
من الإعجاز الكتابي إلى العلمي
تزايدت في الفترات الأخيرة طريقة تفسير القرآن الكريم بما بات يُعرف بالإعجاز العلمي، حتى أصبحت هي الإطار الفكري الذي يُنظر من خلاله المتأمل للقرآن من أبناء المسلمين، بل وخصوم القرآن الكريم.
وهذه الطريقة في تأمل القرآن هي أن الباحث إذا وقع على معلومة «علمية» مكتشفة حديثًا، يطرأ على باله ما هو الشاهد عليها من القرآن الكريم، بحيث يُثبت إعجازية القرآن بما أنه ذكر هذه المعلومة قبل أربعة عشر قرنًا.
وهذه الطريقة تنتج من أن المتأمل أو المفسر هذا لديه أولًا قناعة مطلقة بصحة المعلومة التي وقع عليها، وثانيًا لديه قناعة أن القرآن الكريم يجب أن يتطرق لمثل هذه المعلومات، بالإشارة أو بالتصريح. وما عليه إلا أن يبحث أكثر ويعدل حتى يحصل التطابق المفترض.
وقد يكون هناك أشياء فعلاً من هذا النوع، ولكن الكم الكبير الذي أخرجته هذه المدرسة أصبح في أغلبه مجرد هوى وتحريف للمعاني وتلفيق لا يستقيم.
ونعود ونقول: مع إن وجود شيء من هذا القبيل في القرآن الكريم وارد جدًا، والمتفكر في هذه الظاهرة يجد بينها وبين ظاهرة سبقتها في مطلع الحضارة الإسلامية تشابهًا كبيرًا جدًا في الطريقة والدافع، ألا وهي ظاهرة الإعجاز الكتابي– إذا جاز التعبير– وهي أن كثيرًا من المفسرين والمتأملين في ذلك الزمان كانوا كلما قرأوا معلومة في الكتب المقدسة، طارت أذهانهم إلى ما عساه أن يقابلها في القرآن الكريم، بالقناعات نفسها الحاصلة عند أصحاب الإعجاز العلمي اليوم، وهي أن لديهم قناعة بصحة هذه المعلومات الموجودة في تلك الكتب، وكذلك أن القرآن لا بد أن يتطرق لها. وما عليهم إلا البحث أكثر في القرآن حتى يجدوا ما يفترضون أنه يقابل تلك المعلومات. وبالطريقة نفسها يُلوون أعناق المعاني ويجرّون المفاهيم حتى تبدو متطابقة مع ما في القرآن بحسن نية، تتمثل في أنهم بهذا يثبتون مصداقية القرآن طالما أن ما جاء فيه يطابق ما عند أهل الكتاب. وكذلك وقعوا في كثير من الأخطاء لهذا السبب.
والتشابه بين هاتين المدرستين كبير ويطول سرده، ولكن قد يكون التشابه الأهم هو المشكلة التي أنتجتها هاتان المدرستان وهو أنه مع الوقت أصبحت للأسف كثير من الأخطاء التي وقعوا فيها يُظن من قبل العامة أنها جزء من الدين، وأنه لا يجوز نقضها أو إعادة التفكير فيها، أو إعادة تفسيرها بناء على معطيات أكثر دقة وأقل تحيزًا.
والمشكلة ليست في أصل الفكرة؛ فالفكرة مقبولة جدًا، أن يرد في الكتاب العزيز إشارات يُفهم منها معلومات علمية، «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير»، وكذلك من الوارد جدًا أن يذكر القرآن معلومات ذُكرت في الكتاب المقدس فمصدرها واحد.
ولكن المشكلة في عدم منهجية ذلك، وفي أن نتائج طريقة التأمل أصبحت تُعامل كأنها حقائق لا يجوز نقضها، وهذا قيد التفسيرات اللاحقة، ورَسَّخ مفاهيم قد تكون غير دقيقة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ 43 دقائق
- شبكة النبأ
فكر يصنع الحياة.. المنهج الشيرازي في التغيير والإصلاح
يبرز فكره كنبراس حيّ يشعُّ في دروب التغيير، ويعيد رسم ملامح النهضة برؤية إسلاميّة متجذّرة. لم يكن مشروعه الفكري مجرّد اجتهاد نخبوي؛ وإنَّما كان نداء وعيٍ عميق، ونفخة حياة في جسد أمة أنهكتها الأزمات. فكرٌ يبعث في الأمة روح الحياة؛ ويغرس في الناس الأمل، والعقل، والرسالة... إذا تأمَّلنا بدقَّة في النتاج الفكري الغزير للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه)؛ الذي تجاوز بأعداده الألف واربعمائة عنوان، فإننا نكتشف منظومة معرفيَّة متكاملة تسير على نهجٍ فكريٍ متينٍ ومتماسك، يتَّسم بالوضوح والثَّبات، ويخلو من التذبذب أو الارتهان للمتغيرات الفكريَّة العارضة. وهذا النهج ليس نتاج تقليدٍ أو مسايرةٍ للتيارات الفكريَّة العابرة؛ بل هو امتداد حيّ لروح الإسلام الأصيل، واستلهام عميق من ينابيع التراث المحمدي الأصيل، بما يختزنه من قيمٍ راسخة ومعانٍ متجددة. فمنهج المجدد الشيرازي لا يتكئ على النقل السطحي، ولا ينزلق إلى الاستنساخ الفكري، وإنَّما ينهل من جوهر الأصالة، ويعيد قراءة التراث بعينٍ معاصرة، تستخرج منه الجواهر الفكريَّة والدرر العلميَّة التي تلبي حاجات العصر وتجيب عن تساؤلاته المتراكمة. إنَّه منهج يعيد بناء العلاقة بين الماضي والحاضر، من دون قطيعة أو تماهٍ من خلال حضور نقدي واعٍ، يُبقي على الجذور ويُنمِّي الفروع. ومن أبرز ملامح هذه المنهجيَّة التجديديَّة التي انتهجها الإمام الشيرازي، والتي جعلت من مشروعه الفكري متميزًا ومؤثِّرًا في ساحات الفكر الإسلامي، هي: 1. التمسك بجذور الفكر الأصيل. من أبرز السمات التي تشد الانتباه في الفكر الشيرازي هي ذلك التمسك العميق بالأصالة الفكريَّة، الذي يتغلغل في بنية كلِّ فكرة يطرحها، وفي مضمون كلِّ رأي يعرضه؛ فالإمام الشيرازي لا يطرح رأيًا ولا يبني تصورًا معرفيًا إلَّا وقد أسسه على دعائم ثابتة من القرآن الكريم، وأحاطه بسياج من السنَّة النبوية المطهرة المتمثلة بأحاديث الرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، مستندًا بذلك إلى أرفع منابع التَّشريع وأوثق مصادر المعرفة الإسلاميَّة. غير أنَّ أصالته لا تقف عند حدود الاستشهاد النصِّي أو الإحالة الشكلية؛ وإنَّما تتجاوز ذلك إلى الغوص العميق في دلالات النصوص، واستنطاقها بمستوى يُخرج منها معاني متجددة، ويكشف عن آفاق معرفيَّة تلامس العقل والوجدان معًا؛ فالنصوص هي مفاتيح لفتح مغاليق الفكر، ومصابيح تضيء دروب الهداية، وتعيد تشكيل الوعي الإسلامي بروحٍ نابعة من عمق التراث ونبض الواقع. إنَّ الأصالة في فكر السيِّد الشيرازي هي حركة حيويَّة متجددة، تنبض بالحياة، وتتجلَّى في كلِّ سطر من كتاباته، وكلِّ مشروع من مشاريعه العلميَّة والثَّقافية. إنَّها أصالة واعية، تتحوَّل إلى رؤية ومنهج، وتصوغ فكرًا إسلاميًا قادرًا على مواكبة العصر والحداثة، من دون أن يفقد جذوره أو يتنازل عن هويته. ولو قدّر لك أن تتصفح أيّاً من مؤلفاته، سرعان ما ستلمس منهجًا علميًّا رصينًا لا يعرف التساهل في الطرح أو التسطيح في الفكرة؛ فليست هناك دعوى تُطلق دون دليل، ولا فكرة تُعرض بمعزل عن أصولها النصيَّة ثمَّ إنَّه لا يكتفي بذكر النصوص على سبيل التزيين أو التبرك؛ وإنَّما يجعلها المنطلق والمنتهى، فيبني فكرته من عمق النص، ويغذّيها بفهم عميق لمقاصده، ويعيد تأصيلها ضمن سياق علمي ومنهجي ينسج بين دلالات اللغة وأبعاد المعنى، ليخرج بفهم ناضج وقراءة متجددة تنبض بالحياة. فكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة هما الحقل الذي يزرع فيه أفكاره، والنبع الذي يروي منه مبادئه، فلا تنمو لديه فكرة إلَّا وقد تشبعت بروح الوحي، ولا تثمر رؤية إلَّا وكانت متصلة بجذور الشرع ومقاصده العليا. وهكذا، يصبح النص المقدس في فكره هو الفضاء الذي تتشكل فيه الرؤية، والميزان الذي توزن به المواقف، والمعيار الذي تُقاس به صدق الأفكار، في منهج يزاوج بين الإيمان العميق والعقل المنفتح، وبين الانتماء للنص والانطلاق منه نحو آفاق التجديد والاجتهاد. لا يرى الإمام الشيرازي في الحداثة خصمًا يجب اجتنابه؛ ولكن يتعامل معها من منطلق تقويمي واعٍ، إذ يفرّق بوضوح بين الحداثة التي تنبع من ضرورات واقعية وتُحقق مصلحة الأمة، وبين الحداثة المفرغة من القيم، أو التي تُفرض كنموذج استعلائي يهدد الهوية؛ فهو ينظر إلى الحداثة المنسجمة مع روح الشريعة ومقاصدها على أنها فرصة للتطوير والبناء، لا تهديدًا للأصالة. وقد عبر عن هذا التوازن الفكري بوضوح بقوله: "والتمسك بالأصالة لا يعني رفض الحداثة إذا كانت لها فوائد تستفيد منها الأمة"(الاجتماع: ص144). بهذا الموقف المتزن، يرسّخ نهجًا معرفيًا يجمع بين الثقة بالتراث والانفتاح على المستقبل، ويؤسس لرؤية فكرية قادرة على استيعاب المتغيرات من دون أن تذوب فيها، وعلى الإفادة من مكتسبات العصر من دون أن تتخلَّى عن هويتها. إنَّه موقف الوسطيَّة الواعية، الذي يُبقي على جذور الأمة راسخة، في الوقت الذي يدفعها فيه إلى النهوض والتجدد والعطاء. إنَّ الإمام الشيرازي، بهذا الجمع النادر بين الأصالة والتجديد، يرسم معالم فكرٍ إسلامي حي، يعيد الاعتبار لمكانة الشريعة في بناء المجتمع، من دون أن يتجاهل التحولات الاجتماعية والثقافية، ودون أن يغلق أبواب الاجتهاد أمام الأسئلة المستجدة. فمشروعه الفكري هو محاولة واعية لإحياء دور الإسلام في الحياة، بما يحفظ للإنسان كرامته، ويمنحه أدوات النهوض الفردي والجماعي، ضمن إطار متكامل تتجاور فيه ثوابت العقيدة مع مرونة الاجتهاد، وتتناغم فيه أصول الدِّين مع ضروراته المتجددة. وهكذا، يتحوَّل فكر الإمام الشيرازي إلى جسر حيّ بين الماضي والمستقبل، وإلى خطاب قادر على ملامسة الحاضر من دون أن يفقد ضياء الوحي، وعلى تلبية الحاجات الإنسانية المتغيرة من خلال مرجعيَّة دينيَّة راسخة، ووعي اجتماعي متقد، ورؤية حضارية تنطلق من قلب الإسلام لتخاطب العالم بلغة العقل والرحمة والعدل. 2. العقلية الثائرة. ليس من المستغرب أن يقع كثير من الكتَّاب والمفكرين في خطأ منهجي عند تناولهم لقضايا الأمة، حين تُثقل رؤاهم بروح انهزاميَّة، وتغلب على خطابهم نبرة يأس واستسلام. فتراهم ينقلون للقارئ مشهدًا قاتمًا، تغيب فيه ملامح الأمل وتُغيَّب فيه طاقة التغيير، فيكتفون بوصف الواقع بأبعاده السلبيَّة من دون أن يقدّموا بصيصًا من نور أو مشروعًا للخروج من النفق؛ إنَّهم يرسمون مشهدًا ساكنًا يعمِّق الإحباط، بدل أن يحرّك الوعي أو يشحذ العزائم. أمَّا الإمام الشيرازي، فقد كان على الطرف النقيض من هذا النمط المتشائم؛ إذ كانت نظرته للواقع ممتلئة بالحيويَّة ومشحونة بالإرادة والإيمان بقدرة الأمَّة على النهوض. ولقد كان التفاؤل جزءاً أصيلًا من تكوينه الفكري والنَّفسي، وكان يرى في كلِّ أزمة فرصة، وفي كلِّ عثرة منطلقًا نحو تجاوز الواقع وصناعته من جديد. فروحه كانت نابضة بالأمل كقناعة راسخة تولَّدت من إيمانه العميق بسنن التغيير القرآنيَّة، وبأنَّ النهوض ليس محالًا متى توفرت الإرادة والرؤية والعمل. وكان فكره يتدفق بحيويَّة ثوريَّة تستلهم روح الإسلام في بُعده الحضاري والتغييري، وتسعى إلى استعادة الدور الريادي للأمة في صناعة الحضارة وتوجيه المسار الإنساني. إنَّ ما يميز الإمام الشيرازي في هذا السياق، هو أنه قدَّم مشاريع متكاملة للإصلاح، وأسّس خطابًا يحرّك الهمم ويبث روح النهوض، مستندًا إلى رؤية إسلامية متجذرة، ومتفائلة، وعملية، تُبقي أبواب الأمل مشرعة، وتعيد للأمة ثقتها بنفسها وبمقدراتها. وكتاباته هي صوت يقظ وصيحات نهوض صريحة، تنبض بالإرادة، وتنبّه الضمير، وتفتح أفق التغيير الثوري والجذري. ولم يكن من أولئك الذين يرضون بالحلول الجزئيَّة أو يكتفون بترقيع الواقع المهترئ؛ بل كان يرفض المجاملات الفكريَّة والتسويات السطحيَّة، ويمضي بجرأة العالم وبصيرة المصلح إلى تشخيص العلل العميقة التي تعاني منها الأمة، ثمَّ يقدِّم المعالجات اللازمة بشفافية لا تعرف التردد، ووضوح لا يعرف المداراة. روحه الثوريَّة تتغلغل في كلِّ سطر، كما يسري الدم في العروق، فتمنح القارئ شعورًا باليقظة وتُشعل فيه شرارة التغيير. ولا يكتفي الإمام بأن يحلل الواقع أو ينتقد السلبيات؛ بل يحمّل القارئ مسؤولية التغيير، ويخاطبه كطرف فاعل لا كمتلقٍ سلبي. ومن هذا المنطلق، تتحول كتبه إلى أدوات توقظ في النفوس معاني الكرامة والدور والرسالة، وتدفع الإنسان إلى الانتقال من موقع السخط الصامت إلى ميدان العمل الواعي والإصلاح البنَّاء. وتتجلى هذه الروح الثوريَّة التي تميِّز فكره بأبهى صورها في مؤلفاته المحوريَّة، مثل الاجتماع، والسبيل إلى إنهاض المسلمين، والصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، وممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين؛ فهذه الكتب تمثل مشاريع عملية متكاملة لإحداث نهضة شاملة، تبدأ من تجديد الفكر، وتمتد لتشمل مختلف مفاصل الحياة: السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة. إنَّ فكر التغيير عند الإمام الشيرازي هو ضرورة عاجلة، وواجب شرعي وإنساني، ورسالة ملحّة على كل من يحمل الإيمان بوعد الله (تعالى) للمستضعفين أن يتصدى لها؛ فالتغيير عنده فعل واعٍ ومخطط، ينبني على وعي بالسنن الإلهية، وفهم دقيق لطبيعة المجتمعات، وإرادة صلبة لا تنكسر أمام العقبات. ولهذا، فإنَّ كتبه ترسم خارطة طريق نحو النهوض، تعتمد على إصلاح الفكر قبل الأنظمة، وبناء الإنسان قبل المؤسسات. إنَّها دعوة للانخراط العملي في مشروع التغيير، يوجهها إلى كلِّ فرد يشعر بمسؤوليته، ويؤمن بأنَّ المستقبل لا يُمنح للأمة إلَّا إذا نهضت لتحققه بوعيها وعملها وتضحياتها. لقد آمن بأنَّ النهضة تبدأ من تحرير الفكر وتطهير الوعي من شوائب التقليد والهيمنة، وتنتهي ببناء مؤسسات عادلة، ومجتمعٍ حيّ، تتوازن فيه الحقوق والواجبات، وتترسخ فيه كرامة الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض؛ ولذا، فإنَّ مشروعه النهضوي كان خارطة طريق لتحرير الأمة، وإطلاق طاقاتها الكامنة، واستعادة دورها في بناء حضارة تقوم على الإيمان والعقل والحريَّة والعدالة. 3. العمق الجماهيري. حين تتأمَّل نصوص المجدد الشيرازي، سرعان ما يتضح لك حضور الجماهير فيها كشركاء فاعلين في صناعة التغيير وصُناع للمصير؛ ففكره كان مشروعًا فكريًا عمليًا نزل إلى صلب الواقع، وامتزج بنبض الشارع وهموم الناس اليوميَّة، وانطلق من إيمان راسخ بقدرة الجماهير على النهوض، وبناء مجتمعٍ يسوده الوعي والتفاعل. لقد آمن بأنَّ الأمة لا تنهض إلَّا حين يتحوَّل أفرادها من متلقين سلبيين إلى قوى فاعلة، حين يُدرك كل فرد مسؤوليته في مسيرة التغيير، ويشعر بأنَّه شريك أصيل في صنع المستقبل؛ لذلك، فإنَّ كتاباته تعكس هذا التوجه، وتدعو إلى المشاركة والمبادرة، وتحث على الإيجابيَّة والفاعليَّة، وتُبرز دور الجماهير كعناصر حيويَّة لا غنى عنها في أي مشروع نهضوي. بهذا المعنى، يصبح فكره جسرًا يربط بين النظريَّة والتطبيق، وبين الفكرة والواقع، وبين القائد والمجتمع، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، ليشكّل بذلك نموذجًا ملهمًا للفكر الإسلامي المعاصر الذي يستمد من جذوره ليؤسس لمستقبل مشرق تشترك فيه الأمة جمعاء، بكلِّ فئاتها، في بناء حضارتها وإعادة مجدها. إنَّ الجماهيريَّة في فكره هي قناعة عميقة راسخة بأنَّ الأمة بكامل مكوناتها – من طبقات وفئات متعددة – تمثل المفتاح الأساسي والحقيقي لأي نهوض ونهضة؛ لذلك، يرتكز مشروعه الفكري على الثقة الكاملة بقدرة الجماهير على التحول من حالة التلقي الساكن إلى حالة الفعل الواعي والالتزام المجتمعي، باعتبارها القوى الحقيقيَّة القادرة على صناعة التغيير وتمكين الأمة من استعادة دورها الحضاري والتاريخي. لذلك، كان يضع تأكيدًا بالغًا على أهمية التنظيم الجماهيري كآلية أساسية وفاعلة في مسيرة الإصلاح والبناء؛ فهو يرى في التنظيم المنهجي والمنظم الخيار الأنجح والأكثر قدرة على مواجهة التحديات الحضارية التي تعصف بالأمة، والأداة الأهم لخوض المعركة الحضارية التي تستهدف استعادة مكانة المسلمين ودورهم الفاعل في العالم. وهذا الموقف يظهر بوضوح في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، وكذلك في العديد من مؤلفاته الأخرى التي تتناول موضوع العمل الإسلامي والمنهجية التنظيمية. إنَّ الإمام الشيرازي لا يؤمن بالنخبوية المنغلقة التي تحصر العمل في دوائر ضيقة ومعزولة عن نبض الواقع وحياة الجماهير، ويعتبر هذه الاستراتيجية خاطئة وعقيمة بطبيعتها؛ لأنَّها لا تُنتج إلَّا الغربة الفكرية والانفصال عن جوهر المجتمع، ممَّا يقود حتمًا إلى الفشل في تحقيق أي نهضة أو تغيير حقيقي. في تصوره، لا قيمة للتنظيم إذا لم يكن متجذرًا بعمق في حياة الجماهير، متفاعلًا مع حاجاتهم وآمالهم، ومتجاوبًا مع همومهم اليوميَّة. تمامًا كما أنَّ السمكة لا تستطيع العيش خارج الماء الذي هو بيئتها الطبيعية، فإن التنظيم الاجتماعي والسياسي إذا انفصل عن واقع الناس، أصبح كائنًا بلا روح، ومشروعًا بلا حياة، عاجزًا عن النهوض أو إحداث أثر ملموس. إنَّ التنظيم في رؤيته لا يتحقق إسلاميته الحقيقية إلَّا عندما يكون متجذرًا في واقع الناس، قريبًا من الفقير، حاضرًا إلى جانب المظلوم، ومساندًا للمحتاج. هو تنظيم ينصهر في نسيج الأمة، يعمل لخدمتها لا ليصنع وصاية عليها، ويقودها في مسيرة التقدم دون أن يتعالى أو ينفصل عنها. بهذه الروح الجماهيرية الأصيلة، كان الإمام الشيرازي يطمح إلى بناء نهضة حقيقية تمتد جذورها في عمق حياة الناس اليومية، وتستمد من تفاعلها الحيوي مع المجتمع قوةً وحيوية، لتثمر مستقبلًا يليق بعزة الأمة وكرامتها، ويعيد إليها مكانتها في مسار الحضارة والإنسانية. لقد أراد أن يكون التنظيم الإسلامي نموذجًا حيًا للتكامل بين الفكر والعمل، بين القيادة والجماهير، بين الطموح والواقع، ليكون بذلك قاعدة صلبة ترتكز عليها حركة النهضة الشاملة التي تحرر الإنسان وتنهض بالمجتمع في آنٍ واحد. 4. بساطة التعبير وثراء المعنى. من السمات المميزة في فكر الإمام الشيرازي، تكمن في تلك القدرة النادرة والفريدة على الجمع بين العمق العلمي والرصانة الفكرية من جهة، والبساطة في الطرح وسهولة الفهم من جهة أخرى، من دون أن ينزلق إلى السطحية المبتذلة أو التعقيد المفرط الذي يُبعد القارئ عن جوهر الفكرة؛ فكتاباته كانت أدوات تواصل حقيقية تهدف إلى أن تُفهم، وتصل إلى القلوب والعقول، وتترك أثرًا واضحًا في وعي المتلقي. هذا الأسلوب الذي يتقنه يُعرف عند الأدباء بـ"السهل الممتنع"؛ وهو نمط من التعبير يبدو بسيطًا وسلسًا على الظاهر، لكنه في أعماقه يحمل حكمة راسخة، وعمقًا فكريًا راقيًا يتطلب من القارئ تدبره وتأمله. وهذا التوازن الدقيق بين السهولة والعمق هو ما جعل فكر الإمام قريبًا من جمهور واسع، سواء كانوا من العلماء أو العامة، وحافظ على استمراريته وقوته عبر الزمن؛ إذ يُسهم في بناء جسر تواصل بين المعرفة العالية والواقع الحياتي للأفراد والمجتمعات. وقد تجلت هذه السمة المميزة في مختلف مؤلفات الإمام الشيرازي بشكل واضح، سواء في موسوعاته الفقهية الضخمة التي تناول فيها أبواب الفقه وأصوله، مثل الموسوعة الفقهية وأصولها، والتي وُجهت بشكل رئيسي إلى كبار العلماء وطلبة الاجتهاد في الحوزات العلمية والجامعات الدينية، أو في مؤلفاته الأكاديمية المتخصصة في مجالات متعددة كفقه الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والإدارة، والحقوق، التي استهدف من خلالها النخبة الفكرية والمختصين. إنَّ هذه التنوعات في مضامين مؤلفاته عززت من قدرته على مخاطبة شرائح مختلفة من القراء بأسلوب علمي رصين، يعكس تماسك الرؤية وثراء المعرفة، مع المحافظة على وضوح الرسالة وسهولة الوصول إليها. وهذا التوازن بين التخصصية والعمومية، وبين العمق والبساطة، جعل من فكر الإمام الشيرازي مرجعًا متكاملًا يخاطب أبعادًا متعددة من حياة الأمة، ويرسخ مكانته كأحد أبرز المفكرين المعاصرين في الحقل الإسلامي. ومما يلفت الانتباه بوضوح أن هذا العمق العلمي والفكري لدى الإمام الشيرازي لم يشغله عن هموم عامة الناس، ولم يجعله يقتصر على مخاطبة النخبة وحدها؛ بل كان حريصًا على تأليف مؤلفات تناسب ثقافات واحتياجات مختلف شرائح المجتمع؛ فقد أولى عناية خاصة للأطفال، وقدم لهم كتبًا تربوية على شكل قصص مبسطة، تحمل في طياتها رسائل قيمة بأسلوب جذاب وسلس يسهل استيعابه ويصعب نسيانه، ما يعكس وعيه بأهمية بناء الوعي منذ الصغر. إنَّه بحق كاتب الأمة بكلِّ فئاتها وأطيافها، يدرك أنَّ النهضة الحقيقية لا تقوم على طبقة واحدة أو فئة محددة، ولا تُبنى الحضارة من طرف منفرد، ولكن تتطلَّب تنوعًا فكريًا واسعًا يستوعب الجميع، ويخاطب كلَّ عقل بحسب مستواه وقدرته على الفهم؛ فمشروعه الفكري هو مشروع شامل يراعي الفروق ويحتفي بالتنوع، ليضمن بذلك شمولية التأثير وعمق الانتشار، مؤمنًا بأنَّ نهضة الأمة لا تتحقق إلَّا بتكاتف كل أبنائها ومشاركتهم الفاعلة في بناء المستقبل. وبفضل هذا التوازن الدقيق، أصبح فكره ممتدًا وشاملاً، يتغلغل في أوساط القاعدة الشعبية كما يصل إلى قمم النخبة المثقفة، مؤثرًا في الإنسان العادي كما في العالم المتخصص؛ ذلك لأنَّه كان يؤمن إيمانًا راسخًا أن الحقيقة لا تكتمل ولا تتحقق فعاليتها إلَّا عندما تصبح مفهومة وراسخة في وجدان وعقل الجميع، من مختلف المستويات والطبقات، فتتحول إلى قوة دافعة حقيقية للنهوض والتغيير. وهكذا يبرز فكره كنبراس حيّ يشعُّ في دروب التغيير، ويعيد رسم ملامح النهضة برؤية إسلاميّة متجذّرة. لم يكن مشروعه الفكري مجرّد اجتهاد نخبوي؛ وإنَّما كان نداء وعيٍ عميق، ونفخة حياة في جسد أمة أنهكتها الأزمات. فكرٌ يبعث في الأمة روح الحياة؛ لأنه يستمد نوره من القرآن الكريم ونص وسلوك المعصوم (عليه السلام)، ويغرس في الناس الأمل، والعقل، والرسالة. وبناءً على ما سبق، يبقى فكر الإمام الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه) مدرسة متدفّقة بالعطاء، ومشروعًا متجددًا لا يندثر. * مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025


صوت المواطن
منذ 3 ساعات
- صوت المواطن
مكناس تحتضن ملتقى الباحثين في دورته الأولى حول 'أصول الفقه التطبيقي في الوحي ومدونات الخلاف العالي والنوازل والقانون المغربي'
ضمن أنشطته العلمية والأكاديمية، نظم فريق التكامل المعرفي والتجديد المنهجي بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية – جامعة مولاي اسماعيل، بشراكة مع مركز التوثيق والأنشطة الثقافية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمكناس ومركز بحث للقيم والدراسات المعرفية، فعاليات الملتقى الوطني الأول للباحثين في موضوع: 'علم أصول الفقه التطبيقي في القرآن والسنة ومدونات الخلاف العالي والنوازل والقانون المغربي'، وذلك بالمركب الثقافي والإداري التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمكناس، تخللته أربع مداخلات علمية قاربت المفهوم التطبيقي لعلم أصول الفقه في مصادره الشرعية والفقهية والقانونية، وحضره ثلة من الأساتذة الجامعيين والباحثين في سلك الدكتوراه، وذلك يوم الأحد 15 يونيو2025. استهل الملتقى بجلسة افتتاحية برئاسة رئيس فريق البحث في التكامل المعرفي والتجديد المنهجي الدكتور عبد عبد الواحد الوزاني والذي رحب بمؤطري وباحثي وضيوف الملتقى، ثم ألقيت كلمات تقديمية من قبل عدد من الشخصيات الأكاديمية والإدارية حيث تناولت أهمية الموضوع والسياق العلمي للملتقى، شملت كلمة السيد رئيس شعبة الدراسات الاسلامية الدكتور محمد الحفظاوي (منسق الملتقى)، وكلمة السيد رئيس فريق التكامل المعرفي والتجديد المنهجي الدكتور عبد الواحد الوزاني ، وكلمة السيد نائب رئيس مركز بحث للقيم والدراسات الدكتور هشام الهدار ، وكلمة باسم مركز التوثيق والأنشطة الثقافية بمكناس تقدم بها الدكتور عمر الحنفي. و خلاله قدم الباحث عبد الله أمقران باحث في مركز الدكتوراه: الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية ورقة علمية تحت عنوان 'علم أصول الفقه التطبيقي في القرآن الكريم من خلال الهدي النبوي '.أما الباحث أبو بكر الفاروقي مركز الدكتوراه: الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية، فقد تمحورت مداخلته حول علم أصول الفقه التطبيقي في مدونات الخلاف العالي والمناظرة، في حين تفضل الباحث عبد الحميد البوزيدي مركز الدكتوراه: الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية. بورقة تحت عنوان علم أصول الفقه التطبيقي في مدونات النوازل والفتوى، أما الباحث: أحمد العلمي مركز الدكتوراه:الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية، فقد قدم مداخلة تحت عنوان علم أصول الفقه التطبيقي في التشريع القانوني المغربي. وتناول السادة الأساتذة المعقبون ورقات الباحثين بالتعقيب العلمي،وهم الدكاترة :عبد العالي ملوك،وأحمد الرزاقي، وعبد الواحد الوزاني، ومحمد الحفظاوي، وادريس مرزوق، ومحمد الفلوسي، وأحمد اسليماني الحسني، وهشام آيت السي علي. واختتم الملتقى بجلسة ختامية برئاسة الدكتور أحمد الرزاقي خصصت لتقديم التقرير الختامي للملتقى والتوصيات ومن أهمها:مواصلة هذه التجربة النوعية في دورات مقبلة ومنح الفرصة للراغبين في الانخراط والإسهام في هذا العمل البناء، لتشمل باحثين وفرقا ومختبرات بحثية أخرى، كما نوه المشاركون بهذه المبادرة التي تجسد الدبلوماسية الأكاديمية الجامعية مع مؤسسات الدولة وبنيات المجتمع المدني، وتوج الملتقى بالدعاء الصالح، وتوزيع شهادات المشاركة وشهادات الحضور.


العالم24
منذ 3 ساعات
- العالم24
حقيقة و..فاة الإعلامية والممثلة المغربية كوثر بودراجة
ضجت منصات التواصل الاجتماعي، مساء يومه الثلاثاء 17 يونيو الجاري، على وقع إشاعة تم تداولها على نطاق واسع، تفيد بوفاة الإعلامية والممثلة المغربية كوثر بودراجة، ما أثار موجة من القلق والحيرة وسط جمهورها، وأحدث بلبلة بين متابعيها. وفي أول رد منها، خرجت بودراجة عن صمتها عبر حسابها الرسمي على 'إنستغرام'، لتفنّد هذه الأخبار الزائفة بطريقة غير مباشرة، حيث نشرت في خاصية 'الستوري' آية من القرآن الكريم، جاء فيها: **'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ'** [سورة الحجرات: الآية 6]، في إشارة واضحة إلى كذب الخبر ومطالبة بالتحري قبل تصديق أو نشر الإشاعات.