
التضحية بالجانب الفكري
المسرحية التي تمثل هذه الأيام في ملعب أنطوان بباريس، هي خير ما أنتج سارتر. إحكام صنعة فنية، وبراعة حوار، وإبداع تسلسل. بيد أن هذا كله كان على حساب التضحية بالجانب الفكري الذي ظل يمز حتى الآن ما أبدعه من قصص وتمثيليات على السواء، فضلاً عما في موضوعها من ميل صاحبها في العرض الأخير إلى أدلجة أمور تتصل بالمشاكل المصيرية الحية، والسياسية منها على وجه التخصيص، وهو ما يشاهد كذلك في المسرحيتين اللتين سبقتا هذه مباشرة، وهما «موتى بلا قبور» و«الماهر المهيبة»، ففي الأولى عرض لموضع المقاومة وما تستلزمه من قيم تتصل بالالتزام نحو الجماعة والرابطة العامة التي يتدرج الفرد فيها، وفي الثانية تصوير أخاذ لتلك المشكلة الأليمة التي يندى لها جبين الإنسانية، مشكلة معاملة الزنوج والشعوب الملونة عامة. ولهذا فليس لنا أن ننتظر من مسرحيتنا هذه تلك العبارات المنحوتة المليئة بالمفارقات في أغلب الأحيان مما تراه واضحاً في بقية قصص سارتر وتمثيلياته. وإذا كان لنا أن ننشد فيها أفكاراً، نتلمسها حية في أشخاص تجسدوها
وكانت فعالهم- أكثر من أقوالهم- خير تعبير عنها. وما من مراء في أن هذا النحو هو الأوفق انطباقاً على فن المسرح، بوصفه فناً خالصاً.
وخلاصة هذه المسرحية أنه حدث في بلد يغلب، على الظن أنه من بلاد البلقان، إن كان فيه صراع بين فريقين من أبنائه: فريق- يتزعمه الوصي على العرش- يدعو إلى التفاهم مع الدولة المحتلة (ألمانيا)، والآخر اشتراكي النزعة يقاوم منتظراً الخلاص لنفسه ولبلاده على يد الدولة المعادية لتلك الدولة المحتلة. وهنا وقع الخلاف في الرأي بين أبناء الفريق الاشتراكي.
فنفر رأى أن الظروف تدعو إلى المسالمة في هذه اللحظة مع الفريق الآخر حتى يتم النصر للدولة المحالفة لحزبهم، وهناك يكونون أصحاب الأمر المطاق فيتحكمون في الآخرين كما يشاؤون، ونفر آخر يرى الخيانة كل الخيانة في هذه المسالمة، لأنهم يرون أن الأمر أمر مبادئ. لا تحقيق منافع عملية أو بلوغ قصد مادي محدود. والنفر الأول عقد لواؤه Ioederer. لهذا رأى النفر الآخر أنه لا بد من القضاء عليه حتى لا تقع تلك الخيانة، فعقدوا العزم على اغتياله، ووجدوا أن هذا الأمر يمكن أن يوكل إلى أحدهم وهو هوجر Hugo، وإن توجسوا منه خيفة لأنه شاب نظري من رجال الفكر لا العمل، لا هم له إلا اتخاذ مواقف خاصة، ولأنه بورجوازي لا يعمل إلا إذا لذ له العمل، ويهجر العمل من أجل نعم أولا.
1949*
* أكاديمي ومترجم مصري (1917 - 2002).
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوطن
منذ 2 أيام
- الوطن
حول مفهوم الصدفة والسبب والضرورة
في لحظةٍ عبثية من هذا الوجود، تعثّرت ذرة غبار بأخرى، فسقطت مجرةٌ من مكانها، وانعطف كوكب، وولد شاعرٌ في حانة. هذه هي الصدفة. أو هكذا على الأقل نقول كي لا نصاب بالجنون. لكن ما هي الصدفة حقًا؟ أهي غلطة في شيفرة الكون؟ أم اختراع إنساني للتملّص من تفسير ما لا يُفسَّر؟ يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: «العبث هو صراع الإنسان مع صمته ولا مبالاة الكون»، والصدفة هي لحظة هذا الصراع حين يرتطم الرأس بالجدار وتضحك الجدران. نقول «بالصدفة» حين نعجز عن رسم الخريطة التي قادتنا إلى هذه اللحظة. التقيت بها «بالصدفة»، وفزت في اليانصيب «بالصدفة»، وسقطت الدول، وقُتل الناس، وسقطت الكراسي الوزارية – كلها «بالصدفة». لكن كما يقول سارتر، لا توجد صدفة، بل يوجد جهلنا بالأسباب. في الواقع، نحن نحبّ الصدفة لأنها تُبرّئنا من التورط. تُريحنا من سؤال «لماذا؟»، وتمنحنا عذرًا مجانيًا. الصدفة هي الأم الرحيمة للفوضى، والأب الحنون للفن. لو كانت الصدفة أنثى خفيفة الظل، فالسبب هو عجوز ثقيل الظل، يرتدي نظارات سميكة ويمسك دفتر ملاحظات. «لماذا فعلت ذلك؟»، يسأل. «ما السبب؟»، يكرر. وكأننا دومًا ملزمون بتفسير كل صرخة، وكل قبلة، وكل انتحار. السبب هو ما يجعل الشرطي يدوّن محضرًا، ويجعل الطبيب يكتب وصفةً، ويجعل الفلاسفة يتعاركون حول المفاهيم. لكنه ليس دائمًا شريفًا. أحيانًا، هو مجرد صدفة حصلت على تعليم عالٍ. قال أرسطو: «السبب هو المبدأ الأول لأي شيء» جميل. لكن ماذا عن الأشياء التي تحدث لأننا لم نكن نعرف ماذا نفعل؟ ماذا عن القرارات التي اتخذناها لأن البيت كان باردًا؟ أو لأن الرسالة لم تصل؟ أو لأن الحذاء كان ضيقًا؟ هل هذا سبب؟ أم نكتة كونية؟ في عالم يتسابق فيه العقل لتفسير كل شيء، يغدو السبب حبل مشنقةٍ نربط به أعناق اللحظات البريئة. نحتاجه، نعم. لكنه – ويا للعجب – لا يحتاجنا. الضرورة ليست الصدفة، وليست السبب. إنها القاضي الذي ينزل الحكم ثم يبتسم لك ويقول: «كان لا بدّ أن يحدث هذا». الضرورة هي صوت القدر حين يتحدث بلغة رياضية باردة، تخلو من النكتة والندم. قال هيجل: «الحرية هي وعي الضرورة». عظيم. لكن ماذا لو لم نرغب في الوعي؟ ماذا لو أردنا فقط أن نحيا دون خريطة، دون أصفاد الأسباب، ودون دفتر حضور الضرورة؟ الضرورة تعني أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون. إنها فلسفة العزاء المسموم. وهي أيضًا أم التاريخ. كم من مجازر ارتُكبت باسم الضرورة؟ كم من استعباد، من اضطهاد، من كذب أُلبس ثوبًا «لا مفرّ منه»؟ لكن دعونا لا نظلمها. أحيانًا تكون الضرورة رفيقة الإنسان حين يُفكر في حريته. كما كتب كانط، فإن الحرية لا تعني أن نتصرف دون سبب، بل أن يكون سبب فعلنا نابعًا منّا، من إرادتنا الأخلاقية، لا من ضغوط الخارج. هل نحن أحرار؟ أم أن السؤال نفسه خطأ مطبعي؟ أنا حرّ حين أرفع يدي فجأة، بلا سبب. أو هكذا أظن. ثم أدرك أني فعلت ذلك فقط كي أقنع نفسي أني لست آلة. لكن هل هذا سبب؟ ألم تكن «رغبتي في الحرية» سببًا كافيًا لإلغاء حريتي؟ «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، قالها ديكارت، لكنه نسي أن يضيف: «وأنا أختلق الأعذار، إذن أنا بشر». نحن نعيش في وهم الاختيار، نقف عند مفترق طرق، نظن أننا نختار، بينما تسير أقدامنا حيث كُتب في الرواية أن نذهب. وفي لحظة ضعف، نردد مع سيوران: «لو كان لي الخيار، لما اخترت أن أولد». في مجتمع عادل، تُمارَس الحرية دون أن تدهس حرية الآخرين. هذا هو الحلم الجميل. لكن في الواقع، نعيش بين مطرقة الضرورة وسندان قوانين السوق. الحرية تُباع اليوم بالمتر، وتُقاس بعدد «اللايكات». كل شيء مسيّر، بما في ذلك تمردنا. والمجتمع الذي لا يربّي الإنسان على احترام الطبيعة – داخله وخارجه – مجتمع فاشل، مهما أطلق على نفسه من ألقاب. لقد نسينا الطبيعة، التي كانت يومًا إلهة، فحوّلناها إلى مكب نفايات. وكما كتب إدواردو غاليانو: «نحن نعيش في عالم يأكل فيه البشر كل شيء... إلا الجوع». في النهاية، الصدفة هي اسم مستعار للجهل، والسبب هو اسم مستعار للندم، والضرورة هي اسم مستعار للعجز. كل شيء يحدث لأسباب لا نفهمها، وننسبه إلى الصدفة. كل شيء نندم عليه نبحث له عن سبب. وكل شيء نفشل في تغييره نسميه ضرورة. اضحك، أيها القارئ الكريم، وأنت تبكي. فالحياة لا تفسَّر، بل تُعاش، وغالبًا... تُندب.


الشرق الأوسط
١٠-٠٣-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
كم فيك من همنغواي؟ ...وكم فيك من بورخس؟
عندما شرعتُ، منتصف ستينات القرن العشرين، في قراءاتي الأدبية والثقافية العامّة، كان الجوّ الثقافي العام مشحوناً بذائقة سارترية طاغية عزّزتها منشوراتُ الفلسفة الوجودية وبعض مفاعيل الحرب الباردة التي وظّفت الماركسية والرأسمالية في مطحنتها المفاهيمية التي اتخذت منحى أقرب إلى المعارك الحزبية السقيمة التي أعلت شأن التوظيف الآيديولوجي، حتى لكأنّه صار أقرب لعُصاب جماعي. كانت الترجمات الروائية الشائعة تحاكي أصداء الحرب الباردة في جانبيها الآيديولوجي (الصلب) والثقافي (الناعم)، وهي في مجملها جاءت توظيفاً لمفهوم أنّ الأدب سلاحٌ فكري ولا ينبغي له أن يتعالى على المعيش اليومي. لم تكن ممكنات الاطلاع على المنشورات الحديثة حينذاك سهلة ميسّرة كما هو الحال اليوم، ولم يكن لأبناء جيلي سوى الاطلاع على ما تضخّه دورُ النشر من مطبوعات لم نكن نعرف حينذاك الدهاليز الخلفية التي عملت كرافعة لجعلها تتقدّمُ العناوين المنشورة الطاغية، وربّما كانت رواية «الشيخ والبحر» لهمنغواي خروجاً على القانون الآيديولوجي السائد. فولكنر وحدها الروايات الروسية المكتوبة في الحقبة القيصرية (دوستويفسكي وتولستوي) ظلّت محافظة على رونقها وجمالها وقدرتها التأثيرية ومقاومتها الخضوع لاشتراطات الحرب الباردة. حتى رواياتُ بواكير الحداثة الروائية (فيرجينيا وولف، جيمس جويس، ويليام فوكنر...) لم تكن ترجماتها العربية شائعة حينذاك. كان الجو الثقافي العام مُحاطاً بسحابة آيديولوجية ثقيلة تربّع سارتر على قمّتها بمنشوراته الفلسفية العسيرة ومنشوراته الأدبية الأقل عسرة والأكثر شيوعاً من نظيراتها الفلسفية. إنّ المرء ليعجب كيف أنّ عقلاً يحسب نفسه ذا فرادة فلسفية مميزة ينخرطُ في دعوات حزبية ضيّقة، مثلما فعل سارتر؛ لكنّما طغيانُ مشهد تعضيده للثورة الشبابية أواخر الستينات كان فيصلاً في رفع سارتر إلى أعالي الهرم الثقافي السائد. الصورة المشهدية تتقدّم على الأفكار المكتوبة في غالب الأحيان، خصوصاً في عصر لم تكن المعرفة اللحظية المقارنِة متاحة. أظنُّ أنّ أعمال (سيمون دي بوفوار) الأدبية كانت أفضل من أعمال سارتر. هكذا رأيتُ الأمر حينها، ولم أزل أراه هكذا حتى اليوم. لم تكن بوفوار مسكونة بحمّى الآيديولوجيا مثلما فعل سارتر، وكانت أكثر حساسية منه لمكابدات الإنسان الوجودية ومعضلاته ذات الطبيعة الفردانية. الإنسان في النهاية ليس رقماً في حشد بشري، مثلما هو الحال في بعض السجون حيث يُختزَلُ السجين برقم مجرّد. سيمون دي بوفوار وسارتر سمعتُ ببورخس أوّل مرّة، نهاية ستينات القرن العشرين وأوائل سبعيناته. أعترفُ بأنّني لم أجد استئناساً في كتاباته. يبدو أنّ طغيان لون ثقافي سائد يستبدُّ بالمرء ويجعل بوصلة ذائقته الأدبية تتّجه نحو مقاربات مشخّصة - أو قريباً منها في الأقلّ - وتحجّمُ رغبة التجريب لديه. هذا أمر طبيعي نختبره جميعاً في غير طور من أطوار حياتنا. أظنُّ أنّ واحدة من أهمّ خبراتنا التي نتعلّمها بمران قاسٍ «ألا نكتفي بقراءة الكتاب من عنوانه» أوّلاً، وألا نجعل خبرات آخرين ضوءاً دليلياً لنا نهتدي به من غير مساءلة جادّة. لا بديل عن الخبرة الشخصية المسندة بقراءات فردية متعدّدة. حصل، مع السنوات وتعاظُم مناسيب الخبرة وتعدّدية روافد التجربة الشخصية، أن تغيّرت رؤيتي لبورخس. أعترفُ بأنّني لستُ كائناً بورخسياً؛ لكنّني أحبُّ المقاربة البورخسية في كتابة لون سردي، هو مزيج من مقالة وأطروحة فكرية وتوظيفات تاريخية وفنتازية مدهشة باتت خصيصة للكتابة البورخسية. معالم الكتابة البورخسية مشخّصة ومعروفة: الاختزال حدّ التقشّف، واللعب مع الأفكار الخالصة، وحصر الفعالية السردية في نطاق مكاني محدّد، ونزعُ الخواص البيولوجية عن الشخوص وتحويلهم إلى كيانات رمزية عابرة لمحدّدات الزمان والمكان والبيئة والجغرافيات العرقية حتى لو أوهَمَنا بورخس بأنّه يتناولُ كيانات مشخّصة بالاسم والصفات، ثمّ أهمّها جعلُ السرد لعبة ذهنية خالصة، وكأنّه يريدُ القول إن الكلمات والأفكار تتعالى على أفاعيل الحياة الساعية لمقاصد نفعية آنية. لم يخالف بورخس مقاصد كتابته عندما تصوّر الفردوس مكتبة كبيرة يستأنسُ المرء فيها بالأفكار. التسويغ المباشر لهذا المنحى من الكتابة لدى بورخس أنّه يمثلُ حالة متفرّدة بين الكُتّاب ترقى لأن تكون دراسة حالة (Case Study)؛ فقدان البصر الكامل لديه منذ منتصف خمسينات القرن العشرين جعلت منه كائناً يرى العالم كلّه وهو محشورٌ داخل جمجمته! ومن البديهي أنّ من لا يرى العالم مشخّصاً بعينيه لن يجعل من محسوسات هذا العالم ركناً مكيناً من أركان فعاليته السردية. سيعتاشُ على الأفكار وما تخلقه من تداعيات فحسب. لستُ أرى هذا التسويغ رغم معقوليته مناسباً أو صالحاً للمثال البورخسي، ولستُ هنا في معرض مناقشة هذه الأسباب التي تراكمت محفّزاتها لدي بعد تفكّر ومساءلة ومقارنة وجهد تنقيبي هو بعضُ محاولتي لدراسة تاريخ الفن الروائي وفلسفته وآليات عمله. أكتفي بالقول إن المقاربة البورخسية خصيصة أصيلة لدى بورخس بمثل أصالتها لدى كثرة من الكّتّاب والقرّاء. همنغواي بورخس يمثلُ الضديد الآيديولوجي لسارتر، فقد أعلى شأن الفردانية في الممارسة الأدبية ولم يجعلها مرتهنة بالحسّ الجمعي أو الإلزامات السياسية أو التحزبات الآيديولوجية أو إعلاء شأن العام على الخاص. يمكنُ للمرء أن يكون له صوتٌ منافحٌ عن الإنسانية والمظلومية البشرية؛ ولكنْ من غير أن يجعل هذا الصوت صادحاً في ملعب الرواية أو الأدب بعامة. يمكنُ أن يكتب المرء عن معضلة شخصية قد لا يعانيها سواه، ويمكن لهذا النمط من الكتابة أن يكون رفيعاً ذا قيمة وجودية وسموّ فلسفي أكثر بكثير مما تفعل روايات المآسي الجمعية. لن يرتاح المرء لأن يكون رقماً غير محسوس في متاهة الوجود البشري، مثلما لن يرتاح لأن تضيع تجربة وجوده البشري المتفرّدة عن سواها وتنتهي هباءة في العدم. ثمّة ضديدٌ روائي آخر لكلّ من بورخس وسارتر: إرنست همنغواي. يبدو لي همنغواي كائناً غاطساً في العالم ولا يطيق المكوث لساعة واحدة بمفرده، وهو يجد راحته العميقة عندما يزداد غطساً في مياه التجربة الحسّية من غير إثقال عقله بأي أفكار أو تداعيات فلسفية أو مترتّبات اجتماعية لما يرى. العالم لديه ميدان صراع يسوده العنف الطاغي، ويستوي في هذا ميدانُ حرب ضروس أو حلبة صراع ثيران قاتلة أو مغالبة البحر الهائج وانتزاع سمكة من مخالبه. لطالما فكّرتُ فيما يصلح أن يكون تاريخاً تطوّرياً للذائقة الروائية الفردية. ربما سيكون من المفيد تصويرُ هذا التاريخ بخط مستقيم يتموضع سارتر في أحد أطرافه، وبورخس في نهاية طرفه الآخر، وسنختارُ لهمنغواي أن يمكث في المنتصف تماماً. أكرّرُ أنّ هذا التمثيل التصويري مسألة شخصية تماماً، وكذلك الشخوص الروائية الثلاثة هم تمثلات للجرعة الآيديولوجية (سارتر) والحسّية (همنغواي) والذهنية (بورخس) في الكتابة الروائية، ويمكن الاستعاضة بالطبع عن كلّ منهم بمن يراه القارئ مناسباً للتمثيل من وجهة نظره. لن يرتاح المرء لأن يكون رقماً غير محسوس في متاهة الوجود البشري أظنّ أنّ النمط التطوّري منذ ستينات القرن العشرين كان يميلُ لإعلاء شأن الجرعة السارترية في بدايات النشأة، ثمّ تقلّ مفاعيل هذه الجرعة نحو تعزيز الجرعة الحسية، ثمّ منذ نهاية العقد الأربعيني أو الخمسيني من حياة المرء تشرع الجرعة البورخسية بالتعاظم. أظنُّ أنّ هذا التمثيل البياني يصلح في عصرنا هذا، مع ملاحظة أنّ تعزيز الثورات العلمية والتقنيات الرقمية سيعمل - كما تخبرنا خبرة مديدة سابقة - على كبح جماح النزعة الآيديولوجية. لا أظنّ أن سارتر يستهوي القرّاء الشباب ولا حتى الشيوخ. شخصياً لو شئتُ منح نسب مئوية تفضيلية لاخترتُ للمقاربة البورخسية نسبة 70 في المائة مقابل 30 في المائة للمقاربة الحسية في الكتابة الروائية، مع ضرورة التصريح بأنّ حسّية الرواية لا تعني تلك الحسية الصراعية الصارخة لدى همنغواي، بل هي تلك الصراعات الخفية الهادئة التي هي بعض طبيعة المعيش اليومي لكلّ كائن بشري يحيا حياة حقيقية وليس ماكثاً في كهف أفلاطوني، وبالمثل فإنّ المقاربة البورخسية لا تعني كتابة رواية أفكار خالصة. الكتابة البورخسية لن يستطيعها ويتمكّن من أفانينها سوى بورخس. الأفكار تحيا وتصبح مادة تداولية بين بشر يتحاورون ويتبادلون خبراتهم، وليس من الضروري أن يصبحوا كائنات مستنسخة عن الجينات البورخسية. كم فيك من همنغواي؟ وكم فيك من بورخس؟ أظنّ أنّ هذه أسئلة جوهرية من المفيد أن يجيب عنها كلّ كاتب أو قارئ للرواية، وربما من المفيد أكثر أن يبحث عن مقاربات أخرى إضافية لتاريخ تطوّر ذائقته الروائية.


الوطن
٢٣-٠١-٢٠٢٥
- الوطن
التضحية بالجانب الفكري
المسرحية التي تمثل هذه الأيام في ملعب أنطوان بباريس، هي خير ما أنتج سارتر. إحكام صنعة فنية، وبراعة حوار، وإبداع تسلسل. بيد أن هذا كله كان على حساب التضحية بالجانب الفكري الذي ظل يمز حتى الآن ما أبدعه من قصص وتمثيليات على السواء، فضلاً عما في موضوعها من ميل صاحبها في العرض الأخير إلى أدلجة أمور تتصل بالمشاكل المصيرية الحية، والسياسية منها على وجه التخصيص، وهو ما يشاهد كذلك في المسرحيتين اللتين سبقتا هذه مباشرة، وهما «موتى بلا قبور» و«الماهر المهيبة»، ففي الأولى عرض لموضع المقاومة وما تستلزمه من قيم تتصل بالالتزام نحو الجماعة والرابطة العامة التي يتدرج الفرد فيها، وفي الثانية تصوير أخاذ لتلك المشكلة الأليمة التي يندى لها جبين الإنسانية، مشكلة معاملة الزنوج والشعوب الملونة عامة. ولهذا فليس لنا أن ننتظر من مسرحيتنا هذه تلك العبارات المنحوتة المليئة بالمفارقات في أغلب الأحيان مما تراه واضحاً في بقية قصص سارتر وتمثيلياته. وإذا كان لنا أن ننشد فيها أفكاراً، نتلمسها حية في أشخاص تجسدوها وكانت فعالهم- أكثر من أقوالهم- خير تعبير عنها. وما من مراء في أن هذا النحو هو الأوفق انطباقاً على فن المسرح، بوصفه فناً خالصاً. وخلاصة هذه المسرحية أنه حدث في بلد يغلب، على الظن أنه من بلاد البلقان، إن كان فيه صراع بين فريقين من أبنائه: فريق- يتزعمه الوصي على العرش- يدعو إلى التفاهم مع الدولة المحتلة (ألمانيا)، والآخر اشتراكي النزعة يقاوم منتظراً الخلاص لنفسه ولبلاده على يد الدولة المعادية لتلك الدولة المحتلة. وهنا وقع الخلاف في الرأي بين أبناء الفريق الاشتراكي. فنفر رأى أن الظروف تدعو إلى المسالمة في هذه اللحظة مع الفريق الآخر حتى يتم النصر للدولة المحالفة لحزبهم، وهناك يكونون أصحاب الأمر المطاق فيتحكمون في الآخرين كما يشاؤون، ونفر آخر يرى الخيانة كل الخيانة في هذه المسالمة، لأنهم يرون أن الأمر أمر مبادئ. لا تحقيق منافع عملية أو بلوغ قصد مادي محدود. والنفر الأول عقد لواؤه Ioederer. لهذا رأى النفر الآخر أنه لا بد من القضاء عليه حتى لا تقع تلك الخيانة، فعقدوا العزم على اغتياله، ووجدوا أن هذا الأمر يمكن أن يوكل إلى أحدهم وهو هوجر Hugo، وإن توجسوا منه خيفة لأنه شاب نظري من رجال الفكر لا العمل، لا هم له إلا اتخاذ مواقف خاصة، ولأنه بورجوازي لا يعمل إلا إذا لذ له العمل، ويهجر العمل من أجل نعم أولا. 1949* * أكاديمي ومترجم مصري (1917 - 2002).