logo
الاقتصاد الباكستاني في مفترق طرق

الاقتصاد الباكستاني في مفترق طرق

البورصة١٠-٠٥-٢٠٢٥

في ظل استمرار التوترات العسكرية بين باكستان والهند، يبدو أن الاقتصاد الباكستاني قد يكون الضحية التالية للصراع.
فبعد أسبوعين فقط من هجوم إرهابي وقع في الجزء الخاضع للإدارة الهندية من كشمير، شنت الهند سلسلة من الضربات على أراضٍ باكستانية.
وأثارت هذه الأزمة المتواصلة مخاوف من احتمال إقدام الهند على وقف تدفق نهر السند إلى باكستان، وهو تهديد لا يستطيع اقتصاد باكستان المتعثر تحمله.
قبل خمسة عقود، كانت باكستان تمتلك أقوى اقتصاد في جنوب آسيا، متفوقةً على الهند وبنجلاديش وحتى سريلانكا من حيث نصيب الفرد من الدخل.
أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة تماماً، إذ يبلغ نصيب الفرد من الدخل في باكستان نصف ما هو عليه في دول الجوار، كما أنها متأخرة عنها في التعليم، والرعاية الصحية، ومعظم مؤشرات التنمية الأخرى.
ورغم أن سوء الإدارة الاقتصادية أسهم في هذا التراجع، فإن هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية غالباً ما يتم تجاهله، وهو النمو السكاني السريع.
فعندما يتجاوز نمو السكان نمو الدخل، ينخفض نصيب الفرد من الناتج، حسب ما ذكره موقع 'بروجكت سنديكيت'.
وتكون العواقب طويلة الأجل بعيدة المدى، فكلما زاد عدد السكان، خاصة في حال ارتفاع نسبة الإعالة، تراجعت مدخرات الأسر، وانخفضت معدلات الاستثمار، وتباطأ النمو الاقتصادي.
وقد تضاعف عدد سكان باكستان أكثر من أربع مرات خلال نصف قرن، ويُشكل من هم دون سن الخامسة عشرة اليوم نحو 36% من السكان، وهي نسبة أعلى بكثير من النسب المسجلة في بنجلاديش والهند وسريلانكا، التي تتراوح بين 22 و25%، حيث شهدت هذه الدول تباطؤاً كبيراً في النمو السكاني خلال العقود الأخيرة.
ونتيجة لذلك، لا تتجاوز نسبة السكان في سن العمل في باكستان 60%، مقارنةً بأكثر من الثلثين في بقية دول جنوب آسيا.
ويشكل هذا الخلل الديمغرافي عبئاً كبيراً على مدخرات الأسر.
فعندما يتجاوز عدد المعالين عدد القادرين على الكسب، تتراجع قدرة المجتمع على الادخار.
وهذا يفسر إلى حدٍ كبير انخفاض معدل الادخار المحلي في باكستان إلى أقل من 7%، أي أقل بنحو 20 نقطة مئوية من المعدلات المسجلة في دول الجوار.
تشير تجربة التحول الديمغرافي في جنوب شرق آسيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى أنه لو كانت باكستان تمتلك نسبة مماثلة من السكان في سن العمل كجيرانها، لكان معدل الادخار لديها أعلى بعشر نقاط مئوية.
وهو ما كان سيسمح باستثمارات أكبر بكثير في البنية التحتية، والتعليم، والتنمية الصناعية، ما يرفع معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 1 و1.5%.
وإذا ما تم الحفاظ على هذه الوتيرة لمدة 25 عاماً، لكان من الممكن أن يرتفع مستوى الدخل بنسبة تتراوح بين 30 و45%، وهو ما يكفي لسد الفجوة مع الهند وبنغلاديش.
وعلى مدار عقود، لم يتجاوز معدل الاستثمار في باكستان 15%، وهو معدل أدنى بكثير من نظرائه في بقية دول جنوب آسيا.
ورغم أن المساعدات والاستثمارات الأجنبية قدمت بعض الدعم، فإنها لم تعوض نقص المدخرات المحلية أو تدعم تكوين رأس المال.
وكانت النتيجة اقتصاداً راكداً، يتعرض لأزمات متكررة كلما جفّت مصادر التمويل الخارجي.
وقد أسهمت الاختلالات المالية في باكستان في تفاقم الوضع. فاليوم، يُخصص نحو ثلثي الإيرادات الحكومية لسداد فوائد الديون، مما يترك هامشاً ضيقاً للاستثمار العام أو الإنفاق الاجتماعي.
كما أن محاولات تمويل العجز عبر الاقتراض المحلي أدت إلى مزاحمة القطاع الخاص وتقويض معدلات النمو.
وتقف باكستان حالياً عند مفترق طرق. فقد جلب برنامج الاستقرار المدعوم من صندوق النقد الدولي بعض الاستقرار الكلي بعد أن بلغ معدل التضخم نحو 40% في عام 2023، وتراجعت احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات بالكاد تكفي لتغطية ثلاثة أسابيع من الواردات. توسيع القاعدة الضريبية قادر على توليد 6% إيرادات إضافية من الناتج المحلي
وساعدت عمليات إعادة جدولة الديون من الدائنين الرسميين، إضافة إلى تراجع أسعار النفط، على تخفيف الضغط مؤقتاً.
لكن استدامة إجراءات التقشف التي يوصي بها صندوق النقد الدولي من الناحية الاجتماعية والسياسية لا تزال محل شك كبير.
فقد تم تسريع وتيرة فرض الضرائب، بينما تم تقليص الإنفاق الاجتماعي والاستثماري بشكل كبير.
وفي غياب تمويل ميسر جديد، لا توجد أي فسحة مالية لإحداث تحول اقتصادي حقيقي.
وقد يكون البديل الأكثر فعالية هو اتباع استراتيجية تحقق التوازن بين الانضباط المالي والتنمية طويلة الأمد، مع التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية.
أولاً، يجب على باكستان اتخاذ خطوات جادة لخفض النمو السكاني. إذ أن توسيع نطاق الحصول على التعليم، لا سيما للفتيات، سيمكّن النساء من دخول سوق العمل، بينما يمكن أن تساعد خدمات تنظيم الأسرة المحسنة على خفض معدلات الخصوبة.
وتشكل تجربة بنجلاديش نموذجاً مفيداً، فقد تباطأ نمو السكان بشكل ملحوظ مع تزايد معدلات تعليم النساء وتوظيفهن.
كما لعبت القروض الصغيرة الموجهة للنساء دوراً مهماً.
وإذا استطاعت باكستان أن تحذو حذو جيرانها وترفع نسبة السكان في سن العمل بمقدار خمس نقاط مئوية خلال العقد المقبل، فسيرتفع معدل الادخار بشكل كبير، مما سيفتح الباب أمام الاستثمار وإطلاق إمكانيات اقتصادية طويلة الأجل.
ثانياً، تحتاج البلاد إلى إصلاح نظامها الضريبي وتعزيز الالتزام به.
ويمكن لتوسيع القاعدة الضريبية، خاصة في القطاعات التي تعاني من ضعف الضرائب كالتجزئة والزراعة، وتحسين تحصيل الضرائب، أن يُولّد إيرادات إضافية تصل إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الست المقبلة.
ويجب تخصيص ما لا يقل عن نصف هذه الإيرادات للإنفاق الاجتماعي والاستثمار العام. وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط للحفاظ على النمو الاقتصادي، بل أيضاً لكسب الدعم الشعبي للإصلاحات الهيكلية.
وأخيراً، لا بد من زيادة دعم المجتمع الدولي. إذ يمكن أن يساعد التمويل الميسر والمنسق من الدائنين متعددي الأطراف والثنائيين في سد الفجوات التمويلية الحرجة.
وينبغي تخصيص هذه الأموال للاستثمارات ذات الأثر المرتفع في مجالات التعليم، والرعاية الصحية، وتنمية القوى العاملة، والبنية التحتية المقاومة للمناخ.
صحيح أن التحول الديمغرافي لن يحدث بين عشية وضحاها، لكن يمكن بدء العمل على تمهيد الطريق الآن.
فبمزيج مناسب من السياسات والدعم الدولي، تستطيع باكستان سد فجوة الادخار مع جيرانها، وإطلاق الاستثمارات اللازمة لإنعاش اقتصادها المتهالك.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الفرصة الأخيرة لحكومة "ستارمر" في المملكة المتحدة
الفرصة الأخيرة لحكومة "ستارمر" في المملكة المتحدة

البورصة

timeمنذ يوم واحد

  • البورصة

الفرصة الأخيرة لحكومة "ستارمر" في المملكة المتحدة

بعد أن أصبحت المملكة المتحدة أول دولة تبرم 'اتفاقاً' تجارياً جديداً– أو على الأقل إطاراً لاتفاق– مع الولايات المتحدة، تقترب حكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر من مراجعة خطة الإنفاق المنتظرة واستراتيجية البنية التحتية الممتدة لعشر سنوات. وقد تكون هذه الفرصة الأخيرة لحكومة وعدت بجعل النمو الاقتصادي أولويتها القصوى، كي تقنع الشعب بأنها جادة بالفعل. لكن الحكومة لم تتعرض فقط لقيود خارجية، بل عانت أيضاً من ترددها الذاتي. فمنذ حملة الانتخابات العام الماضي، صاغ ستارمر استراتيجية 'العمال' حول خمس 'مهام'، كانت أولاها تحقيق أسرع نمو اقتصادي بين دول مجموعة السبع. لكنه، وبعد توليه المنصب في يوليو الماضي، اختارت حكومته التركيز على التحديات المالية الداخلية للمملكة المتحدة، ما عنى فعلياً اتباع نهج تقشفي، وهو ما يتناقض مع روح المهمة الأساسية للنمو. صحيح أن ميزانية خريف 2024 قدمت إطاراً مالياً أكثر جرأة وزادت الإنفاق الرأسمالي على المدارس والخدمة الصحية الوطنية، لكن هذه النفقات لا تُعد استثمارات إنتاجية حقيقية قادرة على تعزيز النمو أو رفع الإنتاجية، حسب ما نقله موقع 'بروجكت سنديكيت'. وقد توقع مكتب مسئولية الميزانية البريطاني ألا يحدث أي تحسن يُذكر على منحنى النمو القائم. فماذا لو، بدلاً من ضخ مزيد من الأموال في الخدمة الصحية الوطنية، استثمرت المملكة المتحدة في الوقاية من الأمراض؟ من المرجح أن يرى معظم الاقتصاديين مثل هذه النفقات على أنها أكثر دعماً للنمو على المدى البعيد. وبالمثل، فإن الاستثمار في التعليم المبكر وخدمات دعم الطفولة سيكون له تأثير مضاعف طويل الأمد أكبر بكثير من بناء كافتيريا جديدة في مدرسة، رغم أن الأخيرة قد تحسّن تجربة التعليم اليومية بشكل طفيف. صدمة 'رسوم ترامب' ينبغي ألا تكون عذراً دائماً في خطاب ألقته في فبراير الماضي، سعت المستشارة البريطانية رايتشل ريفز إلى التأكيد على أن الحكومة لا تزال تعتبر النمو الاقتصادي أولوية مطلقة. وقد أشارت إلى خطط توسيع مطار 'هيثرو' وممر 'أكسفورد كامبريدج' للسكك الحديدية لربط اثنين من مراكز الأبحاث البريطانية. لكن هذه مشاريع قديمة، ولم يُذكر أي مشروع جديد كبير، كما غاب عن الخطاب ذكر الهيئة الوطنية للبنية التحتية وتحول الخدمات، أو الاستراتيجية المنتظرة للبنية التحتية، أو القاعدة المالية الجديدة التي من المفترض أن تسمح بزيادة الاقتراض من أجل استثمارات طويلة الأجل. كما أن الطموحات التي رفعتها الحكومة تجاه شمال البلاد اختفت من المشهد. فقد اكتفت ريفز بتكرار التزاماتها حيال المشاريع القائمة، مما أثار استياء المناطق الواقعة خارج محور لندن أكسفورد كامبريدج. أحياناً يبدو وكأن التصريحات والسياسات التي صدرت في الأشهر العشرة الماضية كانت محض خيال. فقد كان الإطار المالي الجديد والاستثمار الاستراتيجي واستراتيجية البنية التحتية المنتظرة من المفترض أن تكون محورية، لكنه لم تعد تذكر. ورغم أن تركيز ريفز على ممر 'أوكسفورد-كامبريدج' للسكك الحديدية منطقي من حيث المبدأ، إلا أن المشروع يبدو وكأنه محاولة لتوسيع السكن والمساحات لتلك المدينتين المزدحمتين، بدلاً من كونه ركيزة لنمو مستدام. ولهذا، كان من الأفضل أن يخضع هذا المشروع لتقييم الهيئة الوطنية للبنية التحتية وتحول الخدمات الجديد القائم على الشفافية وتحليل التكلفة والفائدة مقارنةً بالمشاريع الأخرى. فالمنطقة المحيطة بأوكسفورد وكامبريدج، تضيف ناتجاً إجمالياً مساوياً تقريباً لمنطقة 'مانشستر الكبرى'، وأقل من نصف الناتج الإجمالي للمنطقة الشمالية الأشمل التي تضم مانشستر، وشيفيلد، وليدز، وليفربول – وهي المنطقة التي استهدفتها مبادرة 'القدرة الشمالية' التي جاءت بعد عام 2016. كان يمكن أن يؤدي ربط هذه المدن بشبكة سكك حديدية عالية السرعة إلى مضاعفة النمو الاقتصادي في الشمال.. لكن المشروع لم يُنفذ قط، لأنه لم يلب القواعد المالية للحكومات المحافظة السابقة. اليوم، قد يكون الوضع مختلفاً. فالهيئة الوطنية للبنية التحتية وتحول الخدمات أصبحت قائمة فعلياً، وعين لها رئيس تنفيذي جديد، وستكون قد ورثت قائمة مشاريع من اللجنة الوطنية للبنية التحتية. يمكن لبريطانيا أن تقدم نفسها كوجهة جاذبة لرواد الأعمال والمبتكرين ومن المفترض أن تخضع هذه المشاريع لتحليل شفاف لتقييم الكلفة والفائدة، وهو ما يجب أن يشكل أساساً لمراجعة الإنفاق القادمة. صحيح أن صدمة الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثرت على تركيز الحكومة البريطانية، لكن هذا ينبغي ألا يكون عذراً دائماً. بإمكان حكومة ستارمر أن تستثمر الأزمة الحالية كدافع للالتزام الجاد ببرنامجها الانتخابي، لا سيما بعد أن باتت تملك الأدوات اللازمة لتحقيق نمو أكثر استدامة على المدى الطويل. فمثلاً، يمكن لبريطانيا أن تقدم نفسها كوجهة جاذبة لرواد الأعمال والمبتكرين، ما قد يجذب المواهب التي لم تعد تجد الدعم الكافي في الولايات المتحدة، ويخفف في الوقت نفسه من التوتر المتصاعد بشأن ضريبة التركات البريطانية. ولمَ لا تستغل الحكومة الفرصة أيضاً لإلغاء ما يُعرف بـ'القفل الثلاثي'، وهو تعهد مرهق يقضي بزيادة معاشات التقاعد سنوياً؟ إذ من شأن هذا القرار وحده أن يتيح تنفيذ عدد كبير من المشاريع طويلة الأجل التي قد تُحدث تحولاً جذرياً في آفاق النمو والاستقرار المالي للمملكة المتحدة. : الولايات المتحدة الأمريكيةبريطانياترامب

هل حان وقت إنقاذ الدول النامية من فخ الديون؟
هل حان وقت إنقاذ الدول النامية من فخ الديون؟

البورصة

timeمنذ 2 أيام

  • البورصة

هل حان وقت إنقاذ الدول النامية من فخ الديون؟

تخفيف الديون وخفض أو تعليق الفوائد وزيادة حقوق السحب أدوات فعالة يجب وضعها على الطاولة تشهد البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط تصاعداً في التحديات الاقتصادية، لا سيما في ظل أعباء الديون السيادية المرتفعة، في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد العالمي وتزداد فيه التوترات التجارية ومخاطر الركود. وفي ظل تكاليف الاقتراض الباهظة والبيئة الدولية غير المستقرة، تصبح قدرة هذه الدول على تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية أكثر هشاشة. في ضوء هذه الظروف، فإن البنية المالية الدولية الحالية، وخاصة نهجها تجاه استدامة الديون، تحتاج إلى إصلاح جذري، إذ لا يمكن لهذه البلدان أن تخلق التدفقات الاستثمارية الضرورية لتحفيز نمو طويل الأمد، ما لم يتم اعتماد نهج جديد في التعامل مع ديونها. لا تزال مفاهيم استدامة الدين خاضعة لتأثير 'إطار استدامة الدين' التابع لصندوق النقد والبنك الدولي، رغم أن اقتصاديي المؤسستين أنفسهم أقروا منذ فترة طويلة بنواقص هذا الإطار. وبينما يُفترض أن يوازن هذا الإطار بين الحاجة إلى تمويل التنمية واستدامة الدين، فإنه غالباً ما يدعو إلى مستويات إنفاق حكومي واستثمار دون المستوى الأمثل، مما يساهم بشكل غير مباشر في وقوع أزمات اقتصادية مستقبلية في الدول النامية. كما أن هذا الإطار غالباً ما يفشل في تقدير حجم الاستثمارات المطلوبة، ولا يتسم بالحساسية الكافية تجاه الصدمات الاقتصادية أو الخارجية، حسب ما نقله موقع 'بروجكت سنديكيت'. وقد بالغ تاريخياً في تقدير قدرة 'التقشف المالي' على دعم النمو الاقتصادي، ما أدى إلى أخطاء متكررة في التوقعات وارتفاع نسب الدين الفعلية مقارنة بالتوقعات. أحد العيوب الجوهرية يتمثل في ضعف الاعتبار للفوائد طويلة الأجل للاستثمارات الممولة بالدين، خصوصاً في مجالات التحول الأخضر. ومن ثم، يجب أن يتطور هذا الإطار من كونه أداة لخفض الديون بأي ثمن إلى أداة تشجع على الاستثمارات التي تقود إلى النمو الاقتصادي واستدامة مالية طويلة المدى. نرى في المقابل أن بعض الاقتصادات المتقدمة، مثل ألمانيا، بدأت تتجاوز سقوف الدين لزيادة الإنفاق العام في مجالات ضرورية مثل الدفاع. ويدرك صُناع السياسات في هذه الدول أن تمويل الإنفاق الاستهلاكي يختلف تماماً عن تمويل الاستثمارات الاستراتيجية في البنية التحتية أو التكيف المناخي، إذ إن هذه الاستثمارات يمكن أن تقلل من الخسائر الاقتصادية مستقبلاً وتُحسن استدامة الدين. بالمثل، يجب أن تستند قرارات الإقراض للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى نماذج طويلة الأجل لاستدامة الدين، وليس على قواعد مبسطة مثل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. فعندما تتيح برامج التكيف الاقتصادي مستويات عالية من الاستثمار، تزداد احتمالية استدامة الدين، لأن النمو الناتج يعزز القدرة على السداد. وقد أظهرت التجربة أن الديون الاستثمارية المُدارة بكفاءة ترتبط بمخاطر منخفضة للديون السيادية، ولذلك ينبغي تشجيعها. لكن المشكلة الأكثر إلحاحاً الآن هي عبء الدين الهائل الذي تُعاني منه العديد من الدول النامية. وقد أظهرت تجارب ناجحة سابقة أن تخفيف الديون، وخفض أو تعليق الفوائد، وتقليص الرسوم الإضافية على القروض، وزيادة المخصصات من حقوق السحب الخاصة كلها أدوات فعالة يجب وضعها على الطاولة. مع ذلك، فإن تلبية الاحتياجات التمويلية طويلة الأمد لهذه الدول يتطلب إصلاحات أوسع نطاقاً، على رأسها تعزيز التمويل الميسر طويل الأجل. ويجب أن تضطلع البنوك الإنمائية متعددة الأطراف والمؤسسات الدولية للتمويل التنموي بدور محوري في توسيع الإقراض الميسّر تدريجياً، إذ إنها الجهات الوحيدة القادرة على تقديم تمويل مضاد للتقلبات في أوقات انخفاض الأسعار العالمية أو شُح التمويل الخاص. وتُعد مبادرات مثل صندوق التنمية الإفريقي التابع للبنك الإفريقي للتنمية نموذجاً يُحتذى، إذ يقدم تمويلاً ميسّراً ومنحاً وضمانات للدول منخفضة الدخل. إلى جانب التمويل، من الضروري إنشاء آلية مؤسسية دائمة لإعادة هيكلة الديون السيادية. ويُفضل أن تكون هذه الآلية تحت مظلة الأمم المتحدة، أو في حال إدراجها ضمن صندوق النقد الدولي، فيجب أن تُدار من خلال هيئة مستقلة عن مجلس المديرين التنفيذيين. ويمكن لهذه الهيئة أن توفر إطاراً عادلاً ومنظماً لإعادة التفاوض على الديون عبر ثلاث مراحل: التفاوض الطوعي، والوساطة، والتحكيم، وكل ذلك ضمن جداول زمنية محددة. المفهوم السائد حالياً لاستدامة الدين في الدول النامية مبني على مغالطة تعرقل النمو العالمي والتنمية المستدامة. يجب أن ننتقل من تركيز ضيق على خفض الدين إلى فهم أوسع يستند إلى النمو طويل الأمد المُحفز بالاستثمار. ومن خلال إعادة النظر في مفهوم استدامة الدين، يمكن للمجتمع الدولي أن يمنح الدول النامية فرصة حقيقية للانطلاق نحو تنمية اقتصادية مستدامة. إن إعادة تصور جريئة للهندسة المالية العالمية ضرورة حتمية لتفادي أزمات دين ممتدة، واستعادة الاستقرار المالي، وضمان استقرار الاقتصاد العالمي. يُعد المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية الذي تنظمه الأمم المتحدة في إشبيلية خلال يوليو المقبل فرصة ذهبية أمام الدول النامية لتوحيد مواقفها وإسماع صوتها أمام المؤسسات المالية العالمية المدعومة من الغرب، والتي تمتلك مفاتيح تحرير هذه الدول من أغلال الديون غير المستدامة، وإحداث التغييرات النظامية التي قد تُحدث ثورة في التمويل التنموي.

خيارات الاقتصادات النامية مع انحسار العولمة
خيارات الاقتصادات النامية مع انحسار العولمة

البورصة

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • البورصة

خيارات الاقتصادات النامية مع انحسار العولمة

في ظل تزايد الحديث عن انحسار العولمة، تسعى اقتصادات الدول النامية جاهدة لوضع استراتيجيات جديدة للنمو، بعدما بدا أن المسار التقليدي الذي ارتكز على التصنيع الموجه نحو التصدير والقائم على العمالة غير الماهرة أصبح مسدوداً. هذا النموذج الذي ساعد سابقاً في نهضة اقتصادات مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والصين وفيتنام، لم يعد متاحاً كما كان للدول في جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء. ما جعل هذا النموذج فعالاً تاريخياً هو اعتماده على التصدير، إذ أتاح للدول فرصة الاستفادة من الطلب العالمي غير المحدود، وتحرير نفسها من ضيق الأسواق المحلية. كما أن التصدير عزز كفاءة جانب العرض، واعتماده على العمالة غير الماهرة جعل فوائد النمو موزعة على نطاق واسع. ميزة أخرى مهمة لهذا النموذج كانت توافق مكاسب الإنتاجية مع وفرة الموارد البشرية، وذلك بفضل مبدأ 'التعلم بالممارسة'، ما مكن الدول من رفع الكفاءة تدريجياً ضمن القطاعات القائمة والتدرج نحو صناعات أكثر تعقيداً، فكان النمو سريعاً وشاملاً ومستداماً. لكن هذا الواقع تغير، أو هكذا يبدو. ومع تصاعد النزعات الحمائية وتراجع العولمة، برزت استراتيجيتان بديلتان للتنمية، بحسب موقع 'بروجكت سنديكيت'. الأولى طرحها روهيت لامبا وراجورام راجان، وتقترح أن تركز الدول النامية، وعلى رأسها الهند، على الخدمات القابلة للتصدير التي تعتمد على المهارات. رغم احتفاظ هذه الاستراتيجية ببعض مزايا نموذج التصنيع، مثل الاستفادة من الطلب العالمي وتعزيز الكفاءة، فإن أبرز عيوبها أنها لا تشمل سوى نسبة ضئيلة جداً من القوى العاملة. فحتى في الهند، التي تُعد النموذج الأوضح لهذا التوجه، لم تتجاوز نسبة العاملين في القطاعات المهارية والقابلة للتصدير %2.5 من إجمالي القوى العاملة بحلول عام 2024. وبالنسبة لمعظم الدول الفقيرة التي تعاني نقصاً في العمالة الماهرة، تبدو هذه الاستراتيجية غير واقعية، بل وقد تُفاقم التفاوت الاجتماعي بدلاً من تحقيق الشمول الاقتصادي. الاستراتيجية الثانية التي طرحها داني رودريك وروهان ساندو، ترى أن نافذة التصدير المعتمد على العمالة بدأت تضيق، وأن التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة ستُضعف من قدرة قطاع التصنيع على توليد الوظائف. وبدلاً من ذلك، يدعون إلى تحسين الإنتاجية في قطاع الخدمات غير القابلة للتداول. ونظراً لتمركز النشاط الاقتصادي والتوظيف في الدول النامية داخل هذه القطاعات، فإنهم يرون فيها طريقاً أكثر شمولاً للنمو. لكن لهذه الاستراتيجية حدودها. أولاً، التقنيات الحديثة قد تؤدي إلى إزاحة العمال في قطاع الخدمات غير القابلة للتداول تماماً كما تفعل في قطاع التصنيع. وثانياً، تُظهر الدراسات أن هذه الخدمات ليست كلها منخفضة المهارة. فقطاعات مثل الاتصالات والتمويل والعقارات تتطلب مهارات عالية، بينما القطاعات الأقرب لغير المهرة، مثل تجارة التجزئة ورعاية المسنين، تفتقر إلى فرص حقيقية للنمو في الإنتاجية. هذه الظاهرة المعروفة بتأثير 'باومول' تعني أن الخدمات غير القابلة للتداول لن تصبح محركاً للنمو الشامل والمستدام كما كان التصنيع. ورغم وجود استثناءات كالبناء والسياحة، وهي قطاعات كثيفة العمالة، إلا أن مكاسبها الإنتاجية عادة ما ترتبط بتقنيات تُقصي العمالة، مما يحد من دورها في التنمية الشاملة. أين يترك هذا الدول النامية؟ المفاجأة أن استراتيجية التصنيع ما زالت ممكنة، وإن كانت أقل فعالية، إذا ما أخلت الدول المتوسطة الدخل المكان في أسواق التصدير. حسابات بسيطة توضح الصورة. في عام 2023، كانت البرازيل والصين وكوريا الجنوبية وتايوان والمكسيك تمثل حوالي ثلثي صادرات الصناعات التحويلية منخفضة ومتوسطة المهارة، والتي بلغت 5.3 تريليون دولار. ومع ارتفاع الأجور وتغير المشهد الجيوسياسي، لاسيما تصاعد المشاعر المناهضة للصين، من المرجح أن تتجه هذه الدول نحو سلاسل القيمة الأعلى أو تقلص اعتمادها على التصدير. هذا التغير يمكن أن يفسح المجال للدول الفقيرة. وإذا ما تمكنت من الاستحواذ حتى على نصف الأسواق التي ستُخلى، إلى جانب حصة من الطلب المحلي المتزايد في الصين، والمُقدر بنصف تريليون دولار على الأقل، فقد تتمكن من مضاعفة صادراتها الحالية إلى ما بين 2 و2.5 تريليون دولار. وإذا حدث ذلك، يمكن أن يُخلق نحو 50 إلى 60 مليون وظيفة جديدة، حتى لو كانت القدرة التوظيفية للتصنيع أقل مما كانت عليه في السابق نتيجة الأتمتة. وعلى سبيل المثال، أسهم قطاع التصنيع في الصين، الذي يعمل فيه نحو 150 مليون شخص، في تحسين مستويات معيشة 1.4 مليار نسمة. وعلى النهج ذاته، يمكن أن تسهم فرص التصدير الموسعة في تحسين حياة نحو 500 مليون شخص في أفقر دول العالم. صحيح أن الطريق بات أكثر صعوبة، لا سيما للدول التي تعتمد على الولايات المتحدة كشريك تجاري رئيسي، لكن هذا لا يعني أن نموذج النمو القائم على التصنيع قد مات. بل إن ما يفرضه الواقع الجديد هو التكيف الاستراتيجي، عبر تنويع الشراكات التجارية وتعزيز العلاقات مع الاقتصادات متوسطة الدخل للضغط عليها كي تُخلي بعض أسواق التصدير. إن التغيرات التكنولوجية وتراجع العولمة يدفعان نحو البحث عن بدائل فعالة لنمو يعتمد على التصدير. لكن النظرة الواقعية تكشف عن معادلة صعبة: الخدمات القابلة للتصدير التي تعتمد على المهارات تقدم حيوية وثباتاً لكنها تفتقر إلى الشمول، في حين أن الخدمات غير القابلة للتداول تقدم شمولاً لكنها تفتقر إلى الديناميكية. ورغم أن معجزات النمو التي حققتها الصين وكوريا الجنوبية وتايوان يصعب تكرارها، إلا أن التركيز على التصنيع كثيف العمالة ما زال خياراً واعداً، وقد يكون السبيل الأفضل لتحقيق الازدهار المشترك في أفقر مناطق العالم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store