
فارس الرومانسية يترجل وسط أجراس المساء
أخيرا غادرنا فارس الرومانسية الكبير الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، أخيرا رحل الرجل الذي علمنا الخيال ليتركنا بعيدا عن ظله الممشوق بالأحزان، عن روحه المستبدة 'حين نطغى في الميزان'، لم نتعلم منه الحب مثلما كان يريد، فزمنه كان زمانا للمادية الجدلية، للأرواح الهائمة تحت وطأة الأسى الماركسي، ومطارحات اللينينية، كان بين شقي رحى، أحدهما يتعلم من الشيطان كل شيء 'المجد للشيطان معبود الرياح' هو الصعيدي أمل دنقل، والآخر ابن كفر الشيخ البار والشاعر المحمل بتراث التجريب والتجريد والصور بعيدة المدى الراحل محمد عفيفي مطر.
أحدهما تسيطر عليه أفكار الثورة بمفهومها الوصفي آنذاك، والآخر تكبح جماحه المنغصات فيرتدي ثوبًا لغويًا يخبئ فيه أضغاث أحلامه ليكتب إلى جيل جديد قادم، وليس إلى جيل حديث يعاني، وقف محمد إبراهيم أبوسنة بين أمل دنقل وعفيفي مطر، شامخا بلغته البسيطة، عميقا بصوره الشعرية الخلابة، رائعا شفافا إلى حد النقاء الإلهي أو النبوي المهيمن على صغائر الدنيا، وعزم الأولياء. لم يتخل أبوسنة الذي رحل قبل 48 ساعة عن عالمنا، عن منهجه في طرح اللامعقول الحسي، ليواجه به اللامعقول الجدلي، وقف بين طريقين أحلاهما مر، الأول: التعاطي مع التجربة بعذوبة المعاني والصور المتلاحقة والاستجداء الحسي للمشاعر أو المواقف من تجارب شخصية قاسية، الثاني: عندما فعل أبوسنة كل شيء في اللغة الهائمة فوق أعمدة الكنائس القديمة، ومنارات المساجد والأديرة العظيمة.
وقف يناشد أجراس المساء وكأنه ينادي على قاهرة المعز، عن رنين تواشيح أيامها الشتوية القارصة، عن رهبة الصباح عندما يشرق بأمطاره الغزيرة على جبل المقطم القريب، لينعى حبيبًا يودعه أهله الطيبون إلى مثواه الأخير، صرخة أم ثكلى أو أرملة حُبلى، أو ابنة لم يشرق شمسها الأصيل بعد.
كنت ذات ليلة أمشي في شوارع القاهرة الحزينة، أناجي أضواءها الخافتة، يلفني التشاؤم وتلمني لوعة الحب، أهكذا تبدو منطقة وسط البلد خاوية إلا من مكتبة 'مدبولي'، هاوية حتى السقوط في آبار الزمن المباغت، والأيام الخوالي عندما كان الكل يشدو بـ 'ثورة الشك' أو قصة الأمس، توقفت أمام مكتبة مدبولي لحظة، لحظات، لفت انتباهي عنوان أخاذ لديوان شعر جديد مكتوب في صدر غلافه الجميل: 'أجراس المساء'، للشاعر إبراهيم أبوسنة، جمعت كل ما لدي من قروش ولم أتردد في شراء الديوان ولو على حساب وجبة عشاء يمكن تأجيلها إلى ما بعد منتصف الليل.
التقطت الديوان بيدي وحضنته بصدري، وكنت على مقربة من آخر 'أتوبيسات' الضواحي الذي سيلقي بي على مشارف بيتنا في أرض النعام شرق القاهرة حيث الأم بانتظاري، واللهفة على مقربة مني، كنت سعيد الحظ، فالمقاعد مازالت خاوية، ولدرجة أنني اخترت مكانًا مريحًا لأجلس عليه طوال 45 دقيقة هي المدة الزمنية بين مكتبة 'مدبولي' وبيتنا القديم.
'أجراس المساء' كان مازال نائمًا على صدري، يتنفس معي الصعداء، وأنا أهتف من كل قلبي 'يا عزيزي اتئد'، وبالفعل لم أترك الديوان إلا بعد أن قرأته وحفظته عن ظهر قلب من فوق المقعد المريح بالأتوبيس، وقبل أن يتوقف أبوسنة عن الكلام المباح، كنت قد وصلت قريبًا من محطة الوصول، وأنا أُنهي آخر كلمات 'أجراء المساء'، وهي تهتف باسم حبيبته التي ذهبت دون رجعة:
'تمهلي.. تمهلي
وأنتِ تعبرين
فما صبرت كل هذه السنين
لكي أموت حسرة
عليكِ هكذا
وأنتِ تذهبين
وأنت تذهبين'.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البلاد البحرينية
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- البلاد البحرينية
وفاة الفنان المصري نعيم عيسى بعد صراع مع المرض
غيب الموت، مساء اليوم الاثنين، الفنان المصري نعيم عيسى عن عمر يناهز 92 عاماً، بعد صراع مع المرض. ولفظ الفنان المصري أنفاسه الأخيرة بأحد المستشفيات الخاصة بمدينة الإسكندرية، حيث كان يرقد بغرفة العناية المركزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، نظراً لإصابته بالتهاب رئوي حاد. وتعرض نعيم عيسى لأزمة صحية شديدة استدعت دخوله غرفة العناية المركزة وتم وضعه على أجهزة التنفس الصناعي. التهاب رئوي حاد وكشف سامي عيسى، نجل الفنان في تصريحات سابقة لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" عن الحالة الصحية لوالده، حيث قال إن بداية الأزمة كانت منذ فترة عندما أصيب بـ"نزلة برد" شديدة، لكن سرعان ما تحولت إلى التهاب بالشعب الهوائية، مضيفا أن الحالة تدهورت بشكل كبير ووصلت إلى التهاب رئوي حاد. وأضاف سامي أن والده يعاني من غيبوبة شبه تامة، حيث لم يكن يعي بشكل كامل، ولم يستطع النطق أو الحركة، إلا أن الطبيب المعالج له، أكد خطورة حالته وأن أجهزة التنفس الصناعي التي تم وضعها له عن طريق الفم من الممكن أن تتسبب في تلف بالأحبال الصوتية. وتابع أن الطبيب اقترح إجراء عملية شق حنجري لوالده، حتى يتمكنوا من وضع أجهزة التنفس الصناعي، وأن يتفادوا تأثر أحباله الصوتية، موضحا أنه جرى بالفعل عمل الشق الحنجري له. تاريخ فني يذكر أن نعيم عيسى، يبلغ من العمر 92 عاما، حيث ولد في يناير عام 1933، وبدأ مشواره الفني من خلال المسرح. كما التحق الفنان الكبير بفرقة "مدبولي" وفرقة "الإسكندرية"، وشارك في عدد من المسرحيات الشهيرة منها: "ناس كده وكده"، و"ريا وسكينة"، و"الواد سيد الشغال". كذلك شارك في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية: منها "الجوع"، و"أصدقاء الشيطان"، و"سفر الأحلام"، و"مين فينا الحرامي"، و"سري للغاية"، و"الهلفوت"، "وتمضي الأيام"، و"إسكندرية ليه"، و"المتسول"، و"الباشا تلميذ".


البلاد البحرينية
١٩-٠٣-٢٠٢٥
- البلاد البحرينية
سانيا مالهوترا.. أداء رائع يلفه السحر والموهبة الفريدة
إن المتابع لمسيرة الممثلة الهندية سانيا مالهوترا السينمائية ، سيلحظ بكل تأكيد موهبتها في تجسيد مختلف الشخصيات بالجدية والفكاهة ، ولا تخوض تجربة إلا باختيارها الكامل، حيث تابعناها في فيلم " دنقل" مع أمير خان في دور الابنة المصارعة التي تكتسب الموهبة من والدها، وفي فيلم " السيدة" قامت بدور الزوجة التي تعاني من صرامة وتقاليد أسرة زوجها المحافظة ، كما أبدعت في فيلم " جوان" مع النجم شاروخان في دور الدكتورة إيرام ، وجميع المخرجين الذين تعمل معهم يستثمرون القدرات التي تتمتع به مالهوترا، كتقمص الشخصية والاندفاع إلى أقصى أعماقها بصورة غير طبيعية، وإغناء الدور المسند إليها ، وهذا ما جعل نجمها يسطع بقوة بين أبناء جيلها وتحولت في مدة قياسية الى إحدى نجمات بولييود تزاحم الكبار . في فيلم " كاثل" للمخرج ياشوواردان ميشرا والذي تميز بعدد كبير من الخطوط التي تتشابك جميعا لتشكل وحدة كلية فنيا وفكريا وتطرح مجموعة من القضايا، تلعب سانيا مالهوترا دور الضابطة ماهيما باسور التي يسند إليها حل قضية سرقة ثمرة الكاثل من شجرة في حديقة أحد الشخصيات المهمة في البلد ، ومع مرور الوقت تتعرض إلى المضايقات والضغوط من رؤسائها في العمل خاصة وأنها على علاقة حب مع زميلها في العمل الشرطي سوراب الذي يتمكن من كشف جماعة تعمل في تجارة تهريب الفتيات ، ويخبر ماهيما وتذهب مع فريقها إلى منطقة براديش وينقذون فتاة تدعى أميا وهي ابنة البستاني الذي يعمل في الحديقة التي تم سرقة الثمرة منها، وهنا نلاحظ توازن مدروس بين متابعة الحدث ورصد تصاعده في السياق الدرامي العام بإيقاع مشوق، فقوات الشرطة كانت مهتمة بالبحث عن الثمرة المسروقة، وأهملت الفتاة المفقودة والمجرمين الذين يتجارون بالبشر، وهي رؤية واسعة وشاملة من الكاتب والمخرج لمجتمع يهذي بتناقضاته ، وفي الأخير نكتشف أن من سرق الثمرة من الحديقة مجموعة من القرود. فيلم يمكن تسميته بلا تردد عالم سانيا مالهوترا التي تعاملت مع الدور بذكاء وخفة دم وأداء رائع يلفه السحر والموهبة الفريدة الفطرية .


البلاد البحرينية
١١-١١-٢٠٢٤
- البلاد البحرينية
فارس الرومانسية يترجل وسط أجراس المساء
أخيرا غادرنا فارس الرومانسية الكبير الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، أخيرا رحل الرجل الذي علمنا الخيال ليتركنا بعيدا عن ظله الممشوق بالأحزان، عن روحه المستبدة 'حين نطغى في الميزان'، لم نتعلم منه الحب مثلما كان يريد، فزمنه كان زمانا للمادية الجدلية، للأرواح الهائمة تحت وطأة الأسى الماركسي، ومطارحات اللينينية، كان بين شقي رحى، أحدهما يتعلم من الشيطان كل شيء 'المجد للشيطان معبود الرياح' هو الصعيدي أمل دنقل، والآخر ابن كفر الشيخ البار والشاعر المحمل بتراث التجريب والتجريد والصور بعيدة المدى الراحل محمد عفيفي مطر. أحدهما تسيطر عليه أفكار الثورة بمفهومها الوصفي آنذاك، والآخر تكبح جماحه المنغصات فيرتدي ثوبًا لغويًا يخبئ فيه أضغاث أحلامه ليكتب إلى جيل جديد قادم، وليس إلى جيل حديث يعاني، وقف محمد إبراهيم أبوسنة بين أمل دنقل وعفيفي مطر، شامخا بلغته البسيطة، عميقا بصوره الشعرية الخلابة، رائعا شفافا إلى حد النقاء الإلهي أو النبوي المهيمن على صغائر الدنيا، وعزم الأولياء. لم يتخل أبوسنة الذي رحل قبل 48 ساعة عن عالمنا، عن منهجه في طرح اللامعقول الحسي، ليواجه به اللامعقول الجدلي، وقف بين طريقين أحلاهما مر، الأول: التعاطي مع التجربة بعذوبة المعاني والصور المتلاحقة والاستجداء الحسي للمشاعر أو المواقف من تجارب شخصية قاسية، الثاني: عندما فعل أبوسنة كل شيء في اللغة الهائمة فوق أعمدة الكنائس القديمة، ومنارات المساجد والأديرة العظيمة. وقف يناشد أجراس المساء وكأنه ينادي على قاهرة المعز، عن رنين تواشيح أيامها الشتوية القارصة، عن رهبة الصباح عندما يشرق بأمطاره الغزيرة على جبل المقطم القريب، لينعى حبيبًا يودعه أهله الطيبون إلى مثواه الأخير، صرخة أم ثكلى أو أرملة حُبلى، أو ابنة لم يشرق شمسها الأصيل بعد. كنت ذات ليلة أمشي في شوارع القاهرة الحزينة، أناجي أضواءها الخافتة، يلفني التشاؤم وتلمني لوعة الحب، أهكذا تبدو منطقة وسط البلد خاوية إلا من مكتبة 'مدبولي'، هاوية حتى السقوط في آبار الزمن المباغت، والأيام الخوالي عندما كان الكل يشدو بـ 'ثورة الشك' أو قصة الأمس، توقفت أمام مكتبة مدبولي لحظة، لحظات، لفت انتباهي عنوان أخاذ لديوان شعر جديد مكتوب في صدر غلافه الجميل: 'أجراس المساء'، للشاعر إبراهيم أبوسنة، جمعت كل ما لدي من قروش ولم أتردد في شراء الديوان ولو على حساب وجبة عشاء يمكن تأجيلها إلى ما بعد منتصف الليل. التقطت الديوان بيدي وحضنته بصدري، وكنت على مقربة من آخر 'أتوبيسات' الضواحي الذي سيلقي بي على مشارف بيتنا في أرض النعام شرق القاهرة حيث الأم بانتظاري، واللهفة على مقربة مني، كنت سعيد الحظ، فالمقاعد مازالت خاوية، ولدرجة أنني اخترت مكانًا مريحًا لأجلس عليه طوال 45 دقيقة هي المدة الزمنية بين مكتبة 'مدبولي' وبيتنا القديم. 'أجراس المساء' كان مازال نائمًا على صدري، يتنفس معي الصعداء، وأنا أهتف من كل قلبي 'يا عزيزي اتئد'، وبالفعل لم أترك الديوان إلا بعد أن قرأته وحفظته عن ظهر قلب من فوق المقعد المريح بالأتوبيس، وقبل أن يتوقف أبوسنة عن الكلام المباح، كنت قد وصلت قريبًا من محطة الوصول، وأنا أُنهي آخر كلمات 'أجراء المساء'، وهي تهتف باسم حبيبته التي ذهبت دون رجعة: 'تمهلي.. تمهلي وأنتِ تعبرين فما صبرت كل هذه السنين لكي أموت حسرة عليكِ هكذا وأنتِ تذهبين وأنت تذهبين'.