى الرواية: «ما يسم الملحمة بحسب باختين وغيره أمثال لوكاش هو ابتعادها وانكتامها عن أي حاضر، وفي حين تنظر الملحمة إلى الوراء، فإن الرواية متجذرة في الحاضر، بل تنظر دائماً إلى الأمام. وخلافاً لمسرحيات الأخوين رحباني التي تنتهي بالزواج أو النصر العسكري، فإن مسرحيات زياد أكثر إشكالية، من الثورة الناقصة في نهاية «نزل السرور»، إلى القدر غير المعروف لثريا وزكريا في «بالنسبة لبكرا شو»، فإلى العلاج المشبوه للمرض في خاتمة «فيلم أميركي طويل»، وانتهاء بالمسرحية التي لن تعرض في «شي فاشل». لا عجب، والحالة هذه، أن تُعتبر مسرحيات زياد متنبئة بأحداث المستقبل، في حين وصف مسرح الأخوين رحباني بأنه تعبير عن الحنين إلى ماضي يوتوبي ما».
وهكذا شكلت محاولة زياد انتفاضة مدينية في قلب البيت الرحباني. كانت مسرحيتا «نزل السرور» و«بالنسبة لبكرا شو» بمنزلة قراءة فنية وثقافية في تفاصيل الحياة اليومية للمدينة بصراعاتها الطائفية والأهلية، والأهم بلغتها الشعبية. حتى إنّ الناس تفاعلوا مع هذه الشخصيات واستعاروا قاموسها و«قفشاتها» وسخريتها السوداء التي تسخر من كل شيء، حتى من أصحابها أنفسهم: كان زياد قد تحرر من فانتازيا الأحادية اللغوية (وتحديداً لهجة جبل لبنان) وقرينتها الأحادية الثقافية التي يربطها باختين بالطغيان السياسي، ومن محاولتهم فرض هذه الأحادية على أشكال الفن الأخرى مثل الدبكة المتعددة في منطقة بلاد الشام.
قارب يوميات الحرب الاهلية اللبنانية بوحي من التزامه الاخلاقي والسياسي
المتتبع لسيرة الرجل الذي برع في اختراع الجدليات انطلاقاً من المنهج الماركسي الذي ظل وفيّاً له حتى آخر يوم في حياته، لا يمكن أن يغفل عن الجدلية الكبرى: جدلية فيروز-زياد، التي لا ينتبه من يشير إليها إلا إلى طرف من أطرافها. أنزل الولد الأم-الأيقونة من برجها العاجي في اللغة والموسيقى واستدرجها إلى الإيقاع اليومي الذي يعمل على اكتشاف جمالياته الخاصة، إلى عالم هدم اليوتوبيا وإقامة الراهن في الانكسارات والاغتراب واقتحام تناقضات وعري الحياة اليومية، إلى حيث يحب أن يسمعها الصيادون في المراكب، والتلامذة في المدارس، والناس البسطاء في الأسواق والطرقات والمقاهي، في كلام يشبه اللغة الشائعة مثل «ولو شو بشعة مرتو»، و«كان غير شكل الزيتون، كان غير الشكل الصابون»، وبألحانها المرحة التي يواصل فيها الولد المشاغب لعبة استكشاف المساحات المشتركة بين الجاز والموسيقى العربية.
في الختام، لا بد من نقطة أخيرة حول مفردة «العبثية» التي يطيب لكثيرين وصم تجربة زياد الرحباني بها، ولا سيما من قبل المعسكر المعادي للالتزام الفكري والعقائدي لزياد في مواجهة الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والصهيونية البربرية، ودعمه لكل حركات المقاومة وإعجابه بلا مواربة بشخصية السيد الشهيد حسن نصر الله في مشروعه لمجابهة الاحتلال. كان زياد على ما قاله في حوار مع نزار مروة يقارب الحرب بوعي سياسي مكتمل، «في الوقت الذي كانت الحرب هي العبثية».
قارب يوميات الحرب الأهلية اللبنانية وكل القضايا التي تعصف بمنطقتنا الملتهبة بوحي من هذا الالتزام السياسي والأخلاقي ولو بصيغة ساخرة، إذ يذكر رسام الكاريكاتور المصري بهجت عثمان في حديث مع الموسيقار والناقد الياس سحاب إنه درس في ألمانيا أصول الفنون التحريضية، ولكنه لم يفهم من تلك المحاضرات شيئاً عن روح الفن السياسي التحريضي كما فهمه بعد الاستماع إلى تسجيلات «بعدنا طيبين قولو الله» الذي بثه زياد مع زميله جان شمعون في الإذاعة اللبنانية، وبرنامج «العقل زينة» على أثير «صوت الشعب».
انطفأت الشعلة المتوهّجة في هذا اليوم الحزين من تموز، وأغلق غطاء البيانو في حانة «بلو نوت»، وانتظرنا «العشاق تنين تنين» على موقف دارينا. كان الولد يشاغب على كل شيء، على نوتة أبيه، وبشاعة الحرب، وأفول الموهبة وشراء المثقفين من أنظمة البترودولار، شاغبَ حتى أضحك «صديقه الله»، الذي أخذه إليه بعدما غنى لكل قلب ما يشتهي.
التشييع اليوم: من الحمرا الى المحيدثة
يودع لبنان اليوم زياد الرحباني. صباحا، وعند الثامنة يتجمع الأصدقاء والرفاق أمام «مستشفى خوري» في الحمرا. ليصار بعدها الى الانتقال بالنعش نحو انطلياس، قبل الرحلة الاخيرة عند الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم نحو كنيسة «رقاد السيدة – المعلقة» (بكفيا)، ويوارى الجثمان في مدافن العائلة.
تقبل التعازي قبل الدفن وبعده في صالون الكنيسة ابتداءً من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى الساعة السادسة مساءً ــ كما تقبل التعازي غداً في صالون الكنيسة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى الساعة السادسة مساءً.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

التعازي مستمرّة في كنيسة رقاد السيّدة... ورسالة قطريّة إلى السيّدة فيروز
التعازي مستمرّة في كنيسة رقاد السيّدة... ورسالة قطريّة إلى السيّدة فيروز

ليبانون 24

timeمنذ ساعة واحدة

  • ليبانون 24

التعازي مستمرّة في كنيسة رقاد السيّدة... ورسالة قطريّة إلى السيّدة فيروز

تقبّلت السيّدة فيروز وعائلة الفنان الراحل زياد الرحباني ، التعازي في كنيسة رقاد السيّدة في بكفيا ، لليوم الثاني. وحضر إلى صالون الكنيسة وزير الثقافة القطري الشيخ عبد الرحمن بن حمد ال ثاني مع وفد مرافق له، وقدّم واجب العزاء للسيّدة فيروز ولعائلتها. وحمل الوزير القطريّ رسالة إلى السيّدة فيروز، كما حضر أيضاً سفراء وسياسيّون، إضافة إلى فنانين وممثلين وإعلاميين، قاموا بواجب العزاء.

عمَّا سألت فيروز في عزاء "زياد"؟
عمَّا سألت فيروز في عزاء "زياد"؟

الديار

timeمنذ ساعة واحدة

  • الديار

عمَّا سألت فيروز في عزاء "زياد"؟

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب نقل أحد المعزين بالفنان الراحل زياد الرحباني في صالة كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة - بكفيا أنَّ جميع الحاضرين لم يتوقعوا بقاء السيدة فيروز على مدى 7 ساعات داخل صالون الكنيسة لتقبل التعازي وذلك بعدما أشيعَت مسألة مغادرتها وعدم حضورها الجنازة. ويقول المصدر إنَّ جميع من حضروا إلى الكنيسة كانوا يتهافتون لتحية السيدة فيروز مشيراً إلى أنَّ فيروز التزمت صمتاً مهيباً، واكتفت بالسؤال فقط عن التوقيت. "لبنان 24"

ماذا طلبت السيّدة فيروز بعدما قدّمت نجوى كرم التعازي لها؟
ماذا طلبت السيّدة فيروز بعدما قدّمت نجوى كرم التعازي لها؟

الديار

timeمنذ ساعة واحدة

  • الديار

ماذا طلبت السيّدة فيروز بعدما قدّمت نجوى كرم التعازي لها؟

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب انتشر فيديو عبر مواقع التواصل الإجتماعيّ، للفنانة نجوى كرم، خلال تقديمها واجب العزاء يوم أمس، في كنيسة رقاد السيّدة في بكفيا. وعمدت السيّدة فيروز إلى الطلب من أحد الأشخاص بمناداة كرم، وإجلاسها بالقرب منها، بعدما عمدت الفنانة اللبنانيّة إلى المغادرة فوراً.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store