logo
علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

تورس١٢-٠٤-٢٠٢٥

في فيلمه الجديد "أقورا" (إنتاج تونسي سعودي فرنسي مشترك 2024)، وهو عمل روائي طويل، يعمّق المخرج هذا المشروع الجمالي ويذهب فيه إلى أقصى مدى من العبث والغموض والرؤية النقدية عبر سرد فني يجمع بين البوليسي والفلسفي والأسطوري في آن واحد. وقد تمّ تقديم "أقورا" مساء الجمعة بقاعة سينما الريو بتونس العاصمة بحضور فريق الفيلم، علما أن العرض سيكون متاحا في القاعات للجمهور ابتداءً من يوم 16 أفريل الحالي.
يبدأ الفيلم من فرضية بوليسية تتمثل في ثلاثة أشخاص يفترض أنهم ماتوا منذ سنوات، لكنهم يعودون فجأة إلى مدينتهم الصغيرة في ظروف غامضة. وفي الفيلم لا يهتم المخرج بالتحقيق بقدر ما يهتم بخلخلة الأحداث وخلق أجواء من التوتر والاضطراب. وهؤلاء "الراجعون" جعلهم علاء الدين سليم لا ليجيبوا عن سر عودتهم المفاجئة وإنما ليزيدوا الأسئلة كثافة، فهم لا يتكلمون كثيرا ولا يطالبون بشيء، حتى إن وجودهم في حد ذاته هو الاتهام، فهم ماض لا يموت وذاكرة لا يمكن دفنها.
وهذا المنطلق البسيط نسبيا للفيلم سرعان ما يحوّله المخرج إلى بنية معقدة يتداخل فيها الزمان والمكان والحلم والواقع والعلم والخرافة والسياسة والدين لتصير المدينة كلها مسرححا لاختبار جماعي لهوية مشروخة ماضيها مُرّ وحاضرها مختنق بالصمت والنكران والنسيان الجمعي والانفصال المؤلم بين السلطة والشعب. ولذلك جاء عنوان الفيلم "أقورا" محملا بالتناقضات، فالأقورا هنا لم يكن يحمل معنى تلك الساحة العامة عند الإغريق حيث تجمع الناس وتُعقد الاجتماعات العامة بل كان رمزا للانفصال وانعدام الحوار بين السلطة (السياسية والدينية) وعامة الشعب من الكادحين والمهمشين.
ويتقمص الأدوار الرئيسية في الفيلم الممثل ناجي القنواتي في دور المحقق الأمني وهو رجل بدا يائسا أكثر منه صارما إذ يتعامل مع عودة "الراجعين" كحالة شاذة يريد احتوائها. ويرافقه صديقه الطبيب الذي جسده الممثل بلال سلاطنية وهو الذي بدا أكثر إنسانية لكنه لا يقل ارتباكا. وحين تعجز السلطات المحلية عن السيطرة على الموقف، يتم إرسال محقق من العاصمة هو الممثل مجد مستورة الذي ظهر في ثوب شاب عصري محنّك لا يخلو من الكاريزما، فيبدأ مهمته بثقة زائفة سرعان ما تتحطم أمام لا منطقية ما يحدث. وبدلا من أن يطمئن سكان المدينة يزيد من اضطرابها إلى أن تصل طبيبة سامية تجسدها سنية زرق عيونه في محاولة يائسة لإعادة النظام أو بالأحرى فرض رواية رسمية تقفل الملف، لكن الجميع يضيع، فالفيلم لا يقدّم حلولا ولا يطرح نهاية. بل يكشف أن كل شخصية مهما بدت عقلانية أو قوية تحمل بداخلها خوفا دفينا من مواجهة الحقيقة.
وليس الخيال في فيلم "أقورا" هروبا من الواقع، بل هو وسيلة لفهمه. وقد وظف علاء الدين سليم عناصر من السرد الفانتازي والميتافيزيقي ليخلق واقعا تتداخل فيه العوالم حيث تتكلم الحيوانات وتُمحى الحدود بين الحياة والموت. فالكلبة الزرقاء والغراب الأسود ليسا مجرد أدوات رمزية وإنما هما أصوات من خارج المنظومة البشرية وشهود على العبث الإنساني المستمر الذي تتكرر فيه الأخطاء نفسها تحت شعارات دينية أو سياسية قومية أو بيروقراطية.
واشتغل المخرج في "أقورا" على مسألة الذاكرة الجماعية في المجتمع التونسي وحتى العربي حيث لا تزال هذه المجتمعات تعاني من آثار العنف السياسي والقمع والانتهاكات والإفلات من العقاب. وتمثّل الذاكرة الجماعية تهديدا حقيقيا للسلطة. ويفضح الفيلم آلية الإنكار والصمت والمضي قُدُما دون مساءلة أو عدالة. فالشخصات العائدة من الموت في الفيلم هي جراح ما تزال مفتوحة، فهناك امرأة قضت أثناء محاولة هجرة غير نظامية وشخصية أخرى ضحية تفجير إرهابي وعامل مفقود في منجم. كلها شخصيات مستوحات من حالات حقيقية لم تُفتح ملفاتها. وقد كانت عودة هذه الشخصيات مروّعة للناس لأن لا أحد منهم يريد مواجهة حقيقة موتها.
وفي أحد أقوى أبعاد الفيلم، يعالج علاء الدين سليم العلاقة الملتبسة بين السلطة السياسية والدينية، حيث يُظهر كيف تتآمر المؤسستان على طمس الحقيقة تحت ذريعة "المصلحة العامة" أو "الاستقرار". ويظهر رجل الدين الذي جسده الممثل نعمان حمدة في الفيلم كشخص عاجز ومتواطئ، في حين تتصرّف السلطة السياسية ككائن بيروقراطي أعمى لا يسعى لفهم ما يحدث بل لاحتوائه ثم دفنه مجددا.
وينتمي فيلم "أقورا" إلى نفس النسق الجمالي الذي صاغه علاء الدين سليم في أفلامه السابقة، لكنه بدا أكثر نضجا وأكثر تشظيا في الآن نفسه. وقد تميز الفيلم بحركة بطيئة للكاميرا ولقطات طويلة وجاء الحوار مقتصد والإيقاع أقرب إلى التأمل منه إلى التشويق. لكن هذا البطء وظّفه المخرج بإتقان ليجعل المتفرج يعيش حالات التوتر والغموض كما الشخصيات دون أن يمنحه لحظة ارتياح.
وفي لحظات الجنون الإنساني، بدت الحيوانات (الكلبة والغراب) أكثر عقلانية من البشر. واختار المخرج إنهاء فيلمه بمغادرة الكلبة والغراب نحو مكان آخر أكثر هدوء حيث وضع الكلبة جراءها، وكأن المخرج جعل من مغادرة هذيْن الحيوانيْن الشاهدين على عبث الإنسان وموته الرمزي، انسحابا للوعي وانسحابا للتاريخ من مكان لم يعد يستحق البقاء فيه. فهذه المدينة كرمز للدولة والمجتمع تتحوّل إلى فضاء مسموم لا يتيح الحياة لا للبشر ولا حتى للحيوانات الرمزية.
وفي ختام الفيلم، حوّل المخرج الكلبة من مجرد شاهدة على الأحداث إلى أم أي أنها تنقل ما رأته إلى الجيل القادم وإن كان في مكان آخر. وهنا يكمن البعد الأخلاقي للفيلم والمتمثل في أن الذاكرة يجب أن تُنقل حتى وإن لم تُسمع وأن بعض الذاكرة قد تبحث عن مكان يمكن أن تُنبت فيه دون أن تُقتل.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فضاء لرتيستو: عرض فيلم "أغورا" لعلاء الدين سليم :صرخة مدوّية عجائبية لانقاذ الطبيعة من انانية الانسان
فضاء لرتيستو: عرض فيلم "أغورا" لعلاء الدين سليم :صرخة مدوّية عجائبية لانقاذ الطبيعة من انانية الانسان

time٢٢-٠٤-٢٠٢٥

فضاء لرتيستو: عرض فيلم "أغورا" لعلاء الدين سليم :صرخة مدوّية عجائبية لانقاذ الطبيعة من انانية الانسان

ماذا لو بركُ الماء الاسنة لا تنضب والأجساد تنزّ دوما بماء مقزّز؟ ماذا لو تكلّمت الحيوانات وباحت بوجعها من معاملة الانسان؟ كيف ستشعر اذا اثمرت الارض خضارا متعفنة وجاد البحر بأسماك نتنة وميتة؟ ماذا لو تحوّل الماء الى ازرق داكن مزعج؟ صور مزعجة ومقزّزة ولكن ربما ستصبح حقيقة ذات يوم اذا واصل الانسان استهتاره بالطبيعة والبيئة؟ هكذا يدق علاء الدين سليم ناقوس الخطر عبر السينما علّ الضمائر الميتة تستيقظ من جديد وتحاول انقاذ الكوكب في فيلمه "أغورا". "أغورا" فيلم روائي طويل، هو رحلة انتقال بين العجائبي والواقعي وسردية سينمائية مختلفة، بطولة ناجي القنواتي وبلال سلاطنية ومجد مستورة وسنية زرق العيون وفتحي العكاري ويبرز الفيلم خطر الانسان على نفسه والطبيعة. الطبيعة تدقّ نواقيس الخطر فهل من منقذ؟ "أغورا" فيلم روائي طويل يمزج الواقعي بالغرائبي، سردية سينمائية مختلفة يتقنها علاء الدين سليم الوفي لأسلوبه وطريقته السينمائية في معالجة القضايا الكبرى، الفيلم حكاية يقدمها راويين مختلفين عن المعهود، كلبة زرقاء اللون، وغراب يبدأن القصة بسؤال "هل مازالت تراودك نفس الكوابيس؟" لتكون الاجابة "نعم، اشعر بكارثة قادمة" وبالفعل الكارثة قادمة في الفيلم والواقع. الكارثة قدمت عبر عودة ثلاث شخصيات الى المكان بعد موتهم لأعوام، الشخصية الاولى راع ذبحه الارهابيين يعود الى بيته يقطر دما لا يتوقف، الشخصية الثانية امرأة ترمى في البحر في اطار "حرقة" فيلفظها البحر زرقاء اللون تنز مياه لا تتوقف مطلقا، الشخصية الثالثة عامل بلباس العمل توفي حين هوت عليه اكوام الرمال، يعود من حيث دفن والرمال متناثرة، ثلاثتهم موتى/احياء، اجساد حية لكنها لا تتكلم ولا تتحرك بمفردها، اجساد هلامية وحكاية غريبة تعيد بعث الريبة في المكان. تنتقم الطبيعة من الانسان واستهتاره، تلتقط الكاميرا مشاهد للتلوث بكل تدرجاته، من الماء المتعفّن، الى البلاستيك الذي تحوّل الى زينة تشبه زينة شجرة الميلاد، احتفالات في قلب فضاءات مقززة بفعل الانسان، تبدع الكاميرا في تصوير انسيابية التلوّث، الالوان المسيطرة هى الاصفر، فالوجوه شاحبة وكان الرمال تعلوها، التدخين يصنع مجال جوّي يتماهى مع دخان المصانع فيرسم سيفونية الموت المقدّس، اما الاشجار والأعشاب فتحاول المقاومة ولكن بدورها تنزف تلوثا. وما قدّم في الفيلم لم يأت من الفراغ ولا من وحي خيال كاتب السيناريو ومخرج الفيلم علاء الدين سليم اذ كشف تقرير موقع "نومبيو-Numbeo" لعام 2025 وهو قاعدة بيانات عالمية متخصصة في جمع وتحليل المعلومات، عن تصنيف تونس في المرتبة 37 عالميًا من بين 113 دولة شملها مؤشر التلوث، بمعدل بلغ 70.1، مما يعكس وضعًا بيئيًا متدهورًا يفرض تحديات كبيرة على الدولة والمجتمع. ويعتمد التصنيف على عدة عوامل ابرزها جودة الهواء وادارة النفايات ومستويات التلوث البيئي، وبالابتعاد قليلا عن الشاشة والعودة للواقع نجد صراخ اهل قابس بسبب التلوث وما يعانيه شاطئ سيدي منصور صفاقس وشاطئ رادس والزهراء بسبب التلوث والمصانع وما تعيشه الغابات من محاولات بشرية لاعدامها، فالتلوّث وخطره حقيقة موجعة عرف علاء الدين سليم ابرازها للمتفرج. صور مقززة تنقلها الكاميرا، مشاهد مؤلمة ترجّ المتلقي علّه يستفيق من فوضاه تجاه الطبيعة، فالفيلم يرجّ المتفرج ويدفعه للتفكير في كيفية انقاذ البيئة وما تبقّى علّه ينقذ نفسه من خطر السرطان بكل مسمياته الذي سيكون نصيب عدد من الشخصيات، فحسب التقارير يقدر العلاج المرتبط بالامراض الناجمة عن التلوث يكلف الادولة حوالي 500مليون دولار سنويان خاصة مع ارتفاع المصابين بالامراض التنفسية والمزمنة الناجمة عن التلوث وهو ما سيراه الجمهور فالدكتورة "العويني" تموت بفعل السرطان وفتحي رجل الامن بدوره يعاني من ازمة تنفس تحيله الى الانعاش، وبين جمالية الخيال وبشاعة الحقيقة تتارجح الكاميرا، لتلامس وجع الطبيعة وتدق ناقوس الخطر البيئي بفعل استهتار الانسان وانانيته المفرطة، في الفيلم يقرر السادرين الغراب والكلب مغادرة المكان المتعفّن بحثا عن فضاء افضل للحياة، لكن اين سيغادر الانسان؟. حلول السلطة الترقيعية بوابة اخرى للموت تعود الاجساد المخيفة فتبعث الخوف في المنظومة، يحاول رئيس المركز "فتحي" (ناجي القنواتي) التحقق من المسالة بمساعدة من صديقه الطبيب امين (بلال سلاطنية) مع التكتّم الكلي عن الموضوع، عودة الاموات مسالة تغري بالبحث العلمي لكنها تزعج السلطة، تعود الاجساد ومعها تعود دفاتر قديمة اغلقت بسبب تقاعس السلطة. فالراعي نحره الارهابيين لعجز السلطة عن حماية مواطنيها وعدم تحريها الكلي في اماكن وجود خفافيش الظلام، والعامل دفن تحت الرمال لعجز السلطة عن توفير منظومة شغلية تحترم كرامة الانسان، اما الغريقة فتركت وطنها حالمة بعيش كريم في اروبا الجنة المفقودةن عجزت السلطة بمنظوماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في احترام كرامة مواطنيها، فماتوا اوّلا، وبعد فوضى البشر تجاه الطبيعة تقرر المنظومة البيئية الانتقام من الانسان فتعيد له موتاه وتضعه في خانة العجز والبحث عن الحلول. تعجز المنظومة عن تحقيق السلم الاجتماعي، فالناس يعرفون ان هناك كارثة ما، فالبحر يلفظ اسماكه الميتة، الارض بدورها تثمر خضارا متعفنة، اما الطيور فتستعمر الاشجار المثمرة وتفسد الصابة، وحدة الطبيعة ترعب الناس فتدفعهم للاحتجاج ومحاولة معرفة ما الذي تخفيه السلطة من جهة ولم عادت الاجساد من ناحية ثانية، يحدث الصرّاع بين المواطنين والمنظومة التي تلجئ الى سلاحها الافضل "المنظومة الامنية الردعية" فتسجن الجميع حتّى لا تنتشر عدوى الفوضى، لكن السلطة تعجز امام جبروت الطبيعة. في "اغورا" ينقل سليم فشل السلطة في تعاملها مع المسائل الكبرى، يبرز عجزها امام زحف خطر الموت بفعل التلوّث ومحاولتها استعمال الهدنة وإيجاد حلول وهمية وحينية غير فعالة، فالكلاب السائبة تقتل، والمجتين يسجنون، والطيور تطرد بالادوية الكيميائية، والجثث العائدة تُخفى، حلول ترقيعية تعتمدها لتبرئة نفسها واغلاق ملفات فشلها، حتّى العلم تكتّم افواه اصحابه بجملة "خلي الموضوع عنا، خرج من يديكم" التي يقولها ممثلي الفرقة19 الذين جاؤوا من العاصمة خصيصا لدراسة الملف، في الفيلم تسليط الضوء على عجز المنظومات تجاه المشاغل البيئية ومحاولة لاستنهاضها علّها تجد حلول جذرية.

علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"
علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

تورس

time١٢-٠٤-٢٠٢٥

  • تورس

علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

في فيلمه الجديد "أقورا" (إنتاج تونسي سعودي فرنسي مشترك 2024)، وهو عمل روائي طويل، يعمّق المخرج هذا المشروع الجمالي ويذهب فيه إلى أقصى مدى من العبث والغموض والرؤية النقدية عبر سرد فني يجمع بين البوليسي والفلسفي والأسطوري في آن واحد. وقد تمّ تقديم "أقورا" مساء الجمعة بقاعة سينما الريو بتونس العاصمة بحضور فريق الفيلم، علما أن العرض سيكون متاحا في القاعات للجمهور ابتداءً من يوم 16 أفريل الحالي. يبدأ الفيلم من فرضية بوليسية تتمثل في ثلاثة أشخاص يفترض أنهم ماتوا منذ سنوات، لكنهم يعودون فجأة إلى مدينتهم الصغيرة في ظروف غامضة. وفي الفيلم لا يهتم المخرج بالتحقيق بقدر ما يهتم بخلخلة الأحداث وخلق أجواء من التوتر والاضطراب. وهؤلاء "الراجعون" جعلهم علاء الدين سليم لا ليجيبوا عن سر عودتهم المفاجئة وإنما ليزيدوا الأسئلة كثافة، فهم لا يتكلمون كثيرا ولا يطالبون بشيء، حتى إن وجودهم في حد ذاته هو الاتهام، فهم ماض لا يموت وذاكرة لا يمكن دفنها. وهذا المنطلق البسيط نسبيا للفيلم سرعان ما يحوّله المخرج إلى بنية معقدة يتداخل فيها الزمان والمكان والحلم والواقع والعلم والخرافة والسياسة والدين لتصير المدينة كلها مسرححا لاختبار جماعي لهوية مشروخة ماضيها مُرّ وحاضرها مختنق بالصمت والنكران والنسيان الجمعي والانفصال المؤلم بين السلطة والشعب. ولذلك جاء عنوان الفيلم "أقورا" محملا بالتناقضات، فالأقورا هنا لم يكن يحمل معنى تلك الساحة العامة عند الإغريق حيث تجمع الناس وتُعقد الاجتماعات العامة بل كان رمزا للانفصال وانعدام الحوار بين السلطة (السياسية والدينية) وعامة الشعب من الكادحين والمهمشين. ويتقمص الأدوار الرئيسية في الفيلم الممثل ناجي القنواتي في دور المحقق الأمني وهو رجل بدا يائسا أكثر منه صارما إذ يتعامل مع عودة "الراجعين" كحالة شاذة يريد احتوائها. ويرافقه صديقه الطبيب الذي جسده الممثل بلال سلاطنية وهو الذي بدا أكثر إنسانية لكنه لا يقل ارتباكا. وحين تعجز السلطات المحلية عن السيطرة على الموقف، يتم إرسال محقق من العاصمة هو الممثل مجد مستورة الذي ظهر في ثوب شاب عصري محنّك لا يخلو من الكاريزما، فيبدأ مهمته بثقة زائفة سرعان ما تتحطم أمام لا منطقية ما يحدث. وبدلا من أن يطمئن سكان المدينة يزيد من اضطرابها إلى أن تصل طبيبة سامية تجسدها سنية زرق عيونه في محاولة يائسة لإعادة النظام أو بالأحرى فرض رواية رسمية تقفل الملف، لكن الجميع يضيع، فالفيلم لا يقدّم حلولا ولا يطرح نهاية. بل يكشف أن كل شخصية مهما بدت عقلانية أو قوية تحمل بداخلها خوفا دفينا من مواجهة الحقيقة. وليس الخيال في فيلم "أقورا" هروبا من الواقع، بل هو وسيلة لفهمه. وقد وظف علاء الدين سليم عناصر من السرد الفانتازي والميتافيزيقي ليخلق واقعا تتداخل فيه العوالم حيث تتكلم الحيوانات وتُمحى الحدود بين الحياة والموت. فالكلبة الزرقاء والغراب الأسود ليسا مجرد أدوات رمزية وإنما هما أصوات من خارج المنظومة البشرية وشهود على العبث الإنساني المستمر الذي تتكرر فيه الأخطاء نفسها تحت شعارات دينية أو سياسية قومية أو بيروقراطية. واشتغل المخرج في "أقورا" على مسألة الذاكرة الجماعية في المجتمع التونسي وحتى العربي حيث لا تزال هذه المجتمعات تعاني من آثار العنف السياسي والقمع والانتهاكات والإفلات من العقاب. وتمثّل الذاكرة الجماعية تهديدا حقيقيا للسلطة. ويفضح الفيلم آلية الإنكار والصمت والمضي قُدُما دون مساءلة أو عدالة. فالشخصات العائدة من الموت في الفيلم هي جراح ما تزال مفتوحة، فهناك امرأة قضت أثناء محاولة هجرة غير نظامية وشخصية أخرى ضحية تفجير إرهابي وعامل مفقود في منجم. كلها شخصيات مستوحات من حالات حقيقية لم تُفتح ملفاتها. وقد كانت عودة هذه الشخصيات مروّعة للناس لأن لا أحد منهم يريد مواجهة حقيقة موتها. وفي أحد أقوى أبعاد الفيلم، يعالج علاء الدين سليم العلاقة الملتبسة بين السلطة السياسية والدينية، حيث يُظهر كيف تتآمر المؤسستان على طمس الحقيقة تحت ذريعة "المصلحة العامة" أو "الاستقرار". ويظهر رجل الدين الذي جسده الممثل نعمان حمدة في الفيلم كشخص عاجز ومتواطئ، في حين تتصرّف السلطة السياسية ككائن بيروقراطي أعمى لا يسعى لفهم ما يحدث بل لاحتوائه ثم دفنه مجددا. وينتمي فيلم "أقورا" إلى نفس النسق الجمالي الذي صاغه علاء الدين سليم في أفلامه السابقة، لكنه بدا أكثر نضجا وأكثر تشظيا في الآن نفسه. وقد تميز الفيلم بحركة بطيئة للكاميرا ولقطات طويلة وجاء الحوار مقتصد والإيقاع أقرب إلى التأمل منه إلى التشويق. لكن هذا البطء وظّفه المخرج بإتقان ليجعل المتفرج يعيش حالات التوتر والغموض كما الشخصيات دون أن يمنحه لحظة ارتياح. وفي لحظات الجنون الإنساني، بدت الحيوانات (الكلبة والغراب) أكثر عقلانية من البشر. واختار المخرج إنهاء فيلمه بمغادرة الكلبة والغراب نحو مكان آخر أكثر هدوء حيث وضع الكلبة جراءها، وكأن المخرج جعل من مغادرة هذيْن الحيوانيْن الشاهدين على عبث الإنسان وموته الرمزي، انسحابا للوعي وانسحابا للتاريخ من مكان لم يعد يستحق البقاء فيه. فهذه المدينة كرمز للدولة والمجتمع تتحوّل إلى فضاء مسموم لا يتيح الحياة لا للبشر ولا حتى للحيوانات الرمزية. وفي ختام الفيلم، حوّل المخرج الكلبة من مجرد شاهدة على الأحداث إلى أم أي أنها تنقل ما رأته إلى الجيل القادم وإن كان في مكان آخر. وهنا يكمن البعد الأخلاقي للفيلم والمتمثل في أن الذاكرة يجب أن تُنقل حتى وإن لم تُسمع وأن بعض الذاكرة قد تبحث عن مكان يمكن أن تُنبت فيه دون أن تُقتل.

علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"
علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

Babnet

time١٢-٠٤-٢٠٢٥

  • Babnet

علاء الدين سليم يفتح جراح النسيان في فيلمه "أقورا"

منذ عرض فيلمه "آخر واحد فينا" سنة 2016 ثم "طلامس" (2019) وعلاء الدين سليم يرسّخ نفسه كصوت سينمائي تونسي متفرّد ومولع بالتجريب ومنشغل بالهوامش وبالكائنات المعزولة التي تمشي على تخوم الوجود. في فيلمه الجديد "أقورا" (إنتاج تونسي سعودي فرنسي مشترك 2024)، وهو عمل روائي طويل، يعمّق المخرج هذا المشروع الجمالي ويذهب فيه إلى أقصى مدى من العبث والغموض والرؤية النقدية عبر سرد فني يجمع بين البوليسي والفلسفي والأسطوري في آن واحد. وقد تمّ تقديم "أقورا" مساء الجمعة بقاعة سينما الريو بتونس العاصمة بحضور فريق الفيلم، علما أن العرض سيكون متاحا في القاعات للجمهور ابتداءً من يوم 16 أفريل الحالي. يبدأ الفيلم من فرضية بوليسية تتمثل في ثلاثة أشخاص يفترض أنهم ماتوا منذ سنوات، لكنهم يعودون فجأة إلى مدينتهم الصغيرة في ظروف غامضة. وفي الفيلم لا يهتم المخرج بالتحقيق بقدر ما يهتم بخلخلة الأحداث وخلق أجواء من التوتر والاضطراب. وهؤلاء "الراجعون" جعلهم علاء الدين سليم لا ليجيبوا عن سر عودتهم المفاجئة وإنما ليزيدوا الأسئلة كثافة، فهم لا يتكلمون كثيرا ولا يطالبون بشيء، حتى إن وجودهم في حد ذاته هو الاتهام، فهم ماض لا يموت وذاكرة لا يمكن دفنها. وهذا المنطلق البسيط نسبيا للفيلم سرعان ما يحوّله المخرج إلى بنية معقدة يتداخل فيها الزمان والمكان والحلم والواقع والعلم والخرافة والسياسة والدين لتصير المدينة كلها مسرححا لاختبار جماعي لهوية مشروخة ماضيها مُرّ وحاضرها مختنق بالصمت والنكران والنسيان الجمعي والانفصال المؤلم بين السلطة والشعب. ولذلك جاء عنوان الفيلم "أقورا" محملا بالتناقضات، فالأقورا هنا لم يكن يحمل معنى تلك الساحة العامة عند الإغريق حيث تجمع الناس وتُعقد الاجتماعات العامة بل كان رمزا للانفصال وانعدام الحوار بين السلطة (السياسية والدينية) وعامة الشعب من الكادحين والمهمشين. ويتقمص الأدوار الرئيسية في الفيلم الممثل ناجي القنواتي في دور المحقق الأمني وهو رجل بدا يائسا أكثر منه صارما إذ يتعامل مع عودة "الراجعين" كحالة شاذة يريد احتوائها. ويرافقه صديقه الطبيب الذي جسده الممثل بلال سلاطنية وهو الذي بدا أكثر إنسانية لكنه لا يقل ارتباكا. وحين تعجز السلطات المحلية عن السيطرة على الموقف، يتم إرسال محقق من العاصمة هو الممثل مجد مستورة الذي ظهر في ثوب شاب عصري محنّك لا يخلو من الكاريزما، فيبدأ مهمته بثقة زائفة سرعان ما تتحطم أمام لا منطقية ما يحدث. وبدلا من أن يطمئن سكان المدينة يزيد من اضطرابها إلى أن تصل طبيبة سامية تجسدها سنية زرق عيونه في محاولة يائسة لإعادة النظام أو بالأحرى فرض رواية رسمية تقفل الملف، لكن الجميع يضيع، فالفيلم لا يقدّم حلولا ولا يطرح نهاية. بل يكشف أن كل شخصية مهما بدت عقلانية أو قوية تحمل بداخلها خوفا دفينا من مواجهة الحقيقة. وليس الخيال في فيلم "أقورا" هروبا من الواقع، بل هو وسيلة لفهمه. وقد وظف علاء الدين سليم عناصر من السرد الفانتازي والميتافيزيقي ليخلق واقعا تتداخل فيه العوالم حيث تتكلم الحيوانات وتُمحى الحدود بين الحياة والموت. فالكلبة الزرقاء والغراب الأسود ليسا مجرد أدوات رمزية وإنما هما أصوات من خارج المنظومة البشرية وشهود على العبث الإنساني المستمر الذي تتكرر فيه الأخطاء نفسها تحت شعارات دينية أو سياسية قومية أو بيروقراطية. واشتغل المخرج في "أقورا" على مسألة الذاكرة الجماعية في المجتمع التونسي وحتى العربي حيث لا تزال هذه المجتمعات تعاني من آثار العنف السياسي والقمع والانتهاكات والإفلات من العقاب. وتمثّل الذاكرة الجماعية تهديدا حقيقيا للسلطة. ويفضح الفيلم آلية الإنكار والصمت والمضي قُدُما دون مساءلة أو عدالة. فالشخصات العائدة من الموت في الفيلم هي جراح ما تزال مفتوحة، فهناك امرأة قضت أثناء محاولة هجرة غير نظامية وشخصية أخرى ضحية تفجير إرهابي وعامل مفقود في منجم. كلها شخصيات مستوحات من حالات حقيقية لم تُفتح ملفاتها. وقد كانت عودة هذه الشخصيات مروّعة للناس لأن لا أحد منهم يريد مواجهة حقيقة موتها. وفي أحد أقوى أبعاد الفيلم، يعالج علاء الدين سليم العلاقة الملتبسة بين السلطة السياسية والدينية، حيث يُظهر كيف تتآمر المؤسستان على طمس الحقيقة تحت ذريعة "المصلحة العامة" أو "الاستقرار". ويظهر رجل الدين الذي جسده الممثل نعمان حمدة في الفيلم كشخص عاجز ومتواطئ، في حين تتصرّف السلطة السياسية ككائن بيروقراطي أعمى لا يسعى لفهم ما يحدث بل لاحتوائه ثم دفنه مجددا. وينتمي فيلم "أقورا" إلى نفس النسق الجمالي الذي صاغه علاء الدين سليم في أفلامه السابقة، لكنه بدا أكثر نضجا وأكثر تشظيا في الآن نفسه. وقد تميز الفيلم بحركة بطيئة للكاميرا ولقطات طويلة وجاء الحوار مقتصد والإيقاع أقرب إلى التأمل منه إلى التشويق. لكن هذا البطء وظّفه المخرج بإتقان ليجعل المتفرج يعيش حالات التوتر والغموض كما الشخصيات دون أن يمنحه لحظة ارتياح. وفي لحظات الجنون الإنساني، بدت الحيوانات (الكلبة والغراب) أكثر عقلانية من البشر. واختار المخرج إنهاء فيلمه بمغادرة الكلبة والغراب نحو مكان آخر أكثر هدوء حيث وضع الكلبة جراءها، وكأن المخرج جعل من مغادرة هذيْن الحيوانيْن الشاهدين على عبث الإنسان وموته الرمزي، انسحابا للوعي وانسحابا للتاريخ من مكان لم يعد يستحق البقاء فيه. فهذه المدينة كرمز للدولة والمجتمع تتحوّل إلى فضاء مسموم لا يتيح الحياة لا للبشر ولا حتى للحيوانات الرمزية. وفي ختام الفيلم، حوّل المخرج الكلبة من مجرد شاهدة على الأحداث إلى أم أي أنها تنقل ما رأته إلى الجيل القادم وإن كان في مكان آخر. وهنا يكمن البعد الأخلاقي للفيلم والمتمثل في أن الذاكرة يجب أن تُنقل حتى وإن لم تُسمع وأن بعض الذاكرة قد تبحث عن مكان يمكن أن تُنبت فيه دون أن تُقتل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store