
أدب قلة الأدب!
عزيزي القارئ، تشير كلمة «أدب» في اللغة العربية إلى معان واسعة ومتنوعة، وقد تطورت الكلمة مع التاريخ وسياقاته. ففي «لسان العرب» لابن منظور (حوالي 658 هـ)، يُعرَّف الأدب بأنه الخلق والطبع، والأدب هو ما يُحسن به المرء من قول وفعل، والذي يتأدب به الأديب من الناس؛ سُمِّي أدباً لأنه يؤدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، وحتى في فترة العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين كان يطلق لفظ «الأدب» على السلوك الحسن والتربية الجيدة، وعلى كل ما هو جميل ومفيد في الكلام والعمل، كما ورد بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فبعيداً عن صحة القول فإن سياق الكلمة الاجتماعي وقتها يدل أنها تحمل هذا المعنى المتعلق بالأخلاق قولاً وعملاً.
وقد كان يُقال قديماً «رجُل بلا أَدَب» للدلالة على نقص التهذيب وحسن الأخلاق وممارسة قواعِد السلوك المُقرَّرة في المُجتمع.
وفي العصر العباسي اتسع المفهوم ليصبح ما ينبغي لذي الصنعة والفن أن يتمسَّك به، كأدَب الكاتب وأدَب القاضي. تحديداً أصبح «الأدب» علماً يشمل الفلسفة والعلوم بفعل حركة الترجمة واختلاط الثقافات؛ فظهر كتاب «الأدب الكبير» لابن المقفع (حوالي 140 هـ) الذي جمع بين الحكمة السياسية والأخلاق العملية، وظهرت كتابات الجاحظ في «البيان والتبيين» (حوالي 265 هـ) حيث مزج بين السرد الأدبي والتحليل الاجتماعي، كما ظهرت «المقامات» كفن سردي عند بديع الزمان الهمذاني (حوالي 280 هـ).
ثم تطور المفهوم بعد الدولة العثمانية، كما يظهر في «المعجم الوسيط» (العصر الحديث – حوالي 1381 هـ) حيث أصبح الأدب هو فنون النثر والشعر وما يتصل بهما، ومجموعة العادات والتقاليد الاجتماعية التي تحكم سلوك الإنسان وتحدد موقفه من القيم الخيرة والشر.
أما في العصر الحديث، اليوم فكلمة «أدب» تشير إلى الكلام البليغ المرصوص بعيداً عن الرسالة التي يحملها، والذي يصدر عن عاطفة ومخيلة، ويؤثر في النفوس أياً كانت قيمه وأياً كان شكله وقالبه.
ولكي نعرف عزيزي القارئ كيف انتقل مفهومي الأدب والأديب من الأخلاق والنفع إلى الدعوة إلى الشذوذ والشرب، فعلينا أن نعود إلى فترة النهضة العربية، حيث استمر تطور المفهوم الدلالي لكلمة «أدب» حتى وصلنا للقرن العشرين، ومع ظهور ما يمسى بالنهضة العربية، تحول الأدب إلى أداة لنقد الواقع والتراث الإسلامي وطرح الأسئلة الوجودية ومفاهيم الحرية وانفلات قيد الأعراف الاجتماعية والدعوة للتمرد، عبر الرواية والشعر الحر؛ مثل ثلاثية نجيب محفوظ (1376-1377 هـ) و«أولاد حارتنا» (حوالي 1377 هـ) التي صورت تحولات المجتمع المصري، وقصيدة «الكوليرا» لنازك الملائكة (حوالي 1390 هـ) كأولى خطوات الشعر الحر.
وفي هذه الفترة تم الانزياح نحو «الأدب العالمي» تحت تأثير الترجمة والاحتكاك بالغرب، وتغير المفهوم ليشمل الإبداع الفني (الرواية، القصة القصيرة، المسرح، الشعر الحر) مع نزعة نقدية، وظهور كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين (حوالي 1389 هـ) الذي أعاد تعريف الأدب كـ«منتج فكري وليس مجرد نصوص قديمة»، فأصبح «الأدب» مرادفاً لـ«Literature» الإنكليزية، أي الإنتاج الإبداعي المكتوب بغض النظر عن القيم التي يدعو إليها. وقد ظهرت مدرسة الفن للفن والرواية للمتعة والقراءة للهروب من الواقع وليس من أجل بنائه.
وبعد أن نهض فن الرواية والتأملات والشعر الحر، اختفى مفهوم «الأدب» بمعناه القديم وتحول إلى أدب قلة الأدب في العصر السائل، حيث يدور حول «النسوان» والإغواء وتفكيك المعتقدات الثابتة ونشر السلبية والاكتئاب والحزن والهم والغم والكتابة عن الأمراض النفسية والتعاطف مع العصاة والمجرمين والزنادقة والملحدين، وتفكيك الحدود والمعاني والأصول واستخدام تكنولوجيا النص. أصبح الأدب «سائلاً» يتشكل وفقاً لسياقات العولمة والتقنية، بعيداً عن قيمه وأخلاقه وتأدبه، مع تداخل الأجناس ودخول النثر في الشعر والمسرح في القصة والتأملات في المقال، وانزياح المعايير نحو «ما يطلبه القراء»!
ولم يعد أحد يؤدب أحداً!
خلاصة ما أريد قوله عزيزي القارئ، أنه ليس كل من كتب رواية أو قصة «أديباً»، وليس كل ما كُتب في شكل رواية أو قصة «أدباً». أخبرنا ذوو الفضل والعلم أنه لا أدب لكل من جهل معرفة قواعد التهذيب وأصول التصرف الاجتماعي والأخلاقي المقررة والمتعارف عليها، وممارستها، وتطبيقها، ومعرفة قواعِد التعاطي مع الناس، ومعاشرتهم بلياقة ولباقة، وأن يقول للناس «حُسنى»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرأي
منذ 9 ساعات
- الرأي
انفصال أحمد السقا عن مها الصغير
خرج الفنان المصري أحمد السقا عن صمته وأعلن رسمياً أنه طلق أم أولاده الإعلامية مها الصغير. السقا، أعلن انفصاله عن الصغير، بعد زواج استمر 26 عاماً، ودوّن عبر حسابه، على «فيسبوك»، ما وصف بأنه «بيان» قال فيه: «عشان الناس اللي بتسأل أنا والسيدة مها محمد عبدالمنعم، منفصلين منذ 6 أشهر، وتم الطلاق منذ شهرين تقريباً، وأعيش حالياً لأولادي وعملي وأصدقائي المقربين، وأمي وأختي، وكل تمنياتي لأم أولادي بالتوفيق والستر، ومش عايز رغي في الموضوع ده رجاء من الصفحات الخاصة، وسبحان مقلب القلوب ومبدلها». وأضاف «أنا أعلنت، بينما تأخرت هي في الإعلان، وفي هذا قمة الاحترام والرقي، ولها كامل الاحترام، وهي التي قد توضح هذه الرغبة قريباً، وأمنياتي لها بالسعادة والنجاح، في قرارها وحياتها اللي فوجئت بها مثلكم، ربنا يسعدها في حياتها المستقبلية واختياراتها». وفي المقابل، شاركت الإعلامية مها الصغير متابعيها على حسابها في «إنستغرام»، بآية قرآنية: «واصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين» (سورة يونس: 109)، ولكنها لم تعلق، ولم ترد على تعليقات المتابعين.


الجريدة
منذ يوم واحد
- الجريدة
شيماء سيف تشارك في «الطقاقة» بالكويت
تشارك الفنانة شيماء سيف في مسرحية «الطقاقة» بالكويت، خلال عيد الأضحى المقبل، بالتعاون مع الفنانين بيومي فؤاد وعبير أحمد ومرام البلوشي وخالد الشمري وسارة القبندي وعلي أحمد وشهد السلمان وإيمان قمبر، والمسرحية من تأليف محمد أكبر، وإخراج خالد الشمري. وكتبت سيف، عبر حسابها على «إنستغرام»، «أهل الكويت الغاليين استنونا في العيد بإذن الله مسرحية الطقاقة».


الرأي
منذ 2 أيام
- الرأي
الوضوح في... «الكذب»!
الكتابة لها نَفَس خاص... بعض الكتّاب والإعلاميين والناشطين يحملون نَفَساً يبث «الطاقة السلبية» في روح المتلقين مع الأسف. الذي يبث «الطاقة السلبية» في العادة تجاوز حد «الكذب» إلى بلوغ حال الوضوح في الكذب. البعض في تعليقه خصوصاً بعد مقال الأحد «الناس يا بو عبدالله شايفة وعارفة»... «ندري شنو الصح بس بات الكذب مألوفاً»! ومع احترامي لهم ولغيرهم، أجد نفسي مؤتمناً في علم حصلت عليه ومعرفة وخبرة اكتسبتها وواجبي أخلاقياً أن أنبه وأوجه النصح حتى وإن قيل إن «التسلق» و«التملق» و«الكذب» أقصر طريق للوصول إلى الغايات وفق مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»! كارثة أن نصل إلى هذا الحد من طريقة التفكير والنهج، ولهذا وبالمختصر نعرض لهم حديثاً عظيماً عن مكارم الأخلاق، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجلُ يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً» (متفق عليه). هاتوا لي خبيراً واحداً في الإدارة الإستراتيجية يقول إن الرؤية «مو شرط تتغير» مع تغير الاقتصاد والمعلومات التي بنيت عليها الرؤية في المرحلة الأولى من مراحل الإدارة الإستراتيجية! نحن هنا نكتب حول أهمية الرؤية، والأهداف القصيرة والمتوسطة وطويلة المدى وإستراتيجيات العمل المحققة للأهداف والموصلة للرؤية التي تحقق التوقعات في أي مؤسسة. الشواهد على صحة ما عرضنا هنا، مشاريع وأقوال سابقة وقديمة مجافية للحقيقة وكشفها الجميع مع مرور الزمن فالتاريخ لا يرحم. ليس بجديد ما كتبت وأكتب فهو نابع عن قناعة وإن كان الكثير من المشاهير أو «كثيري الكلام ممن يهرف بما لا يعرف» قد امتهن الوضوح في... «الكذب»... سواء كان كذباً أبيض أو رمادياً أو أسود (الكذبة تعني نقل المعلومة غير الصادقة/صحيحة) أو تحت عرف المجاملة وخلافه من العادات السيئة التي أبعدت الأخيار. كم أتمنى أن أكتب لأصل إلى الوضوح. أذكر أنني في بعض المناسبات تكلّمت بوضوح وساد الهرج والمرج «هذا شيقول... و...»! الزبدة: ليس بالضرورة أن تفصل كلامك ورسالتك لتطابق ثقافة المتلقي في وقتنا الحالي وليس بالضروري أن تكتم الشهادة في قول الحق إلا إذا وضعت حدوداً تمنع ذلك! كن كما أنت... ولا تتوقع أن يرضي حديثك الجميع، لكن احذر أن تقع في الكذب وتكرّر الكذب فقد توعّد الله المكذبين بشدة العقاب ومصيرهم «ويل»ـ واد في جهنم. أسأل الله عز شأنه أن يصلح حال البلد والعباد.... الله المستعان. [email protected] Twitter: @TerkiALazmi