
كذبة نيسان: تعرف على أبرز خمس أكاذيب أُطلقت بالمناسبة
Getty Images
صورة تعبيرية
ليس بمقدور أحد أن يُحدد بالضبط المصدر الأصلي لكذبة أبريل/نيسان، والتي تصادف اليوم الأول من هذا الشهر، لكن هناك أمرٌ واحد يتفق عليه الجميع هو أنها ممازحة ومداعبة ومقلب للأصدقاء في يوم الأول من أبريل/نيسان من كل عام.
وقد نجح بعض الناس أو المؤسسات ليس في خداع الأصدقاء فحسب، بل البلاد بأسرها عبر أكاذيب طريفة لفقوها في مثل هذا اليوم.
ونقدم هنا بعضا من أبرز خدع إبريل/نيسان في التاريخ وأكثرها طرافة.
أشجار تثمر معكرونة سباغيتي
يعد التقرير الإذاعي الذي بثه الإعلامي ريتشارد ديمبلي عام 1957 في مقدمة هذه الأكاذيب الطريفة، وتحدث التقرير عن حصاد محصول وفير من معكرونة سباغيتي من الأشجار في سويسرا.
Getty Images
زعم معدو البرنامج أن معكرونة السباغيتي تقطف من الأشجار
وقد اتصل المستمعون بالبرنامج للسؤال عن كيفية زراعة أشجار السباغيتي فقيل لهم أن يغرسوا بعض قطع السباغيتي في علبة تحتوي شرائح طماطم، وينتظروا النتيجة.
جزر سان سَريف
إذا كنت تعتقد أن نحو اللغة الإنجليزية لا يمكن أن يكون مصدرا للطرافة، فيجب أن تراجع نفسك.
فقد نشرت صحيفة الغارديان عام 1977 نشرة إرشادية للسفر إلى جزيرتين غامضتين تحت اسم "سان سَريف".
وادّعت الصحيفة أن هاتين الجزيرتين؛ وهما الجزيرة الشمالية الأكبر وسمتها "أبر كيس" والجزيرة الجنوبية الأصغر وسمتها "لَور كيس"، تشكلان ما يُشبه الفاصلة (الفارزة) المنقوطة في علامات الترقيم في الكتابة.
وإذا لم يكن ذلك كافيا لإثارة شكوكك، فإن الجزء المتعلق بالتعليم في الجزيرة يشير إلى أنه "بالإضافة إلى الدروس المعتادة في مرحلة الدراسة الثانوية هناك يمتلك الطلبة المراهقون اختيار الغوص بحثا عن اللؤلؤ كأحد الدروس في أحد المراحل الدراسية.
ولن تكون وحدك المتعجب من "كيفية التسجيل للالتحاق بمدرسة هناك".
تحدي الجاذبية
في عام 1976 أعلن الفيزيائي البارز باتريك مور في إذاعة بي بي سي راديو 2 أننا في الساعة 9.47 صباحا سنشعر بما وصفه بـ "تأثير جاذبية مزدوج من كوكبي زحل وبلوتو".
وقال إنه في لحظة معينة سيصطف الكوكبان في خط واحد وستصبح الجاذبية على الأرض أضعف، فإذا قفزت في الهواء في التوقيت الصحيح، فإنك تقريبا ستطفو في الهواء.
بالطبع لم يكن لهذا الإعلان أي علاقة بالعلم، ولكن وقع الكثيرون ضحية هذه الخدعة وظل بعضهم يتداولها بوصفها حقيقة علمية.
علامة (باي) الرياضية في السماء
هل تجد من المستحيل تذكر قيمة "باي" التي تعلمتها في درس الرياضيات (الحرف السادس عشر في الأبجدية اليونانية والذي يستخدم لتمثيل الثابت الأكثر انتشارا في الرياضيات ونسبة محيط الدائرة إلى قطرها)؟ هذه القصة ستساعدك في ذلك.
Getty Images
إشارة (باي) الرياضية
في عام 1998 انتشرت أنباء أن ولاية ألاباما أقرت قانونا يقضي بإعادة تعريف علامة (باي) الرياضية بناء على أسس دينية وتبعا لقيمتها في الكتاب المقدس لتصبح رقم 3، الأمر الذي أثار غضب كثير من الناس.
وعندما بدأ الناس في الكتابة لإدارة الولاية يتساءلون عن سبب الإقدام على هذه الخطوة، اتضح أن عالم الفيزياء مارك هوسلو، (المعروف بطريقته المحببة في تدريس العلوم وتقديمها بصورة مرحة)، هو من أطلق هذه الإشاعة في أول أبريل/نيسان.
Getty Images
ظهور ساعة بيغ بن الشهيرة في لندن
ساعة بيغ بن تُصبح رقمية
في عام 1980، أعلنت خدمة إذاعة بي بي سي العالمية لمستمعيها أن ساعة بيغ بن ستدخل العصر الرقمي، ولم تكتف بذلك بل أشارت إلى أن أول من سيتصل من المستمعين يمكن أن يحصل على عقارب الساعة التي سيتم الاستغناء عنها.
ولسوء الحظ لم تسر الأمور كما أمل القائمون على برنامج الإذاعة حينها بتوخيهم الطرافة بمناسبة كذبة أبريل/نيسان، واضطرت بي بي سي للاعتذار عن هذه المزحة التي أخذها بعض الناس على محمل الجد ولم يتمكنوا من رؤية الجانب الهزلي فيها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- الوسط
"سرقة الرياح": ما هي الظاهرة الغامضة التي تهدد مزارع الرياح حول العالم؟
Getty Images في ظل التوسع المستمر في إنشاء "مزارع الرياح"، قد يحدث أن تتسبب بعض هذه المزارع، دون قصد، فيما يُطلق عليه "سرقة الرياح" من مزارع أخرى، الأمر الذي قد يُثير المخاوف حيال قدرة بعض الدول على تحقيق هدف صافي انبعاثات كربونية صفرية. ومع ازدياد انتشار مزارع الرياح البحرية، أي تلك المساحات البحرية المخصصة لوضع محطات توليد الطاقة بالرياح، في شتى أرجاء العالم، في إطار السعي لتحقيق أهداف الحياد الكربوني، بدأت تبرز على السطح ظاهرة تثير القلق وتحظى باهتمام كبير، إذ قد تؤدي ظروف معينة إلى "سرقة" بعض المزارع الرياح التي تستفيد منها مزارع أخرى. ويقول بيتر باس، وهو باحث علمي في شركة "ويفل" الهولندية المتخصصة في مجال الطاقة المتجددة والتنبؤ بالأرصاد الجوية: "مزارع الرياح تُولّد الطاقة عن طريق تيارات الهواء، وهذه العملية تؤدي بطبيعتها إلى تراجع سرعة الرياح". ويضيف أن الرياح تتباطأ سرعتها خلف كل توربين داخل المزرعة، مقارنةً بسرعة الرياح أمامه، وأيضاً تتباطأ خلف المزرعة بأكملها مقارنةً بالرياح التي تهب من أمامها"، وتُعرف هذه الظاهرة باسم "تأثير الذيل الهوائي". بعبارة أخرى بسيطة، تستخلص التوربينات الدوّارة في مزارع الرياح الطاقة من تلك التيارات الهوائية، ما يؤدي إلى تكوين ذيل هوائي يُضعف سرعة الرياح خلف المزرعة، ويمكن أن يمتد هذا الذيل الهوائي لمسافة تتجاوز 100 كيلومتر في حالة المزارع البحرية الكبيرة والكثيفة، وتحت ظروف جوية معينة، بيد أن باحثين يقولون إن الامتداد المعتاد لهذا الذيل غالباً يبلغ عشرات الكيلومترات. Getty Images يمكن أن تمتد موجة الرياح الناتجة عن توربينات الرياح لأكثر من 100 كيلومتر وتشير دراسات إلى أنه في حالة إنشاء مزرعة في اتجاه الرياح قبل مزرعة رياح أخرى، فإنها قد تُضعف إنتاج الطاقة بالنسبة للمزرعة التي تقع في اتجاه الرياح بنحو 10 في المئة أو أكثر. ويُطلق على هذه الظاهرة عموما مصطلح "سرقة الرياح"، بيد أن إيريك فينسرواس، محامٍ نرويجي متخصص في طاقة الرياح البحرية، يقول: "مصطلح (سرقة الرياح) قد يكون مضللاً إلى حد ما، إذ لا يمكن سرقة ما لا يمكن تملّكه، فالرياح ليست ملكاً لأحد". وعلى الرغم من ذلك، يلفت إلى أن هذه الظاهرة قد تترتب عليها آثار سلبية متعددة على الشركات المطوّرة في قطاع مزارع الرياح، وقد تتسبب، في بعض الحالات، في حدوث مشكلات تمتد عبر الحدود الوطنية". جدير بالذكر أن هناك بالفعل عدداً من النزاعات القائمة بين شركات قطاع مزارع الرياح بشأن ما يُشتبه بأنه "سرقة للرياح"، الأمر الذي يُثير مخاوف الدول التي تعوّل على توسيع مشاريع الرياح البحرية لتحقيق أهدافها المناخية الصفرية. وعلى الرغم من أن ظاهرة "سرقة الرياح" كانت معروفة نظرياً منذ فترة طويلة، إلا أن حدّتها تزداد في الوقت الراهن نظراً للتوسع السريع في مزارع الرياح البحرية، ولضخامة حجم هذه المشروعات وكثافتها، وفقاً لما يؤكده الخبراء. وبحسب محاكاة أجراها بيتر باس بالتعاون مع باحثين من جامعة "دلفت" للتكنولوجيا والمعهد الملكي الهولندي للأرصاد الجوية، من المتوقع أن يزداد تأثير الذيل الهوائي على إنتاج الطاقة البحرية في بحر الشمال خلال العقود المقبلة، وذلك نتيجة تزايد الاكتظاظ بمزارع الرياح في هذه المنطقة التي تشهد طفرة في التوسع البحري. ويؤكد باس أن كلما كانت مزرعة الرياح أكبر وأكثر كثافة، كان تأثير الذيل الهوائي أقوى. Getty Images تعمل الدول على تكثيف استخدام طاقة الرياح البحرية، مما يؤدي إلى نزاعات بين مطوري مزارع الرياح بشأن "سرقة الرياح" وأُطلق مشروع بحثي جديد في المملكة المتحدة الشهر الماضي، يهدف إلى تقديم صورة أوضح عن تأثير الذيل الهوائي، وذلك بغية مساعدة الحكومات والشركات المطوّرة في تحسين استراتيجياتها وتفادي النزاعات المستقبلية. ويلفت بابلو أورو، باحث بارز في مجال الهندسة المدنية بجامعة مانشستر والمُشرف على المشروع، إلى أن هذا المشروع سيعمل على وضع نموذج لتأثيرات الذيل الهوائي وتأثيرها على إنتاجية مزارع الرياح بحلول عام 2030، وهو الوقت الذي يُتوقع أن تحتوي فيه المياه البريطانية على آلاف التوربينات الإضافية مقارنة بالوضع الحالي. ويقول: "شهدنا تأثيرات الذيل الهوائي لعدة سنوات، وكنا على علم بحدوثها. وتكمن المشكلة في أنه من أجل الوصول إلى الحياد الكربوني، نحن بحاجة إلى نشر قدر معين من طاقة الرياح البحرية. وبالتالي، في عام 2030، نحتاج إلى ثلاثة أضعاف القدرة الحالية، الأمر الذي يعني أنه في غضون أقل من خمس سنوات، يجب علينا نشر آلاف التوربينات الإضافية". ويضيف: "بعض هذه التوربينات ستعمل على مقربة شديدة من توربينات قائمة بالفعل، مما يجعل الوضع يزداد ازدحاماً على نحو تدريجي، وبالتالي بدأت تأثيرات الذيل الهوائي تُظهر أثراً بالغاً في الوقت الراهن". وتعهدت الحكومة البريطانية بأنه بحلول عام 2030، ستتمكن المملكة المتحدة من توليد الطاقة الكافية من المصادر المتجددة، مثل الرياح، لتلبية احتياجاتها من الكهرباء. وتسلط خطة حكومية بريطانية، صدرت العام الجاري، الضوء على ضرورة فهم تأثيرات الذيل الهوائي بشكل أفضل في هذا السياق، ووصفتها بقضية ناشئة تخلق حالة من الغموض بالنسبة لمزارع الرياح البحرية. ويقول أورو إن هناك حالياً عدداً من النزاعات في المملكة المتحدة بين الشركات المطوّرة لمزارع الرياح البحرية بشأن تأثيرات الذيل الهوائي المحتملة، ويرى أن هذه النزاعات تُعزى جزئياً إلى الغموض بشأن التأثير الدقيق لهذه التيارات الهوائية. فعلى سبيل المثال، قد لا تُعبّر الإرشادات الحالية في المملكة المتحدة بشأن المسافات اللازمة لفصل مزارع الرياح البحرية لتجنب تأثيرات الذيل الهوائي، عن مدى تأثير هذه التيارات بشكل دقيق، فضلا عن ذلك وبسبب بناء مزارع الرياح البحرية في مجموعات، قد يكون من الصعب تقدير كيفية تأثير كل مزرعة على إنتاج الطاقة في مزرعة أخرى. ويوضح أورو: "عندما توجد مزرعتان للرياح، يكون من السهل جداً تقييم التفاعل بين مزرعة الرياح (أ) ومزرعة الرياح (ب)، والعكس أيضاً، لكن ماذا لو كان هناك ست مزارع رياح؟ كيف ستتفاعل هذه المزارع مع بعضها البعض؟ هذا ما لا نعرفه، ولكن من المؤكد أنه سيحدث مع التوسع المستمر في بناء مزارع الرياح". ويقول: "القضية الأخرى هي أن التوربينات أصبحت أكبر حجماً بشكل ملحوظ"، فالتوربينات أصبحت أطول، وأصبحت شفراتها أطول لزيادة قدرتها على توليد المزيد من الطاقة من الرياح. كما أن التوربينات الحديثة تحتوي على شفرات يصل طولها إلى ما يزيد على 100 متر، وهو ما يعادل طول ملعب لكرة القدم. Getty Images أصبحت توربينات الرياح أطول وشفراتها أكبر، في محاولة لالتقاط المزيد من الطاقة من الرياح ومن بين أكبر التوربينات البحرية، يستطيع كل توربين توليد طاقة تكفي لنحو 18 ألف إلى 20 ألف أسرة أوروبية، إلا أن هذه الزيادة في الحجم قد تؤدي إلى تفاقم تأثير الذيل الهوائي، حيث أن زيادة قُطر الدوّار قد يؤدي إلى تكوين ذيل هوائي أطول، حسبما يقول أورو، مؤكداً أن هناك حاجة للمزيد من البحث لفهم هذا التأثير. وكان فينسرواس قد أشرف على دراسة لتأثيرات الذيل الهوائي والفجوات أثناء قيامه بأبحاث الدكتوراه في جامعة بيرغن في النرويج، وركزت الدراسة على تحليل كيفية تأثير ذيل هوائي من مزرعة رياح مخطط لها في النرويج على مزرعة رياح موجودة في الدنمارك بشكل سلبي. ويحذر فينسرواس من أن عدم معالجة مشكلة إدارة تأثيرات الذيل الهوائي قد يؤدي إلى نزاعات قانونية وسياسية، مما يؤدي إلى صعوبة جذب الاستثمارات في طاقة الرياح. ويقول: "من المرجح أن يكون بحر الشمال، وخاصة بحر البلطيق، في أوروبا على الأقل، مركزاً لإنشاء مزارع رياح بحرية على نطاق أوسع. لذا فإن قضية تأثيرات الذيل الهوائي من المرجح جداً أن تؤثر على انتقال الطاقة في بحر الشمال، وفي أماكن أخرى". وعلى صعيد الفرص الاستثمارية، يمكن أن تسبب تأثيرات الذيل الهوائي الصغيرة نسبياً مشكلات للشركات المطوّرة لمزارع الرياح البحرية، كما يقول فينسرواس. ويضيف: "تكاليف بناء مزارع الرياح البحرية هائلة"، وذلك بسبب ضخامة هذه المزارع وأيضاً الأعمال المعقدة المرتبطة بها، مثل نشر السفن الخاصة، ولتبرير الاستثمار في هذا المجال وتحقيق الربح "من الضروري للغاية للشركات المطوّرة أن تكون قادرة على التنبؤ بأن المزرعة ستنتج كمية معينة من الكهرباء لمدة 25 أو 30 عاماً"، وهو العمر الافتراضي النموذجي لمزارع الرياح. ويلفت فينسرواس إلى أن حتى التراجع البسيط وغير المتوقع في تلك الطاقة المنتجة قد يخل بحسابات الاستثمار ويجعل المزرعة غير قابلة للتطبيق من الناحية المالية. ويحذر من أنه إذا حاولت الشركات المشغّلة أو الدول تجنب تأثيرات الذيل الهوائي عبر تأمين أفضل المواقع لأنفسها، فقد ينشأ خطر آخر، إذ قد تتسبب تأثيرات الذيل الهوائي في ما يعرف بـ "ظاهرة السباق نحو البحر"، أي تسريع الدول وتيرة تطوير مزارع الرياح بغية الاستفادة من أفضل موارد الرياح المتاحة حتى الآن، وقد يؤدي هذا التسريع في عملية التطوير إلى زيادة خطر إغفال جوانب أخرى هامة في تخطيط مزارع الرياح، مثل حماية البيئة البحرية. Getty Images ويرى أورو، من جامعة مانشستر، أيضاً أن هناك خطراً متزايداً من حدوث مشاكل عبر الحدود، مشيراً إلى أن "جميع الخلافات المطروحة حتى الآن في المملكة المتحدة هي بين مزارع الرياح البريطانية، ولكن ماذا لو حدث في المستقبل نزاع بين مزرعة رياح بريطانية ومزرعة رياح هولندية أو بلجيكية أو فرنسية؟ لذلك، كلما استطاعنا التنبؤ بهذه الحالة مسبقاً، وإعداد الأرضية لذلك، كان الأمر أفضل. وهذا يقلل من عدم اليقين ويحقق أكثر فائدة للصناعة". ويوصي فينسرواس الدول الأوروبية بمعالجة مشكلة سرقة الرياح من خلال التعاون والتشاور مع بعضها البعض عند تخطيط مزارع الرياح، فضلا عن وضع قوانين واضحة تساعد في إدارة الرياح كموارد مشتركة. ويقول إن الأمر في جوهره يمكن التعامل معه على أن الرياح مثلها مثل الموارد البحرية الأخرى المشتركة التي تخضع للتنظيم، مثل حقول النفط التي تعبر حدود الدول، أو الأسماك. ويضيف أنه لحل هذه المسائل المعقدة، من المفيد أن تتمتع الدول الأوروبية المعنية بعلاقات سياسية جيدة فيما بينها. ويقول: "علينا أن نلجأ إلى خفض الكربون في قطاعات الطاقة، ويجب أن يتم ذلك بسرعة كبيرة، هذا هو الطموح الذي يسعى إليه الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بسياسات الرياح البحرية". ويضيف: "لذلك، لا شك في أن كل هذا يحدث بسرعة شديدة. لكن لا يجب أن يمنعنا ذلك من إيجاد حلول جيدة لأن الأمور تحدث بسرعة"، فلا توجد مصلحة لأحد في الصراع على الرياح، بل "يوجد دافع للتعاون من أجل التوصل إلى حلول عادلة بين الدول، على الرغم من أن التوسع في إنتاج طاقة الرياح يمضي قدماً بسرعة كبيرة". وليس الاتحاد الأوروبي وحده الذي يسابق الزمن لفهم تأثيرات الذيل الهوائي بشكل أفضل، فعلى سبيل المثال، تسعى الصين إلى توسيع مزارع الرياح البحرية لديها بسرعة، وقد لفت الباحثون الانتباه إلى التأثير المتزايد للذيل الهوائي على مزارع الرياح البحرية الصينية. ومنذ إعلان المشروع في شهر مارس/آذار، تلقى أورو عدداً كبيراً من رسائل البريد الإلكتروني من أشخاص مهتمين بالمشروع، وهو يرى أن هذا يوضح مدى الحاجة إلى الدراسة، قائلاً :"نحتاج إلى فهم هذا الأمر، ونحتاج إلى المضي قدماً من أجل وضع نماذج له، حتى يكون لدى الجميع ثقة، لأننا بحاجة إلى هذه الكمية من الرياح البحرية للوصول إلى صفر انبعاثات كربونية، ويجب أن نحقق ذلك".


الوسط
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- الوسط
هل يجعلنا الذكاء الاصطناعي "أكثر غباء"؟
Getty Images تطبيقات الذكاء الاصطناعي ستحسن من حياة البشر من خلال تأدية مهام مملة أو شاقة تتطلب الكثير من الوقت والجهد، ومن ثم تمنحنا فرصة أكبر للاستمتاع بالحياة أو التفرغ لأشياء أخرى أكثر أهمية. هذه هي وجهة نظر المتحمسين لما يعرف بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) التي انتشرت بشكل مهول في الأعوام القليلة الماضية، ولا سيما وسط الشعبية الهائلة التي حظي بها روبوت الدردشة "تشات جي. بي. تي" الذي بلغ العدد الأسبوعي لمستخدميه النشطين في فبراير/شباط الماضي مليون مستخدم، وفق شركة "أوبن. إيه. آي" التي أطلقته في عام 2022. على سبيل المثال، مهام مثل تلخيص الوثائق الطويلة أو صياغة رسائل إلكترونية روتينية أو ترجمة نصوص بسيطة أو كتابة سيرتك الذاتية بطريقة مهنية – كلها أشياء يستطيع الذكاء الاصطناعي التوليدي القيام بها في ثوان معدودات. لكن هناك من يحذر من أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدلا من أن يطلق العنان لأدمغتنا للانخراط في أشياء أهم وأعمق، قد يجعلنا "أكثر غباء". فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وهل نستطيع الاستفادة من إمكانياته الهائلة من دون أن يؤدي ذلك إلى أن نصبح أقل ذكاء وإبداعا؟ إضعاف مهارات التفكير النقدي من بين أحدث الدراسات التي ربطت بين الاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي وانخفاض القدرات المعرفية والإدراكية للبشر دراسة أجرتها شركة مايكروسوفت بالتعاون مع باحثين من جامعة كارنيغي ميلون في وقت سابق من العام الحالي. الدراسة، التي شملت 319 شخصا يعملون في مهن تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، وجدت أن هذه التقنية تغير طريقة التفكير النقدي لدى هؤلاء الأشخاص. فهي تقلل المجهود الذهني المطلوب لتنفيذ المهام، فيفرط المستخدمون في اعتمادهم على مخرجات الذكاء الاصطناعي، خصوصا عندما يثقون بها أكثر من اللازم. ويتحول المستخدمون من جامعين للمعلومات إلى متحققين من صحتها، من منفذين نشطين للمهام إلى مشرفين على مخرجات الذكاء الاصطناعي. وحددت الدراسة عدة أشياء قالت إنها تعرقل التفكير النقدي في المهام التي يساعد الذكاء الاصطناعي في تنفيذها، من بينها انخفاض الدافع للتفاعل بعمق مع المحتوى، وعدم امتلاك القدرة أو المعرفة الكافية لتقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. وهناك دراسة أخرى أجراها الدكتور مايكل غرليتش مدير معهد الاستشراف الاستراتيجي والاستدامة المؤسساتية بكلية التجارة السويسرية (إس.بي.إس) على 666 شخصا، وجدت أن ثمة صلة بين الاستخدام المستمر للذكاء الاصطناعي التوليدي وانخفاض القدرة على التفكير النقدي. يقول البروفيسور غرليتش لـ"بي. بي. سي. عربي" إن البحث الذي أجراه أظهر أن أدوات الذكاء الاصطناعي "تشجع على التفريغ الإدراكي، أو بعبارة أخرى الاستعانة بمصدر خارجي هو الآلات للتفكير نيابة عنا. هذا ليس سلبيا في حد ذاته، ولكن إذا اعتدنا عليه، فإنه قد يقوض من قدرتنا على القيام بالتفكير المنطقي المعقد أو حل المشكلات أو التفكير النقدي". التفكير النقدي لا يعني مجرد اكتشاف الأخطاء، بل هو عملية ذهنية معقدة تمكن الشخص من الحكم على معلومة ما بشكل منطقي وموضوعي من خلال فهم وتفسير الأدلة التي يجمعها عن طريق الملاحظة والقراءة والتجربة والنظر بعين الشك إلى الافتراضات القائمة وأخذ وجهات النظر المختلفة بعين الاعتبار. وللتفكير النقدي أهمية كبيرة في تعزيز اتخاذ القرارات وتحسين مهارات حل المشكلات وتقييم المعلومات وبناء الحجج القوية وزيادة الوعي بالذات والإبداع وتحسين مهارات اللغة والتعبير عن الأفكار. يضيف غرليتش أن "عضلاتنا الذهنية، كتلك التي تستخدم في التفكير التحليلي، من الممكن أن يصيبها الوهن إذا لم تُدَرب بانتظام. ومع مرور الوقت، قد يؤدي اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي إلى تقويض قدرتنا على التفكير النقدي، ولا سيما في المواقف المصيرية أو الغامضة التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التعامل معها. لقد أظهرت دراستي أن الشباب والأشخاص محدودي التعليم بوجه خاص يميلون إلى الاستعانة بتلك التقنية للقيام بعملية التفكير، وهو ما أدى إلى انخفاض مهارات التفكير النقدي لديهم". Getty Images هل تحارب أدمغتنا على عدة جبهات؟ التحذير من الإفراط في استخدام روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لما قد يكون له من تأثير سلبي محتمل على وظائفنا المعرفية والإدراكية يضاف إلى تحذيرات مماثلة من الإفراط في استخدام التقنيات الرقمية الحديثة خلال العقد الأخير. على سبيل المثال، هناك دراسات تربط بين قضاء فترات طويلة أمام شاشات الهواتف الذكية وانخفاض الانتباه وضعف نمو الدماغ. وفي نهاية عام 2024، اختار قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية مصطلح "brain rot" أو "تعفن الدماغ" ليكون مصطلح العام. يشير المصطلح إلى "التدهور المفترض لحالة الشخص العقلية والفكرية، ولا سيما عندما يُنظر إليه على أنه نتيجة للاستهلاك المفرط للمواد (خاصة محتويات الإنترنت) التي تعد تافهة أو لا تشكل تحدياً للعقل"، وفق تعريف القاموس. ربما يتساءل البعض عما إذا كان اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي التوليدي أسوأ من اعتمادنا على محركات البحث على الإنترنت، أو الإفراط في مشاهدة المحتوى "التافه" على وسائل التواصل الاجتماعي. يرى البروفيسور غرليتش أن "ما تفعله وسائل التواصل ومحركات البحث بالأساس هو تشتيت انتباهنا أو توجيهه، وعادة ما يؤدي ذلك إلى تفتيت تفكيرنا وإغراقنا بالمعلومات الضحلة. أما الذكاء الاصطناعي التوليدي فينتج لنا محتوى، ومن ثم يخطو خطوة إضافية، إذ يفكر بالنيابة عنا. إنه اختلاف صغير ولكن مهم للغاية. عندما نتوقف عن صياغة حججنا أو التحقق من صحة المعلومات بشكل مستقل، فإننا نخاطر ليس فقط بفقدان تركيزنا، ولكن أيضا باستقلالنا المعرفي". ويضيف: "لذا، فإنه رغم أن الاتجاهين مثيران للقلق، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الفكر البشري قد تشكل تحدياً أعمق وأطول أمدا لكيفية بنائنا للمعرفة واتخاذنا للقرارات". Getty Images هناك دراسات تربط بين قضاء فترات طويلة أمام شاشات الهواتف الذكية وانخفاض الانتباه وضعف نمو الدماغ الوجه الآخر قد يبدو الأمر بسيطا: اعتمادنا الزائد على الذكاء الاصطناعي وجعله يفكر بدلا من أن نفكر نحن ونستخدم وظائفنا الإدراكية والمعرفية سيؤدي إلى تقويض قدرتنا على التفكير المنطقي أو النقدي، ومن ثم يجعلنا أقل ذكاء أو "أكثر غباء" كما يحلو لبعضهم أن يقول. لكنّ للصورة أبعادا أخرى. فالذكاء البشري مفهوم معقد يتأثر سلبيا أو إيجابيا بعوامل عديدة، منها الجينات الوراثية والتغذية والصحة البدنية والتعليم والتربية والتلوث، وهو ما يجعل من الصعب برأي بعض الخبراء النظر إلى تأثير عامل واحد بمعزل عن باقي العوامل. كما أن هناك من يرى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يغير الطريقة التي نفكر بها، ولكن ليس بالضرورة إلى الأسوأ. يقول دكتور كارلوس زدنيك مدير مركز فلسفة الذكاء الاصطناعي بجامعة إيندهوفين في هولندا لـ بي. بي. سي. عربي إن من بين الآثار التي قد تترتب على ذلك هو "أن تفكيرنا، أو الطريقة التي نعبر بها عن تفكيرنا، على الأرجح سوف تتغير. ففي حين كنا في السابق نعبر عما نفكر فيه بالكلام أو الكتابة أو الرسم أو عزف الموسيقى مثلا، في المستقبل قد نعبر عنه بطرق تعتمد على التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي أو استخدامها لمساعدتنا على القيام بكافة تلك الأنشطة وغيرها. وبالطبع هذه ليست ظاهرة جديدة، ففان غوخ أظهر عبقريته بالطريقة التي كان يستخدم بها فرشاة الرسم، وروجر فيدرر بطريقة استخدامه لمضرب التنس...الجيل القادم من المفكرين ربما سيظهر مواهبه بالطريقة التي يستخدم بها الذكاء الاصطناعي". Getty Images تزايد استخدام روبوتات الدردشة التي تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل كبير في الأعوام القليلة الماضية، بما في ذلك بين الشباب والأطفال كيف نستفيد من دون أن نصبح "أكثر غباء"؟ الدراسة التي أجرتها مايكروسوفت أظهرت أن الأشخاص الذين لديهم ثقة بالنفس كانوا أكثر نزوعا لاستخدام التفكير النقدي للتحقق من مخرجات الذكاء الاصطناعي. وخلصت إلى أن ثمة حاجة إلى أن تكون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مصممة بحيث تعزز التفكير النقدي لدى العاملين في مجالات تتطلب استخدام المعلومات. وإلى أن يتحقق ذلك، يتعين على المستخدم التعاطي مع الذكاء الاصطناعي بطريقة تجعله يتفادى خطر أن يؤدي ذلك إلى إضعاف قدراته على اتخاذ القرارات وعلى مهاراته الإدراكية والمعرفية. يقول البروفيسور غرليتش: "كلما تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي التوليدي على أنه مساعد قائد الطائرة وليس طيارا آليا، كلما حافظنا على قدراتنا الإدراكية والمعرفية بل وعززناها". ويضيف أنه ينبغي أن "نتعامل مع الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس بوصفه بديلا للتفكير، ولكن كشريك نتناقش معه، كشيء يتحدانا وينقح أفكارنا ويساعدنا على استكشاف وجهات نظر مختلفة. ولتفادي البلادة الفكرية، يجب أن نتفاعل بشكل واعٍ مع مخرجات الذكاء الاصطناعي، ونطرح أسئلة وننتقد الافتراضات ونتحقق من صحة المزاعم". أما الدكتور زدنيك فيشدد على أهمية "محو الأمية" في مجال الذكاء الاصطناعي، ويشمل ذلك التعريف بما تعنيه تلك التقنية، وكيف تعمل، وما تستطيع وما لا تستطيع تحقيقه، ومتى ينبغي استخدامها، ومتى لا ينبغي استخدامها. ويضيف: "أتوقع أن تنتشر تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد، ولذا من المهم أن يتم هذا النوع من محو الأمية مبكرا وعلى نطاق موسع. الأطفال ينبغي أن يتعلموه، والمعلمون ينبغي أن يدرسّوه. لا يجب أن نحظر على الأطفال استخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن يجب أن نعلمهم كيف يستخدمونه بحكمة". ويشير زدنيك كذلك إلى أهمية تحمل الحكومات مسؤولية إدارة تقنية الذكاء الاصطناعي "بما يحقق توازنا بين سلامة المجتمع من جهة، والنمو الاقتصادي والابتكار من جهة أخرى". خلاصة القول: الذكاء الاصطناعي التوليدي مثله مثل أي تقنية أخرى يمكن أن تكون له منافع هائلة للأفراد والمجتمعات، ويمكن أن يعود علينا بالضرر، والأمر يتوقف إلى حد كبير على طريقة استخدامنا له. ومن خلال التوعية بإمكانياته وطريقة عمله ومواطن ضعفه، والتشجيع على التفاعل معه بشكل لا يلغي تفكيرنا، يمكننا استثمار إمكاناته الهائلة من دون أن نصبح أقل ذكاء.


الوسط
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- الوسط
السر المقدّس: لماذا بنى المصريون القدماء الأهرامات؟
Getty Images أهرامات الجيزة من عصر الأسرة الرابعة (2520-2392 قبل الميلاد) لم يكن بناء الأهرامات في مصر القديمة عملاً عشوائياً بلا مغزى، أو مجرد رغبة في تشييد مقابر حجرية ضخمة لمجد الملوك، بل كان مشروعاً إنسانياً وروحياً وفلسفياً متكامل الأركان، عبّر فيه المصري القديم عن فكره الديني وإيمانه العميق بالحياة والخلود في العالم الآخر بعد موته، فكان الهدف متعدياً للبُعد المعماري، ويمسّ عمق العقيدة الدينية وفكرها الفلسفي المعقّد والمترابط عند المصريين القدماء. لعبت فكرة الحياة الأبدية بعد الموت دوراً بارزاً في الفكر المصري القديم، وأصبحت مركز العديد من الأنشطة الدنيوية في ذلك الوقت، فمثّلت تلك الصروح المعمارية الهرمية معابد روحية للبعث والاتحاد بالآلهة، وجسّدت في شكلها الهندسي تأملاً فلسفياً لنظام كوني، تأسس على التوازن والتناغم بين الأرض والسماء، والمادة والروح. ولذا، حرص المصري قديماً على حشد كل ما يضمن له تمتعه بحياة أبدية وهو لا يزال على الأرض، ووجد في فكرة تشييده مقبرة هرمية حصينة للملك، تعلو حجرة دفن في باطن الأرض، بداخلها تابوت حجري تُحفظ فيه "مومياء" الملك بعناية فائقة، الضمان الأبدي لاستمرار رحلته في العالم الآخر. شغلت الأهرامات، ولماذا بناها المصريون، تفكير كثيرين على مدى قرون عديدة، وهو ما دفعهم إلى الخروج عن إطار المنطق في كثير من الأحيان، فأحاطوا الأهرامات المصرية، لاسيما هرم "خوفو" بوصفه أكبر الأهرامات على أرض مصر، بفيض من القصص والأساطير المثيرة عن طريقة البناء ودورها الوظيفي، إلى حد تشكيك البعض في هوية من بنوه وإلى غير ذلك من القصص التي لا تستند إلى أسس تاريخية أو علمية. ونسعى هنا إلى الإجابة عن بعض التساؤلات، من بينها: لماذا لجأ المصريون إلى الشكل الهرمي لحفظ أجساد الملوك؟ وما هي الدلالة الدينية والفلسفية لبناء هذه الكتل الحجرية الضخمة التي تجاوزت حدود هندستها المعمارية؟ وهل استُخدمت الأهرامات كمقابر فقط، أم كان لها وظائف جنائزية أخرى أوسع نطاقاً؟ وهل ساهم في بنائها أجناس أخرى غير المصريين؟ وأخيراً، هل بُنيت من خلال "تسخير العمال وتعذيبهم" كما روّج البعض؟ "الصعود إلى الشمس" Getty Images صورة جوية لهرم الملك (خع-ف-رع) من الأسرة الرابعة (حكم خلال الفترة 2437-2414 قبل الميلاد) يُطرح دوماً السؤال: لماذا أراد ملوك مصر القديمة تشييد مقابرهم على شكل هرم؟ وتكمن الإجابة في أنهم رأوا في هذا الشكل المعماري تحديداً أصدق تعبير عن إيمانهم بعقيدة الشمس، التي كانت جوهر العقيدة الدينية في مصر القديمة، ورأوا في الشكل عموماً، وفي القمة الهرمية خصوصاً (التي كانت تسمى في اللغة المصرية القديمة : "بن بن") تجسيداً لأشعة الشمس الهابطة نحو الأرض، فأرادوا دفن ملوكهم في مقابر تتخذ شكل أشعة الشمس التي كانوا يأملون في الصعود إليها عندما يحين موعد البعث من جديد، بحسب الديانة المصرية القديمة. واعتُبر ملك مصر، في عصر الدولة القديمة (3150-2117 قبل الميلاد)، بمثابة "إله"، فالملك بصفته كائناً مقدساً، يستأثر بطبيعة الحال بكل السلطة في يديه، فالنظام الملكي في مصر القديمة يحتل قسماً خاصاً ومتميزاً داخل حدود الديانة نفسها، وهي حقيقة تؤكدها الأشكال المعمارية لهذه الفترة من أهرامات، كما أن ترتيب وتوزيع المباني يبرهن على علاقة وثيقة توحّد الإله رع (إله الشمس) والملك (الإله)، بل وتخلط بينهما أحياناً. Getty Images مراكب الشمس الخشبية عُثر عليها بجانب هرم الملك خوفو (2470-2447 قبل الميلاد)، واعتقد المصريون أن الفرعون بعد موته يستعين بها ليرافق الإله رع في رحلته السماوية، وبالتالي يتحد مع الإله ويُبعث للحياة الأبدية. ويبدو أن الهرم لم يدخل في نطاق عقيدة الشمس إلا في عصر الأسرة الرابعة (2520-2392 قبل الميلاد)، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم إلى أسرات حاكمة عبر مراحله، إذ ترمز الحدود الخارجية لخطوط المثلث إلى أشعة الشمس التي كانت تُمثَّل في أحيان أخرى بحزمة من الخطوط، تتصل بها أحياناً أيْدٍ في نهاياتها (كما حدث في فنون تل العمارنة في عصر الملك أخناتون 1360-1343 قبل الميلاد). ويقول إسكندر بدوي، في دراسته "تاريخ العمارة في مصر القديمة" إنه "في الدولة الوسطى (2066-1781 قبل الميلاد) اتخذت المباني العلوية للمقابر الشكل الهرمي، كانت قمتها على هيئة هُريم (تصغير هرم)، نُقشت عليه عينا (أوجات) ثم نص يرجو للميت أن يظهر ويشاهد سيد الأفق (الشمس) عندما يرحل عبر السماء". كما يُلاحَظ التأثير الشمسي، بحسب بدوي، في تقديم عناصر مختلفة كأقسام تؤدى فيها الطقوس الشمسية في المعبد الجنائزي للهرم، وفي دفن قوارب خشبية اكتُشفت في الموقع. "طريق للأبدية" Getty Images نجح مهندسو الملك سنفرو في الوصول بالمقبرة إلى الشكل الهرمي الكامل المعروف باسم الهرم الأحمر في منطقة دهشور أطلق المصريون على الهرم كلمة "مِر" في اللغة المصرية القديمة، وهي تعني "مكان الصعود"، في دلالة واضحة تعكس إيمانهم بأن الهرم وسيلة لـ "صعود روح الملك للسماء للالتحام بالإله رع"، كما اشتُقت تسمية الهرم في كثير من اللغات الأوروبية من الكلمة اليونانية "Pyramis" التي تعني (قطعة الخبز المثلثة)، وهي كلمة أطلقها اليونانيون لتقريب الشكل الهرمي في اللغة عندما زاروا مصر. كما يرى البعض أن كلمة "هرم" سامية قديمة تعني الشكل الهندسي ذا الأضلاع الأربعة التي تلتقي في نقطة مركزية عند القمة، وهو ما تتطلب من المصري القديم خوض الكثير من التجارب والمحاولات للوصول بمقبرته إلى الشكل النهائي للهرم المعروف حالياً. بدأت إرهاصات فكرة تشييد الهرم عند المصري القديم من بناية حجرية أقدم عُرفت باسم "المصطبة" في الأسرة الأولى الحاكمة (3150-2890 قبل الميلاد)، والتي كانت زواياها متسعة من أسفل، وتقل مع ارتفاع جوانبها. استدعى الأمر من المهندسين خوض الكثير من التجارب المعمارية التي تكللت بالنجاح في عهد الملك "سنفرو (نب ماعت)" (أول ملوك الأسرة الرابعة 2520-2470 قبل الميلاد)، وذلك عندما نجح مهندسوه في الوصول بالمقبرة إلى الشكل الهرمي الكامل المعروف باسم الهرم الأحمر في منطقة دهشور، وما تبعه من أهرامات كاملة أكثر ضخامة أبرزها أهرامات الجيزة. كان الهرم "طريق الأبدية" ووسيلة لصعود الملك إلى السماء، كما ذكرنا، لاسيما وأن المصريين كانوا يؤمنون بأن الموت ليس نهاية المطاف، بل بداية حياة أخرى ورحلة للروح إلى عالم الخلود، وقد اعتُبر الهرم "درجاً سماوياً"، كما يجسّده بوضوح الشكل المعماري للهرم المدرّج الذي بناه الملك جسر (زوسر) (أول ملوك الأسرة الثالثة 2584-2565 قبل الميلاد)، وهو بناء على شكل درجات سلّم "تصعد عليه روح الملك المتوفى إلى السماء للاتحاد بالإله رع"، إله الشمس، الذي يمثّل النور والبعث والحياة الأبدية. Getty Images الهرم المدرج للملك جسر من الأسرة الثالثة ومجموعته الجنائزية في سقارة (حكم خلال الفترة 2584-2565 قبل الميلاد) ويرى بعض العلماء أن الهرم، إلى جانب رمزيته الشمسية، كان أيضاً رمزاً للطاقة الإلهية التي "ترفع روح الملك صاعداً إلى السماء"، فالملك بعد وفاته يتحول إلى "أوزير"، إله العالم الآخر، ويصير خالداً كالإله، وشريكاً له في رحلته اليومية عبر السماء، فجاء تصميم الهرم ليخدم تلك الفكرة. وحرص المصري عند بناء الهرم على أن يكون مستودعاً أميناً لحفظ جسد الملك (المتوفى) بغية حماية روحه واستمراره في الحياة الأبدية، نظراً لما يحتله الجسد في العقيدة المصرية من مكانة بالغة الأهمية، إذ كانوا يعتقدون أن جسم الإنسان يتكون من عدة عناصر أبرزها الجسد، الجانب المنظور للعين، والـ "با" (الروح) وهي شخصية الإنسان في عالم الأروح، وتُصوَّر دائماً على شكل طائر له رأس إنسان يحمل ملامح الشخص المتوفى ذاته، في إشارة لشخصه وروحه عندما تغادر الجسد بعد الموت إلى السماء، وكانت الـ "با" تعود إلى زيارة الجسد من حين لآخر. أما العنصر الثالث في جسم الإنسان هو الـ "كا" (القرين)، واعتقد المصري أنه روح مادية تولد مع الإنسان، من مادة خفيفة لا تُرى، مثل الهواء، تكون علي شكل صاحبها وصورة مطابقة له تماماً. وبعد الموت تلازم "الكا" الجسد حتى تعود "البا" فيتحدان معا، "الكا" و"البا"، ليدخل المتوفى بعد ذلك إلى حقول النعيم الأبدية، التي أُطلق عليها حقول "يارو"، في حالة عبور الشخص محاكمته في يوم الحساب بنجاح، أو هلاكه الأبدي إذا أُدين في تلك المحاكمة. Getty Images رسم مقطعي يبين التنظيم المعماري لغرفة الدفن التي تهدف لحفظ جسد الملك المتوفى بعناية داخل هرم الملك خوفو من عصر الأسرة الرابعة (حكم خلال الفترة 2470-2447 قبل الميلاد) بناء على ذلك آمن المصريون بأن "البا" و"الكا"، الروح والقرين، لا يمكنهما استمرار رحلتهما نحو الأبدية بدون جسد محفوظ وسليم، لهذا، كانت الأهرامات تُبنى بتصاميم تضمن أعلى درجات الأمان لحماية مومياوات الملوك من لصوص المقابر والعوامل الطبيعية، مما يضمن لروح الملك عودتها ثانيةً إلى الجسد خلال طقوس البعث والخلود، وهو ما دفع المعماري إلى تصميم حجرات دفن داخلية معقدة وممرات سرّية، جُهّزت بالقرابين والتماثيل والنصوص المقدسة التي تُعين الملك في رحلته إلى العالم الآخر. وحرص المصري على تزويد حجرات الدفن هذه بمجموعة متكاملة من الأدوات وقطع الأثاث التي استعملها الملك في حياته الدنيوية، فضلا عن كميات من المأكولات، بغية الحفاظ على الجسد وقرينه الـ "كا" للحياة الأبدية في جو يماثل ما اعتاده الشخص على الأرض. كما ارتبطت فكرة بناء الهرم برمزية دينية أخرى جسّدت نظرية خلق الكون، المعروفة بـ "التل الأزلي"، التي ترى أن العالم، قبل بدء الخليقة، كان عبارة عن محيط من المياه، أُطلق عليها في الفكر الديني القديم (نون)، عندما لم يكن هناك أي إنسان أو كائن حي، كان داخل هذا المحيط تل، واستطاع الإله رع إله الشمس أن يخلق نفسه بنفسه، ومن داخل هذا "التل الأزلي" خلق العالم كله وبدء التكوين، لذا اعتُبر الهرم إعادة تمثيل رمزي لهذا التل المقدّس، الأمر الذي منح الهرم بعداً كونياً أكثر قداسة، فأصبح الهرم عند المصري القديم مكاناً مقدساً ووسيطاً بين عوالمه. ومن أبرز النصوص الدالة على الرمزية الدينية العميقة للأهرامات ما يطلق عليه في الأدب الديني "متون (نصوص) الأهرام"، وهي أقدم النصوص الدينية المقدسة المكتوبة في العالم، وظهرت لأول مرة في أهرامات ملوك الأسرة الخامسة والسادسة (2392-2117 قبل الميلاد) في سقارة. Getty Images "متون الأهرام"، أقدم النصوص الدينية المقدسة المكتوبة في العالم في هرم (ونيس أو أوناس) في سقارة من عصر الأسرة الخامسة (حكم خلال الفترة 2312-2282 قبل الميلاد) وتحتوي هذه النصوص على صلوات وتراتيل وتعاويذ تهدف إلى تسهيل عبور الملك إلى العالم الآخر، وحمايته من الأرواح الشريرة التي قد تعترضه أثناء رحلته، وتمكينه من الاتحاد بالإله، كما تشرح تلك النصوص كيفية تحوّل الملك إلى "نجم خالد" في السماء، وهي صورة دينية تجسّد فكرة الخلود الروحي. وتشير العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" إلى مقتطفات من تلك النصوص لمشهد صعود الملك للسماء نذكر منها على سبيل المثال: "كم جميل مشاهدة الملك، وقد شدّ جبينه بعصابة مثل (الإله) رع، وارتدى نقبته مثل (الإلهة) حتحور.. في حين يصعد إلى السماء بين إخوته الآلهة". ويضيف النص: "كم جميلة الرؤية، كم هو مهيب تأمل هذا الإله عندما يصعد إلى السماء، كما يصعد أبوه آتوم (الإله) إلى السماء، إن الـ (كا) فوقه، ومفاتن أساليبه السحرية إلى جواره، والخوف الذي يثيره في النفوس عند قدميه". كما كان الهرم بناءً مركزياً في مجمع شاسع يضم عدداً من المراكب الخشبية الموضوعة في حُفر موازية له، كما هو الحال بالنسبة لهرم الملك خوفو، والتي يُطلق عليها اسم "مراكب الشمس"، والتي كانت تمكن الملك من السفر عبر السماء للانضمام إلى رع في "أرض النور". "معمار هندسي من أجل الخلود" Getty Images الهرم منكسر الأضلاع من عهد الملك سنفرو في دهشور من عصر الأسرة الثالثة (2584-2117 قبل الميلاد) شيّد ملوك عصر بداية الأسرات الملكية مقابرهم على هيئة مستطيل فوق سطح الأرض، بني من الطوب اللبن واصطلح على تسميتها بـ "مصطبة"، ثم تطورت المقبرة الملكية في عصر الدولة القديمة من الشكل المدرج في عهد جسر وسخم خت في سقارة إلى الهرم ذي الطابقين في عهد حوني في ميدوم، إلى الهرم المنكسر الأضلاع في عهد سنفرو في دهشور، إلى الهرم الكامل لأول مرة في العمارة المصرية القديمة في عهد سنفرو. ويشير هذا التطور الفني في عمارة المقابر الملكية على هذا النحو إلى أنه كان "محلياً ومصرياً"، لم يتأثر بأي فكر خارجي، كما روّج البعض، الأمر الذي يدحض الأساطير التي تنسب بناء الأهرامات إلى أقوام أخرى أو أفراد من قارة غرقت في المحيط الأطلنطي وغيرها من القصص التي لا تستند إلى أي أساس تاريخي أو منطقي. ويرى رمضان عبده في دراسته "تاريخ مصر القديم" أن السبب في بلوغ عمارة المقابر الملكية إلى هذه الدرجة من الضخامة والإتقان عاملان "أولهما تقديس الملك؛ إذ لابد أن يقيم الناس له بناءً عظيماً يشرف منه على العالم الآخر كما كان يشرف عليهم في الدنيا شامخاً مرتفعاً يراه الناس في كل مكان، وثانيهما حب المصريين للفنون، وهو ما دفعهم إلى إيجاد محاولات جديدة في تطور عمارة المقابر". وأول من نعرفهم من مهندسي فن العمارة المصرية القديمة هو المهندس والوزير "إيمحوتب" (الأسرة الثالثة 2584-2520 قبل الميلاد)، مهندس الهرم المدرّج للملك جسر بسقارة، والذي أشرف على المجموعة المعمارية للملك، وإليه يرجع الفضل في البناء بالأحجار بدلاً من الطوب والخشب، اللذين كانا يستخدمان من قبل. ومما لا شك فيه أن إيمحوتب استعان من أجل هذا العمل الضخم بعدد كبير من العمال، جرى تزويدهم بالطعام والشراب والملبس والمأوى والرعاية المطلوبة، وكانت مجموعته المعمارية ونهجه بمثابة اللبنة الأولى لتطوير معماري سار عليه آخرون خلال عصور ملكية لاحقة، وأثمر عن بناء أعظم الأهرامات والصروح الحجرية. Getty Images الهرم المدرج للملك جسر من الأسرة الثالثة ومجموعته الجنائزية في سقارة (حكم خلال الفترة 2584-2565 قبل الميلاد) ويرى رمضان عبده علي في دراسته أن "فكرة (إيمحوتب) في البداية كانت تتمثل في تشييد مقبرة مثل المصطبة، ويبدو أن إيمحوتب كان متأثراً بأفكار دينية جعلته يحوّلها إلى هرم مدرّج، ربما لكي يمثل صعوداً للملك نحو معبد الشمس وعالم السماء". كانت المقابر الملكية في البداية خالية من أي مدونات، واعتباراً من الأسرة الخامسة (2392-2282 قبل الميلاد)، نُحتت مدونات على أسطح جدران حجرات الدفن والممرات المجاورة، لتكون بمثابة تعاويذ تساعد الملك المتوفى، عند صعوده إلى السماء، مثل هرم (ونيس أو أوناس) في سقارة خلال الفترة 2312-2282 قبل الميلاد، أما المصاطب فقد غُطيت جدرانها بالنقوش والنصوص بغية أن تتيح للمتوفى أن يحيا من جديد، إلى أبد الآباد، لحظات مختارة من حياته التي كان يعيشها على الأرض. كما حرص الملك على عدم بناء هرمه منعزلاً عن عالمه الذي كان يعيشه قبل مماته، وهكذا تجمعت أهرامات ملوك وأهرامات ملكات أصغر حجماً في صفوف طويلة، عند حافة الصحراء، متجهةً جميعها إلى ناحية الغرب، أما مقابر رجال البلاط الملكي، ببنائها العلوي المستطيل، فقد اصطفت على امتداد ما يشبه "شوارع"، حتى لا تنفصل حاشية الملك بعد الوفاة عن ملكها وراعيها. Getty Images صورة بالقمر الصناعي لمجموعة أهرام الجيزة ومقابر النبلاء وكبار رجال الدولة في حاشية الملك ويقول العالم الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته "حضارة مصر الفرعونية" إن علينا "ألا نظن أن الأهرامات كانت مجرد مقابر، فقد كانت تحشد من حول الملك، في العالم الآخر، مختلف الأنشطة التي كانت معروفة في البيئة المحيطة". ويضيف: "نجد منذ الأسرتين الأوليين أن مقابر الأفراد لا تبعد عن المصاطب الملكية، ولكن ليس في وسعنا أن نفهم بوضوح دلالة هذه المباني الجنائزية، إلا ابتداء من حكم الملك جسر وغايتها خدمة (كا) الملك ومن يحيطون به في الأبدية". Getty Images هرم ميدوم بُني في عهد الملك سنفرو، وهو يمثل أحد مراحل التطور الأولى قبل البلوغ للشكل الهرمي الكامل الذي عرفه المهندسون في عهد الأسرة الرابعة وتقول لالويت في دراستها: "هكذا من ميدوم جنوباً وحتى الجيزة شمالاً، اصطفت (حقول) أهرامات ملوك مصر، بدءاً من الأسرة الرابعة وحتى الأسرة السادسة (2282-2117 قبل الميلاد)، فإبان كل عهد من هذه العهود، كانت حياة الدولة تتمركز حول الهرم، وبالفعل، كلما ارتقى ملك عرش البلاد، ينشأ مقر جديد، وينشط العمل لتشييد هرم جديد". ويلفت إسكندر بدوي في دراسته إلى أن الاختلاف الكبير بين المباني الطقسية المختلفة في مجموعة الملك جسر، والتخطيط المحكم للمعبد الجنائزي لهرم الملك خع-ف-رع (2437-2414 قبل الميلاد)، من عصر الأسرة الرابعة، يشير إلى "فترة طويلة من التطور، المعماري والفكري". أما عدد الأهرامات الموجودة على أرض مصر، فيشير العالم المصري زاهي حواس في دراسته "معجزة الهرم الأكبر" إلى أن "عدد الأهرامات يصل إلى نحو 118 هرماً منتشراً من أسوان في الجنوب حتى (أبو رواش) في الشمال". "هل بنى الملوك أهراماتهم بتسخير العمال وتعذيبهم؟" Getty Images صورة جوية لمجموعة أهرام الجيزة ومقابر النبلاء وكبار رجال الدولة في حاشية الملك لطالما روّج بعض علماء الغرب مزاعم تفيد بأن أهرامات مصر شُيّدت بسواعد "العبيد"، في صورة تكرّس فكرة "الاستغلال والاضطهاد" في بناء أعظم معجزة معمارية في التاريخ، بيد أن الاكتشافات الأثرية الحديثة، والنصوص المصرية القديمة، كشفت صورة مغايرة تماماً، عن مجتمع عرف التنظيم والدقة، ووفّر للعاملين في المشاريع الكبرى، مثل بناء الأهرامات، حقوقاً معيشية تعكس تقديراً كبيراً لدورهم. وتشير الأدلة المستخرجة من مواقع العمل، مثل الجيزة ودير المدينة، على أن العمال الذين شاركوا في بناء الأهرامات لم يكونوا عبيداً للدولة، بل كانوا عمالاً يتمتعون بالمهارة ويعيشون في مساكن مخصصة لهم، ويحصلون على طعام، ورعاية صحية، وفترات راحة، كما كشفت بعض النصوص والنقوش عن أسماء فرق العمل، وبعض القادة الذين نالوا تكريماً بعد وفاتهم، وهو ما ينفي الصورة النمطية التي لطالما ارتبطت بجهودهم. كان الرحّالة اليونانيون، وعلى رأسهم المؤرخ هيرودوت، أول من أسهم في ترويج أساطير تحدثت عن استخدام نظام "تسخير العمال ومعاملتهم بطريقة غير إنسانية" وإجبار الملوك لأفراد الشعب على تشيد أبنية كهرم خوفو على سبيل المثال. ويورد العالم الفرنسي نيقولا غريمال، في دراسته "تاريخ مصر القديمة"، نموذجا لتلك الأساطير اليونانية وبعض ما زعمه هيرودوت، مثل: "لم يترك (خوفو) شراً إلا واقترفه، بدأ بإغلاق جميع المعابد، وحرم المصريين من تقديم القرابين، وأمرهم بالعمل لحسابه...، كانوا يعملون في مجموعات تتناوب كل ثلاثة أشهر، تتألف كل مجموعة من مئة ألف فرد...، استغرق العمل في بناء الهرم نفسه 20 عاماً". ويلفت غريمال، في انتقاده لما قاله هيرودوت، إلى إن موسم الفيضان وارتفاع منسوب مياه النيل كان موسماً تضع فيه الأيدي العاملة نفسها تحت تصرف الملك وفاءً له بحق ما يتمتع به عليهم من سلطة، مضيفاً: "كان الفلاحون يشكّلون غالبية الأيدي العاملة في ذلك الوقت، وفي ظروف العمل الموسمي هذه"، وأضاف غريمال أن هيرودوت "كان يحلو له أن يبرز قساوة حكمه فيما رواه عن مصر". Getty Images صورة جوية لهرم خوفو من الأسرة الرابعة (حكم خلال الفترة 2471-2447 قبل الميلاد) جدير بالذكر أن مصر كانت في ذلك الوقت بلداً زراعياً في المقام الأول، وكانت الأراضي الزراعية في مجملها ملكاً للملك وكهنة المعابد، وإن كان ذلك لا ينفي وجود ملكيات خاصة لفلاحين كانوا يعيشون في حدود ما تنتجه أراضيهم، وكان عمل الفلاح يخضع لرحمة فيضان مياه النيل، الذي ينظم حياته الاجتماعية والمهنية. كما كانت تحكم المصريين القدماء دوافع روحية ودينية في شتى تفاصيل حياتهم، بما في ذلك أداء العمل في تشييد المباني الحجرية الضخمة مثل الأهرامات، لذا غاب عن ذهن من يروجون فكرة لجوء الملوك إلى تسخير العمال في بناء مقابرهم وصروحهم، أن تلك الدوافع الروحية كانت المحرك الأساسي لكل سلوك، على مستوى الفرد والجماعة والدولة. ويقول عبد المنعم عبد الحليم سيد، أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، في دراسته "المغالطات والافتراءات الصهيونية على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية والرد عليها وتفنيدها من واقع الأدلة الأثرية"، إن الدوافع الروحية عند المصري القديم برزت في اعتقاده بأنه "سيُبعث بعد الموت ويعيش حياة في العالم الآخر مطابقة تماماً لحياته الدنيا". ويضيف: "من أهم أركان هذه العقيدة اعتقاده (المصري القديم) بأن الفرعون الذي كان يعيش في رعايته في الحياة الدنيا هو نفسه الفرعون الذي سيعيش في رعايته في الحياة الآخرة بعد البعث، وأنه كلما أخلص في خدمة هذا الفرعون في الحياة الدنيا، وفي مقدمة مظاهر هذا الإخلاص المساهمة في بناء مقبرته، التي ستحمي جسده لتتوافر للفرعون فرصة البعث، فإن هذا سيُقَابل بإغداق هذا الفرعون من إنعاماته عليه في الحياة الأخرى". Getty Images صورة لمجموعة هرم (من كاو رع) من الأسرة الرابعة (حكم خلال الفترة 2414-2396 قبل الميلاد) ويضيف: "من هنا، كان العمال المصريون عندما يرفعون الكتل الحجرية الثقيلة يعتقدون أن هذا العمل سوف يضمن لهم حياة أخرى سعيدة، فكان هذا الاعتقاد يمدهم بطاقة روحية تبلغ أضعاف الدوافع المادية من أجور مجزية أو مكافآت مغرية". وتؤكد الباحثة الفرنسية لالويت هذا الرأي في دراستها قائلة: "إن تنفيذ هذه الأبنية العملاقة لم يتطلب كما زعم اليونانيون، وكما تريد أن تصوره أفلام هوليوود، الاستعانة بحشود من العبيد، يُضرَبون ضرباً مبرحاً بالسياط". وأضافت: "كان العمال الذين شيّدوا الأهرام من المصريين دون سواهم، معظمهم من الفلاحين الذين جُندوا مع جنود تركوا ورائهم بعض وحدات الجيش، كما تشير بعض نقوش رسموها على كتل حجرية، مازالت مرئية في الوقت الراهن". وتؤكد لالويت أن هؤلاء الرجال كانوا يعملون لتأمين أبدية "الملك الإله وحمياتها، وكانوا على وعي تام بأهمية عملهم، يحركهم إيمان راسخ، كما سيحرك في زمن لاحق بعد مئات السنين، جهود بناة الكاتدرائيات في الغرب الأوروبي". Getty Images صورة جوية لهرم الملك (خع-ف-رع) من الأسرة الرابعة (حكم خلال الفترة 2437-2414 قبل الميلاد) ويلفت العالم المصري زاهي حواس في دراسته "معجزة الهرم الأكبر" إلى أن الهرم "كان مشروع مصر القومي وشارك فيه الجميع، لأن الشعب يجب أن يشارك في أن يكون الملك إلهاً". ويضيف: "أكد كشف مقابر بناة الأهرام أنهم لم يُسَخَّروا لبناء الهرم، ويدل على ذلك أنهم بنوا مقابرهم بجوار الأهرام، ووضعوا داخل مقابرهم مقتنيات أثرية تساعدهم على الحياة في العالم الآخر مثل الملوك والأمراء والموظفين". ويقول حواس: "العمال الذين كانوا ينقلون الأحجار كانت تُدفع أجورهم عن طريق العائلات المنتشرة في صعيد ودلتا مصر، كواجب قومي للمشاركة في إنجاز المشروع الديني القومي. أما رؤساء العمال والفنانون والنحاتون، فكانوا يعملون لدى الملك وتدفع الدولة أجورهم، وكانت الأجور عبارة عن حبوب شعير وقمح وجعة". Getty Images تمثال أبو الهول وخلفه هرم الملك (خع-ف-رع) من الأسرة الرابعة، في الجيزة وأضاف في حوار سابق أجراه لصحيفة الأهرام: "بناءً على ما وجدناه، نعتقد أن عدد العمال الذين شاركوا في بناء الهرم يصل إلى نحو 10 آلاف عامل كانوا يعملون طوال اليوم، ويتم تغييرهم طبقاً لحاجة العمل عن طريق العائلات الكبيرة التي تمدهم بما يحتاجونه من طعام وخلافه". وقال حواس: "كان عدد العمال يزداد أثناء فيضان النيل الذى كان يغرق الأراضي الزراعية فلا يجد الفلاحون عملا، فيتجهون للعمل في بناء الهرم الذى كان من أهم أسباب نمو العبقرية المصرية في البناء والحضارة". كما اكتُشفت مقابر وفرت أدلة أثرية جديدة على الحياة الدينية للعمال، وأشارت نصوص أخرى إلى أن عائلات في صعيد مصر ودلتاها كانت ترسل يوميا 11 عجلاً و 23 خروفاً لإعاشة العمال، وفي المقابل كانت الدولة لا تحصل منهم على ضرائب. ومما لا شك فيه أن اكتشاف مقابر العمال بناة الهرم في هضبة الجيزة تعد نقطة تحوّل في تسليط الضوء على طبيعة العمل، وقدمت أدلة تنفي كلياّ، دون لبس، كل ما يشير إلى أن البناء خضع لنظام تسخير العمال، أولها أن هذه المقابر تقع مباشرة إلى جوار المجموعة الهرمية "الملكية" في الجيزة، وهو ما جعل بعض العلماء يؤيدون الرأي القائل بأن الملك ربما أوصى بدفن عماله إلى جانبه وفاء لهم دون تمييز طبقي، مثلما كان يفعل مع حاشيته، كما ذكرنا. Getty Images مقابر العمال بناة الهرم بجوار أهرامات الجيزة ويضيف رمضان عبده علي في دراسته: "عُثر على مخبز كان القائمون على هذه المقابر يعدون الخبز فيه، ويوزعونه على العمال مع الثوم والبصل، وعُثر أيضاً على أطباق فخارية لتقديم الطعام للعمال". وأضاف: "عُثر إلى الشرق من هذه المقابر على بقايا قريتين، عاش في إحداهما العمال، وعاش في الأخرى الفنانين والمشرفين". والثابت أن السلطة القائمة على بناء الهرم كانت تغير العمال كل ثلاثة أشهر بما لا يخل بأعمالهم الأساسية في زراعة الأراضي، كما عُثر على رفات تشير إلى حدوث إصابات أثناء العمل وخضوع أصحابها للعلاج، بل أجريت لبعض إصابات العمل تلك عمليات جراحية لعلاج بعض الكسور، وهو ما يشير إلى أن الدولة وفرت نظاماً للرعاية الصحية لهؤلاء العمال. لقد بنى المصريون أهراماتهم لتأمين حياة أبدية لملوكهم، وفقاً لمعتقد ديني معقّد ومترابط، ومثلت بناءً جمع بين الوظيفة المعمارية والدينية والفلسفية، فلم تكن بالنسبة لهم مجرد مبانٍ ضخمة أقيمت في قلب الصحراء خارج حدود المدينة، بل جسّدت رؤية حضارية ونظرة دينية أكثر عمقاً، فكانت القبر، والمعبد، والرمز، والطريق إلى السماء في آنٍ واحد.