
المساجد في خدمة المجتمع مقترحات جديدة..
الدكتور أحمد الريسوني
المساجد مؤسسة إسلامية عمومية، شرعت أولا للصلاة وما يتبعها من العبادات؛ كالذكر والاعتكاف وقراءة القرآن. وهي مشروعة بعد ذلك لكل الأعمال الصالحة النافعة، بما لا يضر بالمقصد الأساس لها..
– فالمساجد شكلت دوما فضاء للعلم والتعليم والحلقات العلمية. وفي رحابها نبتت ونمت الحركة العلمية والتعليمية في الإسلام. ومعلوم أن (جامعة القرويين) – مفخرةَ المغرب – أصلها ومبدؤها: (جامع القرويين).
– والمساجد كانت وظلت مكانا للاجتماعات والمشاورات المختلفة، المتعلقة بالمصالح العامة..
– وفي المساجد أيضا، يجوز استقبال الكفار ومجالستهم ومحاورتهم، إذا كان ذلك لمصلحة معتبرة شرعا،
– وفي المساجد كانت تعقد مجالس القضاء،
– ويجوز استعمال المساجد للخدمات الارتفاقية عند الضرورة؛ كإيواء النازحين والمنكوبين والجرحى، بسبب الحروب أو الفيضانات ونحوها.
– وفي المغرب الآن تجربة رائدة رائعة في الاستفادة من المساجد؛ وهي دروس محو الأمية، التي تقام في الآلاف من المساجد، بمختلف مدن المغرب وقراه، ويستفيد منها – على مدار العام – الآلاف من النساء والرجال الكبار، ممن فاتهم التعلم في صغرهم. وحسب إحصاءات لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فإن النساء يشكلن نسبة 92 بالمائة من المنخرطين في برامج محو الأمية بالمساجد.
• اقتراحات جديدة
– المقترح الأول: احتضان دروس الدعم والمراجعة للتلاميذ
فكثير من التلاميذ لا يستطيع أولياؤهم – من ذوي الدخل المحدود – تحمل تكاليفَ إضافيةٍ لتمكينهم من دروس الدعم والمراجعة، وهو ما يحرمهم مما هو متاح لزملاء لهم، ويحرمهم من تكافئ الفرص. وقد يؤدي ذلك إلى ضعفهم وفشلهم الدراسي..
والمقترح هو: فتح أبواب المساجد لاحتضان دروس مجانية للدعم والمراجعة، تقدم لفائدة التلاميذ والتلميذات، من المحتاجين الراغبين.. ويستفاد فيها من تجهيزات دروس محو الأمية..
وتسهيلا للأمور، يمكن أن يقتصر هذا المقترح في البداية على المتطوعين من الأساتذة والمعلمين، ثم يمكن الأخذ لاحقا بمثل ما هو معمول به في دروس محو الأمية..
كما يمكن حصر هذا العمل في أيام وساعات مخصوصة ومحدودة (كيومي السبت والأحد، وأيام العطل)، يراعى في تحديدها وتعديلها ظروف التلاميذ والأساتذة من جهة، وظروف المساجد من جهة أخرى.
والمسألة على كل حال تحتاج إلى شيء من التنظيم والتنسيق والضبط.. وهو مستحَق، بالنظر إلى أهمية الأمر ومردوديته الكبيرة المرجوة.
– المقترح الثاني: قراءة الحزب للنساء
من الحسنات العظيمة التي خلفها لنا أسلافنا من علماء المغرب وولاته: 'قراءة الحزب'، وهي عبارة عن قراءة جماعية يومية لحزبين من القرآن الكريم، أحدهما بعد صلاة الصبح، والثاني بعد صلاة المغرب. وبذلك يُختم القرآن كل شهر. وقد تم ترسيخ هذه السنة الحسنة على مدى قرون وقرون، وتم تعميمها في معظم مساجد البلاد، برعاية حازمة من العلماء والأمراء، وبمشاركتهم.
ولكن هذه المكرمة الجليلة بقيت خاصة بالرجال دون النساء، وبقيت النساء محرومات منها. مع أنه لا يوجد أي مانع، لا شرعي ولا عملي، من إتاحتها للنساء وتشجيعهن عليها.
والمقترح الآن هو: السماح للنساء بالقراءة الجماعية المنتظمة للحزب، وذلك بعد صلاة العصر. وتكون القراءة لحزبين كاملين، دفعة واحدة، عصرَ كل يوم. وهكذا يختمن القرآن – كما يختمه الرجال – كل شهر.
وهذا المقترح يسيرٌ تماما، فهو لا يتطلب سوى تمديد فتح المساجد، مباشرة بعد صلاة العصر، لمدة ساعة واحدة على الأكثر.
– المقترح الثالث: الرياضة للنساء داخل المساجد
فنسبة كبيرة جدا من النساء والفتيات، لا تجد فرصا مواتية لممارسة التمارين الرياضية، مع أن نمط الحياة اليوم أصبح لا يستغني عن الممارسات الرياضية اليومية أو شبه اليومية. فالحياة قديما كانت مليئة بالحركة والأعمال البدنية، بخلاف حياة الناس اليوم، التي يغلب عليها العمل بواسطة الآلات، وطولُ الجلوس على الكراسي: كراسي المنازل، وكراسي المكاتب، وكراسي السيارات..
والمقترح هو: السماح للنساء والفتيات بممارسة التمارين والتداريب الرياضية داخل المساجد، في أوقات محددة خاصة بهن. وتبدو الفترة الصباحية مناسبة لذلك. فبين صلاة الصبح وصلاة الظهر فترة زمنية طويلة، قد تصل إلى ثماني ساعات تزيد وتنقص. فيمكن الاستفادة منها في تنفيذ هذا المقترح. ويمكن خلال هذه الفترة استقبال فوجين متتابعين أو ثلاثة أفواج..
ومن المحتمل أن تـثير هذه المقترحات، وهذا الأخير منها خاصة، بعض التحفظ أو الامتعاض أو الرفض لدى البعض، وهذا – في الحقيقة – إنما يرجع إلى العادة والجمود، ولا أساس له من الشرع. بل الشرع مرحِّب ومؤيد له ولكل ما تقدم من مقترحات تخدم المجتمع وأبناءه ونساءه.
وفي السنة النبوية الشريفة ما يدل على مشروعية القيام بأعمال وأنشطة تدريبية ورياضية وترفيهية داخل المساجد: ففي صحيح مسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء حبَش يزفنون في يوم عيد في المسجد (أي في المسجد النبوي)، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم».
فال الإمام النووي في شرح (يزفنون): 'معناها: يرقصون. وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم، على قريب من هيئة الرقص'.
فما قام به هؤلاء الصحابة من الأحباش، يعتبر سنة نبوية تقريرية، بعد أن أقرها وارتضاها النبي صلى الله عليه وسلم. فالعمل بها وعلى وفقها هو إحياء للسنة، وتحقيق لفعالية المساجد، وخدمة لعمارتها.
فعسى أن تجد هذه المقترحات مِن المعنيين بالأمر، مَن ينظر فيها ويتعامل معها بعين الموضوعية والمصلحة العامة، بعيدا عن الهواجس والحساسيات السياسية. وبالله تعالى التوفيق.
إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجمهورية
منذ 6 ساعات
- الجمهورية
جمعية كافل اليتيم بالمهدية.. افتتاح مدرسة قرآنية جديدة مخصصة للإناث
نظّمت نهار اليوم جمعية كافل اليتيم ببلدية مهدية بتيارت احتفالية بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيسها، هذه الذكرى المميزة عبّرت عنها الجمعية من خلالها المسيرة الحافلة في خدمة اليتامى والعمل الخيري حيث كان الحفل مميزا وهذا بافتتاح مدرسة قرآنية جديدة مخصصة للإناث، حملت اسم مدرسة -زينب أم المساكين- حيث يُعد هذا المشروع خطوة نوعية في مسار الجمعية نحو تعزيز التعليم الديني والتربية السليمة خاصة للفتيات، منهم اليتامى و اليتيمات، من خلال توفير فضاء آمن ومؤطر لتعلم القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف للإشارة أنه جاء اختيار هذا الاسم تخليدًا لقيم الرحمة والعطاء التي ارتبطت بشخصية السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها، رمز الإحسان والرعاية الاجتماعية .حسب ذات الجمعية .


إيطاليا تلغراف
منذ 7 ساعات
- إيطاليا تلغراف
الصناعة والصنائع ركائزٌ للحضارة وأدوات للتمكين
إيطاليا تلغراف بقلم الدكتور علي محمد الصلابي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سخر الله تعالى لعباده جميع ما خلق في هذا الكون مما تنبت الأرض وتخرج البحار، ومن الموارد الطبيعية والثروات الباطنية والمواد الأولية وغيرها، وذلك ليتخذ منها الإنسان وسيلة لخدمة حياته وإدامة وجوده في هذه الدنيا، ولذلك فالمؤمنون هم أولى الناس باستغلال ما خلق الله تعالى وأنعم على عباده في سبيل إعمار الأرض بما يرضيه وإعلاء كلمته، ومن هنا كانت الصناعة التي تستخدم وتستثمر الموارد الطبيعية والمواد الأولية من أهم سبل التمكين في الأرض وبناء القوة المادية التي تعين المؤمنين على تحقيق أهدافهم وتكمل قوتهم الإيمانية والمعنوية. ولعل أهم تلك الصناعات التي أشار إليها القرآن الكريم هي صناعة الحديد والسلاح، وذلك في قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80]. كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة. وذلك يقتضي الشكر, لذا قال تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به, والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة. وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء، ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن وشريعة الديان (1). قوله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ: 11،10], وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص, إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع, ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش. يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25]. هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء، التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده, وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري، و(المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن، في مسائل السلم والحرب، وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟ إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل .. وتستطيع أيضًا أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها (2). إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام، وعلمه كيف يلينه، لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله، ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي .. إلخ. وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد، وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس، وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس)، ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله (مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) و (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين، وتحقيق النصر للمؤمنين، وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين، إن قول الله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام (3). المصادر والمراجع: ( ) التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1975م، ص 222،221. (2) التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل، ص 222،221. (3) المصدر نفسه، ص 222،221. (4) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 140-149. إيطاليا تلغراف


الشروق
منذ 3 أيام
- الشروق
التدافع بين الناس سنة ربانية وسبيل للتمكين في الأرض
إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو – مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة – فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة… فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» (1). «وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً لميزان الحياة» (2). لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية في القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه (3): الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251]. الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40]. والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله تعالى الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) (4). وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم – سبحانه – بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40]. إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله تعالى في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله تعالى في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله تعالى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» (5). إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به.. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية، الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة.. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية (6): (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) [فاطر: 43]. وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين (7). ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.. وقد أجاد سيد قطب – رحمه الله – في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة – على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك: 1- أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة. 2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول. أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت. ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل. ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب. د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين. لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره. 3- في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت – تبرز فيها: أ- خبرته بالنفوس. ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة. ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى. د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة. هـ – فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه. و- ثم – وهذا هو الأهم – عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة. 4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: ( لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ثم اتجهت لربها تدعوه: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه. وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!. ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية – كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه. ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم (8). إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات. إن دعاء القلة المؤمنة ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة – فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء، ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين (9). ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا… ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم. إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة. المصادر والمراجع: ([1]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/742). (2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد محمد، ص 218. (3) المصدر نفسه، ص 219. (4) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (3/514). (5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1091) (6) انظر: لقاء المؤمنين لعدنان النحوي (2/117). (7) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، محمد السيد محمد، ص 225. (8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/260- 263). (9) انظر: مع قصص السابقين في القرآن، صلاح الخالدي، (1/332). (10) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 85-90.