
يوم أخبرتُهم بالحقيقة!
الشرق الجزائريةمنذ يوم واحد
رئيس تحرير مجلة «العالمية»
في ضيعتنا رجلٌ في العقد الثامن من العمر، يعيش وحيدًا في بيته الـمعلَّق على كتف الوادي، أُشاهدُه كلَّ يوم، ينهض باكرًا، يستقبل شروق الشمس، ويشرب قهوته على أنغام زقزقة العصافير، التي تأتي لتستقي على ضفة النهر العابر تَحت شرفة البيت.
والغريب أنّ هذا الرجل لا يغادر بيته إلاّ ليشتري الطعام من دكان الضيعة، ولا يزور أحدًا، لا في الأفراح ولا في الأتراح، ولا يزوره أحد منذ سنوات طفولتي.
إستغربتُ أمر هذا الشيخ العجوز، فسألتُ عن وضعه، وما من أحدٍ كان عنده الجواب. فقادتني الفضولية لزيارته بخجل، خوفَ أن يسألني عن سبب الزيارة، وهو لا يعرفني. ولكن سبقَتْني جرأتي ومشتْ أمامي لشقّ الطريق.
طرقتُ باب الرجل الثمانينيّ، وإذ به يفتح الباب بوجلٍ واحترام، ويستقبلني من غير أن يسأل مَن أنا.
تفضّل يا بنيّ، أهلاً بكَ… لا بدّ أنّك قادمٌ من بعيد، سأجلب لك كأس ماءٍ باردة… تفضّل استرِحْ!
استغربتُ كل هذا الاحترام، وجلستُ مسمَّرًا وتَجمّدتْ أوتارُ الكلام، فبادرني هو بالسؤال: يبدو أنّك قادم من ضيعة بعيدة، فأنتَ طبعًا لستَ من هذه الضيعة، لأنه لم يزرني أحد منها منذ خمسين سنة.
هُنا تَجرّأتُ بالسؤال: بل أنا مِن هنا، من البيت الـمقابل. مات جدّي توفيق يوم غرقت السفينة… تعرفه طبعًا… فأورثنا بيته المقابل لبيتك. ودعتني الفضولية أن أسأل عن سرّ إقامتك وحيدًا في هذا البيت، بعيدًا عن كل أهل الضيعة.
إسمع يا ولدي… أنا لم أبتعد عنهم، بل هم ابتعدوا عنّي يومَ أخبرتُهم بالحقيقة! يومها، قرر كلّ أهل الضيعة، وأنا منهم، وجدّك توفيق واحد منهم… أن نقوم برحلة بحرية سياحية بين الجزر. وفي خلال الرحلة، كنّا نغنّي على متن السفينة، ونطبّل ونرقص فرحين، ونشعر بالأمان، فقبطان السفينة بطل في الـمجازفة.
هل ما زلتَ تستمع يا ولدي؟ أرجو ألاّ أكون قد أطلتُ بالكلام.
نعم… أنا أستمع إليك بشوق. تابع من فضلك…
بعد ساعات من الإبحار، وفيما كنّا نقترب من شاطئ جزيرة، تَمشّيتُ نحو غرفة القيادة، لأتشارك مع القبطان فرحة الرحلة، وإذ بي أراه نائِمًا، والسفينة تقودها الأقدار نحو الشاطئ غير الـمنتظَر!
صرختُ به، وأيقظتُ الغارقين في النوم، وأخبرتُهم أنّ سفينتنا تُبحر بلا قبطان. فلم يصدّقني أحد، وانْهالوا عليَّ بالشتائم: أنت تقلّل من احترام كفاءة القبطان!
عند ذلك، رميتُ بنفسي في البحر، وأبحرتُ حتى الشاطئ القريب، قبل أن تصطدم السفينة بصخور الشاطئ، وتغرق، ويتبدّد الركاب، بين غريقٍ وجريح، ولفظتهم المياه على الشاطئ.
يومها لم يشكرني أحد، بل خاصمَني الجميع يوم أخبرتُهم الحقيقة! نسيَ الجميع قبطانًا مغفّلاً يقود سفينة، وجعلوا منه شهيدًا، وأقاموا له مزارًا وألّهوه، واحتقروني، فقط لأنني أخبرتُهم بالحقيقة!
يا ولدي… وطننا سفينةٌ تُبحرُ بلا قبطان، والجميع ذاهبون إلى الغرق الحتميّ، والجميع متعلّقون بقبطانٍ نائم، وإذا قلتَ لهم الحقيقة سيقاطعونك مثلي، وينادون بكَ خائنًا عميلاً… فتبقى مثلي وحيدًا…
ولكن وصيتي لكَ: قُل الحقيقة ولو بقيتَ وحيدًا، فحتمًا ستبقى وحيدًا يومَ تُخبرهم بالحقيقة!
فوزي عساكر
في ضيعتنا رجلٌ في العقد الثامن من العمر، يعيش وحيدًا في بيته الـمعلَّق على كتف الوادي، أُشاهدُه كلَّ يوم، ينهض باكرًا، يستقبل شروق الشمس، ويشرب قهوته على أنغام زقزقة العصافير، التي تأتي لتستقي على ضفة النهر العابر تَحت شرفة البيت.
والغريب أنّ هذا الرجل لا يغادر بيته إلاّ ليشتري الطعام من دكان الضيعة، ولا يزور أحدًا، لا في الأفراح ولا في الأتراح، ولا يزوره أحد منذ سنوات طفولتي.
إستغربتُ أمر هذا الشيخ العجوز، فسألتُ عن وضعه، وما من أحدٍ كان عنده الجواب. فقادتني الفضولية لزيارته بخجل، خوفَ أن يسألني عن سبب الزيارة، وهو لا يعرفني. ولكن سبقَتْني جرأتي ومشتْ أمامي لشقّ الطريق.
طرقتُ باب الرجل الثمانينيّ، وإذ به يفتح الباب بوجلٍ واحترام، ويستقبلني من غير أن يسأل مَن أنا.
تفضّل يا بنيّ، أهلاً بكَ… لا بدّ أنّك قادمٌ من بعيد، سأجلب لك كأس ماءٍ باردة… تفضّل استرِحْ!
استغربتُ كل هذا الاحترام، وجلستُ مسمَّرًا وتَجمّدتْ أوتارُ الكلام، فبادرني هو بالسؤال: يبدو أنّك قادم من ضيعة بعيدة، فأنتَ طبعًا لستَ من هذه الضيعة، لأنه لم يزرني أحد منها منذ خمسين سنة.
هُنا تَجرّأتُ بالسؤال: بل أنا مِن هنا، من البيت الـمقابل. مات جدّي توفيق يوم غرقت السفينة… تعرفه طبعًا… فأورثنا بيته المقابل لبيتك. ودعتني الفضولية أن أسأل عن سرّ إقامتك وحيدًا في هذا البيت، بعيدًا عن كل أهل الضيعة.
إسمع يا ولدي… أنا لم أبتعد عنهم، بل هم ابتعدوا عنّي يومَ أخبرتُهم بالحقيقة! يومها، قرر كلّ أهل الضيعة، وأنا منهم، وجدّك توفيق واحد منهم… أن نقوم برحلة بحرية سياحية بين الجزر. وفي خلال الرحلة، كنّا نغنّي على متن السفينة، ونطبّل ونرقص فرحين، ونشعر بالأمان، فقبطان السفينة بطل في الـمجازفة.
هل ما زلتَ تستمع يا ولدي؟ أرجو ألاّ أكون قد أطلتُ بالكلام.
نعم… أنا أستمع إليك بشوق. تابع من فضلك…
بعد ساعات من الإبحار، وفيما كنّا نقترب من شاطئ جزيرة، تَمشّيتُ نحو غرفة القيادة، لأتشارك مع القبطان فرحة الرحلة، وإذ بي أراه نائِمًا، والسفينة تقودها الأقدار نحو الشاطئ غير الـمنتظَر!
صرختُ به، وأيقظتُ الغارقين في النوم، وأخبرتُهم أنّ سفينتنا تُبحر بلا قبطان. فلم يصدّقني أحد، وانْهالوا عليَّ بالشتائم: أنت تقلّل من احترام كفاءة القبطان!
عند ذلك، رميتُ بنفسي في البحر، وأبحرتُ حتى الشاطئ القريب، قبل أن تصطدم السفينة بصخور الشاطئ، وتغرق، ويتبدّد الركاب، بين غريقٍ وجريح، ولفظتهم المياه على الشاطئ.
يومها لم يشكرني أحد، بل خاصمَني الجميع يوم أخبرتُهم الحقيقة! نسيَ الجميع قبطانًا مغفّلاً يقود سفينة، وجعلوا منه شهيدًا، وأقاموا له مزارًا وألّهوه، واحتقروني، فقط لأنني أخبرتُهم بالحقيقة!
يا ولدي… وطننا سفينةٌ تُبحرُ بلا قبطان، والجميع ذاهبون إلى الغرق الحتميّ، والجميع متعلّقون بقبطانٍ نائم، وإذا قلتَ لهم الحقيقة سيقاطعونك مثلي، وينادون بكَ خائنًا عميلاً… فتبقى مثلي وحيدًا…
ولكن وصيتي لكَ: قُل الحقيقة ولو بقيتَ وحيدًا، فحتمًا ستبقى وحيدًا يومَ تُخبرهم بالحقيقة!
فوزي عساكر
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المنار
منذ 38 دقائق
- المنار
مديرة برنامج الأغذية العالمي: لا يمكننا الخروج من مجاعة مستفحلة بقطاع غزة عن طريق إلقاء المساعدات جوا
مديرة برنامج الأغذية العالمي: لا يمكننا الخروج من مجاعة مستفحلة بقطاع غزة عن طريق إلقاء المساعدات جوا


المنار
منذ 38 دقائق
- المنار
مديرة برنامج الأغذية العالمي: 500 ألف شخص يعانون الجوع في غزة والطريقة الوحيدة لإيصال الغذاء إليهم هي عبر البر
مديرة برنامج الأغذية العالمي: 500 ألف شخص يعانون الجوع في غزة والطريقة الوحيدة لإيصال الغذاء إليهم هي عبر البر


ليبانون 24
منذ 2 ساعات
- ليبانون 24
برنامج الأغذية العالمي: 500 ألف شخص يعانون الجوع في غزة والطريقة الوحيدة لإيصال الغذاء إليهم هي عبر البر
برنامج الأغذية العالمي: 500 ألف شخص يعانون الجوع في غزة والطريقة الوحيدة لإيصال الغذاء إليهم هي عبر البر Lebanon 24