logo
#

أحدث الأخبار مع #محمدسليمانالعنانيالحسيني

المدقريّ … الساعي الصامت (17) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
المدقريّ … الساعي الصامت (17) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

صوت بلادي

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • منوعات
  • صوت بلادي

المدقريّ … الساعي الصامت (17) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

كثيرًا ما يقول لي من حولي: إنك لا تُجيد قول "لا". وربما في ظنهم أني بذلك أُضيّع وقتي وجهدي فيما لا طائل منه. لكنني مذ عرفت نفسي ما وجدت في الدنيا ألذّ من قضاء حوائج الناس، ولا أطيب من ابتسامة ترتسم على وجه محتاج. ولا يكون ذلك عن ضعفٍ، أو عن سذاجةٍ في الطبع، وإنما عن طِباعٍ سكنت فيّ حتى صارت لي خلقًا لا أتنكّب عنه، ولا أستطيع له فكاكًا. نشأتُ في بيتٍ يرى في الخير دينًا، وفي المعروف سُنّة، وفي بذل الجهد حقًّا لا يُنتظر عليه جزاء. ما شهدتُ من والدتي الشريفة سهام السيد محمد سليمان العناني الحسيني -رحمها الله- إلا مبادرةً إلى البر، ومسارعةً إلى الإحسان، تُعطي من قليل، وتُكرم على ضيق، كأنما جبل قلبها على السخاء، ولو أن في يدها قوت يومها لاقتسمته وفي عينيها الرضا. وكانت تقول لي مرارًا: "افعل الخير ولا تنتظر عاقبته؛ فالله لا يُضيع أجر المحسنين". فتشبعت نفسي بذلك المعنى، ورضيت به طبعًا وسلوكًا، حتى غدا السعي في مصالح الناس عندي جزءًا من ذاتي، لا فضلًا يُذكر، ولا تفضُّلًا يُمتنّ به. ولأمرٍ لا أُحسنه تفسيرًا، فإنّ الله قد يسّر لي قلوبًا تُفتح، ووجوهًا تُقبل، وسبلًا تُسلك، فربطت بين من لا يظن أحد أن بينهم صلة، وألّفت بين شرقٍ وغرب، وقريبٍ وبعيد، وأعنتُ من قصده العجز أو نأى به السبيل. وكم من نَفَرٍ انتفعوا بذلك انتفاعًا جمًّا، ثم مضوا لا يلوون على شكر، ولا يلتفتون إلى صاحب المسعى ولو بنظرة مودّع أو كلمة عابرة أو ذكر حسن. وما كنت يومًا من أهل الجزع، ولا ممّن يمدّ يده إلى المعروف منتظرًا ثمرته، ولكنّ القلب إذا كُثِر عليه الوطء وَهَى، وإذا أُفرِط عليه الجحود اشتكى، والنفس وإن سمت فإن لها طاقةً إذا استُهلكت خفُت وهجها. على أن المرءَ إذا سعى في حاجةٍ، وأحسن التدبير لها، وكان نجاحها معتمدًا على غيره، ثم رأى ذلك الغير يبطئ ويتخاذل، ويُفسد بعد إحسان، ويهدم بعد بناء، فلا لوم عليه إن أضناه الغمّ وأثقلته الحسرة. إذ كيف يُلام من مهّد الطريق، ولم يُسِئ في تدبيره، ولم يدّخر جهدًا؟ أفَيُحمَّلُ الساعي تبعات المتكاسل؟! ومع هذا كله، لم أملك قط أن أردّ طالبًا، ولا استطعت أن أُغلق بابي في وجه محتاج، وظلّت كلمة "لا" غريبة على لساني، لا تعرف إلى معجمي سبيلًا؛ فإنّ في قضاء الحوائج راحة لا تُوصف، وفي العطاء سعادة لا تُقارن، ومن ذاق ما ذقت أدرك ما أدركت. غير أنني على النقيض من انبساطي في خدمة الناس لا أحب الهاتف، ولا أستسيغ صوته المتكرر، ولا أرتاح لطول المكالمات، فأُحب أن يكون الحديث فيه على قدر الحاجة، عابرًا كظلّ الغيم: لا يُثقل ولا يُقيم، كلمات يسيرة تفي بالغرض وتمضي كما جاءت. ما ألفتُ في يوم من الأيام ضجيج الهاتف، ولا سلّمت له نفسي، وأبقيته مذ اقتنيته على الصامت، لا يرنّ ولا يهتز، كأنما بيني وبينه عهدُ سكونٍ لا يُكسر، وأحب إلى قلبي أن يكون التواصل عبر رسائل نصية، فالكتابة عندي أجل وأعظم. كان في أول الأمر عذرًا أختبئ خلفه: المكالمات تُكلّف، وأنا لا أحب أن أثقل على أحد. فلما صارت الدنيا بلا تكلفة -بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي تتيح لنا المكالمات المجانية- وظللت على طبعي، علمتُ أن العذر لم يكن في المال، وإنما في نفسي التي لا تُحبّ المداومة على الحديث، ولا تأنس إلا بالسكينة. ولعل هذه العادة طبع ورثته عن الوالد -أطال الله بقاءه في عافية تامة- فقد كان إذا حادثني عبر الهاتف يميل إلى الاختصار، يوجز الحديث ويعجِّل بالختام، وكأنّ الكلمات عنده تُوزَن بميزان الدقة لا العاطفة. وكنت في غربتي أُمسك بصوته كالغريق، أطيل الحديث رجاء الوصل، لكنه كان يكتفي بالقليل ويمضي، فكنت أجد في مكالمته دفئًا عابرًا، وفي عجَلته مسحة من البُعد، كأن الغربة لم تكن في المكان وحده، بل تسللت إلى الصوت أيضًا. وإذا بي -ذات يوم- أقرأ للراحل الوزير الأستاذ غازي القصيبي كلامًا يصف فيه "عادةً من عاداته الرديئة"، فيقول: إنه لا يُحب الهاتف، ولا يردّ إلا على مضض، ويُسعده أن يُصاب هاتفه بعطل! ابتسمت حين قرأتها، وقلت: ها هو ذا يقول ما لم أكن أحسن التعبير عنه، وكأنما نطق بالنيابة عني، أو كأن بين النفوس خيوطًا خفيّة لا تُرى، لكنّها تشدّ بعضها إلى بعض فيما لا يُقال، وفيما يُحسّ وحده.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store