logo
إسلام المغاربة الذي لا يموت: من العفويّة العميقة إلى مشروع الاستئناف الروحي..

إسلام المغاربة الذي لا يموت: من العفويّة العميقة إلى مشروع الاستئناف الروحي..

إيطاليا تلغراف٠٤-٠٥-٢٠٢٥

إيطاليا تلغراف
* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
لم يكن إسلام المغاربة يومًا إسلامًا عابرًا أو مستوردًا، بل كان دومًا تجربة تاريخيّة عميقة، انصهرت فيها الجغرافيا بالروح والثقافة بالاعتقاد والتّديُّن بالفطرة الجماعيّة.
* إسلام المغاربة بين الامتداد التاريخي وتحديّات الاستئناف:
إسلام اعتمد خشوع الأولياء الصالحين، وتربّى في حضن الزوايا واستقرّ في الأهازيج الشعبيّة، ظل عصيًا على كل محاولات الاختطاف، سواء من طرف الغلوّ الشيعي أو من طرف الاستلاب الحداثي الأجوف.
لكن، ورغم صموده الطويل، يُواجه اليوم هذا النموذج العتيق تحديات جد معقدة تتجاوز ما عرفه في قرونه الماضيّة، وذلك لعدة أسباب نذكر منها:
– موجات التّديُّن المغشوش، التي تتدفق عبر الشبكات والمنصات؛
– أنماط التّديُّن السوقي، الذي يُفرغ العلاقة مع الله من عمقها الروحي، ليُحوّلها إلى منتج يُستهلك؛
– الفراغ الوُجُدي، الذي يعيشه بعض الشباب الذين يعيشون على هامش كل ما هو عميق، دينيًا وثقافيًا.
من هنا، تنطلق هذه الورقة البحثيّة في محاولة لفهم طبيعة وخصوصيّة الإسلام المغربي، لا بوصفه ظاهرة فولكلوريّة نتغنّى بتفرُّدها، بل كمشروع حضاري وروحي يحتاج اليوم إلى عملية استئناف واعيّة، تُعيد له بريقه في زمن التصحر والجفاف الروحي والتشظي الثقافي.
هل يستطيع الإسلام المغربي، بما راكمه من رصيد متين وعفوي، أن يُعيد بناء نفسه في زمن العولمة الروحيّة الشبكيّة؟ وهل نحن بحاجة إلى مشروع نهضة روحيّة مغربية جديدة، ينقلنا من الافتخار والتغني بأمجاد الماضي، إلى الاستئناف الواعي للمستقبل؟
– المحور الأول: الإسلام المغربي كمنظومة عميقة وبسيطة ترفض الغلو وتقاوم الاستعارة واستيراد النماذج:
لقد تميّز التّديُّن المغربي عبر تاريخه بقدرته على الجمع بين البساطة الشعبيّة والعمق الروحي. فهو تدين يُمارَس في المنازل والأسواق وفي الحقول وفي المواسم، كما يُمارَس في الزوايا والمساجد، دون أن يفقد عفويته أو يتحوّل إلى طقس نخبوي مغلق. هذا النموذج الفريد من نوعه:
1. قاوم الغلوّ، حين ظهرت الحركات المتشددة في الشرق؛
2. ورفض الاستعارة والاستيراد، حين حاولت بعض التيارات فرض نموذج تديُّن دخيل على تربة المغرب.
– السؤال الإشكالي الأول: هل هذه العفوية العميقة كافية اليوم لحماية التّديُّن المغربي من التآكل، أم أن الزمن الجديد يتطلب منهجًا جديدًا في التحصين والتجديد؟
– المحور الثاني: رفض الوصاية والتلقين: المغاربة و«إسلامهم الذي لا يموت»:
أولًا: الإسلام كملكية جماعية لا كوصاية فوقية: منذ انخراطهم في المشروع الإسلامي، مارس المغاربة دينهم كملكية جماعيّة، لا كمنتج يُفرض عليهم. فلا الدولة ولا الفقهاء والمشايخ ولا حتى الزوايا، استطاعوا أن يحتكروا حق الإيمان أو يُصادروا حريّة الناس في كيف يؤمنون. عنوانها في المثل المغربي، حيث كان شعار الناس العفوي: 'كل شا تتعلّق من كراعها'، لا إكراه، لا محاكم تفتيش، لا فحص لعورات النساء بدعوى الصيام، ولا سباب يُقال فيمن أفطر أو أكل أو شرب.
هنا، كانت الناس تصلي وتلعب وتغني وتعاون وتساعد الضعفاء، دون أن تدّعي أنها وحدها الناجية وغيرُها في جهنم. - السؤال الإشكالي الثاني: هل كان هذا الرفض للوصاية دومًا علامة صحة روحيّة، أم أنه تحول أحيانًا إلى مقاومة لأي إصلاح ديني عميق؟ - ثانيًا: مقاومة 'التّديُّن المغشوش': خبر المغاربة محاولات متعددّة لـ'تصحيح' تديّنهم، لكنهم، في كل مرة، قاوموا ما رأوه مساسًا بجوهر علاقتهم الفطريّة بالله:
1. فقد قاوموا الوهابيّة في القرن التاسع عشر؛
2. ورفضوا التشدد الجهادي في الأزمنة الحديثة.
– السؤال الإشكالي الثالث: هل التّديُّن المغربي يُنتج مناعة تلقائيّة ضد التطرف، أم أن هذه المناعة بدأت تتآكل مع الأجيال الجديدة؟
– ثالثًا: الإسلام المغربي في زمن العولمة: صراع بين التوطين والاستيراد
اليوم، يُواجه الإسلام المغربي تحديًا جديدًا:
1. تديّن شبكي سريع؛
2. تدين شكلي يهتم بالمظهر لا الجوهر؛
3. تدين استهلاكي يُختزل في فتاوى سريعة. - السؤال الإشكالي الرابع: هل نحتاج إلى مشروع وطني ديني يُعيد الاعتبار للإسلام المغربي كقوة ناعمة، أم أن قوته تكمن في كونه بلا مشروع، متجددًا في عفويته؟
* خلاصة تركيبيّة: الإسلام المغربي بين الجذور والتجدد:
استطاع المغاربة أن يبنوا إسلامهم الخالد الذي لا يموت، لأنه ليس إسلامًا يُلقَّن لهم، بل إسلامًا ينبع من عمق ذواتهم. لكن التحدي اليوم بات أكثر تعقيدًا؛ فبين موجات التديّن المغشوش، وإغراءات العولمة الروحية، يبرز السؤال الأعمق: كيف نُعيد 'توطين الإيمان' في التربة المغربية، ليبقى مقاومًا للاستيراد، وفي ذات الوقت قادرًا على التجدد الذاتي؟ إن مستقبل الإسلام المغربي يتوقف على قدرته على:
– إعادة تأصيل الإيمان في وجدان الأجيال؛
– بناء مشروع تجديدي يُحصّنه من التآكل؛
– إطلاق ثورة روحيّة تُعيد بعث 'إسلام البركة' كقوة ناعمة تمنح الإنسان المغربي المعنى.
* من العفوية إلى الاستئناف: من أجل نهضة روحية مغربية جديدة:
لقد عاش المغاربة قرونًا على إسلامهم الذي لا يموت؛ إسلامٌ عفوي، عميق، متين وبسيط. لكن زمن العولمة جاء ليخلخل هذا النسق، فبات السؤال الحادّ على ضميرنا الجماعي: هل نكتفي بالحنين إلى إسلام الأجداد، أم ننهض بمشروع استئناف روحي يُعيد توطين الإيمان في تربة المغرب العميقة؟ نحن بحاجة إلى ثورة روحية صامتة، تُعيد بعث الإسلام المغربي، لا كـ'فلكلور'، بل كقوة تُجدد روح الشعب، وتُمنح الأجيال معنى في زمن التيه. وهذه النهضة تُحيل في معناها إلى:
– الانتقال من العفوية إلى الاستئناف الواعي؛
– تحصين النموذج المغربي من الغزو التّديُّني؛
– إعادة الاعتبار لروح البركة كقيمة، لا كخرافة؛
– دمج العُمق الصوفي مع وعي نقدي يُحرر الإيمان من وهم التديّن السوقي.
فمن العفوية التي قاومت، إلى الاستئناف الذي يُبدع، يكمن طريق النهضة الروحية المغربية القادمة.
إن الإسلام المغربي، هذا الإسلام الذي لا يموت، يستحق اليوم أن يُستأنف، لا بوصفه ذكرى، بل كمشروع حيّ، يُعيد بعث البركة في زمن التصحّر والجفاف الروحي، ويمنح المغربي من جديد القدرة على أن يقول: «هذا إيماني، عفويٌّ في جوهره، عميقٌ في جذوره، متجددٌ في صمته وقادرٌ على الاستئناف من جديد».
إيطاليا تلغراف

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حياتي عنوانها إنتكاسات وخيبات أمل.. أحلام مؤجلة إلى إشعار أخر
حياتي عنوانها إنتكاسات وخيبات أمل.. أحلام مؤجلة إلى إشعار أخر

النهار

timeمنذ 2 أيام

  • النهار

حياتي عنوانها إنتكاسات وخيبات أمل.. أحلام مؤجلة إلى إشعار أخر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدتي أنا فتاة في الـ24 من عمري، أتواصل معك عبر منبر قلوب حائرة لأنني أرى فيك صدر الأم الحنون الذي يحتوي الألم فيبددها. وهذا ما جعلني سيدتي أقصدك اليوم حتى أرمي بين يديك ما يؤرقني. سيدتي، صدقيني أنني أرى نفسي سيئة الحظ في هذه الحياة، فأينما وليت وجهي أجد الأبواب موصدة، الإحباط لفني وكبّل كل شعور إيجابي في قلبي. فاخترت أن أدخل في كسوف عن العالم خوفا من الوقوع في خيبة تجعلني قاب قوسين أو أدنى من أن أؤذي نفسي. أتدركين سيدتي أنني خسرت علاقاتي بإرادتي، فكلما وثق بشخص ورأيت معه بصيص سعادة استنزفني وتركني وحيدة أكابد الأحزان، فقررت أن ألتزم غرفتي وأستسلم متنازلة عن أحلامي وكل طموحي. فحتى علاقاتي الشخصية كلما وثقت في أحدهم ورأيت معه بصيصا من السعادة يصدمني بما لا أتوقع منه، فقلت في قرارة نفسي ان العزلة قد يكون فيها بعض مفاتيح السعادة. بالمختصر المفيد سيدتي شعور الخيبة أصبح يدمرني، فهل مخطأة في وجهة نظري..؟ أختكم ف.لبنى من الشرق الجزائري. الرد: عزيزتي أنت مخطئة إلى حد بعيد بإرسدال ستارة النهاية على احلامك وكل حياتك. وأي إنسان لديه الحق في الحياة لا يمكنك أبدا الإنسحاب من هذه المعركة التي قد تكلفك خسارة أفدح مما تتصورين. عزيزتي، لا بد لي ان أصارحك بهذه الطريقة، فأبدا لم تكن السعادة يوما في العزلة. بل هي في السعي وفي السقوط والنهوض من جديد، واعلمي جيدا فإن التعامل مع الآخرين يعطي الإنسان الحب والحنان والشعور بالبقاء مع الإنسانية التي خلقها الله. ولكن حتى ننعم بهذه المشاعر علينا معرفة مبادئ التعامل مع الآخرين. لا أن نعتزلهم ونحكم على الجميع بأنهم غير صالحين للتعامل . إن محبة الناس لك نعمة من نعم الله عليك، فمن منا لا يحب أن يكون محبوباً بين الناس. ومن منا لا يرغب في أن يحترمه الناس وأن يذكروه بالخير دائماً. لكن هناك من الصفات الجميلة التي عليك أن تتحلي بها حتى يحبك الناس، أنا لا أطلب منك أن تتنازلي عن أخلاقك ومبادئك، لا، بل أطلب منك أن تحاسبي نفسك. ما هي سلبياتك وما هي إيجابياتك؟ حتى تتخلصي من السلبيات، التي ربما هي السبب في العزلة التي اخترتها نمط عيش لك. لهذا أعيدي ترتيب حساباتك من جديد وفكري مليا ثم اعملي بالأسباب لتنالي المطلوب. حاولي مرة أخرى بإيمان بالله أنك ستنجحين، وبهمة وإرادة نابعة من روحك المتقدة والمتفائلة، لا تتنازلي عن حقوقك ولا أحلامك. فأنت مسؤولة عنهم وسوف تسألين يوما ما وقتك وشبابك فيما أفنيتهم.. فكري مليا في الأمر وكل التوفيق أتمناه لك.

هل أنا من عليه أن يتغير.. فالجميع مني ينفر
هل أنا من عليه أن يتغير.. فالجميع مني ينفر

النهار

timeمنذ 2 أيام

  • النهار

هل أنا من عليه أن يتغير.. فالجميع مني ينفر

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، سيدتي يعتبر حضن العائلة مرفأ مكان لأفرادها، خاصة البنت منهم. ففي ضعفها تسند نفسها بهم وتأوي إليهم، فيتبدد الخوف، وتتزود بالقوة التي واجه بها العالم. لكن هذا الشعور وهذا الإحساس أفتقده تماما وسط عائلتي، أشعر بأني غير محبوبة وسطهم. لا قيمة لي والجميع يتحاشى التعامل معي، وما زاد من مخاوفي هو أني مقبلة على الزواج، فهل سألقى نفس المعاملة حينها..؟ سيدتي صدقيني أنا أعاني كثيرا من جفائهم، وحتى أكون صريحة أنا أيضا أحمل بعض الصفات التي تجعل من حولي ينفرون مني. لكنني دوما أرى أن الكبير هو من عليه أن يعطف على الصغير. فهل أنا محقة أم مخطئة؟ وماذا أفعل كي أغير موقفهم اتجاهي؟ ساعديني من فضلك. أختكم م.ملك من منطقة القبائل. الرد: وعليكم السلام ورحمة الله تعاىل وبركاته عزيزتي، أظن أن الرد على مشكلتك جاء في رسالتك. فما عليك سوى تغيير الصفات التي ترينها غير طيبة فيك. وأعلمي من جهة أخرى أن العطف والحنان والمعاملة بالحسنى ليس بالضروري أن تأتي من الكبير فقط. بل هي عملة تطبع طريقتنا في الحياة مع أي كان، ومحبة الآخرين حبيبتي تُعتبر عمليّةً مُتبادلةً وثقافةً تدور حول مبادئ عظيمة وساميّة أبرزها العطاء والمبادرة. والتي تتزامن بدورها مع حب النفس واحترامها، فأنت بحاجة لبناء علاقات صحيّة وطيبة مع نفسك أولا ومع من حولك للوصول إلى الراحة والسعادة والاستقرار مع المحيطين بك. ولأن العلاقات الاجتماعية سواء مع العائلة أو غيرهم تقوم على الاحترام والمودّة، فلا بد من تقبّل مشاعر الآخرين والرد عليها بشكل لطيف. حتى يتحقق الترابط والألفة التي تقرب القلوب لبعضها البعص، وتعزز علاقاتهم، خاصة أنك مقبلة على حياة جديدة، وأناس لا تعرفين عنهم سوى أمور سطحية، لهذا وجب عليك حبيبتي أمر بسيط للغاية، وهو أن تكون أنت المبادرة بالحب والمودة والابتسامة الجميلة والكلمة الطيبة، ومن المؤكد ستكسبين ود الآخرين بإذن الله. واعلمي أنه لا يوجد أهل لا يحبون ابنتهم، بل بعض الصفات فيك التي عليك تغيرها وبحول الله سوف تلاحظين الفرق، أتمنى لك الهناء والكثير من السعادة عن شاء الله.

ولا تلبسوا الحقّ بالباطل!!
ولا تلبسوا الحقّ بالباطل!!

الخبر

timeمنذ 2 أيام

  • الخبر

ولا تلبسوا الحقّ بالباطل!!

إن معرفة الحق من أعظم الفضائل والنعم التي يسعى لها الإنسان، ومثلها في العظمة التمسك بالحق والاستماتة في نصرته والدفاع عنه، والذي لا يعرف الحق يعيش في ضلال وتذهب حياته في باطل، كما أن من عرف الحق وكتمه وخالفه وخذله وخذل أهله هو حتما من الأخسرين أعمالا {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. وفي الدعاء المأثور 'اللهم أرنا الحق حقا وألهمنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وألهمنا اجتنابه'، وهو دعاء حكيم، إذ لم يكتف بالتضرع إلى الله أن يريه الحق، بل أن يريه الحق حقا والباطل باطلا؛ لأن أشد الفتن تكون عند التباس الحق بالباطل، فيرى بعض الناس أو يصورون الحق باطلا أو الباطل حقا، وقد يتداخل الباطل مع قليل من الحق فيرونه حقا أو يشوب الحق شيء من الباطل فيحسبونه باطلا، وهذا أعظم مداخل شياطين الإنس والجن لإضلال الناس. ثم زاد الداعي الحكيم بأن سأل الله أن يلهمه اتباع الحق بعد معرفته واجتناب الباطل بعد العلم به، ذلك أنه لا فائدة من معرفة الحق والباطل والعلم بهما إذا لم تؤد تلك المعرفة إلى سلوك سبيل الحق وتنكّب طريق الباطل، بل إن من يعرف الحق ولا يتبعه ويعرف الباطل ولا يجتنبه قد جنى على نفسه، وكانت تلك المعرفة حجة عليه! وهو أسوأ حالا ممن لا يعرف الحق أصلا. وللأسف أننا في زمن غلب عليه الباطل، وضعف فيه أهل الحق، وشاع فيه التدليس والتلبيس، ووجد فيه من يستغل الحق لنصرة الباطل، ومن يستغل الدين لتسويغ المعاصي، ومن يحمل لافتة السلام وهو مِسْعَر حرب، ومن يرفع شعار الشرف ليمرر مشاريع الخيانة!! والأسوأ أن يكثر فيه من أكرمه الله بشيء من العلم بشرع الله تعالى ودينه، فصار يُذكر به ويُذكر في أهله، فيسخر علمه للتدليس على الناس، وتلبيس الحق بالباطل خدمة لنفسه أو خدمة لأسياده!! مع أنه بلا ريب يحفظ قول الله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}. إن قضية تلبيس الحق بالباطل والتدليس على الخلق قضية جوهرية مصيرية في حياة الإنسان؛ ولهذا نبّه عليها القرآن العظيم باللفظ الصريح. ومن المهم أن نعلم أن القرآن الكريم حين يتكلم على ظاهرة إنسانية ما فهو يتكلم على نماذج تتكرر في واقع الناس وحياتهم على مر الدهور وفي مختلف العصور، وهو حين يستفيض في وصف انحراف بني إسرائيل عن الصراط المستقيم، والتواءاتهم وحيلهم وخبثهم في التعامل مع دين الله تعالى ورسله، فهو يحدثنا عن ظواهر لا تخلو منها أمة من الأمم ولا أصحاب دين من الأديان، لا جرم أن وُجد في المسلمين وفي علمائهم من يعمل عمل اليهود ويسير على طريقتهم المنحرفة الضالة، وفي الحديث الشهير: «لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضب تبعتموهم». قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟!» رواه البخاري. وقد تبع -للأسف الشديد- بعض علماء المسلمين وبعض أدعياء العلم منهم سنن من قبلنا ودلّسوا ولبّسوا الحق بالباطل وكتموا الحق وهم يعلمون! بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم، وإشاعة الشك والاضطراب فيه خدمة (لأجندات) داخلية أو خارجية!، قال الإمام الأستاذ الطاهر بن عاشور رحمه الله: 'فلبس الحق بالباطل ترويجا لباطل في صورة الحق.. وأكثر أنواع الضلال الذي أُدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل'. ثم لا شك أن انحرافات اليهود التي عرض لها القرآن العظيم كثيرة، لكن يبقى موقفهم من الحق من أعجب العجب!، حيث أنهم بعد أن أكرمهم الله تبارك وتعالى بتعريفهم الحق تمام المعرفة وقامت عليهم الحجة التامة في ذلك، صاروا أعدى أعداء الحق تحريفا وكتما وتلبيسا وتدليسا وتشويشا، قال لهم ولنا الله العليم الخبير: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}، وقد جمع الأمر الرباني النهي عن الطريقين الذين لا يضل شخص إلا عن طريقهما: تشويش الدلائل والبراهين عليه (تلبيس الحق بالباطل)، أو منعه من الوصول إلى الدلائل والبراهين (كتم الحق)، ذلك أن الإنسان لا يخلو من حالين: إما أن يكون قد سمع الحق أو لا يكون قد سمعه، 'فإن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه، وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها'. وفي آية أخرى قال الحق سبحانه: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}. ومعلوم أنه لا يكتم الحق إلا من كان عالما به عارفا له، وإلا كيف يكتم ما لا يعرف ولا علم له به؟! وكذلك لا يلبس الحق بالباطل إلا من كان عالما بهما عارفا بحقيقتها، وإلا كيف يتسنى له الخلط بينهما ولبس هذا بذاك إن لم يكن عالما بهما؟!؛ ولهذا ختمت الآيتان بقوله عز شأنه: {وأنتم تعلمون}، فلا غَرْوَ أن كانت هذه المعصية الكبيرة الموبقة خاصة بالعلماء أكثر من غيرهم من عامة الناس!، وبعضهم ممن باع دينه بدنيا غيره هو من تولى كِبرها وأورى نارها وبثّ شرورها!. قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: '{ولا تلبسوا} أي: تخلطوا {الحق بالباطل وتكتموا الحق} فنهاهم عن شيئين، عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم، تمييز الحق، وإظهار الحق؛ ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصّل آياته وأوضح بيناته؛ ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبّس الحق بالباطل، فلم يميز هذا من هذا، مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه، وأمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم؛ لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين'. إن وجود هذا الصنف من العلماء الذين يلبّسون الحق بالباطل ويكتمون الحق عن علم وعمد، يوجب على كل واحد منا الحذر والحيطة فلا يصدّق بكل ما يسمع ويرى، ولا يسلّم عقله لأي كان يُحشّيه بما شاء، ولو كان عالما يشار له بالبنان!، ولو كان يخطب من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم!. ولله در الإمام علي رضي الله تعالى عنه القائل: 'لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف فأهله'. وإنه من لطائف أسرار القدر أن يكون النهي عن لبس الحق بالباطل جاء في القرآن الحكيم في سياق الحديث عن بني إسرائيل، وأن يقوم في هذه الحقبة مجموعة ممن يُنسبون إلى العلم يلبسون الحق بالباطل بإثارة الشبهات حول المجاهدين الأشاوس من القسام والجهاد وباقي فصائل المقاومة الباسلة نصرة لإخوانهم الصهاينة، فيعملون عمل بني إسرائيل ويتبعون سننهم، وتكون بذلك أوضح وأفضح صورة للبس الحق والباطل ذات صلة باليهود والصهاينة قديما وحديثا.. فتأمّل!!.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store