
المدقريّ … الساعي الصامت (17) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
كثيرًا ما يقول لي من حولي: إنك لا تُجيد قول "لا". وربما في ظنهم أني بذلك أُضيّع وقتي وجهدي فيما لا طائل منه. لكنني مذ عرفت نفسي ما وجدت في الدنيا ألذّ من قضاء حوائج الناس، ولا أطيب من ابتسامة ترتسم على وجه محتاج. ولا يكون ذلك عن ضعفٍ، أو عن سذاجةٍ في الطبع، وإنما عن طِباعٍ سكنت فيّ حتى صارت لي خلقًا لا أتنكّب عنه، ولا أستطيع له فكاكًا.
نشأتُ في بيتٍ يرى في الخير دينًا، وفي المعروف سُنّة، وفي بذل الجهد حقًّا لا يُنتظر عليه جزاء. ما شهدتُ من والدتي الشريفة سهام السيد محمد سليمان العناني الحسيني -رحمها الله- إلا مبادرةً إلى البر، ومسارعةً إلى الإحسان، تُعطي من قليل، وتُكرم على ضيق، كأنما جبل قلبها على السخاء، ولو أن في يدها قوت يومها لاقتسمته وفي عينيها الرضا. وكانت تقول لي مرارًا: "افعل الخير ولا تنتظر عاقبته؛ فالله لا يُضيع أجر المحسنين". فتشبعت نفسي بذلك المعنى، ورضيت به طبعًا وسلوكًا، حتى غدا السعي في مصالح الناس عندي جزءًا من ذاتي، لا فضلًا يُذكر، ولا تفضُّلًا يُمتنّ به.
ولأمرٍ لا أُحسنه تفسيرًا، فإنّ الله قد يسّر لي قلوبًا تُفتح، ووجوهًا تُقبل، وسبلًا تُسلك، فربطت بين من لا يظن أحد أن بينهم صلة، وألّفت بين شرقٍ وغرب، وقريبٍ وبعيد، وأعنتُ من قصده العجز أو نأى به السبيل. وكم من نَفَرٍ انتفعوا بذلك انتفاعًا جمًّا، ثم مضوا لا يلوون على شكر، ولا يلتفتون إلى صاحب المسعى ولو بنظرة مودّع أو كلمة عابرة أو ذكر حسن.
وما كنت يومًا من أهل الجزع، ولا ممّن يمدّ يده إلى المعروف منتظرًا ثمرته، ولكنّ القلب إذا كُثِر عليه الوطء وَهَى، وإذا أُفرِط عليه الجحود اشتكى، والنفس وإن سمت فإن لها طاقةً إذا استُهلكت خفُت وهجها.
على أن المرءَ إذا سعى في حاجةٍ، وأحسن التدبير لها، وكان نجاحها معتمدًا على غيره، ثم رأى ذلك الغير يبطئ ويتخاذل، ويُفسد بعد إحسان، ويهدم بعد بناء، فلا لوم عليه إن أضناه الغمّ وأثقلته الحسرة. إذ كيف يُلام من مهّد الطريق، ولم يُسِئ في تدبيره، ولم يدّخر جهدًا؟ أفَيُحمَّلُ الساعي تبعات المتكاسل؟!
ومع هذا كله، لم أملك قط أن أردّ طالبًا، ولا استطعت أن أُغلق بابي في وجه محتاج، وظلّت كلمة "لا" غريبة على لساني، لا تعرف إلى معجمي سبيلًا؛ فإنّ في قضاء الحوائج راحة لا تُوصف، وفي العطاء سعادة لا تُقارن، ومن ذاق ما ذقت أدرك ما أدركت.
غير أنني على النقيض من انبساطي في خدمة الناس لا أحب الهاتف، ولا أستسيغ صوته المتكرر، ولا أرتاح لطول المكالمات، فأُحب أن يكون الحديث فيه على قدر الحاجة، عابرًا كظلّ الغيم: لا يُثقل ولا يُقيم، كلمات يسيرة تفي بالغرض وتمضي كما جاءت.
ما ألفتُ في يوم من الأيام ضجيج الهاتف، ولا سلّمت له نفسي، وأبقيته مذ اقتنيته على الصامت، لا يرنّ ولا يهتز، كأنما بيني وبينه عهدُ سكونٍ لا يُكسر، وأحب إلى قلبي أن يكون التواصل عبر رسائل نصية، فالكتابة عندي أجل وأعظم.
كان في أول الأمر عذرًا أختبئ خلفه: المكالمات تُكلّف، وأنا لا أحب أن أثقل على أحد. فلما صارت الدنيا بلا تكلفة -بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي تتيح لنا المكالمات المجانية- وظللت على طبعي، علمتُ أن العذر لم يكن في المال، وإنما في نفسي التي لا تُحبّ المداومة على الحديث، ولا تأنس إلا بالسكينة.
ولعل هذه العادة طبع ورثته عن الوالد -أطال الله بقاءه في عافية تامة- فقد كان إذا حادثني عبر الهاتف يميل إلى الاختصار، يوجز الحديث ويعجِّل بالختام، وكأنّ الكلمات عنده تُوزَن بميزان الدقة لا العاطفة. وكنت في غربتي أُمسك بصوته كالغريق، أطيل الحديث رجاء الوصل، لكنه كان يكتفي بالقليل ويمضي، فكنت أجد في مكالمته دفئًا عابرًا، وفي عجَلته مسحة من البُعد، كأن الغربة لم تكن في المكان وحده، بل تسللت إلى الصوت أيضًا.
وإذا بي -ذات يوم- أقرأ للراحل الوزير الأستاذ غازي القصيبي كلامًا يصف فيه "عادةً من عاداته الرديئة"، فيقول: إنه لا يُحب الهاتف، ولا يردّ إلا على مضض، ويُسعده أن يُصاب هاتفه بعطل! ابتسمت حين قرأتها، وقلت: ها هو ذا يقول ما لم أكن أحسن التعبير عنه، وكأنما نطق بالنيابة عني، أو كأن بين النفوس خيوطًا خفيّة لا تُرى، لكنّها تشدّ بعضها إلى بعض فيما لا يُقال، وفيما يُحسّ وحده.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبار مصر
منذ 18 دقائق
- أخبار مصر
مشاهد مقدسة.. الحجر الأسود يشهد على من يستلمه بحق
مشاهد مقدسة.. الحجر الأسود يشهد على من يستلمه بحق الحجر الأسود هو حجر بيْضاوي الشكل، أسودُ اللونِ مائلٌ إلى الحُمرة، وقطره 30 سم، يوجد في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة من الخارج، ويرتفع عن الأرض مترًا ونصفَ المتر، وهو محاطٌ بإطار من الفضة الخالصة صونًا له، وقد ورد أنه في بداية أمره كان أبيضَ ناصعَ البياض؛ فعن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ». [أخرجه الترمذي]والحجر الأسود هو نقطة بداية الطواف ومنتهاه، ويُسَنُّ استلام الطائف له -أي لمسه باليد-، وتقبيله عند المرور به، فإن لم يستطع استلامَه بيده وتقبيلَه، أو استلامَه بشيء معه وتقبيلَ ذلك الشيء؛ أشار إليه بيده….. لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر 'إقرأ على الموقع الرسمي' أدناه


المصريين بالخارج
منذ 20 دقائق
- المصريين بالخارج
موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025
يتبقى 16 يوما على عيد الأضحى المبارك، حيث يولد هلال شهر ذو الحجة مباشرة بعد حدوث الاقتران في تمام الساعة الخامسة وثلاث دقائق فجراً بتوقيت القاهرة المحلي يوم الثلاثاء 29 من ذي القعدة 1446هـ الموافق 2025/5/27م (يوم الرؤية). ويبقى الهلال الجديد في سماء مكة المكرمة لمدة 38 دقيقة، وفي القاهرة لمدة 47 دقيقة بعد غروب شمس ذلك اليوم يوم الرؤية، وفي باقي محافظات جمهورية مصر العربية يبقى الهلال الجديد في سمائها لمدد تتراوح بين 40-49 دقيقة). أما في العواصم والمدن العربية والإسلامية، فيبقى الهلال الجديد بعد غروب شمس ذلك اليوم لمدد تتراوح بين (9 - 59 دقيقة)، و تكون غرة شهر ذو الحجة 1446هـ فلكياً يوم الأربعاء 2025/5/28م، وتكون وقفة عرفات لعام 1446هـ فلكياً يوم الخميس 2025/6/5، ويكون عيد الأضحى المبارك لعام 1446هـ فلكياً يوم الجمعة 2025/6/6م. ونظام التقويم الهجرى يعتمد على الشهر القمرى الذى يتمثل بالمدة الزمنية التى يستغرقها القمر فى دورة كاملة حول الأرض والأشهر الهجرية هى " 1 المحرم – 2 صفر – 3 ربيع الأول – 4 ربيع الآخر – 5 جمادى الأول – 6جمادى الآخر – 7 رجب – 8 شعبان – 9 رمضان – 10 شوال – 11 ذو القعدة – 12 ذو الحجة". والتقويم الهجرى أو القمرى أو الإسلامى هو تقويم يعتمد على دورة القمر لتحديد الأشهر وتتخذه بعض البلدان العربية مثل السعودية كتقويم رسمى للدولة، و أنشأه الخليفة عمر بن الخطاب وجعل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة فى 12 ربیع الأول (24 سبتمبر عام 622م) مرجعاً لأول سنة فيه، وهذا هو سبب تسميته التقويم الهجرى. Page 2


نافذة على العالم
منذ 35 دقائق
- نافذة على العالم
أخبار مصر : حث عليهما النبي.. نعمتان من لم يغتنمهما يخسر ويندم كثيرًا
الأربعاء 21 مايو 2025 11:00 صباحاً نافذة على العالم - قالت وزارة الأوقاف المصرية، إن الفراغ باب للشهوة فإشغله بالطاعة فالطاعة تغلق أبواب الشهوة. نعمتان مغبون فيهما الكثير من أعظم النعم التي يتقلب فيها المرء، ويغفل كثيرون عنها: نعمة الفراغ ،فقد تمر بالإنسان أوقات يكون فيها في فراغ ، فلا يدرك قيمة هذه النعمة، ولا يحسن استغلالها؛ ولذلك اهتم الإسلام ببيان قيمة الوقت، والتذكير بهذه النعمة، والحث علىٰ حسن استغلالها ،كما أيقظت نصوصُ القرآن والسنة في المرء الإحساس بقيمة الزمن؛ فأقسم المولىٰ جل شأنه في أكثر من موضع بالوقت، وأجزاء من الزمن لينبه علىٰ أهميته. نعمة الصحة والفراغ وذكَّر القرآن مرارًا وتَكرارًا بقيمة الوقت، وتقلُّب الليل والنهار،كما صرَّح النبيُّ ﷺ ببيان هذه النعمة، منبهًا علىٰ غفلة كثيرين عنها؛ فقال ﷺ:«نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» [صحيح البخاري]. وقد ينهمك الإنسان في شئون حياته أوقات الضيق والشغل، فيتمنىٰ وقت الفراغ والسعة؛ لتسكن نفسه، ويرتاحَ بدنه، أو ليأنس بأهله ويؤنسهم، أو ليقضي شئونًا أخرىٰ لم يتمكن منها وقت شغله، أو ليتزود في هذا الوقت من الأعمال الصالحة. وأن من توفيق الله تعالىٰ له أن يستغل هذا الفراغ إذا حصل، وأن يصنع فيه ما كان يرجو، ويبذل جهده في اغتنامه واستغلاله أحسن استغلال؛ مقتديًا في ذلك بالنبي ﷺ وأصحابه والتابعين رضي الله عنهم، والناجحين الذين يستثمرون أوقات فراغهم؛ قال الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك!). فينبغي علىٰ الإنسان أن يستغل أوقات فراغه فيما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه وأخراه؛ قال ﷺ: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» [الحاكم في المستدرك]. 3 أمور من امتلكهم فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها الانسان وهو معافي يتمني كل شئ في الدنيا لكنه عندما يمرض يتمني أمر واحد فقط وهو 'العافية'، فالعافية لا يعدلها شئ من نعم الدنيا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (( من اصبح منكم آمن فى سربه معافا فى بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))، ذكر 3 أمور وهم .. 1- آمن في سربه 2- معافا في بدنه 3- عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها، فاللهم انا نسالك العفو والعافيه في دينا ودنيانا وعاقبه امرنا. اللهم احفظنا واهلينا من كل مكروه وسوء واشف كل مريض.