
علاقة الطعام بجغرافيا الكلام عند سعيد العوادي
وصل كتابه "الطعام والكلام، حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي"، الصادر عن (دار أفريقيا الشرق)، إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025، فرع الفنون والدراسات النقدية.
الكاتب والباحث المغربي سعيد العوادي، متخصص في البلاغة وتحليل الخطاب، يشغل منصب نائب العميد للبحث العلمي والتعاون، وأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض في مراكش. معه كان هذا الحوار.
تتناول في كتابك الأخير أقدم صفتين أنثروبولوجيتين في حياة الإنسان: الطعام والكلام. برأيك أيهما كان الأسبق في الوجود، وهل سبقت الحاجة إلى الطعام الحاجة إلى الكلام؟
الطعام والكلام أقدم مقوّمَين أنثروبولوجيين في الحياة الإنسانية؛ بالطعام استطاع الإنسان أن يحيا مادياً، وأن يشحن ذاته بالطاقة اللازمة التي تساعده على إدامة الوجود، وبالكلام تمكّن أن يحيا رمزياً ويأنس داخل عشيرته اللغوية، وينقل خبراته حاضراً ومستقبلاً. في مقدمة كتابي، أشرت إلى تلك العلاقة الخِلافية المتكاملة، التي يُحدثها فم الإنسان، حين يُدخل اللقمة ويُخرج اللفظة.
الظاهر، أن الطعام سبق الكلام في الوجود؛ لأن الحاجة إلى إشباع الجسد بالأكل والشرب لها أولوية قصوى، فالتجربة تثبت أن عضّة الجوع أكثر إيلاماً من وحشة التواصل. ويزكي هذه الأسبقية، الأثر البارز للطعام في الكلام المتداول، حيث نجد حضوراً قوياً لمعجم الأكل والشرب في سياقات تواصلية غير منتمية لأجواء الضيافة.
تشير في تحليلك إلى أن للطعام حفرياته البلاغية في اللغة، تماماً كما للكلام، ونلمس ذلك في استعارات مثل "المرء مخبوء تحت لسانه". هل وجدت تقاطعات بين شعرية الطعام وشعرية الكلام؟
يكشف الكتاب عن الغزو الذي قامت به الاستعارات الطعامية لجغرافيا كلامنا العادي، ونصوصنا الشعرية والنثرية، فتجلى ذلك في مناحٍ عدّة، منها الأمثال التي استثمرت الطعام في التعبير عن دلالات غير طعامية بالضرورة، ما اصطلحنا عليه "الطعام الحكيم"، مثل "فلان يعرف من أين تؤكل الكتف"، الذي يصف الشخص الخبير القادر على تدبير أموره بذكاء أو دهاء. أو مثل "التمرة إلى التمرة تمر" الذي يحيل إلى بعد اقتصادي إدخاري.
كما نجد ذلك في مصطلح "الذوق" الذي ارتحل من حقل الطعام إلى حقول الفنون والسلوك والنقد، ومصطلح "الأدب" الذي انحدر من المأدبة وعوالمها التنويعية والاحتفالية، ومصطلح "الفصاحة" ذي المرجعية الشرابية المأخوذة من قولهم: "فَصُح اللبن"، ومصطلح "الفكاهة" المنتسب إلى الفواكه، ومصطلح "المُلحَة" المأخوذ من الملح.
بل إن مِن القدماء مَن عرّف البلاغة تعريفاً طعامياً فقال: "البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"، كما قيل عن ممتهني الأكل والشراب تعريفات أكثر لطفاً، على نحو ما قال الخمّار: "أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العِلم، وصفّاه راوُوق الفهم، وضمّته دنان الحكمة، فتمشّت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقّته، وفي العقول حدّته".
ولم يترك معجم الطعام مجالاً من دون أن يتمدّد فيه. ونلاحظ ذلك حتى في عناوين الكتب مثل: "الفانيد في علم الأسانيد" لجلال الدين السيوطي، و"موائد الحَيس في فوائد امرئ القيس"لنجم الدين الطوفي، و"مترعات الكؤوس" للمختار السوسي.
وفي أسماء الشعراء نحو: الخبزأرزي، والخبّاز البلدي، وابن سُكّرة، والفرزدق (الفرزدقة قطعة العجين). وتكثر استعارات الأكل والشرب في التداول اليومي بين الناس، نظير قولنا: "حلاوة اللسان"، و"القارئ النهم"، و"المطالعة غذاء الروح"، و"المأدبة العلمية".
كما أن لكل طبقة اجتماعية أطباقها التي تعبّر عن فقرها أو غناها ورصيدها من التحضّر أو التخلف. وبعض الكنايات العربية القديمة التي تدلّ على الكرم مثل كناية "كثير رماد القِدر"، كانت في الأصل مشهداً بصرياً يراه الناس أمام مساكن الكرماء، فتدلهم كثرة الرماد على الضيافة الباذخة.
لا تدرس في كتابك الطعام باعتباره مجرد أكل أو استهلاك، ولا الكلام كثرثرة، بل كخطاب ثقافي يحمل دلالات اجتماعية وتاريخية. كيف استطعت تحويل الغذاء والطهي إلى أفق بلاغي يمكّننا من إعادة فهم الثقافة العربية؟
فعلا لا يدرس الكتاب الطعام من منظور بيولوجي صرف، وإنما يحوّله من مادة للهضم إلى مادة للفهم، فيتعامل معه بوصفه خطاباً متعدد الدلالات، من خلال استكشاف جغرافيا نصّية متنوعة فيها القرآن الكريم والحديث الشريف والأدب والأمثال وتفسير الأحلام والتاريخ والفقه.
يفيد كل ذلك في فتح أفق آخر لفهم الإنسان العربي والثقافة العربية. إنه أفق حيوي يتّخذ من المادة الطعامية التي تشكّل مشتركاً إنسانياً بين الساسة والرعية والفقراء والأغنياء والعرب والأقوام الأخرى، مدخلاً إلى صياغة قراءة أكثر تعبيراً عن حقيقة الإنسان العربي وواقعه.
هل تعتقد أن التراث العربي في تناوله لموضوع الطعام الذي يتعدّى البُعد البيولوجي ليشمل الضيافة والكرم، وأحياناً مانعاً الغدر والخديعة، وجامعاً على موائده السياسة والعهود، هو أكثر ثراءً من نظيره الأوروبي؟
تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى دراسات مقارنة تبرز عناصر التوافق والاختلاف بين التراث العربي ونظيره الغربي. خطاب الطعام كان ثري الدلالات في التراث الغربي أيضاً، كما سبقت الدراسات الغربية نظيرتها العربية إلى تناوله علمياً من منظورات سيكولوجية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية ولسانية.
أعتقد أننا نملك تراثاً بالغ الثراء في مكوّن الطعام وغيره، لكنه لايزال ينتظر منا دراسات أكاديمية نوعية، توازي عمقه وصدقه وصبره. فكيف يتأتى لنا خدمة تراثنا، وأكثرنا يدور في "مُعار أو مُعاد من القول المكرور"، كما قال زهير بن أبي سلمى؟
في كتابك" الطعام الروائي، من المشهدية إلى التضفير" تهتمّ بمفهوم مطبخ الرواية، حيث يصبح الطعام مكوّناً أساسياً في السرد الأدبي وليس تفصيلاً. كيف يمكن للطعام أن يصبح عنصراً أدبياً إبداعياً داخل النصوص الروائية والمسرحية والشعرية؟
لمّا كان الطعام مكوّناً حيوياً في كل الأزمنة الإنسانية، فقد حاولت ألا أكتفي بدراسته في التراث العربي، لذا انتقلت إلى تناوله في المرحلة الحديثة، من خلال إنجاز كتاب ثانٍ بعنوان "مطبخ الرواية: الطعام الروائي بين المشهدية والتضفير".
أدرت فيه النقاش حول حضور الطعام في الرواية العربية، وأبرزت دلالاته على الهوية والصراع والحب والإلفة والغيرية. والواقع، أن حقل الطعام يُغني الإبداع في تنويعاته الشعرية والسردية والمسرحية والسينمائية والتشكيلية، لأنه جسر نحو تعقيدات العلاقات الإنسانية وتشابكاتها مع أسئلة مصيره.. فما وراء الموائد أكثر إثارة مما تعرضه من مآكل ومشارب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


غرب الإخبارية
٢٠-٠٤-٢٠٢٥
- غرب الإخبارية
"محمد وزايد وخليفة" إضاءات شبابية في العمل التطوعي والإنساني
المصدر - يمضون باتجاه المستقبل، شباب يستلهمون طاقاتهم من قيم ومعين ونعمة زايد الخير، ونبله وخصاله وتاريخه الناصع في عيون الأبناء الأبرار، يحملون هذا الاسم، كمصباح يدل الجميع إلى منابت الخير، ومنابع السعادة والرخاء، والإرث الكبير الذي تركه الشيخ زايد" طيب الله ثراه" لأبنائه للسير على نهجه القويم والفعل السديد. ثلاث أشقاء من شباب الوطن الشامخ، من إمارات الخير والعطاء، "محمد المحرمي"، و" زايد وخليفة "، نجلي محمد ناصر بن وزن القحطاني، تلك الأسرة التي تكوّن فيها العقل الإنساني المتميز من خلال الدور الأبوي للوالد الراحل، "رحمه الله"، متزامناً ومتداخلاً مع الدور الكبير للأم الفاضلة في بناء شخصية الابناء، وبالتالي صناعة الوعي لديهم بالعزيمة الصادقة والعلوم النافعة والسواعد التي ترفرف بالخير والانسانية على نهج والدهم الراحل الدكتور محمد ناصر بن وزن القحطاني، ووالدتهم الأم المربية الفاضلة الدكتورة عائشة صالح الجابري، سفيرة السلام العالمي والعمل الخيري والانساني، والشمس المضيئة بالانجازات في كل الأرجاء، هي الأم التي تتوسط سماء هذه الأسرة المثالية وتمنحها السمات والصفات والأخلاق والتربية والمساندة والحماية والرعاية والمآثر والمحاسن التي تشمل العطاء الإنساني وتقديم العون والمساعدة للآخرين على المستوى المحلي والدولي "محمد وزايد وخليفة"، إضاءات شبابية في العمل التطوعي والخيري والانساني، بفضل من الله سبحانه وتعالى، وتوفيقه وعونه، ثم رعاية تلك الأسرة النبيلة التي هيأت لهم الأرض ليصبحوا مهداً للعطاء وسنداً للتطلعات والحب والتسامح والقيم الرفيعة التي توارثها الأبناء بفخر واعتزاز من توجيهات ودعم القيادة الرشيدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث ترسخت في هذه الأجيال الواعدة قيم الإيجابية والسخاء والشموخ الساطع المتسلح بالعلم والنهضة والتميز، فهؤلاء الأبناء يسيرون على الدرب الشيخ زايد ويرفعون راية الإمارات عالية خفاقة، ويطرقون أبواب المستقبل بالثقة والمسؤولية والتفوق في المسيرة التعليمية. هكذا، ينطلق "محمد وزايد وخليفة"، في رعاية الوالدة الكريمة الدكتورة عائشة الجابري، التي تأمل بأن يكونوا ابنائها في خدمة وطنهم، متألقين نحو الغد، تحت الشعار التربوي الكبير الذي أطلقته وزارة التربية لإعداد أجيال المستقبل بعنوان "من طالب إلى قائد".


الشرق السعودية
٢١-٠٣-٢٠٢٥
- الشرق السعودية
عبد الرزاق بلعقروز: الفلسفة هي تحرير العقل
ينتمي الباحث وأستاذ العلوم وفلسفة القيم والمعرفة عبد الرزاق بلعقروز (1981)، إلى نخبة أكاديمية جزائرية، تولت طرح الأسئلة المتعلقة ببناء الإنسان فكرياً وحضارياً، انطلاقاً من قناعتها بكونه كائناً أخلاقياً، وما يحصل له من انتكاسات حضارية وسياسية، هو ثمرة للانتكاسات الأخلاقية، فكانت مقالاته وبحوثه وكتبه التي توج بعضها بجوائز وازنة، منها جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الكتاب الشاب، تنطلق من هذا الهاجس. في ما يلي حوار معه، بمناسبة حصوله على جائزة الكتاب العربي 2025 عن كتابه "الاتصاف بالتفلسف". لماذا بقيت الفلسفة في الفضاء العربي المعاصر بعيدة عن قراءة الراهن ما ربطها بما هو ترف فكري يولد النفور لدى الجيل الجديد؟ يسعى كتاب "الاتصاف بالتفلسف: التربية الفكرية ومسالك المنهج"، لتقريب الفلسفة أكثر إلى أحوال الإنسان وأحزانه، لأن الفلسفة اليوم تعيش خطاً معرفياً نشطاً عنوانه: كيف نعيش بالفلسفة، وما هي التجربة الفلسفية، وأي الأساليب أو التدريبات الروحية التي تقدمها الفلسفة للذوات المضمحلة من أجل أهداف جديدة للحياة؟ الكتاب في صميمه يصب في مطالب العقل العملية، سعيت فيه كي أقدّم دلائل إرشادية نحو التربية الفكرية الجديرة بالاهتمام، ونحو الطريقة المثمرة من أجل فلسفة إبداعية، وأيضاً إرشادات لأجل التدريب على مكارم الأخلاق، مستلهماً الموروث الأخلاقي الإسلامي عند ابن عربي والحارث المحاسبي والعامري وغيرهم. الكتاب هو رؤية ومنهج ودليل، يروم تحرير القول الفلسفي من السكن في الجبال والكهوف، ويقدّم للناس أفكاراً ومعالم يستهدوا بها في ظل تعكر الفكر وموت المعنى. في كتابك "روح القيم وحرية المفاهيم" الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع المؤلف الشاب (2019)، ركزت على إعادة الترابط بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية. هل هي دعوة كي تتأقلم هذه الأخيرة مع المخيال العربي والإسلامي كونها وافدة من الغرب؟ كانت التجربة المعرفية الغربية فصلت في العلاقة بين المعرفة والواقع. فمصدر المعرفة هو الواقع، بينما تجنح القيمة نحو ما يجب أن يكون، هذا الفصل هو الذي تشرّبناه في منظوماتنا التعليمية، وبتنا نفصل أيضاً بين القيمة والواقع. لذلك كانت أهداف الكتاب تحرير العقل من النموذج المعرفي الاختزالي؛ وبالتالي، الوعي بنسبية هذه الطريقة في التفكير؛ لأنها نتجت عن استيلاء هذا النموذج على التعقل وتوجيهه نحو التسيّد على الطبيعة والإنسان؛ وإلى إعادة تأسيس العقل على القيمة. وبالتالي فإن مشروعية بناء العلوم على المعاني الروحية، لأن موضوعها هو الإنسان، والقيمة هي الأداة المكينة من أجل تغيير الإنسان، وليس مجرد وصف أفعاله، مع إحياء نماذج تراثية في المعرفة الاجتماعية، ارتبطت فيها المقاصد الأخلاقية والمناهج العلمية، لأن المعرفة ما قبل الحداثية كانت تعي ترابط المعرفة والقيمة، وتداخل العلم والتوجيه، بينما المعرفة الحديثة هي جديدة على هذا الخط المعرفي التَّكاملي. لماذا لم يجد العقل الغربي حرجاً في الاتكاء على عقول عربية في بدايات التنوير الأوروبي، مثل ابن خلدون وابن رشد وابن سينا والفارابي، بينما استقبلنا ثمار الحداثة الغربية مباشرة من غير العودة إلى عقولنا تلك؟ هناك فرق بين طريقة الغربيين في التعاطي مع أعلامنا وبين طريقتنا نحن اليوم في التواصل مع مفكري وفلاسفة الفكر الغربي، وبيان ذلك أن توما الإكويني "الفيلسوف المسيحي"، كان في منهجه التأويلي لنصوص ابن رشد، يحذف العناصر الإسلامية، ويحتفظ بالعناصر المنهجية، بينما نحن عندما نقرأ الفكر الغربي اليوم، ليس في أيدينا هذا التمييز، بسبب خطأ منسي، مؤداه أن أنساق المعرفة الغربية هي أنساق كونية، وليست وليدة السياق أو التحديات التي نشأت فيها. استطاع الخطاب الحداثي أن يوهمنا بأن بداية الوعي العلمي، كان مع الحداثة وديكارت؛ أي البداية من نقطة الصفر؛ وانساقت خطابات خلف هذا الإقرار، فكانت النتيجة أننا قطعنا صلتنا بموروثنا الثقافي، وما يحتويه من جوانب مضيئة، واتبعنا أنظمة المعرفة الديكارتية، فلا نحن أعملنا عقولنا إعمالاً راشداً، ولا كاشفنا التحيّزات والنسبيات التي تميّز حركة الفكر الغربي. ما هي السياقات الموضوعية التي أفرزت نزعة التكفير لدينا في العقود الأخيرة، ليس لما هو فكر غربي فقط، بل أيضاً لبؤر التنوير في تراثنا العربي والإسلامي؟ إن ظاهرة التكفير السائدة، التي أعتقد أنها تجمع تكفير الحداثي للتراثي وتكفير التراثي للحداثي، ترجع في عِللها العميقة إلى رفض القراءة، والتوقف عن استمرارية الفهم والتواصل والاستيعاب، فتعليق فعل القراءة لا ينتج إلا تكوين اليقينيات في المذاهب والمواقف، واليقين الذي لا يتأسس على البرهان والدليل هو تحكم وإذعان من غير دليل. إن ظاهرة التكفير في سياقنا الثقافي الإسلامي التي أنتجت العنف، مرجعها هو فقدان الدليل والمعرفة وتعطيل فعل القراءة، وأيضاً تغييب الأخلاق في دائرة التواصل، وهكذا، فإن علة التكفير هي غياب الدليل والمعرفة والأخلاق. يحيلنا كلامك هذا على كتابك "السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح". هل ترى أن رهان اللحظة العربية اليوم أن نركز على تعميق التراث في نفوس الأجيال الجديدة؟ لا أعتقد أن أجيالنا الجديدة في ظل ثورة وسائل الإعلام والاتصال، التي أصبحت تتجه نحو توحيد الوعي والذوق نحو الإنسان ذي البعد الواحد، تَقبل النموذج التراثي في العيش، وخصوصاً على مستوى التقنيات والتبشير بأزمة الذكاء الاصطناعي؛ بل لا بد من إحياء ما هو منسي في أجيالنا، أي الإيمان والجمال والتسامي والمنحى الاجتماعي. وإذا كان هذا الغرب المعاصر لنا قد غارت عيناه في الوضعية، فإن التسامي هو سلاحنا، وإذا كان الغرب قد اتخذ من الفردية والعقلانية الذرائعية أساليب له، فإن المعاني الجماعية هي أداتنا، فنحن مجتمعات الأسس والجماعية والتواصل الحي، بل لا بد لنا أن نعلّم أجيالنا فرادة العيش الذاتية، التقوى والإنتاج، العاطفة والعقل وغيرها؛ فإن هذه الثنائيات لم تعرف في الفكر الغربي إلا التضاد والصدام، بينما نحن مجتمعات الأسس، نسكن بينها من غير تفكير تقابلي، لا يرى إلا اللونين الأبيض أو الأسود. أشرت في كتاب "أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي"، إلى جملة من الموانع الفكرية في وجه تحقيق التكامل بين الحداثة والفكر الإسلامي. إلى متى يظل كثيرون منا يربطون الإسلام بما هو ثابت، كابح للخيال والجمال، بما يتناقض مع كونيته؟ كان الفيلسوف المغاربي ابن عربي يقول إنّنا أمة متحيّرة، بمعنى أن الحيرة وما يلازمها من شكوك ونقد ورغبة في التغيير هي المياسم التي يجب أن تلازمنا، إلا أن طوق التخلف والاستعمار وتطوّر حركة التحديث، قد خلقت في فضاءاتنا المعرفية فئة "المفكرين المنهزمين" الذين لا طاقة لديهم على نقد أنظمة المعرفة الغربية، إنهم يفكرون بالغرب أو بالتراث، ولا يفكرون فيه؛ وكلما توقفت شعلة المعرفة وفعل القراءة كلما تشكلت اليقينيات والأقفال، وبالتالي، فعلاج هذه الظواهر هو ما أسميته في كتابي "الاتصاف بالتفلسف"، التربية الفكرية، وهي سعي منهجي لتنمية القوى العقلية والنفسية في ذواتنا. ومن الأدوات التي اقترحتها تعليم أخلاق الروح، لأن هيمنة مطالب الجسد تعني استغوار العقل، والتجارة الفكرية، بمعنى إحياء التنافس والتباري والمناظرة بين الأفكار كي تتجدد وتحيا الفكرة الأصيلة، وتموت الفكرة الزّائفة وأيضاً، الحرارة الحوارية، ذلك أن الحديد لا يلين في الجماد، وإنما يلين بالحرارة، وهو الأمر في عالم الأفكار، تليين الأفكار في جو الحوار وتعدد الخبرات والاختلافات. رصدت في مقالك "الحداثة الفائقة ومظاهر انفصال الإعلام المعاصر عن القيمة"، السياقات التي أدت إلى غرق الإعلام الغربي في الروح الاستهلاكية. هذا المقال الذي أشرت إليه، فعلاً يلامس ثورة الإعلام والاتصال، لكنها قراءة معرفية أخلاقية، وليست قراءة إعلامية، فالحداثة الفائقة تعني تحكم الوسائل الإعلامية في الحياة، وذلك بخلق مصطنعات جديدة، لا تحاكي الواقع أو تماثله، وإنما تصنع منه صوراً تركيبية؛ غرضها غير المباشر هو نهاية الواقعي والحقيقي والقيمي والمرجعي.


الشرق السعودية
١٣-٠٣-٢٠٢٥
- الشرق السعودية
علاقة الطعام بجغرافيا الكلام عند سعيد العوادي
وصل كتابه "الطعام والكلام، حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي"، الصادر عن (دار أفريقيا الشرق)، إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025، فرع الفنون والدراسات النقدية. الكاتب والباحث المغربي سعيد العوادي، متخصص في البلاغة وتحليل الخطاب، يشغل منصب نائب العميد للبحث العلمي والتعاون، وأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض في مراكش. معه كان هذا الحوار. تتناول في كتابك الأخير أقدم صفتين أنثروبولوجيتين في حياة الإنسان: الطعام والكلام. برأيك أيهما كان الأسبق في الوجود، وهل سبقت الحاجة إلى الطعام الحاجة إلى الكلام؟ الطعام والكلام أقدم مقوّمَين أنثروبولوجيين في الحياة الإنسانية؛ بالطعام استطاع الإنسان أن يحيا مادياً، وأن يشحن ذاته بالطاقة اللازمة التي تساعده على إدامة الوجود، وبالكلام تمكّن أن يحيا رمزياً ويأنس داخل عشيرته اللغوية، وينقل خبراته حاضراً ومستقبلاً. في مقدمة كتابي، أشرت إلى تلك العلاقة الخِلافية المتكاملة، التي يُحدثها فم الإنسان، حين يُدخل اللقمة ويُخرج اللفظة. الظاهر، أن الطعام سبق الكلام في الوجود؛ لأن الحاجة إلى إشباع الجسد بالأكل والشرب لها أولوية قصوى، فالتجربة تثبت أن عضّة الجوع أكثر إيلاماً من وحشة التواصل. ويزكي هذه الأسبقية، الأثر البارز للطعام في الكلام المتداول، حيث نجد حضوراً قوياً لمعجم الأكل والشرب في سياقات تواصلية غير منتمية لأجواء الضيافة. تشير في تحليلك إلى أن للطعام حفرياته البلاغية في اللغة، تماماً كما للكلام، ونلمس ذلك في استعارات مثل "المرء مخبوء تحت لسانه". هل وجدت تقاطعات بين شعرية الطعام وشعرية الكلام؟ يكشف الكتاب عن الغزو الذي قامت به الاستعارات الطعامية لجغرافيا كلامنا العادي، ونصوصنا الشعرية والنثرية، فتجلى ذلك في مناحٍ عدّة، منها الأمثال التي استثمرت الطعام في التعبير عن دلالات غير طعامية بالضرورة، ما اصطلحنا عليه "الطعام الحكيم"، مثل "فلان يعرف من أين تؤكل الكتف"، الذي يصف الشخص الخبير القادر على تدبير أموره بذكاء أو دهاء. أو مثل "التمرة إلى التمرة تمر" الذي يحيل إلى بعد اقتصادي إدخاري. كما نجد ذلك في مصطلح "الذوق" الذي ارتحل من حقل الطعام إلى حقول الفنون والسلوك والنقد، ومصطلح "الأدب" الذي انحدر من المأدبة وعوالمها التنويعية والاحتفالية، ومصطلح "الفصاحة" ذي المرجعية الشرابية المأخوذة من قولهم: "فَصُح اللبن"، ومصطلح "الفكاهة" المنتسب إلى الفواكه، ومصطلح "المُلحَة" المأخوذ من الملح. بل إن مِن القدماء مَن عرّف البلاغة تعريفاً طعامياً فقال: "البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"، كما قيل عن ممتهني الأكل والشراب تعريفات أكثر لطفاً، على نحو ما قال الخمّار: "أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العِلم، وصفّاه راوُوق الفهم، وضمّته دنان الحكمة، فتمشّت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقّته، وفي العقول حدّته". ولم يترك معجم الطعام مجالاً من دون أن يتمدّد فيه. ونلاحظ ذلك حتى في عناوين الكتب مثل: "الفانيد في علم الأسانيد" لجلال الدين السيوطي، و"موائد الحَيس في فوائد امرئ القيس"لنجم الدين الطوفي، و"مترعات الكؤوس" للمختار السوسي. وفي أسماء الشعراء نحو: الخبزأرزي، والخبّاز البلدي، وابن سُكّرة، والفرزدق (الفرزدقة قطعة العجين). وتكثر استعارات الأكل والشرب في التداول اليومي بين الناس، نظير قولنا: "حلاوة اللسان"، و"القارئ النهم"، و"المطالعة غذاء الروح"، و"المأدبة العلمية". كما أن لكل طبقة اجتماعية أطباقها التي تعبّر عن فقرها أو غناها ورصيدها من التحضّر أو التخلف. وبعض الكنايات العربية القديمة التي تدلّ على الكرم مثل كناية "كثير رماد القِدر"، كانت في الأصل مشهداً بصرياً يراه الناس أمام مساكن الكرماء، فتدلهم كثرة الرماد على الضيافة الباذخة. لا تدرس في كتابك الطعام باعتباره مجرد أكل أو استهلاك، ولا الكلام كثرثرة، بل كخطاب ثقافي يحمل دلالات اجتماعية وتاريخية. كيف استطعت تحويل الغذاء والطهي إلى أفق بلاغي يمكّننا من إعادة فهم الثقافة العربية؟ فعلا لا يدرس الكتاب الطعام من منظور بيولوجي صرف، وإنما يحوّله من مادة للهضم إلى مادة للفهم، فيتعامل معه بوصفه خطاباً متعدد الدلالات، من خلال استكشاف جغرافيا نصّية متنوعة فيها القرآن الكريم والحديث الشريف والأدب والأمثال وتفسير الأحلام والتاريخ والفقه. يفيد كل ذلك في فتح أفق آخر لفهم الإنسان العربي والثقافة العربية. إنه أفق حيوي يتّخذ من المادة الطعامية التي تشكّل مشتركاً إنسانياً بين الساسة والرعية والفقراء والأغنياء والعرب والأقوام الأخرى، مدخلاً إلى صياغة قراءة أكثر تعبيراً عن حقيقة الإنسان العربي وواقعه. هل تعتقد أن التراث العربي في تناوله لموضوع الطعام الذي يتعدّى البُعد البيولوجي ليشمل الضيافة والكرم، وأحياناً مانعاً الغدر والخديعة، وجامعاً على موائده السياسة والعهود، هو أكثر ثراءً من نظيره الأوروبي؟ تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى دراسات مقارنة تبرز عناصر التوافق والاختلاف بين التراث العربي ونظيره الغربي. خطاب الطعام كان ثري الدلالات في التراث الغربي أيضاً، كما سبقت الدراسات الغربية نظيرتها العربية إلى تناوله علمياً من منظورات سيكولوجية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية ولسانية. أعتقد أننا نملك تراثاً بالغ الثراء في مكوّن الطعام وغيره، لكنه لايزال ينتظر منا دراسات أكاديمية نوعية، توازي عمقه وصدقه وصبره. فكيف يتأتى لنا خدمة تراثنا، وأكثرنا يدور في "مُعار أو مُعاد من القول المكرور"، كما قال زهير بن أبي سلمى؟ في كتابك" الطعام الروائي، من المشهدية إلى التضفير" تهتمّ بمفهوم مطبخ الرواية، حيث يصبح الطعام مكوّناً أساسياً في السرد الأدبي وليس تفصيلاً. كيف يمكن للطعام أن يصبح عنصراً أدبياً إبداعياً داخل النصوص الروائية والمسرحية والشعرية؟ لمّا كان الطعام مكوّناً حيوياً في كل الأزمنة الإنسانية، فقد حاولت ألا أكتفي بدراسته في التراث العربي، لذا انتقلت إلى تناوله في المرحلة الحديثة، من خلال إنجاز كتاب ثانٍ بعنوان "مطبخ الرواية: الطعام الروائي بين المشهدية والتضفير". أدرت فيه النقاش حول حضور الطعام في الرواية العربية، وأبرزت دلالاته على الهوية والصراع والحب والإلفة والغيرية. والواقع، أن حقل الطعام يُغني الإبداع في تنويعاته الشعرية والسردية والمسرحية والسينمائية والتشكيلية، لأنه جسر نحو تعقيدات العلاقات الإنسانية وتشابكاتها مع أسئلة مصيره.. فما وراء الموائد أكثر إثارة مما تعرضه من مآكل ومشارب.